للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مُلك اليهود وهيكلهم
ومسيحهم والمسيح الحق

(خلاصة تاريخية دينية في مُلك إسرائيل ومسيحهم، وحكم النصرانية
والإسلام فيهم، وما ورد في ذلك من أنباء النبيين، ننشرها إيضاحًا لما كتبناه في
مسألة الصهيونية وثورة فلسطين)
كان إسرائيل - وهو نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام -
يعيش هو وأولاده في براري فلسطين، ولما مكَّن الله تعالى لولده يوسف في أرض
مصر جذبهم إليها، فكثروا فيها حتى صاروا شعبًا كبيرًا؛ ولكنهم ظلوا محافظين
على نسبهم ومقوماتهم، فسامهم الفراعنة في مصر سوء العذاب، واضطهدوهم أشد
الاضطهاد، ولم يقووا على سحقهم، ولا على إدغامهم في قومهم، حتى أرسل الله
تعالى فيهم نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فنجّاهم بما أيده به من
الآيات من ظلم آل فرعون، ورباهم في التيه أربعين سنة رأوا فيها من آيات الله ما
لم يره غيرهم من الشعوب، وقاسى موسى في سياستهم من العناد واللدد، والإدلال
والصلف، ما يقضي التاريخ منه العجب، حتى إن التوراة وصفتهم عن وحي الله
تعالى بالشعب الصلب الغليظ الرقبة.
وكان استذلال الفراعنة لهم قد سلبهم الشجاعة والبأس، فجبنوا عن دخول
الأرض المقدسة إذ كان لابد من قتال أهلها الجبارين، فقضى التيه على أولئك
الجبناء الأذلاء، ونشأ فيه جيل جديد قوي الأبدان، قوي الجنان والإيمان، فقاتل
أهل البلاد المقدسة التي خرج من مصر ليتبوأها، فكتب الله له النصر عليهم فغلبهم
على وطنهم ليديل للتوحيد من الشرك، وللعدل من الظلم، وللفضيلة من الرذيلة،
وكان له هنالك تاريخ مجيد: أنبياء وملهمون، وقضاة عادلون، وملوك معمرون
{وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف: ١٥٩) .
ثم دب إليه الفساد فعبد الأوثان، وفسق عن أمر الديّان، وكفر بنعم الرحمن،
وقتل الأنبياء، وظلم الأبرياء، فسلط الله عليه الأمم القوية فانتقمت منه أشد الانتقام:
ثلت عرشه وخرَّبت عاصمة ملكه (أورشليم) وهدمت بيت الرب المعروف
بهيكل سليمان المرة بعد المرة، وسلبت ما كان فيه من القناطير المقنطرة من الذهب
والفضة، التي ضاعف قيمتها ما فيها من لطيف الصنعة، والأثارة الدينية والتاريخية
للملة والأمة، وسَبَتْ النساء والرجال والأطفال وأجلتهم عن الديار، وكان هذا تربية
بالشدة والذلة، بعد أن أبطرتهم تربية النعمة والعزة، ثم رحمهم الله تعالى فعطف قلب
مَلِك بابل عليهم فأعادهم إلى وطنهم، وأذن لهم بإعادة هيكلهم، وإقامة ما حفظوا من
شريعته وشريعتهم، كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: ١٦٨) حتى إذا ما استمرءوا مرعى النعمة، وأنسوا من أنفسهم القوة
عادوا إلى طغيانهم وبغيهم، فعاد نزول العقاب الإلهي عليهم. وما زالوا كذلك حتى
أحاط غضب الله تعالى بهم، وقضى القضاء الأخير بزوال ملكهم، وتسجيل الذل
الدائم عليهم بجعلهم تابعين لغيرهم، كما أنذرهم أنبياؤهم وقص الله ذلك في آخر كتبه
السماوية الإنجيل فالقرآن على لسان آخر رسله عيسى فمحمد عليهما الصلاة والسلام
قال الله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ
وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا
تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (الآيات: ٤- ٨) سورة بني إسرائيل أو الإسراء.
أفسدوا أولاً بعبادة الأوثان والظلم فسلط عليهم البابليين الوثنيين فجاسوا خلال
مملكتهم وجعلوها تابعة لهم تؤدي إليهم الخراج، وكان ذلك في القرن السابع قبل
المسيح، ثم أعاد لهم الكرة وأمدهم بالمال والقوة فأفسدوا المرة الثانية، فأعاد انتقامه
منهم، وهو المراد بوعد الآخرة، ثم عطف عليهم بالرحمة، منذرًا لهم بأنهم إن
عادوا إلى الفساد عاد إلى النقمة، فعادوا فسلط الله عليهم الرومان الوثنيين
المصريين وغير المصريين، فالمسيحيين، فالمسلمين.
كانت أولى تلك النكبات الكبرى نكبة بختنصر ملك بابل في سنة ٥٨٦ قبل
الميلاد بعد عصيان اليهود عليه وكانوا خاضعين لملكه، فأثخن في جيشهم فكان
يقطع أجساد العسكر إربًا إربًا وسمل عيني ملكهم، وأرسله إلى بابل ودمر المدينة
المقدسة (أورشليم) والهيكل وأحرقهما بالنار (وكان في الهيكل تابوت العهد وفيه
توراة موسى بخطه وألواح العهد) وقتل جميع أهلها إلا قليلاً منهم أرسلهم إلى بلاده
عبيدًا.
ولما عاد بعضهم من السبي إلى بلادهم سنة ٥٣٥ قبل الميلاد بأمر ملك بابل
شرعوا في إعادة بناء الهيكل بمساعدة أهل الجوار، فلم يتيسر لهم فتركوه سنة
٥٢٢، ثم عادوا إليه سنة ٥١٩ وأتموه سنة ٥١٥ قبل الميلاد، وحسنت حالهم بعد
السبي إذ كان خير تربية لهم فمقتوا عبادة الأوثان، ثم أحسن معاملتهم الإسكندر
المقدوني، وفي أيامه خلصوا من سلطة الفرس، ثم وقعوا بعده تحت سلطان مصر
تارة، وسلطان سورية أخرى، ولم يكن المصريون يعرضون لهم بشيء من أمور
دينهم؛ ولكن بطليموس الرابع غضب عليهم فأهانهم، ودخل قدس الأقداس في
هيكلهم فنجسه وأهان الدين فيه سنة ٢١٧، فدخلوا في حماية ملك سورية باختيارهم
فرارًا من ظلمه، وكانوا متقلبي الأحوال مع هؤلاء الحكام المجاورين حتى إذا ما
استولى الرومان على هذه البلاد كلها كانت بلاد اليهودية ولاية رومانية، فظلمهم
الروم أيضًا ظلمًا شديدًا لا يُطاق.
ولما عجزوا عن حمل أعباء الظلم يئسوا من الحياة وخرجوا على الروم
مستبسلين طالبين للاستقلال، وذلك في سنة ٦٦ بعد الميلاد فضيَّق الروم عليهم
الخناق، وكانت البطشة الكبرى خاتمة هذا القتال إذ استولى (تيطوس) على
أورشليم سنة ٧٠ وتبرها تتبيرًا، وتركها أكوامًا من الرماد السود وأحرق الهيكل مع
المدينة، ولم يُبق من تلك الأبنية الفخمة شيئًا إلا بعض أبراج السور تركها مراصد
للجيش الروماني، وذلك بعد حصار خمسة أشهر يقال إنه هلك في أثنائه ألف ألف
نفس ومائة ألف نفس، واسترق الباقي من اليهود، فهاجر كثير منهم إلى إيطالية
وجرمانية من أوربة واستوطنوها، وزال استقلال اليهود السياسي من الأرض فلم يقم
لهم بعد ذلك ملك مستقل، وقطَّعهم الله في أقطار الأرض كما أوعدهم على ألسنة
أنبيائه الذين يؤمنون بهم والذين كفروا بهم، أي من داود إلى عيسى ومحمد عليهم
الصلاة والسلام.
إنما تم عز القوم وبلغوا ذروة المجد في المُلك على عهد داود وسليمان عليها
السلام، وكانا نبيين مؤيدين بوحي الله وتوفيقه، وكان داود عليه السلام رجل حرب
وهو الذي فتح مدينة الرب (القدس) ووطد دعائم الملك، وبعد استوائه عليها جمع
الذهب والفضة والنحاس وغير ذلك من أدوات البناء لأجل بناء بيت للرب تقام فيه
شعائر الدين، فأوحى الله تعالى إليه - كما في تاريخهم المقدس - بأن بيت عبادته
لا يبنيه رجل سفك دماء عباده؛ وإنما الذي يبني بيته هو ابنه وخليفته سليمان،
وكذلك كان، ذلك بأن الله لا يحب الفساد ولا سفك الدماء ولا يأذن بالقتال لرسله
وعباده المؤمنين إلا لضرورة الدفاع عن الحق والعدل، والإدالة لهما من البغي
والظلم، كما قال في كتابه العزيز: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ
الأَرْضُ} (البقرة: ٢٥١) وكما قال في تعليل إذنه لنبينا صلى الله عليه وسلم
وأصحابه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم
بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ
اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج:
٣٩-٤١) .
وكان داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء يوصون بني إسرائيل بإقامة شريعة
موسى ووصاياه، ويقيدون كل وعود الرب لهم بالأرض المقدسة والملك فيها - وهم
غرباء عنها - بإقامة هذه الوصايا كلها وينذرونهم فقد كل شيء بإخلالهم بشيء منها
وفاقًا واتباعًا لما جاءهم به موسى عليه السلام عن الله تعالى كما ترى في الفصل
(٢٧ - ٣٢ من سفر التثنية خاتمة التوراة) ومن تلك النذر بعد النذر واللعنات
التي تقشعر منها الجلود قوله بعده (٢٨: ٦٣ وكما فرح الرب ليحسن إليكم
ويكثركم كذلك يفرح الرب لكم ليفنيكم ويهلككم فتُستأصلون من الأرض التي أنت
داخل إليها لتمتلكها ٦٤ ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى
أقصائها) وتكررت هذه الوصية والنذر التي علق الرب عليها إطالة أيام شعب
إسرائيل في الأرض التي وعدهم إياها أو عدم إطالتها، فهو - تعالى عن الظلم
والمحاباة - لم يهبهم إياها لذواتهم ولا لنسبهم، بل لإقامة الحق والعدل فيها فكانت
هبة مشروطة بشرط فسلبت بفقده.
وفي الفصل التاسع من سفر الملوك الأول أن الرب تراءى لسليمان بعد أن أتم
بناء بيت الرب (الهيكل) ووعده بأنه إذا سلك كما سلك أبوه داود بسلامة القلب
والاستقامة وعمل بجميع الوصايا وحفظ جميع الفرائض والأحكام؛ فإنه يجعل
كرسي ملكه على إسرائيل إلى الأبد كما وعد أباه داود، وأنذره انتقامه منهم إذا كانوا
ينقلبون هم أو أبناؤهم ولا يحفظون وصاياه وفرائضه، ويذهبون فيعبدون آلهة
أخرى قال (٧ فإني أقطع إسرائيل عن وجه الأرض التي أعطيتهم إياها، والبيت
الذي قدسته لاسمي - أي الهيكل - أنفيه من أمامي، ويكون إسرائيل مثلاً وهزأة في
جميع الشعوب ٨ وهذا البيت يكون عبرة) ... إلخ، وأعاد هذا بعينه في الفصل
السابع من سفر الأيام الثاني، ومثله في أسفار أشهر أنبيائهم، وكذلك كان، ومرت
على ذلك القرون بعد القرون، وهم لا يزالون يزعمون أن أرض فلسطين ملك لهم
بوعد ربهم، فهم يحفظون وعده وينسون شرطه ولا يحفظون وعيده، وهو الصادق
في وعده ووعيده، والشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود بل
يجوز، فهم لا حق لهم في هذه البلاد لا بنصوص كتبهم ووعد ربهم ولا بعرف
سائر الشرائع وقوانين الأمم.
ومن أغرب أحوال هذا الشعب أنه استحوذ عليه الغرور والعجب بكتبه
وأنبيائه ورسله حتى صار يحتقر جميع البشر، بل حتى صار يرى نفسه فوق
الأنبياء والكتب التي لولاها ولولاهم لم يكن شيئًا مذكورًا، فقد خالف عقائد التوراة
وأحكامها ووصاياها ونُذُرها وتهديدها، ووصايا سائر أنبيائهم ونُذُرهم، وقد حل به
ما أنذروه من العقاب والشقاء المرة بعد المرة، حتى قضي عليه القضاء الأخير
الذي لا مرد له، وإننا نفصل ذلك بعض التفصيل.
إن القوم أَلِفوا الشرك وعبادة الأوثان في مصر فأخرجهم الله تعالى منها
ليعبدوه وحده مع نبيه موسى عليه السلام، خرجوا وجاوزوا معه البحر فرارًا من
فرعون وقومه بعد أن رأوا من آيات الله ما رأوا {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى
أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف: ١٣٨) ولما ذهب موسى لمناجاة ربه في الجبل اتخذوا العجل الذهبي
وعبدوه حتى عاد وحرَّقه (سحقه بالمبرد) ونسفه في اليم نسفًا، ثم إن سلائلهم
الذين نشأوا في حجر التوحيد والمعجزات لما رأوا ما عليه أهل البلاد التي أعطاهم
الله إياها ونصرهم على أهلها ليقيموا التوحيد مقام الشرك - أعجبهم عبادتهم للأوثان
فعبدوها مثلهم وبنوا مذابح لصنمهم (بعل) وبعد أن ضعفت عبادة بعل وغيره في
زمن صموئيل وداود عليهما السلام عادت في أيام سليمان حتى جاء في سفر الملوك
الأول (١١: ٤) أن سليمان نفسه مال وراء الآلهة الغريبة، وكان لنسائه مذابح
وثنية خاصة؛ لأنهن كن وثنيات (برأه الله مما قالوا) ولما انقسمت المملكة بعده
إلى مملكتين - ليهوذا وإسرائيل - كان تاريخها جهادًا مستمرًّا بين عبادة الله وعبادة
الأصنام، حتى قيل: إنه لم يكن في زمن إيليا النبي في جميع إسرائيل من لم يسجد
لبعل إلا بضعة آلاف!
بشارة الأنبياء بالمسيح والنبي
كان أنبياء بني إسرائيل ينذرونهم سخط الله عليهم وعقابه على كفرهم وتركهم
لوصاياه، وكذلك كانوا يبشرونهم برفع عذابه عنهم إذا تابوا من ذنبهم، وأنابوا إلى
ربهم، ومما بشروهم به أنه تعالى سيرسل فيهم مسيحًا ملكًا يجمع شملهم، ويعيد
لمملكة صهيون مجدها، وأنه سيبعث نبيًّا رسولاً من بني إخوتهم (أي العرب)
كموسى - أي صاحب شريعة وسيف [*]- يجدد ملة إبراهيم وينصر التوحيد وأهله
على الشرك وأهله، فكانوا ينتظرون مسيحًا مبشَّرًا به يعبرون عنه (بالمسيح)
معرَّفًا، ونبيًّا مبشرًّا به يتناقلون خبره معرَّفًا أيضًا، وفي آخر نبوة ملاخي آخر
أنبيائهم قبل المسيح أن الرب سيرسل إليهم (إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم
والمخوف) وإيليا عندهم هو إلياس عليه السلام وكان قد خفي عليهم ما آل إليه أمره.
فكان اليهود ينتظرون إيليا والمسيح والنبي، ففي إنجيل يوحنا أنه لما ظهر
يوحنا أي الذي يلقبونه المعمدان (هو يحيى عليه السلام) أرسل إليه اليهود من
أورشليم بعض الكهنة واللاويين ليسألوه من هو؟ فسألوه: أأنت المسيح؟ قال: لا،
أإيليا أنت؟ قال: لا، آلنبي أنت؟ قال: لا، قالوا: أخبرنا من أنت لنجيب الذين
أرسلونا؟ قال: أنا صوت صارخ في البرية قوموا طريق الرب كما قال أشعيا النبي
(١: ٩ - ٢٣) .
أما إيليا فلم يأت؛ ولكن النصارى يقولون: إن الوعد بمجيئه رمزي وقد
حصل، وأما المسيح فقد ظهر مؤيدًا بالآيات البينات فكذَّبه أكثرهم وطعنوا في والدته
الطاهرة، وحاولوا قتله كما قتلوا زكريا ويحيى من خيار أنبيائهم، فنجاه الله تعالى
منهم واشتبه أمره عليهم وعلى غيرهم، وكذلك النبي الأعظم (محمد صلى الله عليه
وسلم) الذي بشر به أشهر أنبيائهم وفاقًا لبشارة التوراة، ومن أوضحها بشارة إنجيل
عيسى عليه السلام في كثير من الآيات والأمثال التي ظهر مصداقها فيه دون غيره،
جاء مؤيدًا بالكتاب العزيز الذي هو آية في نفسه، متضمنه للآيات الكثيرة في نظمه
وأسلوبه وأخباره وعلومه وتشريعه، فكذبوه كما كذَّبوا عيسى وقاتلوه بعد أن حاولوا
قتله اغتيالاً كدأبهم في قتل الأنبياء من قبله، فنصره الله عليهم وفاقًا لأخبار التوراة
والنبوات أيضًا [تراجع نصوص البشارات التي أشرنا إليها في تفسير قوله تعالى:
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: ١٥٧) في الجزء التاسع من تفسيرنا (ص ج ٩) ] .
ذلك بأنهم صاروا قومًا ماديين لا يهمهم من أمر الحياة إلا الغنى والملك، فلما
رأوا أن المسيح ليس هو الملك الذي يطلبونه كذبوه ورأوا أن ما ذكره الأنبياء عن
(مسيا) من الملك والسلطان لا تصدق نصوصه بحملها عليه، إذ كان يقول: إن مُلكه
ليس من هذا العالم. وإنما يريدون مُلكًا من هذا العالم، كما هو ظاهر بشارات داود
وأرميا وزكريا وغيرهم، ولولا الآيات الباهرة التي أيَّد الله بها عيسى عليه السلام
لكان تأويل المسيحيين لتلك البشارات مردودًا بالبداهة كما قال السيد جمال الدين في
مقام الاحتجاج على بعض النصارى أنهم فصَّلوا من قطع متفرقة من العهد العتيق
قميصًا وألبسوه لِيسُوعِهم.
وقد كانت نذره النبوية عليه السلام أوضح من نذر غيره من الأنبياء ومتأخرة
عنهم، إذ قال كما في إنجيل متَّى في سياق توبيخ الكتبة والفريسيين (٢٣: ٣٧
يا أورشليم يا أورشليم! يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين، كم مرة أردت أن أجمع
أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا ٣٨ هو ذا بيتكم يترك
لكم خرابًا) يعني الهيكل ... وقال أيضًا (٢٤: ١ ثم خرج يسوع ومضى من
الهيكل فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل ٢، فقال لهم يسوع: أما تنظرون جميع
هذه؟ الحق أقول لكم أنه لا يترك ههنا حجر على حجر لا ينقض) ثم أخبرهم بأنه
سيظهر كثيرون كل منهم يدعي أنه هو المسيح ويضلون كثيرين وتكون فتن كثيرة،
وتقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة ... إلخ، ومثله في لوقا (١٢١: ٥) ...
إلخ.
وقد صدق قوله عليه السلام بما فعله تيطس بعد اجتماع الأسباط في أورشليم
من تدميرها وإحراق الهيكل (سنة ٧٠م) كما تقدم، وصدق أيضًا فيما أخبر من
قيام المسحاء الكذبة وكان أشهرهم (ياركوكبة) الذي قام سنة ١٣٥ ب م، فثار معه
اليهود فقاتلهم الرومانيون حتى روي أنهم قتلوا منهم نصف مليون أو ٦٠٠ ألف
نفس وخرَّبوا أورشليم وجعلوها مستعمرة رومانية، وبقي آخرهم وهو المسيح
الدجال الأكبر الذي يمهدون البلاد له.
وقوله عليه السلام: إنه لا يُترك ههنا حجر على حجر لا ينقض - يقتضي
صدقه أن تيطس لم يُبق من بناء الهيكل شيئًا، وأن الذين يزعمون أنه قد بُني شيء
من بعض جدران السور الخارجي له كاذبون، وكل من صدقهم يكون مكذبًا للإنجيل.
وقد كانت أحداث الزمان مؤيدة لقوله عليه السلام وزيادة في إيمان المؤمنين
به وأعظمها أن الإمبراطور يوليانس أراد إعادة بناء الهيكل سنة ٣٦٣ بعد الميلاد،
ونشط اليهود في تنفيذ إرادته فلما حفر الفعلة الأساس فاجأتهم براكين جهنمية
مزعجة أظلم المكان بما أحدثته من الدخان والغبار، وتكسرت أدوات العمل بما أثار
الانفجار من قذائف النار، فولوا الأدبار، ولم يعقبوا بعد ذلك الفرار، وحاول
اليهود العمل ثانية فشعروا بقوة خفية تدفعهم بعنف عظيم ذُعروا له فولَّوا مدبرين،
وتركوا أدوات العمل يائسين.
ومن ثم اعتقد النصارى أن جميع بشارات أنبياء بني إسرائيل انتهت بظهور
المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وأنه لن يعود لليهود ملك مستقل، ولا هيكل
تُقام فيه شعائر دينهم المنسوخ، وأن جميع تلك البشارات المخصصة لتلك النذر
والتخويفات قد انحصرت بمن اتبع المسيح الحق منهم إذ لا مسيح بعده، وصار
أتباعه هم شعب الله الخاص والكافرون به هم أعداء الله.
ثم جاء الإسلام فكان أعظم مظهر لبشارات المسيح ونُذُره من الوجوه التي
فهمها أتباعه الأولون قبل البدع والتقاليد التي أيدها ونشرها ونصرها الإمبراطور
قسطنطين ومَن بعده، فأورث الله أهله البلاد المقدسة وبنوا مسجد الله المسمى
بالأقصى في مكان الهيكل المدمَّر لإقامة عبادة الله تعالى وحده، فلم يصدهم عنه من
الموانع الخارقة للعادة التي صدت الإمبراطور يوليانس واليهود؛ لأن الإسلام جاء
مصدقًا لموسى وعيسى والنبيين الذين بشَّروا به، لا مكذبًا كاليهود.
ومما أخبر به الله تعالى في كتابه القرآن أنه جعل الذين آمنوا بالمسيح واتبعوه
فوق الذين كفروا به إلى يوم القيامة، وأنه ضرب على اليهود الذلة بفقد المُلك إلى
يوم القيامة، ومما أخبر به خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر دجالون
يكون آخرهم الدجال الأكبر الذي يدعي أنه هو المسيح الموعود به فيتخذه اليهود
ملكًا يحاربون تحت رايته في البلاد المقدسة، وأن الله تعالى يُظهر المسلمين عليهم
فيقتلونهم تقتيلاً، ويُظهر المسيح الحق بما شاء الله فيقضي على المسيح الدجال،
وتظهر لجميع الأمم حقية الإسلام وبعد ذلك تقوم الساعة العامة الكبرى كما أنبأ
القرآن، دون ما ينتظر الأقوام.
ونتيجة ما تقدم كله أن اليهود الصهيونيين والمؤيدين لهم من المغرورين
يحاولون نقض عقائد المسلمين والنصارى، وتكذيب عيسى ومحمد عليهما الصلاة
والسلام وهم زهاء نصف البشر في الأرض وأصحاب الملك والملك في الشرق
والغرب، وكان من أعظم أسباب غرورهم تمكنهم من استخدام عظمى الدول
المسيحية في الأرض على التمهيد لهذا التكذيب وهي الدولة البريطانية.
إننا نعلم أن الإنكليز استخدموا اليهود لإضعاف العرب بإيجاد عدو لهم في
بلادهم يقطعون صلة بعضها ببعض، ويشغلون كلاًّ منها بالآخر متكلاً على الإنكليز،
وأقل فائدة لهم في ذلك أن يحولوا مقاومة العرب لاحتلالهم بلادهم إلى اليهود،
كدأبهم الذي ضربنا له مثل السيل يقذف جلمودًا بجلمود؛ وإنما عجبنا من سكوت
الدول والأمم المسيحية لهم على إيواء أعداء المسيح إلى بلده، وهو يستلزم تكذيب
نذره.
وأعجب من ذلك أن دسائس اليهود تمكنت من إغواء كثير من نصارى أوربة
وأمريكة وإقناعهم بأن الإيمان بالكتاب المقدس يقتضي مساعدتهم على العودة إلى
فلسطين وامتلاك أورشليم ... إلخ، تصديقًا للأنبياء وتحقيقًا لظهور المسيح الذي
يختلف الفريقان في شخصه وعمله، فاليهود يعنون مسيحهم الملك الدنيوي الذي
يعيد ملك سليمان لهم، والنصارى يعنون المسيح عيسى بن مريم الذي يجيء في
ملكوته ليدين العالم.
وقد بلغ الهوس بجمعية تلاميذ التوراة أن نشرت في سنة ١٩٢٠ كتابًا عنوانه
(ملايين من الذين هم أحياء اليوم لن يموتوا أبدًا) ملخصه أن نبوات العهدين القديم
والجديد تفسر بأن استعمار اليهود الصهيونيين لفلسطين تمهيد لتفسيرها كلها بإقامة
(مملكة مسيا) على حساب نظام اليوبيل اليهودي وأن هذا الأمر يتم سنة ١٩٢٥،
فيقوم الأموات من قبورهم ويرجع إبراهيم وإسحاق ويعقوب وقدماء الأنبياء
المؤمنين إلى أورشليم، ويتم الأمر فلا يموت بعد هذا أحد! !
وسننشر بعض نصوص هذا الهوس المسيحي الذي كذَّبه الزمان بعد خمس
سنين من نشره؛ وإنما غرضنا هنا التنبيه لهذه الدسائس اليهودية والأوهام الدينية،
وإعلام الإنكليز بأن حكومتهم قد فتحت باب فتنة دينية دنيوية تكون عاقبتها شرًّا
عليهم وعلى البشر عامة مما يظنون ويقدرون، فاتفاق العرب مع الذين يريدون
سلب وطنهم وتقطيع روابط أمتهم، والجناية على دينهم ودنياهم - ضرب من المحال
وأنه لا علاج لهذه الفتنة إلا القضاء على هذه المطامع، وقد أعذر من أنذر.