للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الكتابان الجليلان
نوَّهنا في أجزاء من (المنار) بكتاب (تحرير المرأة) وكتاب (سر تقدُّم
الإنكليز السكسونيين) ، وكيف لا ننوِّه بهما؟ ! وهما غاية الغايات في فن التربية
الذي نحن في أشد الحاجة إليه، ونحن نعتقد - كما يعتقد جميع العقلاء الذين لهم
نظر ولو بوجه ما في علم الاجتماع - أن تقدم الأمم وتأخرها، وسعادتها وشقاءها،
وغناها وفقرها، واستقلالها واستعباد الأغيار لها - كل ذلك مَنوط بتربيتها، فمتى
صَلُحت التربية صَلُح كل شيء، ومتى فسدت فسد كل شيء، ونعتقد أيضًا أن كمال
التربية إنما يكون بتربية الذكران والإناث جميعًا؛ فوجود الرجال الكملة متوقف على
وجود النساء الكوامل، وبالعكس.
وقد استوفى أحد الكتابين المنوَّه بهما أهم مباحث تربية النساء، واستوفى
ثانيهما أهم مباحث تربية الرجال؛ لأن مدار كتاب (سر تقدم الإنكليز) على تربية
الرجال المستقلين بأنفسهم في معيشتهم، القادرين على الاستعمار وتحصيل الثروة
في كل مكان وزمان؛ بحيث تكون أمتهم بمجموعهم أكثر الأمم ثروة، ودولتهم أكبر
الدول سيادة , وإنما كان هذا الكتاب غاية الغايات في بابه؛ لأن مؤلفه درس فن
الاجتماع، حتى صار من الراسخين فيه، ثم درس أحوال الأمم الثلاث التي هي في
مقدمة أمم الأرض في العلم والعمل والمدنية: الفرنسيس (قومه) ، والألمان
والإنكليز السكسونيين (بريطانيين وأميركانيين) ؛ فاهتدى بدراسته إلى السر في
تقدم الآخرين على مَن قبلهم في الثروة والاستعمار، وهو التربية التي شرحها في
كتابه هذا، وفضَّلها على سائر أنواع التربية تفضيلاً.
مَن ينكر أن بريطانيا العظمى تَسُود على ربع العالم أو أكثر، وهي أقل الأمم
الثلاث عناية بالحرب ومزاولة له، وإذا تم ما يحاوله بعض رجالها من الحلاف
والاتحاد مع الولايات المتحدة فلا يمضي قليل من الزمن إلا ونرى عنصر
(الأنكلوسكسون) يسود نصف العالم. ربّما يفوق بعض الأمم الإنكليز السكسونيين في
بعض ما يسميه الفلاسفة وعلماء الأخلاق أدبًا وفضيلة، ولكن من يلاحظ أن العزة
والقوة القائمتين على أصول العلم هما مناط الترقي المادي والأدبي معًا، وأن الذلة
والضعف المتولدين من الجهل وفساد التربية يُذهبان بكل فضيلة ويمحوان معالم
الآداب، إلا أن يُعالَجا بالعلاج الصحيح - يتجلى له أن ما اعترض به على كتاب
(سر تقدم الإنكليز) من أن الإنكليز إذا كانوا أكثر تقدمًا ماديًا من الفرنسويين،
فالفرنسويون أرقى منهم في التقدم الأدبي - هو ناشئ عن نظر سطحي وعدم إمعان؛
فإن بعض تلك الأمور الأدبية وهمي أو عرفي غير حقيقي، وما عساه يكون حقيقيًا؛
فإن رُقي الإنكليز في مراقي التقدم يكفل لهم إدراكه والتبريز فيه، ولا يقول
صاحب الكتاب ولا غيره: إن الإنكليز يفضلون قومه وسائر الناس بكل شيء.
كيف وقاعدة (يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل) - لا يمكن أن ينكرها
أحد، وإنما ألممنا بهذا ليتم لنا الاحتجاج بأن الكتاب أمثل الكتب في فنه.
هذا ما أُقرِّظ به الكتاب على وجه الإجمال، ولا أرضى لقراء (المنار) بأن
يكون هذا كل نصيبهم منه، بل أعِدُهم بأنني سألخص لهم أجَلَََََََََََََّ فوائده، وأصلهم بما
يناسب حالهم من مسائله، وربما أتحفتهم بجُل مقدمة معرِّبه الفاضل؛ فإنها آية في
الحكمة وتمثيل مرض الأمة. وقد أحسن كل الإحسان في تشخيص مرض الأمة في
مقدمة الكتاب، الذي يصف الدواء لأدواء الأمم. فمَن عرف الداء يتناول علاجه من
أمم. ولا حاجة للتنويه ببلاغة ترجمته العربية؛ فان القُرَّاء يعلمون أن حضرة فتحي
بك زغلول معرِّبه في مقدمة بُلغاء كُتاب العربية، ومَن يقرأ الكتاب لا يكاد يشعر
بأنه معرَّب تعريبًا!
وأما كتاب (تحرير المرأة) ، فإنني وددت لو يُنشر في (المنار) إلا قليلاً.
حكمة رائعة. في عبارة بارعة، ومعنى دقيق. في لفظ رقيق، وما رأيتُ مكتوبًا
في الأنام. ما جعل الحكمة على طرف الثمام - مثل الذي رأيت في هذا الكتاب.
ومن خصائصه أنه أحدث أثرًا في الأمة التي كِدنا نحسبها ميتة، لا تشعر بمؤلم،
ولا ملائم؛ لأننا أمسينا كما قال شاعرنا:
غوينا فلا الداعي إلى الخير بيننا ... يعان ولا الداعي إلى الشر يُخذل
أثر فيها حتى لا تسمع ممن قرأه كله أو بعضه إلا الإطراء والإطناب. والثناء
والإعجاب. أو الانتقاد على بعض ما جاء في باب الحجاب. بالغ جمهور القارئين
في هذا الانتقاد، كما بالغ في استحسانه المغرمون بالإصلاح، ولقد كتب إليَّ أحد
أفاضل أهل العلم العقلاء في سوريا ما نصه: (اطَّلعنا على بضعة عشر عددًا من
(المؤيد) ولقد دُهِشْنا مما قرأناه من (تحرير المرأة) ! - حيَّا الله مؤلفه، وجزاه عن
الإسلام والمسلمات خيرًا -، ولَعمري إنه تصدّى لأمر عظيم وبقدر عظم الأمر
سيكون أثره عظيمًا في نفع الأمة. ولقد أعَدت قراءة تلك الأعداد مِرارًا؛ لأنها
وافقت هوى في فؤادي، وهواجس في خاطري، على نحو ما كتبه ذلك الكاتب
الفاضل، ولقد حَملت الأعداد إلى فلان ... لأُطلعه عليها؛ إذ كان قد جرى قُبيل ذلك
بيننا حديث في هذا المعنى، طالت فيه المناظرة، ونتيجتها أن المرأة إذا تثقف عقلها
بالعلم والأدب؛ كان ذلك كافيًا في صيانتها، ومُغنيًا لها عن الحجاب العادي، أما
الحجاب الشرعي - الذي مَداره إخفاء مواضع الزينة ومواقع النظر، وعدم الخلوة
بالأجنبي - فهذا لا بد منه، كيفما كانت حالة المرأة مهما استكملت علمًا
وفضلا ً) . اهـ.
هذه خلاصة صدى صوت المؤلف ترجّعه الأقطار البعيدة، ولم يكن قائلاً إلا
بالحجاب الشرعي الذي استدل عليه بالكتاب والسنة وأقوال فقهاء المذاهب، ثم
بالنظريات العقلية والتاريخية والخطابيات أو الشعريات على بُعد الكتاب عن هذا
النوع الأخير في مجموعه، أريد بهذا مثل قوله:
(عجبًا، لِمَ لَم تؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوههم عن النساء إذا خافوا
الفتنة عليهن؟ ! هل اعتبرت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة، واعتبر
الرجل أعجز من المرأة عن ضبط نفسه والحكم على هواه؟ ! . واعتبرت المرأة
أقوى منه في كل ذلك؛ حتى أُبيح للرجال أن يَكشفوا وجوههم لأعين النساء مهما
كان لهم من الحسن والجمال. ومُنع النساء من كشف وجوههن لأعين الرجال منعًا
مطلقًا؛ خوف أن ينفلت زِمامُ هوى النفس من سلطة عقل الرجل؛ فيسقط في الفتنة
بأية امرأة تعرضت له، مهما بلغت من قبح الصورة وبشاعة الخَلْق؟ ! إن زعم
زاعِمٌ صحة هذا الاعتبار رأينا هذا اعترافًا منه بأن المرأة أكمل استعدادًا من الرجل،
فلم توضع حينئذ تحت رِقه في الحال؟ ! ، فإن لم يكن هذا الاعتبار صحيحًا فَلِمَ
هذا التحكم المعروف؟ !) . اهـ
والجواب عن هذا، إن الذين يقولون: يَحْرُم على الرجل النظر إلى وجه
المرأة، يقولون أيضًا: يحرم عليها النظر إلى وجْهِه، سواء في ذلك مَن قيّد الحرمة
بخوف الفتنة في الجانبين - وهم المتقدمون - ومَن أطلقها في كل حال سدًّا للباب -
وهم المتأخرون - وهؤلاء يمنعون حضور المرأة مجلسًا فيه أعمى أجنبي، وإنما
أمروا المرأة بستر وجهها - دون الرجل - لأن شأن النساء أن يلزمن الحجال
ولا يتعرضن لأنظار الرجال. والتعرض لنظر أحد الفريقين للآخر إنما يكون في
الأسواق ونحوها من المجتمعات العمومية، التي هي للرجال بالأصالة، ولا يغشاها
النساء إلا نادرًا للضرورات؛ فلا جرم أن الصواب أن يتكلف مشقة الستر مَن يكون
وجوده فيها عارضًا على سبيل الندور، وليس له فيها عمل مهم، وهو صِنف النساء
ويسهل عليهن لذلك غض أبصارهن، وليس من الصواب أن يؤمر أهل السوق كلهم
بالانتقاب؛ لما عساه يعرض من دخول امرأة أو أكثر عليهم فيه.
فإن قيل: إن دخول النساء الأسواق كثير وليس بالنادر، وربما ساوين فيه
الرجال - أقول: إنهم يبنون كلامهم على أصلهم، وهو لزوم النساء البيوت في
الغالب، وما جاء على خلاف الأصل لا يُحتج به، وإن أمكن الاحتجاج على بطلان
الأصل، على أن هذا ليس في جميع البلاد الإسلامية؛ ففي نابلس والقدس وبلاد
أخرى من سوريا وفلسطين لا تكاد ترى امرأة مسلمة في السوق إلا نادرًا.
يقول المؤلف بوجوب الوقوف بالحجاب عند حدود الدين، وقد راعى جانب
الحكمة، فقال: لا ينبغي أن تخفف وطأة الحجاب العادي إلا بعد التربية الصحيحة،
ولكنه توسَّع في بيان مضار هذا الحجاب، وبيان ما ينبغي أن يكون عليه النساء بعد
التربية من مخالطة الرجال ومشاركتهم في الأقوال والأعمال، حتى إنه ذكر من
مضاره الاقتصادية حاجة الدار إلى بيتين للمائدة، ومثلهما لاستقبال الزائرين
والزائرات. ومثل هذا القول يجرئ المتفرنجين على تعجل ما يشتهون من مشايعة
الإفرنج في عاداتهم، مما كانوا يأبونه؛ حذرًا من انتقاد أبناء وطنهم عليهم باسم
الدين، فهذه المصادمة للعادات والمألوفات في المسألة هي التي أطلقت الألسن
بالانتقاد.
والحق أنه (ما كل ما يعلم يقال) ، وأنه ينبغي لمَن يكتب في الإصلاح أن
يُجمل في الكلام عن المسائل التي لا يطلب العمل بها في الحال، حتى إذا ما جاء
وقت العمل؛ فإن الحاجة تتكفل بالبيان، ولا أنكر أن أكثر المنتقدين يسيرون في
انتقادهم على غير هدى، ويثرثرون بما تمليه عليهم خيالاتهم التي أثارتها أهواؤهم
وعاداتهم، وموضع النقد الصحيح هو ما عملت أنفًا.
وثَمَّ منتقد آخر وهو ما في الكتاب من المَنَازِع الاجتهادية، وقد توسع فيها
المؤلف في الكلام على الطلاق، وكان يُنتظر أن ينتقد هذا العلماءُ، ولكن علماءنا
أمسوا في الغالب لا ينكرون منكرًا، ولا يعرفون معروفًا. ونحن مع المؤلف في أن
الإصلاح الذي يضطر إليه المسلمون لا يتم لهم ما داموا مقيدين بقول إمام واحد في
الأحكام والمصالح العامة، وفي أن ما يحتاجون إليه في أمورهم الدينية التي تنطبق
على حال هذا العصر موجود في شريعتهم، متفرقًا في كتب المذاهب، فيجب
استخراجه والعمل به. ونقول أيضًا: إن ذلك لا يتوقف على التلفيق الذي يمنعه
أكثر العلماء، وسنتوسع في هذا عند سنوح فرصة أخرى - إن شاء الله تعالى -.
ونختتم التقريظ بكلمة ثناء على الشاب المهذب الفاضل محمد علي أفندي كامل
صاحب مكتبة الترقي ومطبعتها لأجل عنايته بطبع ونشر هذين الكتابين ونحوهما من
الكتب النفيسة، ككتاب (أسباب ونتائج) ، وتطلب هذه الكتب من مكتبته في مصر
وثمن (تحرير المرأة) ١٠ قروش و (سر تقدم الإنكليز) ٢٠ قرشًا، ويختزل
لبائعي الكتب وطلاب العلم ١٥ قرشًا في المائة، وليس هذا الثمن بكثير على حسن
ورقها وجودة طبعها، فضلاً عن فائدتها التي تُقَدّر، ولا تثمن بمال. فنحث كل
قارئ على اقتنائها، وتكرار مطالعتها والاعتبار بها.