للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أنباء العالم الإسلامي
العالم الإسلامي تتنازعه في هذا العصر الأحداث المتعارضة، وتتناوبه فيه
الأطوار المختلفة، وما دخل العام الماضي إلا وعوامل الخطر فيه أقوى من عوامل
الظفر، ودواعي الغي والفساد أكثر من دواعي الصلاح والرشاد؛ ولكنه كما قال
الشاعر:
كلما ذاق كأس يأس مرير ... جاء كأس من الرجا معسول
فقد حدث قبل انسلاخه ما يقوي أسباب الرجاء، ويبشر بضروب من الفلاح،
أعظمها في الإصلاح الديني تولية الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي مشيخة
الأزهر ورئاسة المعاهد الدينية، وقانونه الجديد الذي نوهنا به في فاتحة هذا المجلد،
وأفضنا في بيان فوائده في أجزاء من المجلد ٢٩.
اتفاق إيران مع حكومتي العراق والحجاز ونجد:
وأعظمها في الإصلاح السياسي اعتراف حكومة إيران بحكومة جارتها العراق،
بعدما كان من خلاف وشقاق، ثم إرسال جلالة الشاه مندوبًا سياسيًّا إلى جلالة ملك
الحجاز ونجد لعقد ميثاق المودة والاتفاق بين حكومتيهما، بعدما كان من خصام
مذهبي وسياسي بينهما، وقد تم ذلك ولله الحمد، وهذا يدلنا على أن جلالة شاه
إيران أبعد رأيًا وأكبر عقلاً من جاره في الأفغان، الملك المهزوم أمان الله خان،
وأكبر من هذا دليلاً تمكنه من كبح جماح الذين ثاروا على حكومته من القبائل
والعصائب، والذين عارضوها من حملة العمائم وسكنة الأثواب العباعب، ولعمري
إن انتصار كل من هؤلاء الجامدين وخصومهم الجاحدين، مما يفضي إلى
الاضطراب والفوضى، والخطر على الوحدة السياسية والاستقلال من ناحيتي الدين
والدنيا، كما أن اندحار علماء الدين وسقوط مكانتهم الدينية، مدعاة لخطر الإلحاد
وانفصام عروة الرابطة الملية، فعسى أن يلتزم كل من الرؤساء السياسيين والعلماء
المجتهدين موقف الاعتدال، فهو الذي يقي البلاد خطر الاختلال والانحلال، ولنا فيما
بدا من حكمة الشاه أوسع الآمال، إلا تقليده في البرنيطة لمصطفى كمال! على أنه
متهم بغيرها من تلك البدع والأعمال، فبلاده تتمخض بالثورة الدينية والسياسية،
ويتربص به الدوائر أشياع أسرة الملك القاجارية.
بلاد نجد وغلاة البدو:
وقد حدث في العام المنسلخ نزغة ثورة بدوية عصبية في نجد، كانت قد طال
على تمخض البلاد بها العهد، وكان آخر ما عرفه العالم المدني من طغيان زعمائها
غزوهم للكويت وأطراف العراق، بدون إذن ولا رضا من ملك البلاد، لجريانهم
على ما اعتاده جفاة الأعراب أمثالهم من الغزو؛ لأنه أقرب السبل عندهم للكسب،
وقد يكون أحيانًا للتلذذ بالقتل والسلب.
ولكن الإمام عبد العزيز المجدد قد ساسهم سياسة إسلامية حضرية أبطل بها
البداوة وتقاليدها، ووضع تحت قدميه ما وضعه النبي صلى الله عليه وسلم تحت
قدميه من دماء الجاهلية وثاراتها، وجعل الحكم لشرع الله في كل تنازع وتشاجر،
عملاً بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: ٥٩) فحسنت الأحوال، وراجت الأعمال
بعد أن عمَّ الأمان، وبطل البغي والعدوان، على غلو في الدين بقي عند كثير من
(الإخوان) وكانوا به شبهة أو حجة لمن يطعنون في الوهابية، ويذهبون إلى أنهم
فرقة غير الحنابلة السلفية.
وقد ظهر من شذوذ هؤلاء الغلاة ما ظهر من القسوة في غزوة الطائف أخذًا
بثأر من قتلهم الشريف عبد الله الحجازي منهم في الخرمة لما هجم عليهم في المسجد،
فقد جروا في ذلك على عرف البدو في غزوهم لا على عرف الوهابيين الذين
يجرون في قتالهم على أحكام الشرع كما شهد لهم بعض أهل البصيرة ممن قاتلهم في
الحملة المصرية التي ساقها إليهم محمد علي باشا بأمر الدولة التركية، ونقله لنا
المؤرخ الصادق الجبرتي.
ولقد ساء عملُهم هذا الإمام عبد العزيز، وإن قابله كعادته بالحلم والمطاولة
في تربيتهم بأحكام الشرع؛ ولكنهم زادوا إسرافًا وغلوًّا بتعرضهم لما لا يعنيهم من
إدارة الحجاز الداخلية، وتحريمهم لما أحل الله تعالى من المنافع الآلية والصناعية،
بل لما يعد بعضه أو كله من فروض الكفاية في هذا العصر، كآلات المواصلات
والمخاطبات التي تشتد الحاجة إليها في أوقات الحرب، وغير ذلك مما هو من
خصائص ولي الأمر، وهذا التحريم شرع لم يأذن به الله، وكذب وافتراء على الله،
فهو كفر وشرك بنص القرآن، أشد مما يرمون به من لا يعرفون من الناس بحق
أو بغير حق؛ لأن الشرك بالتشريع ضرره متعد يعم كثيرًا من الناس، والشرك
بدعاء غير الله مثلاً ضرره قاصر على فاعله.
ثم افتأت بعضهم على الإمام في الإغارات المعروفة على العراق والكويت،
فانتهى الحلم الواسع بالإمام عبد العزيز أن جمع في العام الماضي جميع من في بلاد
نجد من أهل الحِل والعقد من العلماء والقواد والزعماء وجماهير الوجهاء وألَّف منهم
مؤتمر الرياض المشهور، وعرض عليه تنصله من حكم البلاد وأن يختاروا لها
غيره.. فكبر ذلك عليهم وجددوا مبايعته، وكاشفوه بما لا يرضيهم من حكومته،
وكونه لا يبيح لهم نزع اليد من طاعته، كمسألة الحدود بين نجد والعراق، وما
أحدثته حكومة العراق هنالك من المخافر العسكرية الضارة بهم، وهو أهم ما يهمهم،
وغير ذلك مما فصَّلناه في المجلد الماضي.
ولكن كل ذلك لم يُرجع أولئك الغلاة عن غيهم وجهلهم، ومنهم الفرقة المشهورة
بلقب (الغطغط) الذين كانوا يؤذون بعض الحجاج وينبزونهم بلقب المشرك،
وروي أنهم كانوا يضربون الذين يشربون الدخان، وهذا افتئات على الإمام ولي
الأمر، زائد على المشروع من إنكار المنكر، فلكل مسلم أن يأمر بالمعروف وينهى
عن المنكر بما يعلمه، ولكن العقاب خاص بالسلطان ونوابه بغير خلاف، وبهذا
كانوا سبب تجديد الطعن في الوهابية بعد أن ظهر لحجاج العالم فضل الإمام ابن
سعود في العدل والأمن العام، وقد دعوا إلى تحكيم علماء الشرع فيما ينكرونه فلم
يقبلوا، فاضطر الإمام إلى تأديبهم بالسيف ففعل وكان موفقًا منصورًا.
كتب إليَّ أيَّده الله تعالى في ٢٢ شوال من العام الماضي كتابًا خاصًّا فيما وقع
له معهم، قال فيه ما خلاصته (إن بعض الإخوان من أهل الغطغط والدويش وقسم
من الغلاة يظهر منهم منذ ثلاث سنين تعصبات وأمور مخالفة للشرع، وقد كانوا
مغرورين ومعهم بعض المهاجرين من البادية، ويرون أن أمرهم حق لأجل محبتهم
للدين، ولكن الحمد لله انكشف الغطاء عن كثير من المسلمين، ورأوا أن الجماعة
بين فرقتين: واحدة تعبد على جهل وواحد [١] له بعض المقاصد السيئة مثل طمع
وغيره ويجعل الدين له حجة (وذكر هنا جمع الناس في الرياض، وما كان من
تأثيره وأنه ظهر لأغلب الناس حال هؤلاء الغلاة وأنهم ليسوا على حق) ثم قال:
ثم بعد ذلك أكثرنا عليهم النصائح والدعوة لأجل براءة الذمة عند الله، ثم
النصح للرعية ولكن لم يفد ذلك، فاجتمعوا في هذه الأيام وأشاعوا عند أهل نجد أنهم
غزاة، وأن قصدهم القصور، وأهل القصور التي في حدود العراق، يريدون بذلك
خديعة أهل الحق، وبعد ذلك تبين أمرهم أنه فاسد، وأخذوا بعض الرعايا، ولما
تحقق ذلك وثب المسلمون وثبة رجل واحد جزعًا من أمرهم، واجتمعوا لوضع حد
حازم لهذه الأمور.
فلما تكامل الجمع دعوناهم لتحكيم الشريعة في جميع أمرهم فأبوا، فأرسلنا
إليهم الشيخ عبد الله العنقري والشيخ أبو حبيب فدعوهم فلم يقبلوا، فلما رأينا ما بهم
من الفساد وعدم الامتثال للشريعة والولاية استعنا بالله عليهم وأمرنا المسلمين
بالزحف عليهم، والحمد لله أخذهم الله وقتل منهم جملة، والمسلمون من فضل الله
لم يصابوا إلا بخسارة قليلة جدًّا لا تعد بالأصابع، وبعد ذلك رجعوا وطلبوا العفو،
وتبين للقوم الذين كانوا معهم أنهم كانوا ضالين الطريق، وجميع من كان معهم
وسلموا من القتل عفونا عنهم إلا الدويش وابن حميد ما رضينا إلا بتحكيم الشريعة
فيهم؛ لأنهم أساس الفساد وقد قبلوا الأمرين (أحدهما) ترك الناس لهم (والثاني)
أنه لا ملجأ لهم، والدويش جريح الله أعلم يموت أو يحيا.
والحقيقة أننا ما كنا نحب أن يصير بين المسلمين قتل رجل واحد؛ ولكني
امتثالاً لأمر الله في قتال الباغين والسعي وراء راحة المسلمين أُجبرت على ذلك،
والعاقبة من فضل الله حميدة للإسلام والمسلمين) اهـ.
هذا ما تفضل جلالة ملك الحجاز ونجد بكتابته إلينا باختصار قليل؛ وإنما
نشرناه على خلاف عادتنا في المكتوبات الخاصة لما فيه من التصريح الرسمي بأن
في الإخوان النجديين غلاة في الدين وقساة تغلب عليهم طباع البداوة وقساوتها، وأن
الإمام كان يريد أن يربيهم بالعلم والشرع؛ لأن سبب غلوهم وقساوتهم الجهل إلا
بعض رؤسائهم المغروين الذين زيَّن لهم الشيطان استغلالهم بسوء بقصد،
وتصريحه بأنهم منذ ثلاث سنين قد ظهر من غلوهم ما لم يكن له مظهر من قبل،
يعني أنهم بعد استيلائه على الحجاز وما تجدد لحكومته من العلاقات مع البلاد
المجاورة قد حدث من الأسباب ما ظهر به ما كان خفيًّا من استعدادهم وجهلهم.
رأينا أن نثبت هذه التصريحات الرسمية ليعلم من لم يكن يعلم أن كل ما كان
ينسب من الغلو والقسوة إلى النجديين بعنوان الوهابين لم يكن إلا من فئة قليلة ينكر
عليها غلوها إمامهم وملكهم، وينكره علماؤهم وزعماؤهم، بل ينكره كذلك دهماؤهم؛
ولكن براءة الدهماء منه وإنكارهم له وهم السواد الأعظم كان مجهولاً حتى عند
الباحثين الذين يعرفون أن الذنب فيما ينتقد عليهم، لا يمس أهل العلم والمعرفة منهم.
سمعت السيد محمد بن عقيل بن يحيى المشهور وهو من أشد خصوم الوهابية
لما له من نزعة التشيع ودعايته يقول مرارًا أنه سمع أستاذه السيد أبا بكر بن شهاب
يقول ما معناه أن من يُحَدِّث أهل العلم والمعرفة من الوهابيين يجزم بأنهم ليسوا فرقة
مستقلة دون أهل السنة؛ ولكن عامتهم كغلاة الخوارج بلا فرق.
هذا وإن الدويش قد سلم من جرحه وحدث بعد عودة الملك من نجد إلى
الحجاز لحضور موسم الحج أحداث جديدة منها انتقاض بعض قبائل العجمان، وقد
نكَّل بهم أمير الحسا ابن جلوي الشهير تنكيلاً ما كان ليقع لو كان جلالة الملك في
نجد لسعة حلمه وتحاميه سفك الدم، وإرهاف الحد إلى هذا الحد، والمرجو أن ينهي
جلالته في رحلة هذا الصيف إلى نجد جميع مشاكلها الداخلية والخارجية والله
الموفق [٢] .
حالة الأفغان، وهزيمة أمان الله خان:
ما برحت أنباء القتال بين أمان الله خان والخارجين عليه الذين قرروا ثل
عرشه، متناقضة متعارضة تعبث بها أهواء الناقلين لها إلى أن انكشف الغبار عن
هذا الملك المغرور، الذي غرَّته الأماني وغرَّه بالله الغَرور، موليًا دبره ساحات
النزال، مؤثرًا للهزيمة على القتال فارًّا بزوجه وولده، ومن كل ثم من أسرتها
وأسرته، قاصدين الحج إلى أوربة للتمتع بما رأوا فيها من الحرية، متكلين على
القبائل المناوئة لحبيب الله بجه سقا (أي رئيس السقائين) الذي انتزع منه ملكه،
ولا سيما التي يقودها نادر خان القائد الأفغاني الشهير وأخوه وأعوانهما، راجيًا أن
يتم لهم الفلج فيعيدوه إلى عرش بلاده عزيزًا كريمًا، بعد أن خرج منها مذءومًا
مدحورًا.
ولقد حزن عليه دعاة الإلحاد وأعداء السلام وحجتهم حب الحضارة والتجديد،
وإنقاذ الشعب الأفغاني الجاهل من الهمجية القديمة، وهل يمكن ذلك التجديد عند
هؤلاء السفهاء، إلا بالبرانيط وسائر أنواع اللباس الإفرنجي، وإلقاء العمائم وحلق
اللحى وتهتك النساء؟ ولكن كثيرًا من مسلمي الهند حزنوا عليه لأنه يكره الإنكليز،
كما أن جماهير المسلمين قد سروا بسوء عاقبة سياسته التركية الأنقروية، وهم لا
يشكون في أنها سياسية إلحادية إفسادية.
وأما أنا كاتب هذا، فإنني لم أكن أشك في سوء عاقبة أمان الله خان إذا هو
جرى على ما كانت تدل عليه بوادر سياسته قبل سياحته ثم أكدتها سياحته؛ ولذلك
نصحت له وأنذرته هو ووزيره وصهره - المغري الأكبر له - أنذرته خسارة الملك
بتقليد مصطفى كمال {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (يونس:
١٠١) وكتبت لهما هذا كتابة صريحة كما عرف قراء المنار، فلا غرو أن أُسرَّ
بصحة علمي وصدق رأيي، وأن أتمثل بقول أستاذينا الحكيمين في العروة الوثقى
إذ قالا في مثل هذه الحالة: إننا نتكلم عن طباع الأمم وحقائق السياسة.
ولا غرو أن أُسَرَّ بفشل السياسة الإلحادية في الأفغان، التي تحاول تنفيذ ما
عجزت عنه أقوى الحكومات ودعاة الأديان، من محو دين الإسلام من الأرض بعد
محو حكم الإسلام.
وكان يسرني أضعاف ذلك أن يرعوي أمان الله خان ويزدجر، ويسلك في
إصلاح بلاده الصراط المستقيم وهو هدي الإسلام الجامع بين مصالح الدارين،
والفوز بالحسنيين، ويستعين على جمود علماء بلاده بالمستنيرين من علماء هذه
البلاد وغيرها، وقد ضمنت له ولرجاله إقناعهم بكل ما يشتبهون في منع الشرع له
من الترقيات العسكرية والإدارية ونحوها، كما قنع قبلهم كثير من علماء العرب
والترك، حتى علماء نجد الذين لا يجهل أحد شدة اعتصامهم بالدين وقوة شكيمتهم
فيه، وها هو ذا ملكهم وإمامهم قد وجد منهم خير الأعوان الناصحين لغلاة قومهم
الذين استنكروا منه استعمال التلفون والتلغراف اللاسلكي ونحوهما، ظنًّا منهم أنه
من السحر وعمل الشيطان.
وإنه ليسوءني أن تبذل الأمة الأفغانية العزيزة النفس الشديدة البأس كل تلك
الدماء الغزيرة في سبيل إنقاذ بلادها العزيزة من الإلحاد، وفشو الفسق والفساد،
وأخشى أن يغلو من يتولى أمرها في مقاومة المشروع من الإصلاحات المدنية
والعسكرية كما غلا أمان الله في مقاومة الهداية الدينية.