للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مناظرة
في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات
(في كلية الحقوق من الجامعة المصرية)

- ٣ -
رأي الآنسة هانم محمد
نهضت الآنسة هانم محمد الطالبة في كلية العلوم لتأييد الأستاذ محمود عزمي
في وجوب المساواة [*] ، فصفق لها الجمهور تصفيق الترحيب والتكريم، فشرعت
في قول كان مكتوبًا واضطرت إلى الخروج عنه أو الزيادة فيه للرد عليَّ، فكانت
مظهر الأنوثة المهذبة في خشوع الصوت ولين القول وضعف الحجة، وحكاية
الأقوال المشهورة في الموضوع، كقولهم: إن النساء نصف الأمة، فإذا مُنعن من
العلم والعمل كالرجال كان هذا المنع قضاء على نصف الأمة بالشلل، وحينئذ يتعذر
عليها العمل، وضربت مثلاً قول الغربي للشرقي: (محال يا صاحبي أن تلحقني
وأنا أسير إلى المحطة متكئًا على ذراع زوجتي، وأنت تسير حاملاً زوجتك على
ظهرك) .
واحتجت أيضًا بمساواة نساء الفلاحين لرجالهم في جميع الأعمال الزراعية،
ومثل هذا وذاك ليس في شيء من وجوب المساواة التي هي موضوع المناظرة،
وإن أُخِذ على ما صوَّرته به، فجُعل من القضايا المسلّمة، فالآنسة كانت بحالها
ومقالها وجدالها آية بينة على تفاوت استعدادَيْ الذكر والأنثى وعدم جواز تساويهما
في جميع الحقوق والواجبات.
وأحسن ما قالته بداهة، وألطفه في الجدال موقعًا، وأدله على ثبات الجأش
وتعود محاورة الرجال كلمة لها أزالت بها سوء تأثير كلمة قبلها استنكرها السامعون
منها فابتدروها يتنادرون عليها، فصاح بهم رئيس الجلسة صيحة منكرة ورفع
عقيرته بعذلهم والتثريب عليهم، وإننا نشير إلى هفوتها ألطف إشارة، ليدرك
القارئ حسن موقع تلك العبارة.
ذلك أنها أرادت أن تحتج على وجوب المساواة في الحقوق والواجبات
بالمساواة في القوة والحواس والملكات، فذكرت المساواة في الأعضاء، بعبارة
ساذجة تسيغها غرارة العذراء، دون أبناء البلد من الأدباء، إلا أن تكون بحضرة
النساء، وكأن الذين اضطربوا لها، وتهامسوا يتنادرون عليها، قد راعوا عقيدتها
ومذهبها في مساواتهم، فجعلوها كواحد منهم؛ ولكن رئيس الجلسة خالفهم في ذلك
واشتد في الإنكار عليهم كما تقدم، وهذا دليل على أنه لا يرى وجوب المساواة
المطلقة ولا جوازها.
وبعد أن سكنت الزعازع، وسكت المنازع، جهرت الفتاة بكلمتها ملقية إياها
بهدوء وسكينة وهي (لو كنتم معتادين على الاختلاط لما حدث مثل هذا الضجيج)
وإنما يصح هذا القول في الرجال الذين اعتادوا مخالطة النساء وهم يعتقدون أن ما
بينهم وبينهن من الفرق - بل الفروق - في المدارك والعواطف وغيرها لا يبيح لهم
من الحرية في حضرتهن ما يستبيحونه عادة فيما بينهم، ولعمري إن الرجل الذي
يتفق له حضور مجلسهن وهو غير معتاد له لأجدر بالأدب والحياء فيه من غيره؛
وإنما ترجُّل المرأة ومزاحمتها للرجل فيما يعده من خصائص الرجال هو الذي
يُذهب كرامتها النسائية من نفسه حتى يظهر ذلك في معاملته لها، وقد حدَّثونا عن
ظهور هذه المعاملة لهن في أوربة في هذا العهد الذي قوين فيه على مباراة الرجال
في الكسب، وزاحمنهم بالمناكب بما اضطرتهم إليه ضرورات الحرب،
وللضرورات أحكام تُقَدَّر بقدرها، ولا يجوز أن تتجاوزها فتُجعل أصلاً دائمًا.
كتب بعضهم مقالاً في استقلال المرأة الغربية الاقتصادي الذي انتزعت به حق
الاستقلال السياسي، فصارت ترى نفسها مساوية للرجل في كل شيء قال فيه:
(يدهش الرجل الشرقي منا إذا زار أوربة، وكان يسمع أن المرأة عندهم محل كل
تبجيل واحترام- يدهش إذ يرى في قطار مزدحم امرأة تفتش عن محل خال فلا
تراه، والرجال من دونها قعود لا يخلون لها محالهم) أي خلافًا للمعهود معهن من
قبل ولا يزال معهودًا عندنا من إيثار الرجل المرأة على نفسه في مكان جلوسه.
ثم إن الآنسة طفقت تردُّ عليَّ حتى في إنكار سباحة النساء مع الرجال
ورقصهن معهم، وكان خيرًا لها لو لم تفعل، بل كان خيرًا لها وأليق بها أن تقول:
إن هذا إسراف من الفريقين في الشر، ونحن إنما نريد المساوة في العلم الصحيح
والعمل النافع للأمة، وإن أطلقته وجعلته عامًّا.
وأما الطلاق فقد ذكرتْ في الرد عليَّ أن الرجل كثيرًا ما يرسل إلى المرأة
كتاب طلاقها وهي لا تدري له سببًا، وأنا لا أنكر وقوع هذا وقبحه؛ ولكني أقول
لو أعطيت المرأة حق الطلاق أيضًا، وهي أكثر من الرجل انفعالاً وأسرع هربًا مما
يسوء إذا استطاعت إليه سبيلاً - فإن هذا الطلاق القبيح الضار يتضاعف أضعافًا،
وهو مخرب البيوت، ومقطع سلك النظام.
رد شوكت أفندي التوني
ولما انتهى وقت الآنسة هانم محمد نهض الشاب الأديب شوكت أفندي الطالب
في كلية الحقوق فاستقبله الشبان بتصدية الفتوة والقوة؛ لأنه من أفصحهم لسانًا،
وأقواهم جنانًا، فاستهل رده عليها بأسجاع فصيحة بدأها بذكر ما كان من عادته
وآدابه في تكريم النساء ومقابلته لمن تلقاه منهن بالاحترام والود، ونثره بين يديها
زهر النرجس وورق الورد (وكأنه ذكر ورقه دون زهره اجتنابًا لشوكه وإن كان
هو نفسه شوكة وردية) وأنه لما رآهن قد شببن عن طوقهن، وخرجن من قرارة
ضعفهن وضؤولتهن، اضطر أن يصارحهن بحقيقة حالهن.
وما كاد ينطق بهذه الألفاظ حتى استشاط الرئيس غضبًا، وألقى عليه من
سماء الرياسة شهبًا، وحرَّم عليه أن ينطق بمثل هذه الألفاظ التي تخدش منهن
ملمس الكرامة، فاعترض عليه كثير من الشبان، وعدُّوا هذا المنع تحكمًا منافيًا
لحرية الكلام! فأجاب بأنه يحترم الحرية كل الاحترام، بشرط أن لا تمس الكرامة،
وتعد من الإهانة.
ثم عاد الخطيب إلى سياق دفاعه، مصرحًا بطاعته لحضرة الرئيس في
أسلوبه مع إصراره هو على رأيه، وطفق يرد على الدكتور عزمي أولاً فبيَّن أن
العلماء والأطباء متفقون على أن المرأة أضعف من الرجل جسمًا وعقلاً وأعجز عن
إتقان الأعمال ولا سيما الشاقة، وأن النابغات منهن لا يبلغن شأو النابغين من
الرجال ولا يقربن منهم، ولما شرع في التفصيل بدأ بذكر من تولين الملك والحكم،
فعارضه الرئيس بما بدأ به من وصف مذموم لهن، رأى أنه لا يليق ذكره في ذلك
المجلس الذي يحضره جماعة العقائل والأوانس، وهذا مبني على عدم جواز
المساواة بين الرجال والنساء، فهو يتضمن ترجيحه لرأينا، وإن استنبط بعض
الحاضرين من جملة مسلكه أنه كان علينا لا على الحياد، وقد كلمني بعضهم في
ذلك فلم أوافقه عليه، فانا موافق للرئيس شعورًا ووجدانًا على تقييد حرية اللسان في
مجالس النساء، بحيث لا يُذكر فيه كل ما يُذكر عادة في مجالس الرجال، وإن كان
النساء يقبلن مثله وأكثر منه في مجالسهن الخاصة.
وأرى مع هذا الشعور الذي مكَّنته في نفسي التربية والعادات أن النساء
اللواتي يدّعين مساواة الرجال ويناظرنهم في ذلك ويزاحمنهم بالمناكب، لا يكرهن
أن يقال على مسامعهن كل ما يقال على مسامعهم، وأن من تكره منهن ذلك أو ترى
فيه امتهانًا لها لا ينبغي لها أن تكون مترجلة ولا طالبة مساواة، ولا تعذر في
مطالبة الرجل بهذا الأدب معها، ولا في لومه على تركه وحسبانه إهانة لها.
وجملة القول إن شوكت أفندي ما جاء شيئًا فريًّا في مناظرته، ولا خرج عن
حد المعقول في نظريته، ولا تعدى قوانين علمه (الحقوق) في مرافعته، وإنما
خالف فيها شعور الذين يبالغون في التفرقة بين الرجال والنساء، ومذهب الذين
يحرِّمون تمزيق الحجاب بينهما ولا يبيحون المخالطة المطلقة حتى في الرقص
والسباحة والسياحة والخلوة عملاً بحكم الدين فيهن، وصيانة لأمزجتهن الرقيقة
وعواطفهن الدقيقة عن مهاب الأهواء التي يخشى عليهن من عواقبها ما هو شر
وأدهى وأمر مما يخشى على الرجال، وإنما خالف هذا الشعور وهو من أهله،
وخرج عن جادة هذا المذهب وهو مذهبه ليقنع طوالب المساواة المطلقة وأنصارهن،
أنها شر لا خير لهن، وأن أنصارهن لا يطيقون احتمال عواقبها فضلاً عنهن،
وإلا فلماذا أنكروا على جمهور الشبان انتقاد هفوة الفتاة وهم يعترفون بأنها هفوة،
ولم يعذروا الفتى فيما أداه إليه اجتهاده من جفوة؟
وأختم هذا الوصف الإجمالي للمناظرة بانتقاد لجنة المناظرات في الجامعة
على تقصير وقت المتناظرين في الموضوعات الكبيرة، ذات القضايا الكثيرة، مع
عدم حصر الموضوع وبيانه لكل منهما قبل الدخول فيها، وقد اضطر الرئيس
الحافظ للنظام في مناظرتنا إلى منع السامعين من بيان آرائهم في تأييد كل منا
لضيق الوقت، وضياع طائفة كبيرة منه في الإخلال بالنظام، وسأتكلم في سائر
فصول هذا المقال في تفصيل ما أجملت من المسائل كما وعدت.
- ٤ -
تأثير المناظرة والآراء فيها
لخَّصت في مقالاتي الثلاث الأولى ما دار في مجلس المناظرة، ثم عرض لي
من الشواغل ما صرفني عن الشروع في التحقيق التفصيلي الذي اقترحه علي بعض
طلاب الجامعة النجباء، ولا سيما طلاب كلية الحقوق منهم، وقد زارني في هذه
الأيام بعض الأفاضل من أستاذي المدارس الثانوية والعالية وغيرهم شاكرين
ومهنئين بالفلج والظفر في نصر الحق على الباطل، والدين على الإلحاد،
ومستحسنين لنشر الموضوع في جريدة كوكب الشرق، ومقترحين لنشره في المنار
أيضًا، وجاءتني مكتوبات وبرقيات في ذلك في بعضها إطراء لي وإغراق في
الطعن والزراية على مناظري، ورأيت من المتكلمين معي في ذلك من يعتقدون أن
هذه المناظرة كانت ممالأة مدبرة من دعاة الإلحاد والإباحة على الدين ورجاله،
أعدوا لها عدتهم، ولم يخبروني بها قبل موعدها بيوم واحد إلا لأخذي على غرة
حتى لا أجد وقتًا للاستعداد، ولا للاستشارة، ولا لدعوة من أعلم أنهم على عقيدتي
ورأيي، وهذا خلاف للمعروف والمألوف وللأدب أيضًا، وأنه لولا (طيبة القلب)
لما قبلت، وأنه كان ينبغي لي أن أدعو إخواني وتلاميذي لحضور المناظرة لتكثير
الأنصار وإن كان الوقت الذي أُعطي لي قصيرًا لا يتسع لرؤية كثير منهم أو
مخاطبتهم بالتيلفون - وأن أشترط إخراج الفتاة من المناظرة ... إلخ.
قلت لأخلص أصدقائي من هؤلاء الذين كلموني في مكتبي: أما إجابة الدعوة
بالقبول فلم يكن منه بدٌّ ولا عنه مندوحة بعد طبع اللجنة لرقاع الدعوة ونشر خبرها
في الصحف، لما يتوقع لردها من سوء التأويل، وكثرة القال والقيل.
وأما ما ذكرتم من التدبير والسعي من جماعة الملاحدة فمعقول، ومن دلائله ما
علمته علم اليقين من توزيع بعض أركانهم لرقاع الدعوة على من يختارون قبل أن
أراها وأن أعلم بموضوعها وموعدها، ومن براهينه ما صرَّح به مناظري بعد
انتهاء المناظرة لبعض أصحابه من أن فلانًا - من غلاة دعاتهم إلى ترك الشريعة
الإسلامية - هو الذي لقّنه ما قاله في مجلس المناظرة من أن بعض علماء الإسلام -
ويعني نفسه - يقولون: إن جميع أحكام المعاملات الشرعية يجوز للمسلمين تركها إذا
رأوا ذلك من مقتضيات الزمان والمكان، وأما الذي لا بد منه في الإسلام فهو
العبادات فقط، ولا يبعد أن يكون من آيات ذلك أنهم لم يرسلوا لي إلا عشر رقاع
من رقاع الدعوة، بناء على أن حضور المناظرة مباح لا يتوقف على حملها، وقد
أعطيت بعضها لبعض من قبل من أعضاء مجلس إدارة الرابطة الشرقية عندما
أُلقيت إليَّ (وعلمت أن بعضهم كان يحمل طائفة منها! !) وبقي سائرها عندي إلى
الآن.
هذا وإنني بعد أن عدت من نادي الرابطة الشرقية إلى الدار رأيت فيها ورقة من
بعض طلبة الأقسام العالية في الأزهر الشريف يطلبون مني أن أضع لهم في مكتبة
المنار طائفة كبيرة من تلك الرقاع ليحضروا المناظرة مؤيدين لي لعلمهم بأنني
أنصر الدين وما شرعه الله تعالى للناس - وكانوا قد أرسلوا إلى المكتبة بعض
إخوانهم لطلب الرقاع قبل أن أعلم بخبرها، على أنني لم أترك لهم شيئًا من القليل
الذي بقي معي.
ولعل من آيات ذلك التدبير ما ظهر عند أخذ بطائق التصويت ممن حضر
المناظرة من الأزهريين على قلتهم وغيرهم أن أكثرهم لم يُعطوا منها شيئا، ويمكن
الرد على هذا الاحتمال بأن رئيس الجلسة خاطب جمهور الحاضرين على مسمع منا
بأن من لم يكن أخذ منها قبل المناظرة يمكنه أن يأخذ بعدها، ولكن تبين أن هذا لم
يكن ممكنًا.
وأما طعن من ذكرت آنفًا على محمود عزمي أفندي نفسه بالإلحاد وسوء النية
فقد شاركهم فيه كثيرون من طلبة الجامعة الذين مشوا معي بعد الخروج من مجلس
المناظرة، وطعنوا في أستاذ آخر من إخوانه ومدرسي الجامعة وناقشهم في ذلك
بعض الطلبة من القبط، وأنكروا عليهم رميهم للأستاذين بسوء النية وكونهما
يتقاضيان على الطعن في الإسلام أجرًا، فرد عليهم الطلبة المسلمون بقولهم: وماذا
يعنيكم منا في دفاعنا عن ديننا وأنتم أقباط لا علاقة لكم بذلك؟
مع هذا كله ومع العلم بأن بعض الجرائد الإفرنجية انتصرت للأستاذ محمود
عزمي أفندي عليَّ، وطعنت على الجمهور الذين أيدوني بما يطعن به الإفرنج على
كل مسلم معتصم بدينه - مع هذا وذاك لا أزال مصرًّا على ما كتبته من إعجابي
بحرية الرجل وصراحته وإنصافه فيما صرح به أمامي وأمام غيري من الثناء علي
والإعجاب بما قلت في الرد عليه، ومنه قوله لي على مسمع من صاحب جريدة
كوكب الشرق، وعبد الخالق باشا مدكور، وعبد الله بك البشري في إدارة الكوكب:
إننا نبالغ فيما نطلب للنساء من الحقوق في مقابلة ما نعلم من مبالغة رجال الدين في
هضم حقوقهن لنصل إلى الاعتدال الذي يقول به مثلك، أو نحن نعلم أنه لا سبيل إلى
إجابتنا إلى كل ما نطلب لأنه من المحال - أو ما هذا مؤداه.
نعم لقد أكبرت من إنصافه في هذا المقال، وزاد إعجابي به ما علمته من أنه
قال هذا أو ما يقرب منه في مجالس أخرى، ومنه ما كتبه عنه صديقه صاحب
جريدة الشورى الغراء، فقد كتب في العدد الذي صدر في ١٥ شعبان (ويناير)
خبر المناظرة، وكان من حاضريها ثم قال في آخر ما كتبه:
(وجاء الأستاذ عزمي ثاني يوم الاجتماع إلى إدارة الشورى مسرورًا مبتهجًا،
فقلنا وكيف تُسر وقد انتصر عليك السيد رشيد بالأمس؟ فقال إنني لم أستغرب
هذا وكنت أتوقعه؛ ولكنني طلبت للمرأة كل شيء ليصرِّح رجال الدين الإسلامي
للمرأة ولو ببعض الشيء، وقد رأيت أن السيد رشيد كان عظيمًا جدًّا في رده علي،
إذ أنه أجاد وأحسن، وكان مثلاً لمشايخ المسلمين، ولولا الضجة التي قامت في
النهاية لألقيت كلمة في الثناء عليه) اهـ. فأنا أثني على نيته هذه كما أثنيت على
كلماته المنصفة، وما رأيت له شبهًا في دعاة الإلحاد إلا زعيمهم السابق الدكتور
شبلي شميل، فقد كان يعترف بما يظهر له من الحق في المسائل ولو كان مخالفًا
لرأيه، وأما الإلحاد فهو مجاهر بشر أنواعه وهو التعطيل المطلق لا نبذ الشرائع
الإلهية فقط، ويروى أنه لما سأله رجال الإحصاء عن دينه قال اكتبوا (لا ديني)
ويقال إن زوجه اليهودية الأصل مثله.
وقد كثر كلام الناس في رئيس الجلسة النائب المحترم توفيق أفندي دياب
أيضًا فانتقدوا شدته وحدته في الإنكار، وضعفه في حفظ النظام، ورموه بالمحاباة
للفريق الموجب لمساواة النساء بالرجال بما حباه من عطف، على الفريق السالب
بما قابله به وقابل مُظهري الميل له من عنف.
فأما الشدة والحدة، فقد اعتذر هو عن بوادرها في الجلسة، وأما الضعف في
حفظ النظام الذي أثار الشدة والحدة، فسببه شذوذ كثير من حاضري المناظرة في
إظهار ما استحسنوا وما استهجنوا بما لا يبيحه النظام في أثناء المناظرة، وعدم
طاعتهم له بما به أمر من معروف، وما نهى عنه من منكر، فمن لم يسمع منهم
نئيم جرس المدرسة الصغير الذي كان يدقه بيده، فقد صخ سمعه جرس صوته
الخارج من حنجرته؛ وإنما سبب هذا الشذوذ كثرتهم وقلة حضور بعضهم لأمثال
هذه المناظرات في مثل هذا المكان، وعدم تعود ما يلزم فيها من نظام.
وأما المحاباة لخصمنا علينا وإظهار ضلعه معه فلا أوافق لامزيه بتوخيه له؛
وإنما كان الذي أظهره علنًا هو ما بينته من قبل من استنكاره الشديد لأي مغمز أو
ملمز للنساء جنسهن وأفرادهن، كاللائي ولين أمر المُلك في غابر التاريخ فيما
حظره على شوكت أفندي حظرًا باتًّا لا هوادة فيه، وهذا أدل على إنكار فطرته
وذوقه لمساواة النساء بالرجال منه على وجوب المساواة المطلق كما بينته في المقالة
الثالثة، وكنت أريد الاقتصار على ما تقدم في شأن المناظرة ورئيسها وخصمي فيها،
بيد أن كثرة كلام الناس فيها وكتابتهم أيضًا أوجبا عليَّ هذا البيان، وسأشرع غدًا
في التحقيق التفصيلي في الموضوع إن شاء الله تعالى.

التحقيق التفصيلي في موضوعات المناظرة
- ٥ -
معنى الحق وموضوعه وأقسامه:
كتبت منذ أربع وعشرين سنة مقالة طويلة عنوانها (الحق والباطل والقوة)
نشرتها في (ج١ م٩ من المنار الذي صدر في غرة المحرم سنة ١٣٢٤) قلت فيها:
الحق عبارة عن الشيء أو الأمر الثابت المتحقق في الواقع، والباطل هو ما لا
ثبوت أو لا تحقق له في نفسه، وما لا ثبوت له ولا تحقق لا يمحق ما كان ثابتًا
متحققًا، كما هو الشأن في الموجود والمعدوم، والمعلوم والموهوم، وهذا مما لا
مجال فيه لاختلاف العقلاء، إن يختلفون إلا في الحقوق العرفية والوضعية،
والدينية والشرعية، وما تحكم فيه الشرائع من الأمور الاجتماعية، وفي كل ذلك
حق وباطل.
ثم بيَّنت أن الحق والباطل يتنازعان في الفلسفة والنظريات العقلية والوجود
والسنن الكونية (أي الطبيعية) والسنن الاجتماعية والقوانين والمواضعات العرفية
والدين والشريعة الإلهية، وفصَّلت القول في هذه الأمور الكلية تفصيلاً بالبينات
والدلائل.
والذي يقتضيه المقام من الكلام في الحقوق هنا أن ما جعله الله تعالى حقًّا
بالخليقة والفطرة لا يدخل في موضوع بحثنا ولا مناظرتنا؛ لأنه لا نزاع فيه كما
بيَّناه في ردنا على ما سماه مناظرنا (حق الوجود واستنشاق الهواء) ومنها ما جعله
الله تعالى حقًّا فيما شرعه لنا من الدين، وهذا لا يتنازع فيه اثنان ممن يدين الله
بالدين الذي جعله حقًّا ما داموا يؤمنون به؛ وإنما يجوز لهم التنازع فيما تختلف فيه
أفهامهم من أدلته إذا لم تكن قطعية كما سنبينه، ولهذا قلنا إن المناظرة التي دعينا
إليها مناظرة بين الدين والإلحاد، وما أجبنا الدعوة إليها على ما كان من شذوذ لجنة
المناظرة والخطابة معنا فيها إلا للدفاع عن الدين، وبيان علو حقه على باطل
الملحدين والمعطلين {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ *
لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ} (الأنفال: ٧-٨) وأما ما يُسمى
حقًّا بالعرف العام أو الخاص أو القوانين الوضعية فإن أهله يلتزمونه ما دام
الاصطلاح والعرف متبعًا والقانون نافذًا، وقد يكون في نفسه حقًّا بموافقته للمصلحة
وإقامة العدل، وعدم منافاته لهداية الدين وقطعيات الشرع، وقد يكون باطلاً
باشتماله على شيء من المفاسد أو الظلم، فتحسن المناظرة فيه للتمييز بين الحق
والباطل، وإقناع أهل العرف أو الحكومة الواضعة للقانون بالرجوع إلى ما يقوم
الدليل على أنه هو الحق، إذ لا يمكن تقرير الحق فيه إلا بإرجاعهما عن اقتناع،
فأما الحكومات فيسهل إقناعها على العالم بالأصول التشريعية التي تعتمد عليها في
وضع قوانينها، وأما الأمم فلا بد في إقناعها من معرفة عقائدها وتقاليدها ومراعاتها
في ذلك، على أن إرجاعها بالعقل عن عرف عام بمجرد إقامة الدليل على كونه
باطلاً أو ضارًّا غير ممكن فلا بد من الاستعانة على ذلك بالتربية والتعليم.
وأما الحق في النظريات العقلية والفلسفة فسبيله أدق، ومسلكه أعسر،
والاتفاق عليه أعز، والذين يقتنعون به أقل؛ وإنما تفيد هذه النظريات في التقوية
عند بعض الناس دون جمهورهم لما فيها من الخلاف وكثرة المذاهب، وكدورة
المشارب.
الحقوق العشرة المدعاة للنساء:
بعد هذا التمهيد أقول: إننا إذا لفتنا نظرنا عن تعبيرات مناظرنا الضعيفة،
ومؤيدته النحيفة فيما سماه حق الوجود واستنشاق الهواء، وحق الحياة في المجتمع،
وحصرناه في الحقوق الشرعية والعملية التي تقابل الواجبات، ألفيناه قد ادَّعى
للنساء الحقوق العشرة الآتية لتحقيق مساواتهن للرجال التي يدعي وجوبها، وهي:
(١) رفع الحجاب وتمزيق الأستار (٢) الاختلاط بالرجال بلا شرط ولا قيد
(٣) تعلم المرأة ما يتثقف به وتثقف غيرها (٤) الاشتراك مع الرجل في تربية
الأولاد (٥) الامتلاك بالإرث والكسب (٦) المساواة بين الذكور والإناث في
الميراث (٧) وجوب الاعتراف بما تشاء (٨) جميع أعمال الحكومة ومصالحها
(٩) التصويت في انتخاب المجالس البلدية والتشريعية وغيرها (١٠) عضوية
هذه المجالس ورياستها، هذا ما قرره محمود أفندي عزمي؛ ولكنه أجمل القول في
الحقوق الانتخابية والتشريعية لانتهاء الوقت المحدد له كغيره.
إن بعض هذه الأمور حق لا نزاع فيه، وبعضها منكر دينًا وشرعًا وعقلاً
وأدبًا وقانونًا وعرفًا، وبعضها منكر في بعض هذه المناطات للحقوق دون بعض،
ومن العجيب أن مناظرنا الموجب للمساواة بين الجنسين ومؤيدته فيه لم يذكرا
الوظائف الطبيعية التي تخالف فيها المرأة الرجل فتكسبها من الحقوق ما ليس له،
وتفرض عليها من الواجبات ما لا تفرضه عليه كالحمل والولادة والرضاعة، ولم
يُلما بالسنن الاجتماعية التي هي قوام تكوين الأسرة التي هي قوام تكوين الأمة،
وهي تقتضي توزيع الأعمال المنزلية وغيرها بين النساء والرجال.
ولكن الشرع الإسلامي الذي هو نظام دين الفطرة لم ينسهما، فأعطى كلاًّ من
الرجل والمرأة من الحقوق وفرض عليه من الواجبات ما يناسب فطرته وقواه
البدنية والعقلية، وهما وأمثالهما من النساء الثوائر والرجال الثائرين على الدين
المطلق، يجهلون هذا الدين القويم وهذا الشرع العادل أصوله وفروعه.
ألم تر أن محمود عزمي أفندي، وهو من حملة لوائهم يقول: إننا نطلب للمرأة
كل شيء ليسمح لها رجال الدين ببعض الشيء، ويقول بعبارة أخرى: إننا نبالغ
ونغلو في حقوقها في مقابلة مبالغة رجال الدين في هضم حقوقها؟ وهو يخص
علماء الأزهر في هذا بالذكر، وإن لم ننقله عنه، وعلماء الأزهر لا يقولون إلا بما
في كتب المذاهب الأربعة المتبعة المشهورة، وهذه الكتب تبالغ في حقوق النساء
مبالغة لا يعد ما يقابلها من الواجبات عليهن فيها شيئًا، وسنشير إلى ذلك في محله..
وجملة القول إن الشرع الإسلامي قد أبطل كل ما كان عليه جميع أمم الأرض
من هضم حقوق النساء وإهانتهن واحتقارهن وأعطاهن من الحقوق ما لم يسبق له
نظير في دين ولا شرع ولا عُرف أمة من الأمم، وما لم يبلغ شأوه فيه قانون مدني
إلى هذا العهد، وإن هذا الغلو فيهن الذي ابتدع في هذا العهد شر لهن سيظهر فساده
الكبير وضرره الخطير بعد حين.
وإننا قبل بيان الحق التفصيلي في ذلك نقول كلمة في معنى الدين ووجه حاجة
البشر إليه، وما في الاعتصام به من المصالح، وما في ترك هدايته من المفاسد،
وما يهدد مصر من الخطر في دعاية الإلحاد والإباحة التي فشت فيها في هذا العهد،
وموعدنا المقالة الآتية.
هداية الدين وجناية الإلحاد
- ٦ -
لا شك في أن الذين يدعوننا إلى المساواة المطلقة بين النساء والرجال حتى
في أحكام المواريث والطلاق، وإلى إباحة الاختلاط بينهما في كل شيء حتى
الرقص والسباحة في البحر - يقصدون بهذه الدعوة أن نترك ديننا وننبذه وراءنا
ظهريًّا، وربما كان هذا هو المقصد الأصلي لهم وكان ذاك وسيلة له أو مقصدًا
ثانويًّا؛ فإن هذه الدعوة ليست كدعوة أحد الفساق صاحبًا له إلى شرب الخمر أو
لعب القمار معه، أو دعوة أحد الأشقياء لآخر منهم إلى مساعدته على سرقة دار أو
قتل نفس؛ فإن كلاًّ من هذين الفاسقين يعلم أنه يدعو إلى شر محرَّم له فيه منفعة
متوهمة أو مظنونة، وقد يتوب من العودة إليها في يوم من الأيام، وربما تلومه
نفسه أو يحيك في صدره استقباح فعله في أثناء اقترافه له، وهو على كل حال لا
يدَّعي أنه يعمل حسنًا أو أنه يدعو إلى خير.
وأما أولئك الدعاة إلى مخالفة الدين حتى فيما هو قطعي من نصوصه،
ومجمع عليه بين أهله، فيدّعون أنهم يدْعون الأمة إلى ما هو خير لها وأصلح
لأمورها، وأنهم لا يريدون على ذلك جزاء ولا منفعة، ولا يصدقهم أحد من العقلاء
في هذه الدعوى؛ فإنهم يعلمون أنه لا توجد أمة من الأمم مجردة من الدين، بل
يعلمون أن الأمم الإفرنجية التي يوهمون الأغرار من الشبان والشواب أنهم يقلدونها
ويتبعون خطوات حضارتها - هي أشد أمم الأرض عصبية لدينها وعناية بنشره،
وأنهم ما أسسوا المدارس الكثيرة في بلادنا إلا لأجل دعوتنا إليه وإدغامنا فيه، وهم
يبذلون في سبيل ذلك الملايين من الجنيهات على جمعيات الدعوة إليه والتبشير به.
الدين هداية روحية، لا تتم تربية الأنفس على الأخلاق الكريمة والفضائل
وصدِّها عن الرذائل وتثقيفها بالعمل الصالح بدونه، لما سنشير إليه في هذا المقال
وطالما بسطناه في التفسير والمنار، وهم يبغون حرماننا من ذلك كله.
الدين رابطة من أقوى الروابط البشرية، وجامعة من أعظم الجامعات
السياسية، وفصل من الفصول المنطقية المقومة للشعوب التي يتألف منها أو ينقسم
إليها نوع الإنسان، ودين الإسلام أقواها في هذه الروابط والجوامع والمقومات،
فهو يهب كل فرد من أفراده ملايين من الإخوة الروحيين يعطفون عليه ويحنون إليه
في كل قطر من الأقطار التي يقيمون فيها كما جرَّبنا ذلك في سياحاتنا الواسعة،
وهؤلاء الدعاة إلى الإلحاد يريدون حرماننا من هذا كله.
الدين حاجة من حاج الفطرة البشرية، بل ضرورة من ضروراتها الاجتماعية،
بل غريزة من غرائزها النفسية، فإن اختلف بعض الحكماء في بعض هذه الثلاث،
فلن يتفقوا على إنكارها كلها، وقد قال حكيمنا الإسلامي المصري الأستاذ الإمام
الشيخ محمد عبده قدَّس الله روحه في رسالة التوحيد: (فبعثة الأنبياء صلوات الله
عليهم من متممات كون الإنسان ومن أهم حاجاته في بقائه، ومنزلتها من النوع،
منزلة العقل من الشخص) .
وجد أفراد من البشر في أمم مختلفة اهتدوا بعقولهم إلى كثير من الفضائل
والآداب ودعوا إليها وهم الذين يسمون الحكماء؛ ولكنهم لم يبلغوا من القداسة
والهداية أدنى ما بلغ الأنبياء، ولم تهتد أمة من الأمم وتصلح وتتهذب بعلوم أحد
منهم وفلسفته، كما اهتدت كل أمة باتباع رسول الله إليها ما دامت متبعة له،
وهؤلاء الملاحدة يتوخون إبعادنا عن هذه الهداية.
إن من أصحاب العلم الناقص كثيرًا من المعجبين بعلوم هؤلاء الحكماء
القاصرين عن إدراك علو رتبة الأنبياء عليهم، إذ لم ينقل عن الأنبياء من العلوم
والفنون الكسبية ما نُقل عنهم؛ ولكن الحكماء المهتدين بالدين الذين يعقلون ما له من
العلو والسلطان على العقول وعلومها الكسبية يدركون ذلك.
كان للفيلسوف الإسلامي الأكبر الرئيس أبي علي بن سينا (الذي لُقِّب المعلم
الثاني عند من يُلقِّبون فليسوف اليونان الأكبر أرسطو بالمعلم الأول) خادم ذكي
لزم خدمته في السفر والحضر لإعجابه بعلومه ومعارفه الواسعة، حتى إنه كان
يفضله على الرسول الأعظم ومصلح البشر الأكبر محمد صلى الله عليه وسلم،
وكان لا يخجل من مصارحته بذلك ومكاشفته بتعجبه منه لاتباعه لمن يزعم هو أنه
دونه، فصبر عليه الفيلسوف إلى أن وجد فرصة لإقناعه بضلاله.
ذلك أنه كان في أصفهان في ليلة من ليالي الشتاء الشديدة البرد، فأيقظه من
نومه ليأتيه بماء يتوضأ به، فاعتذر لكسله وتألمه من البرد بأن الليل لا يزال طويلاً،
فأيقظه مرة ثانية فاعتذر، فأيقظه الثالثة في وقت آذان الصبح إذ كان المؤذن
يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله. وسأله: ما هذا الذي نسمع؟ قال: الأذان، قال:
ماذا يقول المؤذن؟ قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال له الرئيس حينئذ ما معناه:
لقد آن لي أن أفهمك الفرق بيني وبين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاستمع لما أقول: إنني لم أر أحدًا من الناس معجبًا بي كإعجابك وأنت خادمي وأنا
أدعوك في داخل الدار لإتياني الماء المرة بعد المرة، وأنت تخالفني وتعتذر لي،
وهذا المؤذن الفارسي يقف في هذا البرد القارس في أعلى المنارة يشيد بالشهادة
لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة احتسابًا لوجه الله تعالى بعد وفاته بزهاء
أربعمائة سنة، فتاب ذلك الخادم المغرور وأناب؛ ولكن ملاحدة زماننا لا يتوبون
بمثل حجة الرئيس ابن سينا، ولا بما هو أنصع منها، ولا يعقلون سر سلطان
النبوة على الأنفس.
وأراني ههنا قد وجدت مناسبة قوية لبيان حقيقة يجهلها هؤلاء المغرورون
ببعض قشور الفلسفة التقليدية لبعض علماء الإفرنج، وهي أن الدين لم يكن له من
التأثير في هداية البشر وإصلاحهم ما ليس للعلوم والفلسفة البشرية إلا لأن مصدره
السلطان الإلهي الأعلى الذي هو فوق قوى البشر العقلية والحسية، ذلك بأن الإنسان
يشعر بغريزته أن كل ما هو تحت إدراك عقله ومشاعره فهو دونه، وهو لا يدين
لما هو دونه ولا لمن هو مثله؛ وإنما يدين لمن هو فوقه لا في شخصه فقط، بل
في نوعه وجنسه الأعلى ذي السلطان الغيبي الذي يشعر به وجدانه، ولا يحيط به
عقله وجنانه، وهو لا يتم تهذيبه وصلاحه بإقناع أمثاله من البشر له باتباع الحق
والهدى وترجيحهما على الباطل والهوى، إن أمكن هذا الإقناع، ووقع عليه
الإجماع، فكيف إذا اختلفت فيه الآراء، وعصفت بأهلها الأهواء، كدأب البشر في
كل آرائهم ونظرياتهم في الآداب والسياسة وشؤون الاجتماع، قلما يتفقون وقلما
يعملون بما يتفقون على حسنه إذا خالف شهواتهم النفسية، أو عارض مصالحهم
القومية أو الدولية؛ وإنما تذعن الأنفس البشرية للحق إذا كان إيمانًا وجدانيًّا، وتقف
عند حدود الفضائل إذا كان وضعها وحيًا إلهيًّا، وتطيع الأمر بالخير والنهي عن
الشر إذا كان الوازع فيهما نفسيًّا، ولا معنى للدين إلا هذا، ولهذا لا يكون إلا
وضعًا إلهيًّا، وقد وضع بعض فلاسفة أوربة قواعد جميلة معقولة سموها الديانة
الطبيعية؛ ولكن لم يتدين بها أي شعب من شعوبها ولا فرد من أفرادها.
(للمقالات بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))