للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاستفتاء في حقيقة الربا
لبعض كبار علماء الهند
(تابع ما نُشر في الجزء الرابع)

لبعض الأعلام ههنا كلام، فلابد علينا أن نذكره مع ما له وما عليه، وهو أن
القرض ليس غير البيع ومباينًا له بل داخل فيه؛ لأن القرض مبادلة انتهاء كما
صرَّح به بعض الفقهاء فهو قسم من أقسام البيع لا غير؛ وإنما جوَّز فيه النسأ مع
كونه من الأموال الربوية للضرورة ودفع حاجة الفقراء، وهذا لا يخرجه عن البيع.
قال القاضي ابن رشد الحفيد المالكي: فإن العقود تنقسم أولاً بقسمين: قسم يكون
معاوضة، وقسم يكون بغير معاوضة كالهبات والصدقات، والذي يكون بمعاوضة
ينقسم ثلاثة أقسام (أحدها) يختص بقصد المغابنة، وهي البيوع والإجارات
والمهور والصلح والمال المضمون بالعقد وغيره (والقسم الثاني) لا يختص بقصد
المغابنة؛ وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض [١] (والقسم الثالث) فهو ما
يصلح أن يقع على الوجهين جميعًا أعني قصد المغابنة وعلى قصد الرفق كالشركة
والإقالة والتولية [٢] قال الشاه ولي الله في حجة الله البالغة في ذيل البيوع المنهي
عنها: وكذلك الربا وهو القرض [٣] على أن يؤدي إليه أكثر وأفضل مما أُخذ سحت [٤]
باطل؛ فإن عامة [٥] المقترضين بهذا النوع هم المفاليس المضطرون، وكثيرًا
ما لا يجدون الوفاء عند الأجل، فيصير أضعافًا مضاعفة لا يمكن التخلص منه أبدًا،
وهو مظنة لمناقشات عظيمة، وخصومات مستطيرة، وإذا جرى الرسم باستنماء
المال بهذا الوجه أفضى إلى ترك الزراعات والصناعات التي هي أصول المكاسب
ولا شيء في العقود أشد تدقيقًا واعتناء بالقليل وخصومة من الربا، وهذان الكسبان
(أي الميسر والربا) بمنزلة السُّكر مناقضان لأصل ما شرع الله لعباده من المكاسب
وفيهما قبح وشناعة، والأمر في مثل ذلك إلى الشارع، إما أن يضرب له حدًّا
يرخص فيما دونه ويغلظ النهي عما فوقه، أو يصد عنها رأسًا، وكان الميسر
والربا [٦] شائعين في العرب، وكان قد حدث بسببهما مناقشات عظيمة لا انتهاء لها
ومحاربات، وكان قليلهما يدعو إلى كثيرهما، فلم يكن أصوب ولا أحق من أن
يراعى حكم القبح والفساد موفرًا فنهى عنهما بالكلية [واعلم] أن الربا على وجهين:
حقيقي [٧] ، ومحمول عليه، أما الحقيقي فهو في الديون [٨] وقد ذكرنا أن فيه قلبًا
لموضوع المعاملات، وأن الناس كانوا منهمكين فيه في الجاهلية أشد انهماك، وكان
حدث [٩] لأجله محاربات مستطيرة، وكان قليله يدعو إلى كثيره فوجب أن يُسد بابه
بالكلية؛ ولذلك نزل في القرآن في شأنه ما نزل (والثاني) ربا الفضل والأصل
فيه الحديث المستفيض (الذهب) -الحديث -هو [أي ربا الفضل] مسمى بربا
تغليظًا وتشبيهًا [١٠] له بالربا الحقيقي على حد قوله عليه السلام: (المنجِّم كاهن)
وبه يُفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ربا إلا في النسيئة) [١١] ثم كثر في
الشرع استعمال الربا في هذا المعنى حتى صار حقيقة شرعية فيه أيضًا [١٢] والله
أعلم. انتهى [١٣] .
وكذا قال العلامة الإمام ابن الهمام الحنفي بعدما فسر الربا بقوله هو من البيوع [١٤] المنهي عنها قطعًا قال: بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا} (آل عمران: ١٣٠) أي الزائد [١٥] في القرض [١٦] والسلف على القدر المدفوع
والزائد في بيع الأموال الربوية عند بيع بعضها بجنسه، وسنذكر تفصيلهما، ويقال
لنفس الزيادة أعني بالمعنى المصدري، ومنه {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٥) أي حرَّم أن يزاد في القرض والسلف على القدر المدفوع، وأن
يزاد في بيع تلك الأموال بجنسها قدرًا ليس مثله في الآخر [١٧] وذلك الكلام أتى
في كتاب الصرف بحديث عمر (الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء) ثم قال: وقيل:
معنى قوله (ربا) أي حرام بإطلاق اسم الملزوم على اللازم، ولا مانع من حمله في
حقيقته شرعًا، وأن اسم الربا تضمن الزيادة من الأموال الخاصة في أحد العوضين
في قرض أو بيع اهـ الظاهر من مجموع كلامه أن الزيادة في القرض ربا،
والربا من البيوع المنهي عنها، فيفهم منه أن القرض من البيوع.
وفي الملتقى: الربا هو فضل مال خالٍ عن عوض شرط لأحد العاقدين في
معاوضة مال بمال - وذكر العلامة الشيخ زادة في شرح العاقدين: أي البائعين أو
المقترضين [١٨] فعلى هذا يكون الربا في القرض أيضًا فيكون بيعًا، وكذلك الفقهاء
بأجمعهم يذكرون الربا في كتاب البيوع والربا في القرض أيضًا، فيكون القرض
بيعًا. قال العلامة العيني في شرح البخاري واختلف في عقد الربا هل هو منسوخ لا
يجوز بحال، أو هو بيع [١٩] فاسد إذا أُزيل فساده صح بيعه؟ فجمهور العلماء على
أنه بيع منسوخ، وقال أبو حنيفة: هو بيع [٢٠] فاسد إذا أزيل فساده انقلب
صحيحًا [٢١] قال شيخ الإسلام المرغيناني في باب البيوع الفاسدة من فتاوى التجنيس
والمزيد: رجل طلب من آخر قرض عشرة دراهم بأكثر: لا يجوز؛ لأن فيه ربا
اهـ[٢٢] . يمكن أن يتوهم من هذه العبارات أن القرض فيه الربا، ولا ربا في غير
البيع.
والجواب عنه أولاً تصريح العلماء والفقهاء بأن القرض غير البيع، قال
الشيخ ولي الله عليه رحمة الله في شرح الموطأ بالفارسية: (معنى قرض تمليك
شيء) است بآن شرط كه رد كند بدل أو وآن بيع نيست لمكه عقد يست كه ابتداء
معنى تبرع دارد واخرا معنى مبادلة [٢٣] قال ابن الهمام إن القرض تبرع لأنه صلة في
الابتداء وإعارة حتى يصح القرض بلفظ أعرتك اهـ (فتح القدير) قال الشاه ولي الله
رحمة الله عليه: مبنى القرض على التبرع من أول الأمر وفيه معنى الإعارة [٢٤] .
قال ملك العلماء في البدائع: لأن القرض للحال تبرع، ألا ترى أنه لا يقابله
عوض للحال؟ فكان تبرعًا فلا يجوز إلا ممن يجوز منه التبرع، وكذا قال في
مبحث تأجيل القرض: لأن القرض تبرع، ألا ترى أنه لا يقابله عوض للحال، وأنه
لا يملكه من لا يملك التبرع؟ وقال الحداد في شرح القدوري في هذا المبحث: لأنه
(القرض) اصطناع معروف، وفي جواز تأجيله جبر على اصطناع المعروف،
وقال الحداد في البيوع: والبيع في اللغة: مبادلة مال بمال آخر، وكذا في الشرع؛
لكن زِيد فيه قيد التراضي لما في التغالب من الفساد {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (البقرة: ٢٠٥) ويقال: هو في الشرع عبارة عن إيجاب وقبول في مالين ليس فيهما
معنى التبرع، وهذا قول العراقيين كالشيخ (أي أبي الحسن القدوري) وأصحابه،
وقيل: هو عبارة عن مبادلة مال بمال لا على وجه التبرع، وهو قول الخراسانيين
كصاحب الهداية وأصحابه اهـ.
فالقرض على رأي الجمهور عقد تبرع كما مر بخلاف البيع؛ فإنه ليس فيه
تبرع على كلا الحدين، فغير التبرع لا يكون تبرعًا، بل هما متباينان وأحكامهما
مختلفة، فالقرض معروف هو صدقة وتبرع وعبادة، والبيع ليس كذلك، والقرض
عارية في الابتداء، والبيع ليس بعارية لا في الابتداء ولا في الانتهاء، فالقرض
شبيه بالعارية من حيث الابتداء وشبيه بالبيع من حيث الانتهاء، ووجه الشبه
المبادلة؛ لكن تكون في البيع ابتداءً وانتهاءً، وفي القرض حين الأداء وبه لا
تخرج عنه كونها تبرعًا، قال السرخسي في شرح السير الكبير [٢٥] هو كلام
يحتمل القرض، ويحتمل الصدقة فكل واحد منهما تبرع، والقرض أقل التبرعين؛
لأنه يوجب البدل اهـ. ففيه تصريح أن البدل لم يُخْرِج القرض عن كونه تبرعًا.
والحق أن المبادلة في البيع ركن، وفي القرض ليست بركن، نعم تستلزمه،
وفرق ما بين الالتزام واللزوم؛ لأن مقصود المشتري هو المبيع، ومقصود البائع
هو الثمن، وغرض كل منهما إخراج ما في ملكه وتحصيل عوضه، والأحكام
تترتب على الالتزام لا على اللزوم، قال ملك العلماء: إن البيع مبادلة شيء مرغوب
فيه بشيء مرغوب فيه [٢٦] ، وقال في (كتاب البيوع) أما ركن البيع فهو مبادلة شيء
مرغوب بشيء مرغوب، وذلك قد يكون بالقول وقد يكون بالفعل اهـ. وظاهر أن
القرض ليس فيه مبادلة شيء بشيء مرغوب فيه، بل الغرض الأصلي الذي وضع له
القرض هو إنجاح حاجة المحتاج إليه، ولذا قال الشيخ ولي الله رحمه الله أن القرض
تمليك الشيء ليسترد [٢٧] مثله وهو ليس ببيع، بل هو عقد في أوله تبرع، وفي آخره
مبادلة [٢٨] قال ابن عابدين رحمه الله: ههنا أصلان (أحدهما) أن كل ما كان مبادلة
مال بمال يفسد بالشرط الفاسد كالبيع وما لا فلا [٢٩] كالقرض [٣٠] وأيضًا قال العلامة
المذكور في نشر العرف: في دليل محمد رحمه الله؛ لأن القرض أسرع جوازًا من
البيع؛ لأنه مبادلةٌ صورةً، وتبرعٌ حكمًا [٣١] فهذا تصريح منه أن القرض ولو كان
مبادلةً صورةً، لكن ليس له حكم المبادلة شرعًا، قال القاضي سناء الله في تفسيره:
لأن الشرع اعتبره عارية كأن المؤدى عين المدفوع. ولعله باعتبار مقاصد العاقدين
لأن الاعتبار في العقود للأغراض والمعاني لا للصورة، ومن ذهب إلى أنه مبادلة
انتهاء فهو صرَّح أيضًا أنه تبرع في الابتداء، والبيع ما يكون مبادلة في الابتداء كما
هو مبادلة في الانتهاء، قال شيخ الإسلام رحمه الله إنه إعارة وصلة في الابتداء حتى
يصح بلفظ الإعارة، ولا يملكه من لا يملك التبرع كالوصي والصبي، ومعاوضة في
الانتهاء، وكذا قال الحداد في شرح القدوري، والقرض ليس هو بمبادلة في الابتداء
اهـ. فعلى هذا لا يكون بيعًا؛ لأن الفقهاء صرَّحوا أن البيع مبادلة ابتداء كما هو
مبادلة انتهاء، وإذا فات عن أحد الطرفين كونه مبادلة يفوت كونه بيعًا، قال ملك
العلماء في البدائع في دليل قول الإمام: إن ولي الصغيرة لا يملك الهبة بالعوض بدليل
أن الملك فيها يقف على القبض، وذلك من أحكام الهبة؛ وإنما تصير معاوضة في
الانتهاء، وهو لا يملك الهبة فلم تنعقد هبة فلا يتصور أن تصير معاوضة بخلاف
البيع؛ لأنه معاوضة ابتداء وانتهاء وهو يملك المعاوضة [٣٢] .
اعلم أن ملك العلماء أخرج الهبة بالعوض عن البيع بدليل أنها ليست بمعاوضة
في الابتداء فبعين هذا الدليل يخرج القرض أيضًا من البيع؛ لأنه ليس بمعاوضة في
الابتداء بالاتفاق كما مر عن العلامة الشامي أن القرض وإن كانت صورته صورة
المبادلة لكن هو في حكم التبرع شرعًا، قال العيني في شرح الهداية: والمعول على
النكتة الأولى [٣٣] لا على النكتة الثانية [٣٤] لأن على النكتة الثانية يلزم أن لا يصح
القرض أصلاً اهـ. قال صاحب العناية: وهذا يقتضي فساد القرض لكن ندب الشرع
إليه وأجمعت الأمة على جوازه فاعتمدنا على الابتداء [٣٥] وقلنا بجوازه بلا لزوم (باب
المرابحة والتولية) .
والحق في هذا الباب ما نقل القهستاني عن النهاية وغيره لأنه موافق للدراية،
وهو أن القرض ليس فيه مبادلة أصلاً لا في الابتداء ولا في الانتهاء بل في كليهما
عارية، لفظه: إلا أن التعويل على أنه عارية ابتداء أو انتهاء [٣٦] قال الشلبي إن
بدل القرض في الحكم كأنه عين [٣٧] المقبوض إذ لو لم يجعل كذلك كان مبادلة
الشيء بجنسه نسيئة وهو حرام، وإذا كان كذلك يكون عارية ابتداء وانتهاء [٣٨]
ويحصل من هذه أن الأصل في البيع أن يكون غرض العاقدين التزام المبادلة، ولا
يكون القصد والغرض من طرف إلا المبادلة، وأما العقود التي لا يكون غرض
المتعاقدين فيها التزام المبادلة بل يلزمها المبادلة، فهي ليست ببيع كما في القرض؛
لأن فيه ليس غرض المقرض ليتبادل دراهمه، بل غرض الطرفين إنجاح الحاجة
فقط ولزوم المبادلة من غير قصد والتزام، فلا يصير من هذا اللزوم بيعًا، كذا
صرَّح ابن القيم في الأعلام، لفظه: وأما القرض فمن قال إنه خلاف القياس فشبهته
أنه بيع ربوي بجنسه مع تأخر القبض، وهذا غلط فإن القرض من جنس التبرع
بالمنافع كالعارية ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم منيحة فقال: (أو منيحة
ذهب أو منيحة ورق) وهذا من باب الإرفاق لا من باب المعاوضات فإن باب
المعاوضات أن يعطي كل منهما أصل المال على وجه لا يعود إليه، وباب القرض
من جنس العارية والمنيحة وإفقار الظهر لما يعطى فيه من أصل المال ليتنفع فيه
أصل المال بما يستخلف منه ثم يعيده إليه بعينه إن أمكن، وإلا فنظيره ومثله،
فتارة ينتفع بالمنافع كما في عارية العقار، وتارة بمنحه ماشية ليشرب لبنها ثم
يعيدها، أو شجرة ليأكل ثمرها ويسمى عريَّة فإنهم يقولون: أعاره الشجر وأعاره
المتاع ومنحه الشاة وأفقره الظهر وأقرضه الدراهم واللبن والتمر، ولما كان
يستخلف شيئًا بعد شيء كان بمنزلة المنافع، ولهذا كان في الوقف يجري مجرى
المنافع وليس هذا من باب البيع في شيء، بل هو من باب الإرفاق والتبرع
والصدقة، وإن كان المقرض قد ينتفع أيضًا بالقرض كما في مسألة السفتجة ولهذا
كرهها من كرهها، والصحيح أنها لا تكره لأن المنفعة لا تخص [٣٩] المقرض، بل
ينتفعان بها جميعًا [٤٠] فالعلامة ابن القيم صرَّح فيه بأشياء (الأول) من شبه
القرض بالبيع فقد غلط فإذا كان تشبيهه بالبيع غير صحيح فكونه بيعًا أولى أن
يكون غير صحيح (والثاني) أنه تبرع (والثالث) أنه ليس من باب المعاوضات
(والرابع) أن المعاوضة أصلها أن يعطي شيئًا على وجه لا يعود إليه، والقرض
ليس على هذا الوجه، فظهر بهذا تسامح ابن رشد حيث عدَّ القرض من باب
المعاوضات.
وثانيًا: بأن جمهور [٤١] الفقهاء يستدلون على حرمة منافع القرض بحديث
سوار المتروك: (كل قرض جر منفعة فهو ربا) فلو كان القرض بيعًا لم يحتاجوا
إلى هذا الدليل الضعيف، بل الطريق الواضح والحجة المستقيمة أن القرض بيع،
والزيادة في بيع الأموال الربوية ربا، فاستدلالهم بهذا الحديث الضعيف، وعدولهم
عن الصراط السوي دليل على أن القرض ليس بيع، ولو كان بيعًا عندهم ما تركوا
هذا الدليل القوي والحجة المستقيمة، وأيضا يعلم من استدلالهم بهذا الحديث
الضعيف أنه ليس في هذا الباب حديث صحيح يحتج به وهو أحسن وأقوى من هذا
كما مر بيانه.
وثالثًا: بأن العلامة الكاساني قد استدل على حرمة المنافع بدليلين، الأول
حديث سوار المتروك، والثاني أن لهذا شبهًا بالربا حيث قال: وأما الذي يرجع إلى
نفس القرض فهو أن لا يكون فيه جر منفعة، فإن كان لم يجز لما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قرض جر نفعًا؛ ولأن الزيادة المشروطة تشبه
الربا لأنه فضل لا يقابله عوض، والتحرز عن حقيقة الربا وعن شبهة الربا واجب [٤٢] ، فإن كان القرض بيعًا فكان الفضل (أي نفعه) ربا حقيقة لا شبيهًا له.
وقد سلَّم بعض الأعلام لما شافهتهم في هذه المسألة أن القرض المطلق ليس
ببيع؛ لكن إذا زيد فيه شرط النفع يصير بيعًا لأنه حينئذ يفوت فيه كونه تبرعًا
وصدقة، فإذًا يكون بيعًا، وإذا صار بيعًا يجري فيه جميع أحكام بيع الأموال
الربوية، فيكون الفضل أيضًا ربا، أما قولنا: فإذًا يكون بيعًا، فلأن القرض
معاوضة حقيقة؛ لكن لكونه تبرعًا في الابتداء خرج عن حكم المعاوضات، فإذا
اشترط فيه النفع من أول الأمر فلم يبق إذًا التبرع فيعود إلى حقيقته، فيصير بيعًا
لأنه يصدق عليه إذًا أنه معاوضة ابتداءً وانتهاءً.
وفيه (أولاً) إنا لا نسلِّم أن يصدق عليه أنه معاوضة ابتداء وانتهاء؛ لأنه لا
عوض له في الحال كما مر عن ملك العلماء، وقد أخرج ملك العلماء الهبة بالعوض
عن البيع بدليل أنها ليست بمعاوضة في الابتداء، وإن كانت معاوضة في الانتهاء
فهذا الدليل يجري ههنا أيضًا، ويخرج القرض عن البيع بعين هذا الدليل، قال:
بدليل أن الملك فيها يقف على القبض، وذلك من أحكام الهبة؛ وإنما تصير
معاوضة في الانتهاء وهو لا يملك الهبة فلم تنعقد، فلا يتصور أن تصير معاوضة
بخلاف البيع [٤٣] .
(وثانيًا) أن ملك العلماء قد ذكر: أما ركن البيع فهو مبادلة شيء مرغوب
بشيء مرغوب اهـ. وفي القرض الطلب والرغبة عن (؟) الطرفين مفقودان
ألبتة، فلا يمكن أن يوجد البيع عند فوات ركنه على أن في القرض يعطي المقرض
ولا يريد ألا يعود إليه ما أعطى بخلاف البيع؛ لأن كلاًّ منهما يريد وينوي أن لا
يعود إليه ما خرج عن يده.
(وثالثًا) أن القرض وإن اشترط فيه الزيادة فلا يصير بيعًا أيضًا لأمور
(الأول) أن هذا الشرط خلاف مقتضى العقد؛ لأن مبنى القرض على التبرع وإذا
اشترط فيه الزيادة فات عنه كونه تبرعًا، ومن الأصول أن الشرط إذا كان خلاف
مقتضى العقد يفسده؛ ولكن القرض من العقود التي لا تفسد بالشروط الفاسدة، بل
الشرط يصير ملغى والعقد صحيحًا فإذا بقي القرض على صحته لم يصر بيعًا، قال
الشاه ولي الله رحمة الله عليه: وجائز نيست اقراض بشرط زيادة يارد صحيح
عوض مكسريا آنكه در شهر ديكر بدهد درين صورتها شرط لغوشود زيراكه عبد
الله بن عمر بإبطال شرط فرمودندنه ببطلان عقد [٤٤] قال شيخ الإسلام في الهداية:
لأن الشرط الفاسد في معنى الربا، وهو يعمل في المعاوضات دون التبرعات
(كتاب الهبة) قال الإمام السرخسي في المبسوط: لو قال أقرضني عشرة دراهم
بدينار فأعطاه عشرة دراهم بدينار فعليه مثلها، ولا ينظر إلى غلاء الدراهم
ورخصها، وكذلك كل ما يكال ويوزن، فالحاصل هو أن المقبوض على وجه
القرض مضمون بالمثل، وكل ما كان من ذوات الأمثال يجوز فيه الاستقراض،
والقرض لا يتعلق بالجائز من الشروط، فالفاسد من الشروط لا يبطله؛ ولكن يلغو
شرط رد شيء آخر فعليه أن يرد مثل المقبوض [٤٥] فهذا تصريح منه أن الشروط
الفاسدة لا تبطل القرض، بل يكون القرض باقيًا على أصله وتبقى قرضيته ولا
تزول، أي لا ينقلب بالشروط الفاسدة إلى البيع، وقال في موضع آخر: ولو
استأجر منه ألف درهم أو مائة بدرهم أو ثوب لم يجز، قال لأنه ليس بإناء ويريد
ألا ينتفع به مع بقاء عينه، ومثله لا يكون محلاًّ للإجارة؛ وإنما يُردُّ عقد الإجارة
على ما ينتفع به مع بقاء عينه، وقد بيَّنا أن الإعارة في الدراهم والدنانير لا تتحقق،
ويكون ذلك قرضًا فكذلك الإجارة [٤٦] ، فإذا لم تنقلب إجارة الدراهم والدنانير بشرط
النفع إلى البيع، فالقرض أولى بل لا ينقلب إليه وإن اشترط فيه النفع.
(والأمر الثاني) أن الفقهاء يصرِّحون أن النفع المشروط في القرض شبيه
بالربا، فلو يستحيل القرض بشرط النفع إلى البيع لصار هذا النفع ربا حقيقة لا
شبيهًا به.
(والأمر الثالث) لو صار القرض بشرط النفع بيعًا لكان بيع الصرف،
وبيع الصرف إذا لم يكن فيه تقابض البدلين في المجلس أو يكون فيه شرط الزيادة -
يفسد، ويتعين النقد في الصرف إذا فسد بيع الصرف، فلا تكون هذه الدراهم والدنانير
ملكًا للمستقرض، فلا يكون الربح والمنفعة الحاصلة منه طيبًا مع أن الفقهاء
صرَّحوا بأنه طيب. في العالمكيرية: من استقرض من آخر ألفًا على أن يعطي
المقرض كل شهر عشرة دراهم، وقبض الألف وربح فيها طاب له الربح [٤٧] .
(والأمر الرابع) أن القرض إذا اشترط فيه النفع يكون مكروهًا عند الفقهاء
قال محمد رحمة الله عليه في كتاب الصرف أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يكره
كل قرض جر منفعة، قال الكرخي: هذا إذا كانت المنفعة مشروطة في العقد بأن
أقرض غلة ليرد عليه صحاحًا أو ما أشبه ذلك، فإن لم تكن المنفعة مشروطة في
العقد فأعطاه المستقرض أجود مما عليه فلا بأس به (عالمكيري) وأخرج الزيلعي
عن عطاء: كانوا يكرهون كل قرض جر منفعة اهـ. فلو ينقلب القرض من شرط
النفع إلى البيع لكان نفعه حرامًا لكونه ربا لا مكروهًا؛ لأن المكروه غير الحرام
ودليلاهما متغايران، قال العيني: أجمع المسلمون على تحريم الربا وعلى أنه من
الكبائر [٤٨] قال ابن الهمام وأحسن ما هنا عن الصحابة والسلف مارواه ابن أبي شيبة
في مصنفه: حدثنا خالد الأحمر عن حجاج عن عطاء قال: كانوا يكرهون كل قرض
جر منفعة [٤٩] ، أي الصحابة يكرهون النفع المستحصل من القرض، فهذا دليل على
أن الصحابة أيضًا يفرقون بين النفع المستحصل من القرض وبين الربا حيث يجعلون
الأول مكروهًا والثاني حرامًا، هذا ومن ادعى أن القرض مطلقًا بيع أو بشرط النفع،
فلابد عليه من البيان ودعوى البداهة في موضع الخلاف غير مسموعة، وقد [ظن
بعضهم] أن بيع خمس ربابي بست ربابي يكون ربا بالاتفاق، لكن إذا أقرض خمس
ربابي بشرط أن يرد عليه ست ربابي كيف لا يكون هذا ربا مع أنه لا فرق بينهما إلا
في اللفظ؟ [ويزال] بأنه لا مجال للقياس فيما ورد به النص لأن الشارع
عليه السلام [٥٠] جعل الأول بيعًا وربا لا الثاني. قال ابن قيم الجوزية: وكذلك صورة
القرض وبيع الدراهم بالدراهم إلى أجل صورتهما واحدة، وهذا قربة صحيحة، وهذا
معصية باطلة بالقصد [٥١] .
وكذا [ما ظن] أن نفع القرض ربا حقيقة وداخل في نص القرآن، وهو أمر
بديهي لا يحتاج إلى البيان [مدفوع] بأن لو كان أمرًا بديهيًّا، لا يمكن أن يخفى على
الأئمة والفقهاء دخول هذا النفع في نص القرآن، ولم يحتاجوا إلى الاستدلال عليه
بالحديث الضعيف تارة، وبالقياس على ربا البيع تارة، وبالقياس على ربا الجاهلية
مرة وبالآثار حينًا، وكذلك ما يختارون في حده ومسائله يعارض هذه الدعوى، فهذا
كله دليل على أنه ليس بمندرج في نص القرآن عندهم ويؤيده أيضًا عدم ورود النقل
عن واحد من الائمة بأن هذا النفع هو ربا منصوص.
وهذا المسلك - أعني أن آية الربا مجملة - هو ما عليه الأئمة المجتهدون
والفقهاء المحققون؛ لكن في الآية مسلك آخر وهو أن الآية ليست بمجملة حتى تحتاج
إلى التفسير، بل هي مفصلة واللام في (الربا) للعهد، وأشير بها إلى ما هو
المتعارف عند نزول القرآن بينهم أي ربا الجاهلية.
وفي هذا المسلك (أولاً) أنه لم يتبين إلى الآن بسند صحيح مرفوع ربا
الجاهلية في أي شيء كان، فهو مجهول، ولعل هذا وجه عدول الأئمة والمحققين عن
هذا المسلك، نعم آثار التابعين تدل على تعيين ربا الجاهلية، فبعضها يدل على أنه
كان في البيع كما روى الطبري عن بشر عن يزيد عن سعيد عن قتادة [٥٢] أن ربا
أهل الجاهلية أن يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى فإذا حل الأجل ولم يكن عند
صاحبه قضاء زاد وأخر عنه، فقال جل ثناؤه {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ} (البقرة: ٢٧٥) ..
إلخ قال السيوطي في الدر المنثور: أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن مجاهد [٥٣] قال: كانوا يتبايعون إلى أجل فإذا حل الأجل زادوا
عليهم وزادوا في الأجل فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ} (آل عمران: ١٣٠) ... إلخ،
وفيه أيضًا: أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك [٥٤] في قوله تعالى:
{اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (البقرة: ٢٧٨) قال: كان
ربا يتبايعون به في الجاهلية فلما أسلموا أمروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم اهـ. قال
ابن جرير: سمعت الضحاك يقول في قوله: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (البقرة: ٢٨٠)
هذا في شأن الربا وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون فلما أسلم من أسلم منهم أمروا أن
يأخذوا رؤوس أموالهم، قال الإمام الشافعي في تفسير أخذ رؤوس الأموال إنه يكون
فسخًا للبيع الذي وقع على الربا [٥٥] وقال الزرقاني في شرح الموطأ وهو أيضًا
يشبه حديث زيد بن أسلم [٥٦] في بيع أهل الجاهلية أنهم كانوا إذا حلت ديونهم قالوا
للذي عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن قضى أخذوا وإلا زادوهم
في حقوقهم، وزادوهم في الأجل، وقال السيوطي في الدر المنثور عن سعيد بن
جبير [٥٧] يعني الذين نزل فيهم أنهم {قالوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة:
٢٧٥) كان الرجل إذا حل ماله على صاحبه يقول المطلوب للطالب: زدني في
الأجل وأزيدك على مالك، فإذا فعل ذلك قيل لهم هذا ربا، قالوا سواء علينا إن زدنا
في أول البيع أو عند محل المال، دليل على أن المراد بالمال ههنا هو ثمن المبيع
وإلا كان الجواب منهم: سواء علينا اشتراط الزيادة في أول العقد أو عند محل المال،
في الفتح: أن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى فإذا حل الأجل ولم
يكن عند صاحبه قضاء زاد وأخَّر عنه.
و (أما ما قال) الجصاص الرازي الحنفي: والربا الذي كانت العرب تعرفه
وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة ما استقرض على ما
يتراضون به ولم يكونوا [٥٨] يعرفون البيع بالنقد ومتفاضلاً إذا كان من جنس واحد
هذا ما كان المتعارف المشهور بينهم اهـ. وقال أيضًا: فأبطل الله تعالى الربا الذي
كانوا يتعاملون به وأبطل ضروبًا أُخر [٥٩] من البياعات وسماها ربا اهـ. وقال
أيضًا: إنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضًا مؤجلاً بزيادة مشروطة اهـ. وقال
أيضًا: فمن الربا ما هو بيع ومنه ما ليس ببيع وهو ربا أهل الجاهلية، وهو القرض
المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض [٦٠] (فلم يرد بها أثر) ولا دليل
عليه بل في قول هذا الإمام ما يخالفه وهو دليل على أن المراد بالقرض هو الثمن
المؤجل.
وخالفه المفسرون أيضًا - صراحة - كما قال ابن العربي المالكي: اختلفوا
هل هي عامة في كل تحريم ربا أو مجملة لا بيان لها إلا من غيرها؟ والصحيح
أنها عامة لأنهم كانوا يتبايعون ويربون وكان الربا عندهم معروفًا، يبايع الرجل
الرجل إلى أجل فإذا حل الأجل قال: أتقضي أم تربي؟ يعني: أم تزيدني على مالي
عليك وأصبر أجلاً آخر؟ اهـ ثم أتى بأدلة على هذا المدعى ثم قال: وتبين أن
معنى الآية وأحل الله البيع المطلق الذي فيه العوض على صحة القصد والعمل
وحرم منه ما وقع على وجه الباطل، وقد كانت الجاهلية تفعله كما تقدم، فتزيد
زيادة لم يقابلها عوض، وكانت تقول إنما البيع مثل الربا، أي إنما الزيادة عند حلول
الأجل آخرًا مثل أصل الثمن في أول العقد، فردَّ الله تعالى قولهم وحرم ما اعتقدوه
حلالاً عليهم (أحكام القرآن) .
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا} (آل عمران:
١٣٠) قال ابن عطية: ولا أحفظ في ذلك شيئًا، قلت: قال مجاهد: كانوا يبيعون
البيع إلى أجل، فإذا حل الأجل زادوا في الثمن على أن يؤخروا، فأنزل الله عز وجل
{لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: ١٣٠) (أحكام القرآن)
ودلالة كما نقل عن حبر الأمة وسيد المفسرين عبد الله بن عباس رضي الله
عنه في تفسير قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٥) الزيادة
في آخر البيع بعدما حل الأجل كالزيادة في أول البيع إذا بعت بالنسيئة {وَأَحَلَّ
اللَّهُ البَيْعَ} (البقرة: ٢٧٥) الزيادة الأولى (وحرم الربا) الزيادة الأخيرة،
قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في درج الدرر {قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٥) قاسوا أن الزيادة في آخر العقد كهي في أول العقد، قال
الواحدي في تفسيره الوجيز {إِنَّمَا البَيْعُ} (البقرة: ٢٧٥) وهو أن المشركين
قاسوا أن الزيادة على رأس المال بعد محل الدين كالزيادة في الربح.
وقال الواحدي في تفسير قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا} (آل عمران:
١٣٠) قال المفسرون: هو أنهم كانوا يزيدون على المال ويؤخرون الأجل كلما أخر
عن أجل إلى غيره زيد زيادة. قال مجاهد: يعني ربا الجاهلية [٦١] وقال في تفسير
{إِنَّمَا البَيْعُ} (البقرة: ٢٧٥) وذلك أن المشركين قاسوا الزيادة على رأس المال
بعد محل الدين كالزيادة في الربح في أول البيع اهـ.
وفي فتح البيان: أي إنما البيع بلا زيادة عند حلول الأجل كالبيع بزيادة عند
حلوله؛ فإن العرب لا تعرف ربا إلا ذلك [٦٢] وفي نيل المرام: ومعنى الآية أن الله
أحل البيع وحرَّم نوعًا من أنواعه وهو البيع المشتمل على الربا اهـ. قال العلامة
الطحاوي في شرح معاني الآثار تحت تفسير حديث (إنما الربا في النسيئة) إن
ذلك الربا إنما عنى به القرآن الذي كان أصله في النسيئة، وذلك أن الرجل كان
يكون له على صاحبه الدين فيقول له أجلني منه إلى كذا وكذا درهمًا أزيدكها في
دينك اهـ. فالعلامة الطحاوي يقول: إن اللام في (الربا) الذي رواه أسامة في
الحديث للعهد، والمراد به ربا القرآن فعنده هذا الحديث لا يحمل على العموم، بل
أُخْرِج مخرج التفسير في تفسير ربا القرآن الذي كان أصله في النسيئة، وقد عرفت
أن النسيئة لا تكون إلا في البيع وهو الثمن المؤجل فتعيين العلامة الطحاوي ربا
الجاهلية بربا البيع موافق للتفسير الذي أثر عن ابن عباس في الربا أنه زيادة في آخر
البيع بعدما حل الأجل إذا بيع نسيئة.
وبعض الآثار تدل على أن ربا الجاهلية كان في دين مؤجل وحق إلى أجل،
وجميع هذه الآثار متفق على أنه كان في دين مؤجل، والدين المؤجل ليس بقرض
لغة. قال الإمام الرازي في تفسيره: قال أهل اللغة القرض غير الدين؛ لأن القرض
أن يقرض الإنسان دراهم أو دنانير أو حَبًّا أو تمرًا وما أشبه ذلك، ولا يجوز فيه
الأجل، والدين يجوز فيه الأجل اهـ. ثم قال: والقول الثاني إنه (أي الدين)
القرض هو ضعيف لما بينا أن القرض لا يمكن فيه أن يشترط فيه الأجل، والدين
المذكور قد اشترط فيه الأجل، وفي المغرب هو (القرض) مال يقطعه الرجل من
أمواله فيعطيه عينًا فأما الحق الذي يثبت له دينًا فليس بقرض، وفي الكليات لأبي
البقاء والدين بالفتح عبارة عن مال حكمي يحدث في الذمة ببيع أو استهلاك أو غيرهما
وإيفاؤه واستيفاؤه لا يكون إلا بطريق المقاصة عند أبي حنيفة والدين ما له أجل
والقرض ما لا أجل له اهـ. ثم أورد ما قال صاحب المغرب وقال: وهو المعول
عليه اهـ (تحت لفظ الدين) وقال: وأما إطلاق لفظ الأداء والقضاء على الدين فليس
لاتحاد معناهما، بل باعتبار أن له شبهًا بتسليم العين وشبهًا بتسليم المثل اهـ (تحت
لفظ الرد) فشرط الأجل منافٍ لحقيقة القرض، فالقرض لا يندرج في الدين المؤجل
فلا يجوز أن يراد بالدين القرض إذا كان فيه أجل، وأما ما ذكر الراغب الأصفهاني
وابن الأثير ووجيه الدين التهانوي أنه يشمل القرض، ففيه أولاً أنه خلاف التحقيق،
ومع هذا لا يدل على أن الدين المؤجل أيضًا يشمل القرض.
والحجة القوية على أن المراد في كلام الذين ذكروا في تفسير ربا الجاهلية
لفظ الدين مطلقًا هو الثمن المؤجل هي أن شراح قولهم قد فسَّروه به، قال البيهقي:
فيقول له صاحب الدين: أتقضي أم تربي؟ فإن أخَّره زاد عليه وأخَّره، ثم نقل في
توضيحه ثانيًا (قول الشافعي وأحمد) وهذا فيما رواه مالك بن أنس في الموطأ عن
زيد بن أسلم أنه قال: كان ربا الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل
فإذا حل الحق قال له غريمه: أتقضي أم تربي؟ فإن قضاه أخذ وإلا زاده في حقه
وأخَّر عنه في الأجل (قال الشافعي) فلما رد الناس إلى رؤوس أموالهم كان ذلك
فسخًا للبيع الذي وقع على الربا [٦٣] .
ظهر من كلام الشافعي أمران: الأول أن ربا الجاهلية كان في البيع، والثاني
أن المراد برأس المال الذي ورد في القرآن هو الثمن الذي جُعل في ابتداء البيع،
وكذا المراد من حق إلى أجل هو الثمن المؤجل وكذا العلامة الزرقاني أتي برواية
زيد بن أسلم في البيع حيث قال: وهو أيضًا يشبه حديث زيد بن أسلم في بيع أهل
الجاهلية: إنهم كانوا إذا حلَّت ديونهم قالوا للذي عليه الدين إما أن تقضي وإما أن
تربي فإن قضى أخذوا وإلا زادوهم في حقوقهم وزادوهم في الأجل اهـ.
وأما (ما قال الإمام الرازي) وتبعه النيسابوري: أما ربا النسيئة فهو الأمر
الذي كان مشهورًا متعارفًا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن
يأخذوا كل شهر قدرًا معينًا ويكون رأس المال باقيًا، ثم إذا حل الدين طالبوا
المديون برأس المال، فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل، فهذا هو الربا
الذي يتعاملون به اهـ - فلا ثبوت له من النقل وهو أيضًا خلاف ما صرَّح به نفسه
من أن الآية مجملة والدين غير القرض.
هذا، فإن سئل عن حكم النفع المشروط في القرض شرعًا عند الفقهاء يجاب أن
نفع القرض مكروه، كما قال عطاء: كانوا يكرهون كل قرض جرَّ منفعة، وكما نقل
الإمام محمد رحمه الله في العالمكيرية بلفظ: قال محمد رحمه الله في كتاب الصرف
أن أبا حنيفة رحمه الله كان يكره كل قرض جرَّ منفعة. قال الكرخي: هذا إذا كانت
المنفعة مشروطة في العقد بأن أقرض غلة ليرد عليها صحاحًا أو ما أشبه [٦٤] ذلك فإن
لم تكن المنفعة مشروطة في العقد فأعطاه القرض أجود مما عليه فلا بأس به اهـ.
واستدل [٦٥] عليه بوجوه: الأول قياسه على الربا المنصوص والمقيس عليه
عند البعض الربا الذي يكون في بيع الشيء بجنسه متفاضلاً والأمر المشترك
المبادلة، وهو كما يكون في البيع يكون أيضًا في القرض، فكما يكون هذا الفضل
في البيع ربا كما صرَّح به ملك العلماء الكاساني وعند البعض المقيس عليه ربا
الجاهلية، والأمر المشترك الزيادة في مقابلة الأجل؛ لأن في ربا الجاهلية كما تكون
الزيادة بمقابلة الأجل إذا لم يقض الثمن عند حلول الأجل كذا في القرض كما صرَّح
به ابن رشد، وفيه نظر وهو أن القياس لا يصح عند الشارع، فكيف يصح هذا
القياس مع هذا الفارق؟ وأما في الثاني فلأن الزيادة في الجاهلية كانت بعد حلول
الأجل لا في ابتداء العقد والكلام في الزيادة التي تكون من أول العقد وليس هذا من
ذاك.
(والثاني) حديث [٦٦] (كل قرض جر منفعة) وهو وإن كان ضعيفًا غير
صالح لثبوت الربوية؛ لكن أدناه أن تثبت به الكراهة.
(والثالث) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القرض صدقة) وقال ابن
عمر: السلف على ثلاثة أوجه: سلف تريد به وجه الله فلك وجه الله. وفي المدونة:
قال ابن وهب عن رجال من أهل العلم عن ابن شهاب وأبي الزناد وغير واحد
من أهل العلم أن السلف معروف، أجره على الله فلا ينبغي لك أن تأخذ من صاحبك
في سلف أسلفته شيئًا ولا تشترط إلا الأداء - فعلى هذا أي إذا كان القرض عبادة
وصدقة فحكم الاستئجار والاستنفاع عليه كحكم الاستئجار على الصدقات والعبادات
كالاستئجار على تعليم القرآن وتعليم الفقه والحديث والاستئجار على قرآن التراويح
والاستئجار على سائر أمور الدين من الوعظ والتذكير والإفتاء وخدمة المدارس
الدينية والأذان والإمامة وغيرها، وعلم الصواب عند الله.

ما قولكم أيها العلماء الكرام في أجوبة الأسئلة المذكورة؟ هل هي صحيحة
أم لا؟ بيِّنوا ونوِّروا قولكم بالدليل
الأسئلة
(١) لفظ الربا في آية {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: ٢٧٥)
مجمل أم لا؟ سيما عند الأحناف، وعلى الإجمال: ما التفسير الذي ورد عن
الشارع؟ أعني في القرآن والحديث الصحيح.
(٢) بيِّنوا معنى الربا عن القرآن والأحاديث الصحيحة؟
(٣) النفع المعيَّن المشروط في القرض ربا منصوص أم لا؟
(٤) النفع المشروط في القرض لو قيل هو ربا، فما الدليل عليه من الأدلة
المعتبرة عند الفقهاء الكرام؟
الأجوبة
هو المصوَِّب
(١) الربا المذكور مجمل عند الأحناف وغيرهم من الأئمة حتى يصح أن
يقال اتفقت عليه الأمة، وحديث عبادة وغيره تفسير له عند الجمهور (انظروا ص
٢٧٤-٢٧٨ ج ٤ المنار) .
(٢) الربا هو الفضل الخالي عن العوض [٦٧] في البيع (مبسوط - عناية
شرح هداية - انظروا ص ٢٨١و٢٨٢ منه) والدليل على هذا المعنى ما رواه
عبادة وغيره (الحنطة بالحنطة) ... إلخ (انظروا ص ٢٧٨و٢٧٩ منه) .
وعلى هذا المعنى تدل أيضًا آية {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة:
٢٧٥) لأن على تقدير إجمال الربا وكون الحديث تفسيرًا لها لا يكون ربا القرآن
غير ربا السنة، فربا القرآن عين ما ثبت كونه ربا بالحديث (انظروا ص ٢٨٢
منه) .
(٣) النفع المشروط في القرض ليس هو ربا منصوصًا لعدم ثبوته من
القرآن ومن حديث صحيح (انظروا ص ٢٨٣ إلى ص ٢٩١ منه) .
(٤) النفع المشروط في القرض لما لم يثبت كونه ربا بالقرآن والحديث
استدل على كونه ربا تارة بالقياس (انظروا ص ٤٣٦ ج ٦ منه) وتارة بحديث
(كل قرض جر منفعة) وفي كليهما نظر، أما في الأول فلأنه قياس مع الفارق
(انظروا ص ٤٣٧) فلا يصح، وأما في الثاني فلأنه ليس بصحيح بل هو ضعيف
فغير صالح للاحتجاج ولو سلم بصحة القياس ففيه أن الأحكام القياسية [٦٨] تقبل
التغير بتغير الأزمان كما هو ثابت في موضعه، ومن كان له وقوف على حال هذا
الزمان وخبرة بأهله، فلا محيص له بدون أن يفتي بجوازه كما في الاستئجار على
تعليم [٦٩] القرآن والأذان والإمامة وغيرها والاستدلال عليه بالتعامل والتوارث عن
السلف، ففيه أن التعامل مبني على القياس لا على غيره من الأدلة، ومن ادّعى
فعليه البيان والله أعلم بالصواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المستفتى ... ... ... ...
تكملة
لما تنبه الشيخ سناء الله رحمه الله على أن نفع القرض المشروط لا يدخل في
الربا المحرم بالنص على المسلكين، فقال مخالفًا لما عليه الجمهور: إن المراد بالربا
معناه اللغوي وهو الزيادة، وهي عبارة عن فضل يعلو على المماثلة والمساواة [٧٠]
فأوجب تعالى في المبايعة والمقارضة المماثلة والمساواة، فالمعتبر فيها المماثلة
بالأجزاء كيلاً أو وزنًا إن اتحد جنس البدلين، وكانا من ذوات الأمثال وعند
اختلاف الجنس تكفي المماثلة المعنوية وهي القيمة، وجعلت القيمة مماثلة للبدل لأن
مالكي البدلين رضيا عليه عند المبادلة فيصير كل من البدلين مثلاً لمجموع [٧١]
البدل الآخر باصطلاحهما.. انتهى ملخصًا عن عبارته الشريفة في التفسير
المظهري، ويختلج في صدري أنه على هذا لا يجوز للمشتري أن يبيع ما اشتراه
بأكثر من الثمن الذي اشتراه به؛ لأنه الفضل لغة مع أنه جائز باتفاق الأمة وعند
الشيخ أيضًا.
((يتبع بمقال تالٍ))