للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد بسيوني عمران


الكتابة بالحروف اللاتينية في جاوة

جاءنا من الأستاذ صاحب الإمضاء من جزيرة (سمبس برنيو) في جاوة ما
يأتي:
إنني لا أعلم ما فائدة استعمال الدولة التركية الكمالية للحروف اللاتينية، أو
استبدالها لها بالحروف العربية في كتابة لغتها، ولعلها ترى أن تعلم الكتابة
بالحروف اللاتينية أسهل من تعلمها بالحروف العربية، وإننا نكتب لغتنا الملاوية
بالحروف العربية واللاتينية معًا؛ ولكن استعمال اللاتينية الآن في جزائر جاوة
وسومطرة وبورنيو من المستعمرات الهولاندية أكثر من استعمال الحروف العربية
(الملاوية) تبعًا للحكومات الهولاندية والتجار الأجانب؛ ولهذا لا تجد جرائد
ومجلات هذه الجزائر الملاوية مكتوبة بالحروف العربية (الملاوية) إلا قليلاً جدًّا
بالنسبة إلى الجرائد والمجلات التي تُكتب بالحروف اللاتينية.
وأما فوائد استعمال الحروف اللاتينية عندنا، فمنها أن لغتنا الملاوية يعرفها
الملايين ممن ليسوا من أهلها كالأوربيين (لا سيما الهولانديين والإنكليز)
والصينيين وغيرهم، وأنها يُتَخَاطب بها فيما بيننا وبينهم من أمور الحكومات
والتجارات وغيرها، وهم لا يقرءون ولا يكتبون اللغة الملاوية إلا بالحروف
اللاتينية، ومنها أننا إذا أردنا أن نُفهمهم حقيقة الدين الإسلامي، وأن نبين لهم آدابه
ومحاسنه بالكتابة مثلاً، فلا يفيدهم ذلك إلا باستعمال الحروف اللاتينية فيها؛ ولهذا
طبعوا ترجمة تفسير سورة (والعصر) للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده باللغة
الملاوية، وترجمة سورة (الفاتحة) من تفسير المنار بالحروف اللاتينية، وأظن
أن ذلك بأمر الأستاذ الشيخ أحمد سور كتي زعيم الإرشاديين في جاوة، وهل توجد
مثل هذه الفوائد عند الدولة التركية الكمالية باستعمال الحروف اللاتينية في كتابة
لغتها؟
ومع ذلك أقول: إن ضرر استعمال الحروف اللاتينية دون العربية (الملاوية)
ظاهر بيِّن بسوء تأثير الاستعمار الذي أحاط بالبلاد من كل جانب، فإن من تعلموا
في مدارس الدولة الهولاندية قلما يكتبون لغتهم الملاوية بالحروف العربية (الملاوية)
وهم أكثر من يقرؤون ويكتبون، بل يكتبون ويقرؤون باللاتينية، وإن كانوا
يعرفون الملاوية، ولو تركت الحروف العربية الملاوية بالمرة كتابة وقراءة لكان
ضرره أكبر على أهل ملايو؛ فإن جميع الكتب الدينية والآداب المحمدية وغيرها
مطبوعة بالحروف العربية (الملاوية) وأن اللغة العربية يتعذر أن تكتب باللاتينية
إلا قليلاً، فكيف تكتب إذن آيات القرآن والأحاديث النبوية باللاتينية؟ ثم إن ذلك
خسران عظيم على أهل ملايو؛ فإنه يضيع عليهم علم ورثوه من آبائهم الأولين،
وهو علم الكتابة بهذه الحروف العربية (الملاوية) الذي هو من أكبر العلوم، وبه
يخرج الإنسان من الأمية.
هذا وإني أرى أنه ينبغي لنا أهل ملايو أن نعرف ونستعمل الحروف اللاتينية
في ضرورياتنا كما نعرف ونستعمل الحروف العربية الأصلية والملاوية؛ ولكن لا
يحسن، بل لا يجوز لنا أن نترك الحروف العربية (الملاوية) مستبدلين اللاتينية
بها، كما لا يحسن لنا أن نستعمل الملاوية فقط دون اللاتينية؛ فإن ذلك ضروري
لبعض أمورنا الدنيوية التي تكون عونًا لأمورنا الدينية، وخير لنا أن نأخذ عن أهل
أوربا أو غيرهم ما هو نافع لنا في ديننا ودنيانا، وأن نترك ما هو ضار لنا في
ديننا ودنيانا.
سمبس ١٤ رمضان سنة ١٣٤٨ الموافق ١٣ فبراير سنة ١٩٣٠
... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران

(المنار)
ما كان لكاتب هذه الرسالة، وهو ممن يقرءون المنار منذ سنين
كثيرة أن يظن أن الترك الكماليين قد آثروا الحروف اللاتينية على الحروف العربية
في كتابة لغتهم لأجل سهولة التعليم بها، فقد بيَّنا في المنار أن سبب هذا الإيثار
إبعاد شعبهم عن دين الإسلام، وقطع كل صلة كانت تربطهم به مهما يكن في ذلك
من المضار الأخرى كإضاعة ما تعب فيه علماؤهم وأذكياؤهم في ترقية هذه اللغة،
وتأليف المصنفات الكثيرة بها في جميع العلوم والفنون العصرية في مدة ثمانين سنة،
ودفن الدفاتر والسجلات الكثيرة التي تحفظ تاريخهم السياسي والاجتماعي
والحربي، ومحاولة ما لا يستطيعون من خلق شعب جديد ملحد بما يشبه التكوين
الذاتي الذي لا ثبوت له في أي نوع من أنواع الحيوان أو الحشرات، ليس له من
العلاقة بالماضي إلا لفظ (تورك) والحروف اللاتينية لا تعبر عن لغتهم تعبيرًا
صحيحًا، فهي مضيعة لها لا مسهلة لتعلمها، والأمر على خلاف ذلك في لغة
الملايو، وإننا نجزم مع هذا بأن أهل هذه اللغة إذا عملوا برأي الكاتب في الجمع
بين كتابتها بالحرفين العربي واللاتيني فإنه ينتهي الأمر بإماتة الثاني للأول،
ويضيعون دينهم الذي هو خير لهم في الدنيا والآخرة من لغتهم بأي حرف كُتبت،
وما ذكره من فائدة نشر الدين وغيره مما يريدون إطلاع حكامهم وغيرهم عليه فهو
يحصل بقيام أفراد به في كل مدينة كبيرة، ولا يتوقف على تعليم هذه الحروف
لجميع أولادهم، نعم إذا كان يمكنهم أن يجعلوا تعليم اللغة العربية إجباريًّا ويعمموها
فإن كتابة الملاوية حينئذٍ بالحروف اللاتينية لا تضرهم، فليتدبروا الأمر قبل أن
يغلبوا عليه.