للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: سليمان الندوي


تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها
ترجمة مقال للعلامة السيد سليمان الندوي الهندي

(كلمة للمترجم) من المصائب التي ابتلي بها المسلمون في هذا العصر
انتشار فرقة دعواها أن قانون الإسلام هو (القرآن وحده) وأن السنة إنما كانت
أحكامًا مؤقتة لأهل عصر النبي عليه السلام، والآن أصبحت عديمة الجدوى، فهي
تنكر الاحتجاج والعمل بالحديث مهما بلغت درجته من الصحة والشهرة والقبول عند
علماء المسلمين، وهذه الطائفة توجد في سائر الممالك الإسلامية؛ ولكنها في الهند
أخذت شكلاً منظمًا وسمت نفسها (أهل القرآن) وألفت كتبًا ورسائل كثيرة، ولا
زالت تنشر المقالات في المجلات الهندية، وقد رد عليها علماء الهند أحسن رد
جزاهم الله خيرًا، ومنهم حضرة الأستاذ السيد سليمان الندوي؛ فإنه كتب مقالة
نفيسة في مجلته الشهيرة (معارف) الهندية في الرد على هؤلاء بكلام معقول،
فأحببت ترجمتها بتصرف يسير لعل الله ينفع بها من لا يمكنه الاطلاع على أصلها،
والله الموفق.
... ... ... ... ... ... ... ... المترجم
... ... ... ... ... ... عبد الوهاب بن عبد الجبار الدهلوي
... ... ... ... ... ... ... ... بمكة المكرمة
قال الأستاذ حفظه الله:
تمهيد:
يسرنا ويسوءنا معًا حال بعض شباننا المتعلمين، يسرنا أنهم وجهوا قسطًا من
عنايتهم إلى البحث عن المسائل الدينية ولم يعتبروا ذلك تضييعًا لأوقاتهم، ولم يعدوا
الدين شيئًا عبثًا لا يستحق العناية والاهتمام، فمن هذه الجهة يستحقون المدح
والشكر، ويسوءنا أنهم ينشرون آراءهم ونتيجة أبحاثهم ويدعون المسلمين إليها قبل
التحقيق التام وعرضها على العلماء الأعلام، وهذا يؤدي إلى إضلال كثير من
العوام.
وإشاعة الحق - وإن كانت واجبة - يجب على من يقوم بها أن يتثبت ويتحقق
أولاً كون ذلك الشيء حقًّا، ثم يسعى في نشره وإلا كان إثمه أكبر من نفعه.
هؤلاء الشبان يدّعون أنهم قادرون على استنباط كل شيء من القرآن الشريف
بدون رجوع إلى بيان صاحب الرسالة الذي أُنزل عليه القرآن، فتراهم يُكثرون من
ذكر المسائل العجيبة التي استنبطوها بزعمهم من القرآن، ويردون كل ما ثبت
بالسنة ولم يجدوه في القرآن، ومن الغريب أن كثيرًا من الأحكام التي يردونها نجد
أصلها موجودًا في القرآن عند إمعان النظر، وأغرب من ذلك تناقضهم واختلافهم
في ما يستنبطون من القرآن، فكل واحد منهم مستقل بنفسه مخالف للآخر.
كيف نفهم القرآن:
قد كتبت مرارًا أن البحث في هذه المسائل الجزئية - التي يستنبطونها والتي
يردونها - لا تجدي نفعًا، بل يجب أن نبحث في المسائل العامة، والقواعد الكلية
التي تشمل هذه الجزئيات كلها، فأول ما يجب تمحيصه من هذه المسائل هو: كيف
نفهم القرآن؟ أو بعبارة أعم من هذه: كيف نفهم مراد القائل من كلامه؟ لا يخفى
أن علم أصول الفقه جُل مباحثه تدور حول هذه المسألة، أعني طريقة فهم معنى
الكلام والاستنباط منه.
مثلاً إذا وردت في القرآن الكريم كلمة لها معاني متعددة عند العرب، أو كلمة لها
معنى حقيقي ومعنى مجازي، فكيف نعين المعنى المراد بتلك الكلمة؟ أو ورد لفظ
عام، فكيف نعلم أن المقصود منه جميع أفراده أو بعضه؟ أو ورد حكم مطلق، فكيف
نعرف هل هو باق على إطلاقه أم استثني منه شيء؟ [١] إلى غير ذلك من المسائل.
وهناك أمر آخر، وهو أن المعاني المفهومة من الكلام على أنواع، فمنها ما
يُفهم من ألفاظه صراحة، ومنها ما يُفهم منه بطريق الإشارة والكناية، ومنها ما يُفهم
من سياق الكلام، فلا يقال لشيء منها: إن هذا الكلام لا يشمله، فكذلك الأمر في
القرآن، أعني إذا كان الشيء غير مذكور فيه صراحة؛ ولكنه يُفهم من سياقه أو
إشاراته فلا يقال: إنه ليس في القرآن مطلقًا.
النبي كان مأمورًا بتبيين القرآن:
قال الله تعالى مخاطبًا لنبيه عليه السلام: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: ٤٤) فلأجل هذا كان الصحابة يرجعون
إليه في فهم كل ما أُشكل عليهم فهمه أو استنباطه من القرآن، ويستفتونه فيما يقع
لهم من الحوادث، فيبين لهم النبي عليه السلام ما أُشكل عليهم ويعلمهم ما خفي
عليهم. مثلاً نزلت آيات الصيام ولم يذكر فيها حكم الأكل والشرب بالنسيان في
الصوم، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال يا رسول الله أكلت
ناسيًا في الصوم، فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بأن صومه صحيح؛ لأن الخطأ
والنسيان معفو عنهما مستنبطًا من قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ
وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (الأحزاب: ٥) فهل يقال إن هذا الحديث مخالف للقرآن
لأنه ليس فيه أن الصوم لا يفسده الأكل بالنسيان، أو يقال إنه لم يكن للنبي عليه
السلام أن يستنبط هذا الحكم من الآية الأخرى التي لا تتعلق بالصوم؟
وهنا نريد أن نسأل هؤلاء المنكرين على الحديث: إذا كان يجوز لكم أن
تستنبطوا من القرآن كل ما تريدون وتفسرونه كما تفهمون، مع بُعدكم عن العصر
والمحيط اللذين نزل فيهما القرآن، ومع كونكم أعجامًا من غير أهل اللسان، أفما
كان يحق هذا لمن نزل عليه القرآن، وأُمر بتبيينه وكان أفصح أهل اللسان؟ بلى
هو أحق الناس بالبيان والاستنباط من القرآن.
تفاوت الأفهام:
ثم لا يخفى على أحد أن كل الناس ليسوا سواء في الاستعداد والفهم، وصفاء
الذهن، ولهذا السبب يقرأ القرآن الحكيم كل أحد؛ ولكنهم يختلفون في فهم معانيه،
فالعالم يفهم منه ما لا يفهم الجاهل، والعلماء أيضًا متفاوتون في الفهم والعلم
{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف: ٧٦) وقد أمرنا الله تعالى بالرجوع إلى
العلماء في قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: ٤٣) وبين
اختلاف الناس في درجات الفهم بقوله: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ
يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: ٩) .
كيف وجدت الأحاديث:
إذا سلَّمنا هذين الأمرين - أعني أن النبي عليه السلام كان مأمورًا بتبيين
القرآن، وأحق الناس به وبالاستنباط منه، وأن الناس متفاوتون في الاستعداد والفهم -
فلنتصور أنه إذا نزل حكم في القرآن في واقعة ما، ثم بعد ذلك حدثت حادثة أخرى
مثلها أو تشابهها أو تختلف عنها قليلاً في الظاهر، واشتبه على بعض الصحابة أن
ذلك الحكم هل ينطبق على هذه الحادثة الجديدة أم لا؟ فما الطريقة المعقولة لحل هذا
الأشكال؟ أليست الطريقة المعقولة أن يرجعوا إلى صاحب الوحي ويسألوه عن ذلك؟
فإذا سألوا النبي عليه السلام، فماذا كان يجب عليه أن يعمله؟ أيسكت عن جوابهم
ويتركهم حيارى؟ أم يكتفي بتلاوة الآية التي ما فهموها تمامًا، ولم يظهر لهم وجه
انطباقها على الواقعة الجديدة؟ أم يوضح لهم ما أُشكل عليهم بحيث يطمئن إليه
الخاطر؟ لا شك أن الصورة الأخيرة هي المتعينة؟ فإذا أجاب على سؤالهم وبيَّن لهم
ما اشتبه عليهم، فهل كان يحرم عليهم أن يخبروا غيرهم بتلك القصة، أو إذا وقعت
تلك المسألة لغيرهم فهل كان محظورًا عليهم أن يُعلِّموه كما علَّمهم الرسول عليه
السلام؟ لا أظن أن عاقلاً يقول بهذا، بل كل عاقل يقول إنه كان الواجب عليهم تعليم
الجاهل وهداية الحيران، وكذلك فعلوا! فهذا هو (الحديث) في اصطلاح المسلمين.
الرواية أمر ضروري:
لا مندوحة لعلم من العلوم ولا لشأن من شؤون الدنيا عن النقل والرواية
لأنه لا يمكن لكل إنسان أن يكون حاضرًا في كل الحواداث، فإذًا لا يتصور علم
الوقائع للغائبين عنها إلا بطريق الرواية شفاهًا أو تحريرًا، وكذلك المولودون بعد
تلك الحوادث لا يمكنهم العلم بها إلا بالرواية عمن قبلهم، هذه تواريخ الأمم الغابرة
والحاضرة والمذاهب والأديان ونظريات الحكماء والفلاسفة وتجارب العلماء
واختراعاتهم هل وصلت إلينا إلا بطريق النقل والرواية؟
فهل كان الدين الإسلامي بدعًا من الحوادث حتى لا تُنقل أحكامه وأخباره بهذا
الطريق؟ أم كان الواجب اتخاذ طريق آخر لنقل أقوال الرسول عليه السلام وأخباره
غير الرواية؟
لنفرض أن هؤلاء المنكرين على رواية الحديث أصبحوا زعماء لمن كان على
شاكلتهم، فهل هناك طريقة - غير الرواية - لتبليغ استنباطاتهم وتحقيقاتهم لأفراد
جماعتهم البعيدين عن حلقات دروسهم أو الذين سيولدون بعدهم، خصوصًا إذا كانوا
في بلاد لا توجد فيها المطابع ووسائط الاستخبار الحديثة، مثل البريد والبرق،
وتكون صناعة الورق معدومة والأمية منتشرة (كما كان الحال في جزيرة العرب
عند ظهور الإسلام) ؟
القرآن أيضًا منقول بالرواية:
ثم نسأل هؤلاء: أليس القرآن الكريم أيضًا منقولاً بالرواية؟ نعم إن هناك فرقًا
بينه وبين الحديث، وهو أن القرآن منقول بالتواتر والحديث منقول برواية رجال
معدودين؛ ولكنهم ليسوا مجاهيل، بل رجال مشهورون، أحوالهم معلومة، وأسانيدهم
محفوظة، وهذا الفرق يقتضي التفاوت في درجات اليقين والوثوق، لا في نفس
القبول والاعتبار، وهذا الفرق مسلَّم عند كل مسلم، لا يقول أحد منهم بأنهما متساويان
من كل جهة.
أصول الحديث:
ولما كانت الأحاديث أخبارًا وجب أن نستعمل في نقدها وتمييز الصحيح من
غيره أصول النقد التي نستعملها في سائر الروايات والأخبار التي تبلغنا، أعني إذا
سمعنا خبرًا فماذا نعمل؟ ننظر أولاً في حال الراوي الذي سمعنا منه هذا الخبر،
هل هو ممن يُعَوَّل على روايته أم لا؟ ثم ننظر في حال من روى عنه هذا الرجل
وهكذا إلى أن تنتهي الوسائط، ثم نتحقق هل الراوي الأعلى كان حاضرًا الواقعة أم
لا؟ وهل كان بإمكانه فهمها وحفظها؟ ثم ننظر في الأمر المروي هل يلائم أحوال
الرجل الذي نُسب إليه وهل يمكن وقوعه في ذلك العصر والمحيط أم لا؟
فهذه القواعد وأشباهها استعملها المحدثون في نقد الأحاديث وسموها (أصول
الحديث) وبذلك ميزوا الأحاديث الصحيحة من غيرها، ولا زال الباب مفتوحًا لمن
أراد أن يأتي البيوت من أبوابها.
الحديث تاريخ الإسلام:
لا يخفى أن القرآن الحكيم إنما نزل لهداية البشر إلى مصالحهم الدينية
والدنيوية، ولهذا بيَّن لهم طريق العمل وسبل النجاح، وأعلن أن الأمة التي تعمل
بهذا القانون تكون لها الخلافة في الأرض، وتنال من السعادة والسيادة ما لا مزيد
عليه، وتكون خير أمة أُخرجت للناس، وكل من لم يعمل بهذا القانون يكون ذليلاً
مهانًا في الأرض، وشقيًّا في الدنيا والآخرة.
فإذا سَأَلَنا أحد: هل وُجدت أمة في زمن من الأزمان عملت بهذا القانون؟ وهل
نالت به ما وعدت؟ ومتى كانت تلك الأمة وكيف كانت طريقة عملها بهذا القانون،
وأين التاريخ الصحيح لأعمالها؟ نقول له: نعم وجدت أمة عظيمة عملت بهذا الكتاب
الحكيم، واتخذته قانونًا أساسيًّا لها مدة كبيرة فصدقها الله وعده، وأنعم عليها
بالخلافة والسيادة في الأرض، وامتد سلطانها إلى مشارق الأرض ومغاربها،
وكانت أمة لا نظير لها في تاريخ العالم، وتاريخ أعمالهم المجيدة وطريقة تنفيذهم
لأحكام القرآن، وكيفية عملهم بها، كل ذلك ثابت ومحفوظ بصورة عديمة المثال؛
فإنه لا يوجد تاريخ لأمة من الأمم يبين عملها وتمسكها في كل شؤونها بقانونها مثل
تاريخ هذه الأمة، وهذه الأمة هي الرسول عليه السلام وأصحابه والتابعون لهم
بإحسان، وهذا التاريخ هو الحديث! فبالحديث يُعلم كيف عمل الرسول
وأصحابه بالقرآن، وبه يُعرف أن القرآن قانون قد عُمل به ونجحت أصوله
الإدارية والسياسية والمدنية والأخلاقية ... إلخ، وليس هو مجموعة نظريات
محتاجة للإثبات بالتجربة والتطبيق، وأما إذا عملنا برأي المنكرين للحديث فيضيع
تاريخ الإسلام الذهبي، ولا يقدر أحد أن يثبت أن القرآن قد عملت به أمة من الأمم
ونجحت في تأسيس حكومة مدنية مطابقة لتعليماته، فهل يرضى المسلمون بهذا؟ لا
والله لا المسلمون يرضون بهذا، ولا العلم ولا التاريخ يرضيان به {فَمَالِ هَؤُلاءِ
القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (النساء: ٧٨) ؟ .
أقسام الحديث:
ولننظر ماذا يوجد في الحديث، وأي مقدار منه يصلح أن يكون مجالاً للبحث
والمناقشة:
(١) لا يخفى أن القسم الأعظم من الحديث هو تاريخي، أعني أنه يشتمل
على أخبار الرسول عليه السلام وأصحابه الكرام ووقائعهم وبيان جليل أعمالهم،
وهذا القسم غير قابل للبحث والمناقشة عند كل ذي عقل سليم؛ لأنه عبارة عن جزء
من تاريخ العالم مثل سائر تواريخ الأمم، إلا أنه يمتاز عنها بصحة المأخذ، وضبط
الرواية وتسلسل الأسانيد، ومطابقتها لأصول النقد، بحيث إن هذا الوصف لا
يشاركه فيه تاريخ أمة من الأمم، لا الرومان ولا الفرس ولا اليونان ولا الهند ولا
مصر ... إلخ.
(٢) والقسم الثاني أخلاقي تهذيبي يحتوي على الحِكَم والآداب والنصائح
مثل مدح الصدق والعدل والإحسان والاتحاد والتعاون وسائر الفضائل والحث عليها،
وذم الكذب والظلم والفسق والفساد وسائر الرذائل والصد عنها، فهذه الأمور
تؤيدها الفطرة الإنسانية، وأصولها موجودة في القرآن فهل فيها شيء يستحق الرد؟
(٣) العقائد أصول العقائد مذكورة في القرآن مثل التوحيد والصفات
الإلهية والرسالة والبعث وجزاء الأعمال، ولا يوجد في الحديث الصحيح إلا ما
يؤيد هذه الأصول ويوضحها ويقررها، أو يكون من جزئياتها ونظائرها، ولا يوجد
فيها ما يكون مخالفًا لعقائد القرآن أو زائدًا عليها، بحيث لا يكون له أصل في
القرآن، وكل ما يستشكل من الأحاديث الصحيحة في العقائد تجد مثلها في القرآن،
ويجري فيها ما يجري في القرآن من التفويض أو التأويل حسب اختلاف مدارك
الأفهام والطبائع الإنسانية، فمنها ما يقبل التسليم والتفويض، ومنها ما لا يقنعه إلا
التأويل الموافق لعقله والذي يطمئن به قلبه، وأما الأحاديث التي فيها مخالفة للقرآن
أو العقل السليم فلا تجدها إلا من الموضوعات [٢] والواهيات، ومثلها لا يجوز
ذكرها فضلاً عن التمسك بها، وهذا بإجماع المسلمين، وفوق هذا العقد أجمع
المسلمون أيضًا على أن العقائد لا تثبت إلا بالقرآن؛ لأن مبنى العقائد على اليقين،
واليقين لا يحصل إلا بالوحي المتواتر وهو القرآن أو الحديث المتواتر؛ ولكن
الحديث المتواتر حسب تعريف الأصوليين وشروطهم غير موجود، فرجع الأمر في
العقائد إلى القرآن وحده، وهذا الإجماع إنما حصل لعلمهم أن الاحاديث الصحيحة
ليس فيها ما يعارض العقائد القرآنية أو يكون زائدًا مستقلاًّ عليها.
(٤) الأحكام: هذا القسم أكثره ثابت بالأحاديث المستفيضة المشهورة،
وهي ما رُويت بطرق كثيرة صحيحة؛ ولكنها لم تبلغ حد التواتر، وبعضه بالآحاد
ولكنها صحاح، وأما الاحاديث الضعيفة فقد أجمع المحدثون والفقهاء أنها لا تقبل
في الأحكام [٣] ، والمحققون لا يقبلونها في غير الأحكام أيضًا.
فأما الاحتجاج بالخبر المستفيض المشهور فلا يتصور وجود عاقل يُنكر ثبوت
الحكم بمثل هذا الخبر ولزوم العمل لمن يبلغه، وإلا بطل نظام العالم، فهذه قوانين
الحكومات، إذا نُشرت في عدة جرائد معتبرة يلزم العمل بها لكل أحد من رعايا تلك
الحكومة، ولا يسعه الاعتذار بأنها لم تبلغه بالتواتر.
وأما الآحاد الصحاح فكذلك العمل بها جارٍ في سائر أنحاء العالم إذا أتانا رجل
معتبر، وبلَّغنا أن فلانًا يطلبك فحالاً نلبي طلبه، ولا نسأله أن يأتينا بالشهود على
صحة قوله، إلا إذا وُجدت هناك قرينة مانعة عن قبول خبره فحينئذ نتثبت قبل
الذهاب.
وهكذا الأمر في الأحاديث الآحادية الصحيحة: تقبل في الأحكام ويعمل بها ما
لم يوجد أمر مانع من قبولها مثل كونها مخالفة للقرآن أو الحديث المشهور، أو
كونها متروكة العمل في زمن الخلفاء الراشدين والصحابة، ففي هذه الحالة يحق
لكل عالم أن يتوقف عن العمل بها، وأن يبحث عنها إلى أن يزول الإشكال ويطمئن
إليه الخاطر. وأما ترك العمل بالآحاد الصحاح مطلقًا من غير وجود علة مانعة من
قبولها فغير معقول ومخالف لما هو جار في سائر المعاملات الدنيوية.
السنة مأخوذة من القرآن:
على أننا نعتقد مثل كثير من العلماء المحققين أن الأحكام التي توجد في
الأحاديث الصحيحة هي مأخوذة ومستنبطة من القرآن الكريم، استنبطها النبي عليه
السلام من القرآن بتأييد إلهي، وشرح رباني، ولذلك يجب علينا قبولها والعمل بها
بشرط ثبوتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الفهم والاستنباط يسمى في
اصطلاح القرآن تارة (تبيينًا) وتارة (إراءة) قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: ٤٤) وقال جل شأنه:
{إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء:
١٠٥) .
تقصير العلماء في خدمة القرآن:
الحق يقال إن علماءنا قصَّروا في خدمة القرآن من هذه الناحية، أعني أنهم لم
يُؤلِّفوا كتبًا كافية في علوم القرآن - أعني عقائد القرآن، وفقه القرآن، وأخلاق
القرآن، وسياسة القرآن إلى غير ذلك - بل نبذوه وراءهم ظهريًّا، وصدقت علينا
الآية {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان:
٣٠) والحال أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقدمون القرآن على كل شيء في
استنباطاتهم واستدلالاتهم؛ ولكن عصرهم لم يكن عصر تدوين وتأليف ولهذا لم
يؤلفوا فيه الكتب؛ وإنما كان هذا من فرائض الذين جاءوا بعدهذم؛ ولكنهم غفلوا
عن أداء الفرض واشتغلوا بآراء الرجال والحكايات الإسرائيلية والمسائل الخلافية
والجدل، والسبب في ذلك أن القرآن الكريم ليس مرتبًا على الأبواب، فيصعب
على كثير من الناس البحث عن مطلوبهم فيه، حتى المسائل المنصوصة فيه،
فضلاً عن الاستنباط منه، والعلماء الذين ألَّفوا الكتب في أحكام القرآن أيضًا تبعوا
ترتيب التفاسير، ولم يرتبوها على الأبواب فبقيت الصعوبة كما كانت، ولما كانت
كتب الحديث والفقه والفتاوى مبوبة مرتبة انصرف الناس بسهولة إلى الأخذ منها،
وتركوا النظر والتدبر في القرآن والرجوع إليه قبل كل شيء حين الاستنباط
والاستدلال، والخلاصة أن الحاجة داعية إلى أن يوجه علماؤنا عنايتهم إلى تأليف
كتب مبسوطة سهلة مبوبة في علوم القرآن [٤] ويبينوا وجه التوفيق والارتباط بين
الآيات والأحاديث الثابتات، ويقربوها لأفهام أهل هذا العصر؛ وبذلك يخدمون
الدين خدمة كبيرة، ويكون ذلك أكبر باعث لاتحاد كلمة المسلمين، وصيانة الشبان
عن الإلحاد والمروق من الدين وما نظنهم إلا فاعلين ذلك إن شاء الله.
معنى السنة والفرق بينها وبين الحديث:
كنا عقدنا مقالنا هذا لبيان السنة والدعوة إليها؛ ولكن اقتضت الحال أن نبحث
أولاً عن الحديث الذي هو أعم من السنة، وإذ انتهى ذلك فلنبحث في معنى السنة،
ولنذكر الفرق بين السنة والحديث؛ فإن كثيرًا من الناس لا يفرقون بينهما
ويجعلونهما في منزلة واحدة، وينشأ من ذلك ضرر كبير.
الحديث كل واقعة نُسبت إلى النبي عليه السلام ولو كان فعلها مرة واحدة في
حياته الشريفة، ولو رواها عنه شخص واحد، وأما السنة فهي في الحقيقة اسم
ًللعمل المتواتر - أعني كيفية عمل الرسول عليه السلام - المنقولة إلينا بالعمل
المتواتر، بأن عمله النبي عليه السلام ثم من بعده الصحابة، ومن بعدهم التابعون
وهلمَّ جرا، ولا يُشترط تواترها بالرواية اللفظية، فيمكن أن يكون الشيء متواترًا
عملاً ولا يكون متواترًا لفظًا، كذلك يجوز أن تختلف الروايات اللفظية في بيان صورة
واقعة ما فلا يسمى متواترًا من جهة السند؛ ولكن تتفق الروايات العملية على كيفية
العمل العمومية فيكون متواترًا عمليًّا، فطريقة العمل المتواترة هي المسماة بالسنة
وهي المقرونة بالكتاب في قوله عليه السلام: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما
تمسكتم بهما: كتاب الله تعالى وسنة رسوله) وهي التي لا يجوز لأحد من المسلمين
كائنًا من كان تركها أو مخالفتها وإلا فلا حظ له في الإسلام.
مثلاً: إذا علمنا أن النبي عليه السلام من حين فُرضت الصلوات الخمس
واظب عليها مدة حياته الشريفة في هذه الأوقات المعلومة، وبهذه الهيئة المعروفة،
وكذلك الصحابة بعده، والتابعون بعدهم، ثم المسلمون إلى يومنا هذا سواء منهم
الذين وجدوا قبل تدوين كتب الحديث، والذين وجدوا بعدهم، واتفق المسلمون قرنًا
بعد قرن مع اختلاف أعصارهم وبلدانهم وأفكارهم ونِحَلهم على أن النبي عليه السلام
والصحابة كانوا يصلون خمس مرات في اليوم والليلة في هذه الأوقات المعلومة بهذه
الصورة المخصوصة وبهذه الأركان - فهذا هو التواتر العملي وإنكاره مكابرة بل
جنون.
لا يتجرأ عاقل أن يقول: إن تعيين هذه الأوقات للصلاة أو هذه الأركان، هو
من وضع المحدِّثين أو الفقهاء وقلدهم فيها المسلمون؛ لأننا لو فرضنا أن كتب الحديث
والفقه ما وجد منها شيء ففي تلك الحالة أيضًا كانت الصلاة تكون معروفة بهذا
الشكل منقولة إلينا بالتواتر العملي، وكذلك الأمر في الزكاة والصيام والحج وسائر
الفرائض والمحرمات.
وتدوين كتب الحديث إنما كان بمنزلة تسجيل لتاريخ هذا العمل
المتواتر بصورة صحيحة محفوظة، فهل هذا التسجيل لكونه وقع في القرن
الثاني أو الثالث يُسقِط ذلك التواتر العملي عن درجة الاعتبار أو ينقص من
قيمته؟ كلا بل زادت قيمته ودرجته بهذا التسجيل التاريخي الخالد الذكر العديم
المثال.
حقيقة السُّنة:
قد ظهر مما تقدم أن بين الحديث والسُّنة فرقًا كبيرًا، فالحديث هو الرواية
اللفظية لأقوال الرسول عليه السلام وأعماله وأحواله، وأما السنة فهي الطريقة
المتواترة للعمل بالحديث، بل بالقرآن أيضًا.
مثلاً ورد في القرآن الأمر بإقامة الصلاة وبين فيه بعض تفاصيلها أيضًا،
فالرسول عليه السلام صلى بموجب ذلك وقال لنا: (صلوا كما رأيتموني أصلي)
واستمر على تلك الكيفية وكذلك الصحابة فالتابعون وسائر المسلمين، وهكذا الأمر في
الصيام والزكاة والحج وسائر الأوامر القرآنية، فالصورة العملية التي رسمها الرسول
عليه السلام لألفاظ القرآن هي السنة، وهي في الحقيقة تفسير عملي للقرآن، وهي من
هذه الحيثية أعلى من الروايات اللفظية بمراتب كثيرة.
الألفاظ المرادفة للسنة:
وردت في القرآن الكريم وكلام الرسول وأقوال الصحابة كلمات أخرى مؤدية
لمفهوم السنة مثل السبيل، والصراط المستقيم، والأسوة الحسنة، وكلها تفيد معنى
الطريقة المسلوكة ومعنى الاتباع، يعني أن الطريق الذي سلكه النبي عليه السلام
وأصحابه والمؤمنون هو السنة، هو السبيل، هو الصراط المستقيم، وهذا المفهوم
هو الذي وضع له إمام أهل السنة مالك رحمه الله كلمة (الموطأ) وسمى به
مجموعة رواياته [٥] ومعنى الموطأ في اللغة الطريق الممهد الذي وطئه الناس كثيرًا،
فكأنه يعني به الطريق الذي مهده ووطأه النبي عليه السلام وأصحابه الكرام، وهو
طريق الإسلام والتفسير الصحيح للقرآن.
الكتاب والسنة:
كثيرًا ما ترد في الحديث كلمتا (الكتاب والسنة) مقرونتين كما ورد في
الوصايا النبوية الشريفة قبيل وفاته (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما
كتاب الله تعالى وسنة رسوله) فالمراد بهذه السنة المقرونة بالكتاب هو عمل
الرسول المتواتر، وطريقه المسلوك الممهَّد الذي هو التفسير العملي الصحيح للقرآن،
وليس المراد بها كل رواية رويت بالسند اللفظي! فلان عن فلان.
السنة والبدعة:
لعلك فهمت الآن حقيقة السنة التي ورد الأمر باتباعها والوعيد الشديد لتاركها
المخالف لها كقوله عليه السلام: (عليكم بسنتي) وقوله: (من رغب عن سنتي
فليس مني) فهذا الشيء أعني السنة يقابلها (البدعة) ومعناها اللغوي (الأمر
المستحدث) والشرعي ما بينه النبي عليه السلام بقوله: (من أحدث في أمرنا هذا
ما ليس منه فهو رد) وهاتان الكلمتان تستعملان دائمًا ككلمتين متضادتين؛ لأن
السنة هي الطريق الذي كان عليه الرسول وأصحابه، والبدعة هي ترك ذلك
الطريق والانحراف عنه وسلوك طريق آخر مخترع [٦] ، فلهذا كانت الأولى هداية
والثانية ضلالة.
أثر السنة في جمع كلمة المسلمين:
المسلمون متفقون في أشياء كثيرة، ومختلفون في أشياء أخرى، وهذا
الاختلاف يرجع ابتداؤه إلى القرن الأول، ولكن إذا دققنا النظر وجدنا أن المسائل
التي اختلفوا فيها هي من قبيل النظريات التي لا يمكن فيها التمسك بالشهادة العلمية،
مثلاً أكبر المسائل النزاعية بين أهل السنة والشيعة هي مسألة الخلافة هل هي
بالنص أو بشورى المسلمين؟ وأهم المسائل الخلافية بين المعتزلة والأشاعرة
والماتريدية هي رؤية الله تعالى يوم القيامة، هل تكون بهذه الأبصار أم لا؟ فهذه
وأمثالها كلها أمور نظرية، أعني أنها ليست من الأمور العملية المحسوسة، ولا
يتأتى فيها شهادة العمل [٧] ، وأما المسائل العملية كالصلاة والزكاة والصيام والحج
والجهاد فلم يختلف المسلمون فيها اختلافًا كبيرًا، والسبب في ذلك أن سنة الرسول
عليه السلام كانت دائمًا نصب أعينهم ومثلاً أعلى لهم، وهذا من الخصائص
الكبرى للإسلام.
وأما الاختلاف في مثل الفاتحة خلف الإمام، ووضع اليدين في الصلاة،
ورفع اليدين، فإذا طرحنا الغلو والتعصب من الفريقين رجع الأمر إلى المناقشة في
الأفضلية، وكذلك الأمر في المسائل الاجتهادية والأمور المتجددة في المعاملات
والقضاء والسياسة الإسلامية، فالاختلاف فيها إنما هو في اختيار الجانب الراجح
حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة وعقلية الشعوب الإسلامية.
معيار السنة والبدعة:
من القواعد المسلمة في جميع الأديان والمذاهب، أن أحسن العصور لكل دين
ومذهب إنما هو عصر صاحب المذهب نفسه، ثم عصر خلفائه وأصحابه الذين
أخذوا منه الدين ولازموه في السراء والضراء، ثم يطرأ عليه الضعف شيئًا فشيئًا
ويتسرب إليه الخلل وتختلط فيه الأشياء الدخيلة المنافية لروحه وتعاليمه - فإذا
طبقنا هذه القاعدة الكلية (التي هي موافقة للعقل وللناموس الطبيعي أيضًا) على
الإسلام وجب أن يكون عصره الذهبي الخالي عن التحريف والشوائب، هو عصر
الرسول عليه السلام وخلفائه الراشدين، فكل أمر وجدناه معمولاً به في ذلك العصر
علمنا أنه من الدين ويقال له سنة، وكل ما حدث بعده عرفنا أنه دخيل في الدين
ويُسمى بدعة، فهذا هو المعيار للسنة والبدعة، أو بعبارة أخرى لما هو من الدين
ولما ليس منه. فكل من يدعي أن الأمر الفلاني من الدين، والأمر الفلاني ليس
منه، فعليه أن يزن دعواه بهذا الميزان ويثبت أن الشيء الذي يزعم أنه من الدين
كان موجودًا في زمن الرسول وأصحابه، وأن الشيء الذي يعده دخيلاً فيه لم يكن
في ذلك العصر.
مثلاً: ادّعت طائفة في زماننا أن الصلوات المفروضة على المسلمين في
اليوم والليلة إنما هي مرتان أو ثلاث، وأن طريقة الصلاة كذا وكذا لا كما يصليها
المسلمون، فالواجب على هؤلاء أن يثبتوا أن النبي عليه السلام وأصحابه ما كانوا
يصلون في اليوم والليلة إلا مرتين أو ثلاثًا، وأنهم ما كانوا يصلون إلا بالطريقة
التي يدعيها هؤلاء، وأنه بعد تدوين كتب الحديث صار المسلمون يصلون خمس
مرات، وزادوا فيه كذا وكذا من الأركان تبعًا للمحدثين والفقهاء، فإن لم يستطيعوا
إثبات ذلك - ولن يستطيعوه إلى يوم القيامة - يكون مآل دعواهم أن النبي عليه
السلام أخطأ في فهم الوحي الذي أُنزل عليه (حاشاه من ذلك) وأن هؤلاء الأعاجم
الجهلة وفقوا لإصلاح ذلك الخطأ وبيان الصواب، فهل يمكن لمسلم، بل لعاقل أن
يتفوه بهذا الكلام الجنوني؟ أعاذنا الله من ذلك.
اشتقاق كلمة السنة:
زعم بعض الجهلة من أعداء السنة أن كلمة السنة مأخوذة من كلمة (مسناة)
العبرانية، وعلل دعواه بأنه كما أن اليهود تركوا التوراة وعملوا بمجموعة الروايات
الإسرائيلية وسموها (مسناة) فكذلك المسلمون لما تركوا القرآن وعملوا بالأحاديث
اشتقوا لها اسمًا من (مسناة) اليهودية وسموها (سنة) ، وهذا زعم باطل، وادعاء
فاسد، ويكفي في الرد عليه أن كلمة السنة وردت في القرآن الكريم في مواضع
متعددة بهذا المعنى، أعني معنى العادة والطريقة المستمرة مثل قوله تعالى في سورة
الإسراء: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} (الإسراء: ٧٧) وقوله في
سورة الحجر: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} (الحجر: ١٣) وفي سورة فاطر:
{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: ٤٣)
فالمسلمون اقتبسوا كلمة السنة من القرآن وخصصوها في الاستعمال بسنة الرسول
وأصحابه.
هذا ما أردنا بيانه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى
على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
تعليق المنار:
نشكر لصديقنا العلامة السيد سليمان الندوي هذا المقال النفيس في الرد على
أعداء السنة المبتدعين، وهذه البدعة قديمة العهد؛ ولكن لم نعلم أنها صارت مذهبًا
يُدعى إليه في الهند إلا من مقاله هذا، وقد كنا فتحنا باب المناقشة في هذه البدعة
في المجلدين التاسع والعاشر من المنار أي منذ سنة ١٣٢٤ (الموافق سنة ١٩٠٦م)
فكانت موضوع مناظرة، وكان حكم المنار فيها في الجزء ١٢ من ذلك المجلد أن
الإسلام هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومما قلناه في الحكم
(وإنما السنة سيرته صلى الله عليه وسلم في الهدي والاهتداء بالقرآن، وهو أعلم
الناس به وأحسنهم هديًا، وإطلاقها على ما يشمل الأحاديث اصطلاح حادث، إلى
أن قلنا: فما مضت السُّنة على أنه حتم في الدين فهو حتم، وما مضت على أنه
مستحسن مخير فيه فهو كذلك في الدين، وفصَّلنا ذلك ثم أعدنا هذا البحث مرارًا
آخرها ما نشرناه في فتاوى الجزء السابع من المجلد التاسع والعشرين) .
ومن الغريب أننا نرى أمم العلم والحضارة تعنى بحفظ ما يُنقل عن علمائها
وأدبائها في التشريع والحقوق والحكم والآداب، ويفاخر بعضها بعضًا بهم وبآثارهم،
ونرى هؤلاء المخذولين من مبتدعة المسلمين لا يكتفون بهضم حقوق علماء ملتهم
ومؤسسي حضارتها ومجدها بالعلم والعمل والسياسة والآداب، بل ينبذون سنة
الرسول الذي يدَّعون اتباع ملته وما روى سلفهم عنه من التشريع والحكم والآداب،
ومنهم من يدَّعي اتباع سنته العملية التي تلقاها عنه أصحابه بالعمل دون ما ثبت
عنه بالأحاديث القولية، وإن كانت صحيحة المتون والأسانيد لا يعارضها معارض
من القرآن ولا قطعي آخر يثبته العلم والعقل، ويدَّعون أنهم يتبعون نصوص
القرآن كأن فهمهم وبيانهم له وحرصهم على العمل به فوق فهم من أوحي إليه وكلفه
الله تعالى بيانه بالقول والعمل، وعصمه من الخطأ في كل ما يبلِّغه عنه من
نصوصه، ومن المراد منها أي من كل ما هو دين وشرع.
وإذا كان السيد الندوي يعجب من صدور هذا الضلال عن بعض الأعاجم في
الهند، فنحن أحق بالعجب منه عندما نرى بعض هؤلاء المعادين لهديه صلى الله
عليه وسلم من الناشئين في البلاد العربية الذين تلقوا شيئًا من فنون لسان العرب
كان يجب أن يكونوا به أصح فهمًا للقرآن من أولئك الأعاجم الذين عناهم أخونا
السيد الندوي، وأغرب ما رأيناه من تأويل هؤلاء لآيات القرآن بما تتبرأ منه لغته،
وما مضت به السنة النبوية وإجماع الأمة سلفها وخلفها من قول وعمل - هو زعم
بعضهم أن القرآن يدل على بطلان التسري، وتأويله بل تحريفه لمثل قوله تعالى:
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: ٣) وقوله:
{وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن
فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ} (النساء: ٢٥) بأن المراد بما ملكت الأيمان الخوادم الحرائر! !
ونحمد الله تعالى أنه لم يوجد في هذه البلاد أتباع لهذا الرجل كما وجد أمثاله في
الهند في هذه الأثناء، ومن قبلها حين قام مرزا غلام أحمد القادياني يدَّعي أنه هو
المسيح، وحرَّف الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بما تتبرأ منه اللغة العربية
حقيقتها ومجازاتها وكناياتها.
وقد علم الأستاذ الندوي وغيره أنه كان قام في هذه البلاد من زعم أن الإسلام
الذي يجب على الناس الاهتداء به هو العبادات فقط، أي كما يفهمه هؤلاء المبتدعة
الذين لا يقيم أكثرهم لها ركنًا، وأما ما في القرآن والسنة من الشرائع والأحكام
السياسية والاجتماعية والمدنية والعقوبات فلا يوجب الله - بزعمه - عليهم اتباعها! !
بل يبيح لهم أن يتبعوا أي قانون بشري يخالفها.
والذي نعلمه بالاختبار أن بعض هؤلاء الدعاة إلى هدم الإسلام جاهل غبي قد
فتن بحب الظهور، وبعضهم ملحد يدعو المسلمين إلى الإلحاد لهوى في نفسه، أو
خدمة لبعض الدول الطامعة في بلاد الإسلام واستعباد المسلمين، التي علمت
بالاختبار أنهم لا يقبلون الاستعباد ما داموا مستمسكين بعروة الإسلام دين السيادة
والعزة والملك، الذي نسخ جميع الشرائع وجعله الله الدين الأخير الكامل للبشر كلهم
إلى أن تقوم الساعة، فيجب على جماعة المسلمين في كل قطر أن يقيموا الحجج
المعقولة على ضلالة جميع هؤلاء المبتدعة ووجوب الاعتصام بكتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي سلف الإسلام الصالحين، وعدم الاعتداد بإسلام
من لا يهتدي بالسنة، ولا بمن يحرِّف القرآن بتفسير يخالف قواعد اللغة
وضروريات الدين وإجماع السلف الصالحين؛ فإن غايتهم أن لا يبقى من الإسلام
شيء، خذلهم الله أجمعين.