للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مصر والحجاز
ومفسدة عالم جريدة الأهرام

كل مسلم مخلص لدينه في الحجاز ومصر يتمنى الاتفاق والاتحاد والتعاون
بين حكومتيهما، وكذلك غير المسلمين من سكان مصر المخلصين لها يتمنّوْن ذلك،
وقد أظهرت هذا التمني جميع الجرائد المصرية المعتبرة وأكثرت من التساؤل عن
المانع للحكومة المصرية من الاعتراف بحكومة الحجاز السعودية، وقد اعترفت بها
الدول الأوربية العظمى والدول الشرقية وهي التركية والإيرانية والأفغانية وآخرها
العراقية.
بعد هذا كله رأينا مقالاً كليالي الشتاء في ظلمتها وبردها وطولها يُنشر تباعًا
في أعداد الشهر الماضي من الأهرام بإمضاء (عالم حاج) يشهد على كاتبه بأنه
جاهل لا عالم، ومنافق لا صادق، وأما وصف نفسه (بحاج) في غير زمن الحج
فلا معنى له ولا وضعه في الإمضاء مما يجعل شبهاته حججًا، بل مقاله حجة على
أنه ما حج إذ سافر إلى الحجاز ولكن حجت العير، وما كل من حج بيت الله مبرور.
من أدلة جهله بعقائد الإسلام، وبسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، جعله
بدعة (المحمل المصري) من شعائر الإسلام، وإباحته لحرس المحمل ترك لباس
الإحرام، وحمل السلاح بمكة وغيرها من الحرم بغير ضرورة، بل مع ما علم من
إثارة أمير الحج لتلك الفتنة؛ ولكن مع جهله طبعًا بما رواه مسلم في صحيحه من
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح) وما في معناه.
وأما الدليل على نفاقه وابتغائه الفتنة بين الحكومتين، فهو تذكيره للحكومة
السعودية بما كان من قتال محمد علي باشا لسلفها في الحجاز، ثم في نجد وتهديدها
بإعادة هذه الحرب سيرتها الأولى، مع علمه أو جهله بعدم إمكانها، وبأنها إذا
أمكنت كانت أعظم الشرور والمفاسد بين المسلمين، وكانت ثمرتها للأجانب غير
المسلمين، وأولهم الإنكليز المحتلون لمصر المانعون لها من استقلالها ومن إنشاء
قوة تدافع بها عن نفسها، فمَثَل (عالم الأهرام وحاجها) فيما نشرتْه له - وهي أعلم
منه بأنه مفسدة - كَمَثَل ذلك المفسد الذي كان يكتب لها المقالات بإمضاء (عربي
مطلع) في تأييد خروج فيصل الدويش على إمامه وملكه، والتوسل به إلى الصد عن
الحج، ثم تبين كذبه في كل ما كتبه.
كنت شرعت في كتابة رد مفصل على مقالة (عالم حاج الأهرام) لتُنشر في
بعض الجرائد اليومية لإزالة ما يمكن أن يكون لها من الأثر الإفسادي السيئ في
أنفس بعض العوام، ثم كففت عن إتمامه لأنني رأيت أن بسط الحقائق فيه قد يسوء
أناسًا لا نحب أن نسوءهم، وأن الإمساك عن نشرها قد يكون أرجى لنجاح السعي
في التوفيق والتأليف بين الحكومتين.
ولكنني أشير عن بُعد إلى مسألة تكلم فيها بغير علم غير هذا (العالم الحاج)
ممن لا نتهمهم بمثل ما نتهمه به من سوء النية، وهي المن على الحجاز وحكومة
الحجاز وأهل الحجاز بإحسان حكومة مصر، وتفضلها عليهم قديمًا وحديثًا
بالصدقات والمبرات والإحسانات التي منها كسوة الكعبة المعظمة والتكيتان اللتان
تطعمان بعض الفقراء في البلدين المكرمين.
ربما يجهل بعض هؤلاء ما لا يجهله (عالم الأهرام وحاجه) من أنه ليس
لحكومة هذا العصر منة على بيت الله، ولا على حرمه وحرم رسوله ولا على أهلهما
فضلاً عن حكومتهما، بل هذه الحكومة المصرية هاضمة لحقوق شرعية موقوفة على
ما ذكرنا من الملوك السابقين وغيرهم من أغنياء المسلمين تقربًا إلى الله تعالى - فهي
لا تؤدي منها إلا قليلاً من كثير (أو من الجَمَل أُذُنُه كما يقول المثل العامي) .
إن هذه الحكومة تتصرف بألوف الجنيهات من ريع أوقاف الحرمين الشريفين
فتنفقها في مصر وغير مصر من دون الحجاز، ومن هذا التصرف ما يعده الناس
في محله، ولو كان من جيوبهم أو من الأوقاف الخيرية المطلقة التي ليس لها جهة
صرف معينة، ومنها ما يعدونه في محله بصرف النظر عن كونه من أوقاف
الحرمين، ولا نعرف منها إلا صرف خمسة آلاف جنيه من أوقاف الحرمين
للمساعدة على عمارة المسجد الأقصى.
إن حكومات مصر الأخيرة قد أضاعت كثيرًا مما وقفه المحسنون من أغنياء
مصر وغيرهم على الحرمين الشريفين، وما بقي معروف وضبط حسابه بالنظام
العصري لايؤدى كله إلى الحرمين، ولو كان الواقفون له أحياء لما استباحوا
لأنفسهم إيذاء جيران الله وجيران رسوله بالمن عليهم به؛ لأنه إنما وقف قربة
واحتسابًا لوجه الله تعالى، فكيف يستبيح هذا المن والأذى لله ولرسوله ولجيرانهما
من لا حظ لهم من هذا البر إلا كراهته وحض الحكومة على منعه وتهديد أهل
الحرمين بذلك؟
من شاء أن يعرف شيئًا عن الكسوة الشريفة وما وقف عليها، وعن بدعة
المحمل ومفاسدها فليراجع كتاب (مرآة الحرمين) لأفضل من تولى إمارة الحج من
قبل حكومتنا المصرية في عصرنا هذا، وهو اللواء إبراهيم رفعت باشا، ومنه يُعلم
أن هذه الأوقاف الواسعة قد ذهب أكثرها ...
كان أكبر خطأ جناه عبد الخالق ثروت باشا على مصر منعه إرسال كسوة
الكعبة المشرفة إلى مكة المكرمة وحرمان مصر من هذا الشرف العظيم لها ولجلالة
ملكها الذي تطرز الكسوة باسمه، وإلجاؤه ملك الحجاز إلى إنشاء دار جديدة لنسج
الكسوة فيها، فأحسن إليه من حيث أراد أن يسيء، وأغرب من جنايته هذه اعتذاره
عنها في مجلس النواب بأنه خشي أن لا تقبلها الحكومة السعودية، وتعتذر عن ذلك
بأن الوهابيين يعدونها بدعة كالمحمل، وأغرب من هذا الاعتذار قبول المجلس له
بعد العلم بأن ملك الحجاز صرح رسميًّا بقبول الكسوة إذا أرسلت، ومع علم الكثير
من أعضائه بأن كسوة الكعبة قديمة لا يقول الوهابيون ولا غيرهم ببدعيتها، وأن
المحمل بدعة سيئة ابتدعتها شجرة الدر لا يختلف عالمان بقبحها، وإن استحسنها
عالم الأهرام وحده.