للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: طنطاوي جوهري


تفسير الشيخ طنطاوي

حضرة الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا صاحب المنار:
قرأت ما كتبتموه تحت عنوان (تفسير الشيخ طنطاوي جوهري) وشكرتكم
على حسن ظنكم بما أفضتم من الثناء كقولكم ويعتقد بحق أن المسلمين ما ضعفوا
وافتقروا واستعبدهم الأقوياء إلا بجهلهم العلوم ... إلخ) .
فهذا بعض ما أشكركم عليه؛ ولكني لا يتسنى لي أن أغض الطرف عما جاء
مخالفًا لما ذكرتم كقولكم (إنه لا يعول عليه في حقائق التفسير فإنه إنما يذكر شيئًا
مختصرًا منقولاً من بعض التفاسير المتداولة ... إلخ) ما ذكرتم بعدما قلتم (ويعتقد
حقًّا أن الإسلام يرشدهم إلى العلوم، بل يوجبها عليهم) وقلتم: (وجملة القول أن هذا
الكتاب نافع من الوجهين اللذين أشرنا إليهما في أول هذا الجواب وصاحبه جدير
بالشكر عليه والدعاء له) .
وإذن أقول: يظهر لي أن الأستاذ إذ جمع بين الثناء والنقد رمى لثلاثة
أغراض (الغرض الأول) أنه يهيج بالأول أذكياء الأمة وعقلاءها لقراءته (الثاني)
أنه يثير بالنقد حمية الجامدين الذين هو يجاهدهم إذ يطمعون أن يجدوا فيه مواطن
ضعف أو نقص فيقرأوه وتكون النتيجة انتشار العلم عند الطائفتين لأن الحقيقة
يخدمها الضدان مَن هو لها ومن هو عليها.
(والغرض الثالث) أن يحثني أن أكتب في المنار مقاصد الكتاب بدليل أنه
صرح فيه بأنه ما قرأ إلا بعض أوراق في بضع دقائق.
ولا ريب أن الذي انتشر الآن من تفسير الجواهر خمسة عشر مجلدًا انتهت
إلى آخر سورة السجدة، فإذن وجب عليَّ أن أبين ما في الكتاب، فإذا وسع المنار ما
أسطره في صحائفه كنت شاكرًا للأستاذ؛ ولذلك أقول: إن صاحب الدار أدرى بما
فيها، والضيف الذي لا يمكث فيها إلا بمقدار زمن يشرب فيه الشاي له العذر فيما
يصفها به؛ ولذلك أقول: إن طريقتي في التفسير أن أقسم كل سورة أقسامًا كل قسم
منها تذكر آياته أولاً مشكلة، ثم أقفي بالتفسير اللفظي ملخصًا مستوفيًا مفصِّلاً جميع
الأحكام وهي قليلة في القرآن ومبينًا التفسير المأثور، وقد نبذت خلاف الفرق
الضالة والجدل الممقوت، فهذا لا سبيل إليه؛ لأنه ضياع لوقت هذه الأمة، بل أوفق
بين الأقوال بقدر طاقتي، ولست أذكر من الإعراب إلا ما تمس الحاجة إليه بأسلوب
يوافق ذوق العقلاء المسلمين في زماننا، وعدلت عن الطريقة العتيقة إلى طريقة
مدرسية صالحة لفهم المسلمين؛ وإنما نهجت هذا المنهج ليكون الأسلوب سهلاً يسر
القارئين، لا معقدًا يقعد بهمم الكثيرين.
ثم بعد ذلك التفسير لكل قسم أُبيِّن ما يشير إليه من الحقائق العلمية الصادقة
وأُبيِّن كيف يكون تكذيب الخرافات ليرتقي الشعب الإسلامي مراقي الفلاح؛ وإنما
اخترت ذلك ليأخذ كل قارئ من التفسير ما شاء، فمن شاء التفسير المتداول فلديه
خلاصته منقاة مصفاة، ومن أراد العلم وجماله فإنه يجده في مكان خاص غير
ملتبس بالتفسير اللفظي.
وأنا أحمد الله عز وجل إذ وفقني أن أُبيِّن للمسلمين في مشارق الأرض
ومغاربها أن العلوم التي غفل عنها المتأخرون، وامتلأت بها الأقطار ونبذها
المسلمون وكرهوها - ظنوها ضد الدين، وهذه هي المصيبة الدهياء التي حلت بديار
الإسلام كما ذكره الأستاذ ووافقني عليه، أليس هذا بعينه هو فقه التفسير؟
أفلم يقل بهذا المتقدمون مثل الإمام الغزالي ونصه (أن من زعم أنه لا معنى
للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حد نفسه، وهو مصيب في
الإخبار عن نفسه؛ ولكنه مخطئ في الحكم برد الخلق كافة إلى درجته التي هي
حده ومحطه، بل الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعًا لأرباب الفهم،
قال علي رضي الله عنه: (إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن) فإن لم يكن
سوى الترجمة المنقولة فما ذلك الفهم؟ وقال أيضًا: إنه صلى الله عليه وسلم دعا
لابن عباس رضي الله عنهما (اللهم فقهه في الدين، وعلِّمه التأويل) فإن كان
التأويل مسموعًا كالتنزيل ومحفوظًا مثله فما معنى تخصيصه بذلك؟
وقال أيضًا: أعظم علم القرآن تحت أسماء الله عز وجل وصفاته، إذ لم
يدرك أكثر الخلق منها إلا أمورًا لائقة بأفهامهم، ولم يعثروا على أغوارها، وأما
أفعاله فكذكره خلق السموات والأرض وغيرها. إلى أن قال: ولهذا إذا قرأ التالي:
{أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} (الواقعة: ٦٣) {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} (الواقعة:
٥٨) {أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} (الواقعة: ٦٨) {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَتِي
تُورُونَ} (الواقعة: ٧١) لا يقصر نظره على الماء والنار والحرث والمني
فليتأمل في المني، وهو نطفة متشابهة الأجزاء، ثم ينظر في كيفية انقسامها إلى
اللحم والعظم والعروق والكبد والعصب، وكيفية تشكيل أعضائها بالأشكال المختلفة
من الرأس واليد والرجل والكبد والقلب وغيرها، ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات
الشريفة من السمع والبصر والعقل وغيرها، ثم إلى ما ظهر منها من الصفات
المذمومة من الغضب والشهوة والكبر والتكذيب والمجادلة. إلى أن قال: فليتأمل
هذه العجائب ليترقى منها إلى أعجب العجائب، وهو الصفة التي صدرت منها هذه
الأعاجيب فلا يزال ينظر إلى الصنعة فيرى الصانع، إذًا أقول: لقد استُوفيتْ هذه
المباحث وأمثالها في التفسير واضحة بالصورة الشمسية ظاهرة للعيان مورثة لليقين.
ثم ذم من يقتصر من فهم ملكوت السموات والأرض على أن يعرف لون السماء
وضوء الكواكب، فقال: وذلك مما تعرفه البهائم ... (وأقول: حرام علي أن أسمع
هذا القول، ولا أرفع هذا العار والجهل عن هذه الامة التي هي خير أمة أخرجت
للناس) .
ثم قال: ولله تعالى في ملكوت السموات والأنفس والحيوانات عجائب يطلب
معرفتها المحبون لله تعالى؛ فإن من أحب عالمًا فإنه لا يزال مشغولاً بطلب
تصانيفه اهـ. وقال أيضًا رحمه الله تعالى: إنه لم يقصر بالخلق عن شكر النعمة إلا
الجهل والغفلة عن معرفة النعم، ولا يتصور شكر النعم إلا بعد معرفتها، ثم إنهم إذا
عرفوا النعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول بلسانه الحمد لله، الشكر لله ... إلخ) .
أنا لا أود أن أطيل النقل فأكابر العلماء المتقدمون في القرون الأولى لما رأوا
صغار علماء زمانهم ليس لهم إلا حفظ الروايات والجدل والفتاوى والاقتصار على
علم الفقه، وأنهم اتخذوه سُلمًا لتولي القضاء والإفتاء في ذلك الزمن - تبرءوا منهم
وأخذوا يقولون للمسلمين: كلا أيها المسلمون، إن هؤلاء يقصدون الدنيا، هم
طلاب مال، لا تقفوا عند حدهم. هنالك اجتمع صغار العلماء وكادوا لهم، وسلَّطوا
عليهم ضعاف الملوك حسدًا وبغيًا، فأمر الخليفة العباسي في بغداد رجلاً يُسمى
(ابن المارستانية) فأحرق كتب الفلك والنبات والحيوان وغيرها في الرحبة ببغداد،
فأزال الله مُلك أولئك الجاهلين بدخول التتار لما جهلوا علوم القرآن.
ولما حسد علماء المغرب الإمام الغزالي إذ انتشرت كتبه في بلادهم أيام
حكم المرابطين - أمر علي بن تاشقين فأحرق تلك الكتب، فمزَّق الله ملكهم وخَلَفَهم
الموحدون، فلما أمر الله بغروب شمس الدولة لهؤلاء أيضًا في القرن السادس نفى
أميرُ المؤمنين العلامة ابن رشد لأنه قال: أيها المسلمون هذه العلوم يطلبها القرآن
وهي تفسير لآياته، فحسده فقهاء زمانه فصار الأمير يقرأ كتبه سرًّا ويأمر جهرًا ألا
تُقرأ، فلهذه الأسباب نشر تلاميذ ابن رشد بعد اضطهادهم هذه العلوم في ألمانيا أولاً
ثم في سائر أوروبا وصارت بلاد الإسلام قفرًا منها وحوشًا يبابا (اقرأ ما كتبه
العلامة سديو الفرنسي والأستاذ سنتلاته التلياني: الأول في كتابه خلاصة تاريخ
العرب، والثاني في كتابه تاريخ الفلسفة العربية) .
ومن عجب أن دولة العباسيين بالمشرق، ودولتي المرابطين والموحدين
بالمغرب كانوا على وتيرة واحدة، فهم جميعًا في أول الدولة أحرص الناس على
العلوم فترتقي الدولة، وفي آخرها أزهد الناس فيها فيزول الملك، تشابهت قلوبهم،
ومثلهم في ذلك دولة الترك البائدة كما جاء في كتاب كشف الظنون نقلاً عن رسالة
الخبايا في الزوايا.
يقول طنطاوي الذي احترق فؤاده أسفًا على الأمة المحمدية: لقد قرأت هذا
التاريخ في كتب مختلفة، فتقطع قلبي أسى وحسرة، وعرفت أن الناس يسارعون
إلى الجهل كابرًا عن كابر، وهم يتلاحقون غافلين، ويظن قوم أن العلم شيء
والدين شيء آخر، وهذا جهل فاضح، وهذا هو الذي جعل المسلمين - في مصر
وفي غير مصر - أقل الأمم علمًا بهذه العلوم، فالمتعلمون من المسلمين القراءة
والكتابة في بلادنا يُعدُّون على الأصابع في كل قرية من القرى، وهذا لأن وعاظنا
لم يحثوهم على ذلك كما يحث الواعظون من الأمم الأخرى في سائر الأقطار، ولقد
وفقني الله عز وجل وسهَّل لي تعلم هذه العلوم في المدارس أولاً، ثم قرأتها في كتب
عربية، وأخرى أجنبية، أفلا يجب عليَّ نشرها؟ ألم يكن ظهور التصوير الشمسي
آية كبرى في زماننا؟ حتى تمكنت به من إظهار عجائب تشريح الإنسان وتبيان
الأعضاء الباطنة مصورة كالكبد والطحال والبنكرياس، وهكذا عجائب النبات
وإلقاحه المصوَّر المفسِّر لآية {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات: ٤٩) وآية {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: ٢٢) وبهذه الصور
ظهر في تفسير الجواهر معجزات جمة في هذا الزمان مصداقًا لقوله تعالى: {أَوَ
لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: ٥١) أفلا ترى صورًا
جميلة من العجائب في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم:
٢٢) بكسر اللام، فإن هذه لم تظهر حق ظهورها للخاصة إلا في هذا الزمان.
ومن ذا كان يظن أن جبال الثلج تظهر مرسومة في الجو ومعها الطيارة في
زماننا، وترسم في الجواهر تفسيرًا لقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ
فِيهَا مِن بَرَدٍ} (النور: ٤٣) وقد كان المفسرون قبلنا يؤولونها، أليست هذه
معجزة إسلامية لم تعرف عيانًا إلا الآن في تفسير الجواهر؟ أليس هذا وأمثاله من
أسرار القرآن كانت خافية فظهرت؟ فأنا أحمد الله وأقول: وجب عليّ نشرها،
وعلى كل من قرأ هذا التفسير.
ولما رأى المسلمون في الأقطار صور النبات وأوراقه الموضوعة وضعًا
هندسيًّا بدرجات محددة، مرسومًا على هيئة دوائر أفقية تارة، ورأسية تارة أخرى
لآية {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} (الحجر: ١٩) ورأوا الوزن ظاهرًا
في الكيمياء العضوية للذرات الداخلة في تركيب النبات في جداول موضحة في
(الجواهر) طلبوا المزيد من هذه العجائب، فهل يتسنى لي أن أنام عن نشر هذه
العلوم التي أنعم الله عليَّ بها، وجعل أفئدة من المسلمين تهوي إلى تفسير الجواهر،
ووفقني أن أكون على منهج السلف الصالح، وأن أكسر هذا الجمود المخيم على
العقول وأتباعد عن المناقشات اللفظية والمجادلات المخزية التي انحطت بها المدارك
في الأمم الإسلامية، وأن أفسر القرآن باليقين لا بالظن، ولا أضيع على المسلمين
أوقاتهم بتضارب الروايات، وأن أرجع بالأمة إلى سبيلها أيام مجدها وأنا واثق بما
أقول؟ وإذا لم يكن هذا أسرار القرآن وفقه القرآن فهل يكون فقهه في آيات الفقه
المعروف وحدها، وما هي إلا مائة وخمسون آية من نحو ستة الآف؟ كلا والله كلا،
الفقه علم واحد، والعلوم تُعَدُّ بالعشرات موزعة على آي القرآن وتركها يجعل جميع
المسلمين آثمين.
إني إذا ما كتمت هذا العلم خوفًا من حاسد أو جاهل مقلد، فإني أخاف الله رب
العالمين، ومن نكب عن هذه الطريقة فذلك لأنه مقتصر على ما غلب عليه ونافع
بوجهته {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: ٢٨٦) هذا ما أشهد الله عليه
وأشهد خواص المسلمين أن هذه الطريقة قد أرضت الخواص في الشرق والغرب؛
حتى إنهم في الهند وبلاد جاوى وسومتره وشمال إفريقيا والفرس وبلاد العراق
وبلاد البوسنة والهرسك ببلاد النمسا حفزوني أن أزيد هذه المباحث إيضاحًا، فلبيت
طلبهم وقرأت {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (يوسف: ١٠٨)
الآية فهي هدى وشفاء للذين أوتوا العلم، والمقلدون والجهال لا يعلمون، وها هو ذا
الأستاذ صاحب المنار فتح لهم الباب بالأسلوب الحكيم الذي لأجله كتبت هذا المقال،
وسأتبعه بآخر متى اتسع لي الوقت واتسع صدر المنار إن شاء الله تعالى.
... ... ... ... ... ... ... ... ... طنطاوي جوهري

(المنار)
إنني لا أبخل على هذا الكتاب بنشر هذا الإعلان الطويل له حبًّا
في العلم، ومن حق العلم عليَّ أيضًا أن أقول: إنني قد راجعت هذا التفسير بعد
إعطاء مؤلفه صديقي هذه الرسالة؛ حتى إنني سهرت إحدى الليالي في تصفح
الجزء الأول الذي ذكرته في الفتوى، فرأيتني قد ازددت علمًا بصحة ما كتبته ولم
يظهر لي أنني أخطأت في شيء منه؛ وإنما ذكرت أحسن ما علمت من فائدة،
ورأيت كل ما ذكره من المزايا هنا تفصيلاً لما أجملت واقتصرت في انتقاد ما قصر
فيه على كلمة وجيزة لئلا أكون منفرًا عن كتاب صديق أكرمه وأحسن الظن بعمله
وإخلاصه، ورأيت أن ما كتبه في انتقادها أو الجواب عنها، لا ينقض حرفًا منها،
وبيانًا لهذا أقول الآن ما يوضح تلك الكلمة في هذا التفسير:
الجزء الأول منه يحتوي تفسير الفاتحة والبقرة وهما زهاء جزئين ونصف من
أجزاء القرآن الثلاثين، وفيهما من أصول الدين وفروعه ما ليس في عدة أجزاء منه،
وصفحات هذا الجزء ٢٣٨ صحفة كبيرة أكثر ما فيها لا يصح أن يرجع إليه في
حقائق تفسيرها؛ ولكنه نافع في نفسه، ومنه ما ليس له مناسبة قوية بالموضع الذي
وضع فيه ولبعضه مناسبات قوية في سور أخرى، فأول ما ذكره في تفسير البسملة
أنه جعل متعلق الظرف في (بسم) التبرك وفسَّر (الرحمن) بالمنعم بجلائل النعم
و (الرحيم) بدقائقها، وهذا هو المشهور الذي يذكره شراح الكتب لخطبها وليس من
التحقيق في شيء، وقد بيَّنا التحقيق في الظرف ومعنى الاسمين الكريمين في تفسير
المنار، ولم يذكر حقيقة معنى صفة الرحمة أيضًا. هذا مَثَل للتقصير في تفسير أول
آية في كتاب الله تعالى.
ثم إنه شرع بعد هذا التفسير المختصر المنقول في الكلام على عجائب
الحشرات من الإكسيلوكوب والنحل والنمل والعنكبوت وغيرها ... وكان المناسب
أن يؤخر الكلام في عجائب النحل والنمل إلى السورتين المسمَّاتين باسميهما.
وأما تفسير سورة البقرة، فكان يجب أن نجد فيها البيان المفصل الأوفى لتفسير
آيتي التحدي بإعجاز القرآن منها، وهي قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا
نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: ٢٣) ... إلخ، ورأيته قد
اقتصر من تفسيرها على كلمة وجيزة ثانوية في موضعها تقل عن سطر واحد فقال:
(ولما لم يكن من المعاندين من العقل والمعرفة ما به يعرفون نظام هذا العالم،
ويدركون أن الأصنام لا تستحق العبادة - أخذ يصف لهم ما جاء على لسان الرسول
من البلاغة، ويتحدى بما يعجزهم كأنه يقول: إذا عجزتم عن إدراك ما أبدعته في
الأرض والسماء، ولم تبلغ عقولكم كنهه، وغلبت عليكم الجهالة ولم تفهموا إلا ما دار
في أنديتكم من أحاديث البلاغة وآيات الفصاحة، فاسمعوا لهذا القرآن، وإلا فائتوا
بمثله، فلما عجزوا أوعدهم بالنار ووعد المتقين بالجنة) اهـ.
فهل يصح أن يُعَدَّ هذا من حقائق تفسير الآيتين اللتين هما أهم آيات السورة،
بل أهم آيات القرآن كلها في إثبات حقية الرسالة وصدق خاتم النبيين فيما جاء به
عن الله تعالى بالبرهان القطعي؟ اللهم لا، بل ليس هذا مبينًا لمعنى ألفاظ الآيتين
ونظمهما، ولا مما يفهم منه معناهما الإجمالي فضلاً عن بيان ما به كانت سورة من
القرآن معجزة، وبيان القطع بأنهم لن يأتوا بسورة من مثله.
ولما كان هذا التحدي بالقرآن قد ذُكر في سورتي يونس وهود أيضًا راجعت
ما كتبه في تفسيرهما لعله استدرك فيه ما فاته في تفسير آيتي البقرة، فلم أجد فيهما
غناء.
ولو شئت أن أورد كثيرًا من الشواهد على قولي بأنه لا يُرجع إليه في حقائق
تفسير الآيات، لفعلت ولا محاباة في العلم والدين.
وأما ما يورده في التفسير من الأحاديث والآثار فهو ينقله من أي كتاب رآه
فيه، لا يلتزم كتب أئمة الحديث، ولا يلتفت إلى تخريجهم وتصحيحهم، فيكون منها
ما ليس بحديث أصلاً كالموضوعات ومنها الضعاف والواهيات، ولا حاجة إلى
إيراد الشواهد على ذلك إلا إذا أنكره الأستاذ علينا.
وإذا كان الأستاذ لم يُعن بالتزام الأحاديث الصحيحة والحسنة فيما يورده في
تفسيره مع سهولة ذلك بالرجوع إلى كتب الصحاح والسنن وكتب الجرح والتعديل -
فأجدر به أن لا يُعنى بتمحيص التفسير المأثور عن التابعين ومن بعدهم، ولا
باجتناب الإسرائيليات الباطلة منها أو التنبيه على بطلانها، كما ترى في تفسيره
لقصة البقرة وهاروت وماروت والذين قال لهم الله موتوا ثم أحياهم والذي أماته الله
مائة عام ثم بعثه.
ومما أشرنا إلى انتقاده بعض التأويلات التي انفرد بها، ونذكر منها تأويله
لمسألة الشفاعة في الجزء الأول، فهو قد ذكر تأويلاً لابن عربي في غير محله،
ووعد بأن يرد إليه الآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة، ولم يفعل، وقد حررنا
هذا في تفسيرنا غير مرة ولا حاجة إلى بسطه هنا، وأما تأويله لنزول المسيح فلم
ينفرد به، وكان حسبه منه أنه ليس مما ثبت في القرآن.
وجملة القول إن مزية هذا التفسير الصحيحة هي ما بيَّنا في الفتوى التي ينتقد
صديقنا بعض ما فيها، وكنت أظن أنه يعتمد ذلك لما كتبه في تقريظ الجزء التاسع
من تفسير المنار، وهو أن من المفسرين من جعل جل عنايته في مباحث اللغة
والبلاغة، ومنهم من جعلها في الأحكام الفقهية أو الكلامية وما يتعلق بها ... إلخ،
فأراد هو أن يجعل جل عنايته في التذكير بعجائب صنع الله تعالى في الخلق،
وحث المسلمين على العلوم التي تتوقف على إتقانها سيادة الدنيا وعزة الأمة وقوتها
فيها، ويدل على هذا ما يضعه من الفهارس للأجزاء؛ فإن المؤلف يكتب في فهرس
كتابه أهم مسائله عنده، وأنت تجد أول فهرس الجزء الأول الحث على العلوم
الكونية في الخطبة، وعجائب الحيوان والحشرات والنبات في تفسير الفاتحة ... إلخ؛
ولكن لا ترى فيها ذكرًا لإعجاز القرآن والتحدي به، ولا لهدايته، ولا لأهم
أصول التشريع التي بيَّناها بالعدد في أول تفسير السورة من الجزء الأول من
تفسيرنا.
ثم إنه ذكر أنه اقتدى في طريقته هذه في التفسير بالإمام الغزالي، أي ما قاله
في كتابه جواهر القرآن وكتابه الإحياء. ونقول: إنه قد فاته منه غرضه الأسمى،
وهو ما يسميه الغزالي فقه الدين، وهو غير فقه الفقهاء الذي يعنون به الأحكام
العملية من ظواهر العبادات ووسائلها والمعاملات التي هوَّن صديقنا أمرها تبعًا له،
وظن أنه عني بما فضله عليها وهو الفقه الحقيقي عنده؛ ولكنه لم يعط هذا حقه فيما
نرى.
ذلك أن الذي أُشربه قلبنا من كتب الغزالي من نشأتنا العلمية الأولى هو أن فقه
الدين ولبابه هو ما شرع الله الدين وأنزل القرآن لأجله، وهو الهدى والتقوى
وتزكية النفس بمعرفة الله تعالى وخشيته والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة،
وتفسير صديقنا لا يُعنى بهذا كما يجب، وما ينقله من كتب علماء الكون من
عجائب المخلوقات فجله غير موجه إلى هذا الغرض الأسمى؛ وإنما هو موجه إلى
الترغيب في هذه العلوم من جهة كونها وسيلة إلى ترقي الحضارة والعمران وأسباب
الاستقلال والملك، ولعمري إن هذا من فروض الكفايات وهو مطلوب في الإسلام
كعلم الأحكام العملية؛ ولذلك حمدناه منه وشكرنا له، وحسبنا هذا التذكير، وعسى
أن يكون سببًا لاستدراك أخينا الأستاذ المفسر لما قصر فيه فيما بقي منه.