للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا


استنهاض همم
(١١)
بقية الولايات العربية يكاد يكون الكلام عليها متقاربًا متشابهًا من حيث أطماع
إنكلترا فيها؛ لوقوعها في قارعة الطريقين المؤديين إلى الهند البحري والبري، فهي
ربما كانت تضمر في نفسها التقام جزيرة العرب برمتها، وتتمنى لو تكرع فوقها
الرافِدَين دجلة والفرات.
(سوريا) ونعني بها البلاد الواقعة بين آسيا الصغرى شمالاً ومصر غربًا،
إن للدول الغربية بواعث جمة للتطلع إلى سوريا والاندساس بينها وبين صاحبها،
وأقوى تلك البواعث وأعظمها خطرًا أمران: (الأول) كونها معدِن الديانة
النصرانية، ومنبثق الأشعة العيسوية، وكِفافًا [١] يضم المعاهد المقدسة التي تنتابها
الأمم المسيحية من كل جنس، وعلى أي نِحلة يتقاطرون إليها على قصد الزيارة
والتبرك، و (الثاني) تكاثر النصارى في ربوعها، والتفافهم بمسلمي أهلها، بما
أربى على سائر الولايات العربية. أحد هذين الباعثين كافٍ في انبعاث دول أوربا
للاهتمام بسوريا، والمساجلة في نيل النفوذ فيها، فما بالك وقد اجتمعا معًا،
والمعهود من شِنْشِنَة القوم التحمس في خدمة الدين، ورفع شأن كهنته، والتظاهر
بحماية النصارى المنبثّين في الأقطار الشرقية، والتشوف لسبر أغوار سرائرهم،
وجس نبض حميتهم، والإشراف على شؤونهم مع متبوعهم ومواطنيهم، فكانت
سوريا - لِمَا ذكرنا - أفسح مجال لتسابق خيول أماني هؤلاء القوم، وأوسع فضاء
لتحويم نسور أطماعهم.
كان المجلي في هذا المضمار قبل احتلال الإنكليز لمصر هو فرنسا، فكادت
تخلص إليها أميال نصارى سوريا وتستحوذ على عواطفهم، سيما طائفة الموارنة
منهم، بل كاد اسمها يزاحم حكومة البلاد (لا سيما في لبنان) ، ولغتها تتغلب على
اللغة الوطنية، فما احتلت إنكلترا وادي النيل حتى أخذت ظلال نفوذها تتقلص من
سوريا شيئًا فشيئًا، وجواسيس آمالها تتراجع من خلال تلك الديار قليلاً قليلاً، وبقي
لها من ذلك بقية ربما كانت توازي ما خامر البلاد من شأن الإنكليز وأظلها من
نفوذها. أما الإنكليز أنفسهم فليس لهم في سوريا روّاد نفوذ، ولا دعاة مدنية، لكن
رُزقوا من ذلك أقوامًا هم يزرعون والإنكليز يحصدون، وهم يغرسون والإنكليز
يجنون، بل تراهم يأكلون ويشربون والإنكليز يشبعون ويرتوون! نعني بهم
الأميركان؛ فإنهم أنشأوا منذ سنين - بين ظهرانينا - مدارس ومطابع وكتبخانات،
ولهم قِسيسون ومبشّرون ينشرون اللغة الإنكليزية، ويبثون آدابها بين الفتيان
والفتيات؛ فيجني الإنكليز عواطفهم وأميالهم، ويعتدهم كُوى يطل منها على أسرار
البلاد وما في زواياها.
(الروسيا) لم تفتأ الحروب بينها وبين الدولة العلية حتى حَلَّت من نفوس
نصارى سوريا - سيما الروم منهم - محلاً رفيعًا، ولا تزال تسعى في استمالة
القلوب وإشرابها حبها. ولها في فلسطين جمعية كبرى تُدْعى (الجمعية الفلسطينية)
تحت رئاسة عم القيصر، وقد تبسطت من عهد قريب في فينيقية والشام، وغيرهما
من سوريا، وغرض تلك الجمعية الأكبر تعليم اللغة الروسية، ونشر آدابها
وتعاليمها بين أهالي البلاد. وقد مَهَّدوا بين يدي مشروعهم السبل، ووطؤا المسالك؛
فهُرعت الأقوام إلى مدارسهم؛ للارتشاف من هذا المنهل العذب، وازدحموا حوله،
حتى لم يعد ماؤه المتفجر يكفي وُرَّادهم وناهليهم، وربما أجروا ينابيع أُخَر أغزر
ماءً وأشد تفجُّرًا.
أنْشَأت تلك الجمعية في طرابلس الشام مدرستين، واحدة للذكور والأخرى
للإناث، وبذلت الجهد في تذليل العقبات أمام الطالبين والطالبات، واعتنت في
تسهيل الصعوبات عليهم اعتناءً ينطبق على حالتهم في العسر واليسر، والكبر
والصغر، فما ظنك بعِداد تلامذة تينك المدرستين الآن؟ ، يَبْلغون قرابة ألف ولد ما
بين ذكر وأنثى، أكثرهم أطفال حديثو عهد بمهد، تحنو عليهم المدرسة حنوّ
المرضعات على الفطيم، تواسي فقيرهم بحاجاته، وتتعهد صغيرهم بضروراته،
وترضعهم لبان العلم والتهذيب من صغر؛ كي يتمكن من نفوسهم تمكُّن النقش في
الحجر.
(الألمان) تبوَّؤوا من سواحل فلسطين عدة محال ومنازل، ولم يزل نسر
طمعهم - علي ما يروون - يحوّم حول البحر المتوسط، طورًا يسفّ، وآونة يُحَلِّق
يتخير لنفسه وُكنات أُخر؛ يبيض فيها ويفرخ. وغاية هذا الشعب في بلادنا
اقتصادية تجارية، ولا نعلم إن كانت له مآرب سياسية أو استعمارية، بَيْدَ أنه
يتراءى من خلال شؤون دول أوروبا أن الألمان أقل نهمًا، وأوفى ذِممًا من سائر
الدول، وإن كانوا كلهم سواسية (سواء) في خشونة الطبع عند الحفيظة والطيران
إلى معامع الشر، ولو في أقصى الشرق، واستباحة التغلب على الأمم المستضعفة،
والصيال عليها بذراع من حديد.
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يَخْلق لخشيته ... سواهم من جميع الخلق إنسانا
أما الطليان فقد حاولوا مِرارًا أن يكون لهم في بلادنا من الأثر والنفوذ ما
لغيرهم، وسعوا في افتتاح مدارس لنشر لغتهم وتعاليمهم؛ فلم يفلحوا وباؤوا بالخَيبة
والحرمان. وأكثر هاته الدول طمعًا في سوريا وأشدهن ضراوة بها - إنكلترا بعد
الاحتلال، وربما كسبت الدعوى عليهن وآبت بالفلج، فيما لو جرروها إلى المحكمة
الدولية الكبرى. أعظم حجة لها بين يدي دعواها التاريخ؛ فهو يشهد بأن سوريا
حريم لنهر النيل، وأن كل مَن ملك النهر حق له وضع اليد على ذلك الحريم، ثم
يتبع شهادته بقوله: على ذلك جَرى تعامل الأمم منذ أسَّس الملك (مينا) مدينة
(منف) إلى زمن تولية محمد علي باشا وزحف ابنه إبراهيم على سوريا. وبناءً على
اعتبار شهادة الواحد في قوانين تلك المحكمة يحكم الرئيس بصحة دعوى إنكلترا،
ويمنع دعوى المدّعين. وإذا تلكأ المدّعون في قبول هذا الحكم الجائر وحاولوا
استئنافه أو تمييزه إلى محكمة رئيسها المكسيم - يمشي حينئذ بعض أعضاء المحكمة
بالصلح بينهم، قائلاً: إن في إفريقيا والصين لَمندوحة عن قعقعة السلاح ومخر
السفين.
هذا، وإن نسبة مصر وسوريا إلى الهند كنسبة غلقي الباب إلى الدار، فكيف
يكتحل رب الباب بغمض قبل أن يطمئن على خزائن داره بإيصاد الغلقين؟ ، وزِد
على ذلك أن المداولات لم تَزَل جارية في أمر مشروع السكة الحديدية التي تصل
بين سواحل البحر المتوسط وسواحل الخليج العجمي؛ لتكون أقرب طريق بين
أوربا والهند والشرق الأقصى، فلا جرم أن يكون لسوريا مكانة عُليا في نفسها.
(المنار)
لن ترضى الدول بإعطاء سوريا لإنكلترا إلا أن تفنى روسيا وفرنسا!
((يتبع بمقال تالٍ))