للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة المجلد الحادي والثلاثين

بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ
عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: ٤٦) .
{وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل: ٩٣) {وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ} (القصص: ٧٠) .
لبيك اللهم ولك الحمد كما تحب وترضى، وصلواتك الطيبات، وتحياتك
المباركات الزاكيات، وصلاة ملائكتك المقربين وعبادك المؤمنين على رسولك
محمد خاتم النبيين، الذي أرسلته رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، أُولي قرابته
وقربه، وعلى التابعين لهم في طاعته وحبه، واتباع سُنته في بيان كتاب ربه،
على ما نقلوه لنا عنه من قول وعمل، وفضيلة وأدب، وتشريع وحكم.
أما بعد:
فإنني أُذكِّر قراء المنار في فاتحة مجلده الحادي والثلاثين، بنحوٍ مما كنت
أذكرهم به فيما سلف من السنين، من حظ المسلمين من الإسلام وأثر الإسلام في
المسلمين، ولا سيما حال ملاحدتهم ومبتدعتهم، وفساقهم وظلمتهم، وجامديهم
ومقلدتهم. وقد كان من قدر الله تعالى أن ألممت في فاتحة المجلد الثلاثين بشيء من
دعاية التجديد الإلحادية. ومفاسد فوضى النساء الشهوانية، ثم كان أن اصطدمت
بالفريقين في أثناء تلك السنة بالمناظرة والمحاضرة، فكانت الحجة والغلب لهداية
الإسلام، وظهر ذلك للخاص والعام، وعلمنا به أن ما كانوا يذيعونه عن شباب
مصر وسائر نابتة العصر، من انسلاخهم من وجدان الدين، واتباعهم غير سبيل
المؤمنين، وانتظامهم جندًا خاضعًا لدعاية الإلحاد، وقيادة الإباحة والفساد - إنما هو
زور وبهتان، وإرجاف وإيهام، فقد نصر جمهورُ طلبة الجامعة المصرية داعية
الإسلام نصرًا عزيزًا، واقترحوا عليه أن يكتب مقالات في بعض الجرائد اليومية
يفصِّل بها ما أجمل في مناظرة الجامعة تفصيلاً، فكتبنا في جريدة (كوكب الشرق)
مقالات تجاوزت جمع القلة إلى جمع الكثرة، فكان لها ما كان من حسن التأثير في
الأمة، ولم يرتفع للملحدين والإباحيين في الرد عليها صوت، على ما حذقه أكثرهم
من خلابة المِراء وسخف القول. وإن لها لبقية، ستكون إن شاء الله تعالى راضية
مرضية.
بيد أن ريح الطيش طارت بلب داعية قبطي منهم كان أول مَن عاب الإسلام،
وقال بتفضيل الذكور على الإناث في الميراث، ودعا المسلمين إلى نبذ الفرائض
المقررة في نصوص القرآن، فلم يجد حيلة في مقاومتنا إلا إثارة العصبية الجنسية
الفرعونية. ودعوة المصريين كافة إلى ترك قراءة كل ما يكتبه مَن لا يجري في
عروقه الدم المصري الفرعوني، ولا سيما مَن كان من أصل سوري، كأنه لغروره
بقبطيته يتوهم أن مسلمي مصر كلهم يفضلون نسب فرعون - الذي لعنه الله ولعن
آله وقومه في كتبه، وعلى ألسنة رسله - على نسب سيد ولد آدم، وأكمل مصلح
ظهر في العالم، وهو محمد رسول الله وخاتم النبيين، الذي تعبَّدهم الله تعالى
بالصلاة عليه وعلى آله الطاهرين، كما تعبَّدهم بلعن فرعون وقومه الوثنيين،
بقوله تعالى بعد ذكر غرقهم وعاقبة ظلمهم {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ
القِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُم مِّنَ المَقْبُوحِينَ} (القصص: ٤١-٤٢) .
ولو شئنا لأثرنا عصبية إسلامية على هذه العصبية الفرعونية فاجتاحتها وكان
أهلها الخاسرين، ولكننا نكرم أنفسنا عن مثل هذا السلاح، ومن العجيب أن أعداء
الدين الذين يزعمون أن التعصب له هو الذي يفرق بين أهل الوطن - يستبيحون
التفريق والتعادي والتخاصم بالتعصب للجنس والنسب؛ لأنهم لا يكرهون شرور
العصبيات وضررها، وإنما يكرهون مثارها من النفس وسببها، كأنهم يكرهون
الغرائز والعقائد الدينية الإسلامية - وهي وجدانية اضطرارية - دون المفاسد التي
تتولد من الغلو والإفراط فيها وهي اختيارية. وأما نحن فنكره سوء استعمال الغرائز
والأديان، الذي هو كسوء استعمال العقل والجوارح والحواس. ويرى جماهير
المسلمين في مصر أن القبط قد أسرفوا في تعصبهم الملي، واستغلال نفوذهم في
الوفد المصري، فصبر الأكثرون عليهم صبر الكرام، حرصًا على الوحدة السياسية
أن يصدعها الانقسام، وإن تصدى خصوم الوفد منهم لإثارة النعرة الإسلامية عليهم
وعلى الوفد بغضًا في الوفد لا تمسكًا بالإسلام، ونحن نربأ بنفسنا أن تعبث بها هذه
الأهواء، وإنما هذه كلمة قد حبذها الاستطراد.
بيد أن الذي أتأياه في هذه الفاتحة، وأذكِّر بخطره الأذهانَ الغافلة، هو أن
أنصار الجمود والبدع المأوفة، وحماة التقاليد المألوفة، ممن سماهم الأستاذ الإمام
(حملة العمائم وسكنة الأثواب العباعب) قد أثار بعضهم في هذا العهد عصبية
مذهبية هي أضر على المسلمين من أثرة القبط عليهم في مصالح الحكومة، ومن
فريقي المبشرين والملاحدة. فإن انتصارنا على هذين الخصمين بالحجة والبرهان
يفهمه ويغتبط به جميع طبقات المسلمين من الخواص والعوام.
وأما انتصارنا على أولئك بآيات كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وسيرة السلف الصالح فلا يعقله إلا من أوتي من سلامة الفطرة واستقلال الفكر ما
كان به ممن قال الله تعالى فيهم {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: ١٧-١٨) ولا
يزال أكثر طلاب العلوم الشرعية على الطريقة التقليدية يطلبون معرفة الحق بشهرة
قائله، أو سعة جبته وشكل عمامته، أو بلقبه الوهمي، أو بمنصبه الرسمي، وهم
ينفرون من الدليل ومن صاحبه، ويسيئون الظن به.
وقد كان طلاب الإصلاح الإسلامي يسمعون من هؤلاء الجامدين ومن
المبتدعين أذًى كثيرًا ويصبرون عليهم، إذ يرون أن مبلغ أذاهم لا يعدو بطء
انتشار الإصلاح فيمن حولهم، ويسُرّ الذين يعرفون تاريخ الأمم والملل أن مقاومة
الإصلاح في تاريخ الإسلام أضعف من مثلها في تاريخ النصرانية، ويحمدون الله
تعالى أن الجامدين من كبار علماء الدين الرسميين لم يبلغ منهم الجمود أن يتصدى
أحد له قيمة منهم للكتابة والنشر في الرد على دعاة الإصلاح المستقلين، ذلك بأنهم
يعلمون أنهم يدعون إلى حق وخير وهو الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم في الدين على منهج السلف الصالح الذين هم خيار هذه الأمة، والأخذ
في مصالح الدنيا بما ثبت للبشر نفعه بالتجارِب الفنية والعملية، مع مراعاة القواعد
الشرعية، وإنما يمتعضون من هذه الدعوة لأمرين:
(أحدهما) خشية إفضاء الاستقلال في فهم الدين إلى الخروج عن المذاهب
المتبعة إلى دعوى الاجتهاد المطلق، ولا يتسع هذا التذكير لبيان مثار هذه الخشية
من النفس وما لها من الهوى فيها.
(وثانيهما) أن هذا تجديد في الإسلام تخرج به الزعامة الدينية من عهدتهم
لعدم استعدادهم للنهوض به، وعجزهم عن تولي القيادة في ميدان جهاده، وأذكّّرهم
بما بينته مرارًا من التفرقة بين الاجتهاد المطلق بوضع مذهب جديد، والاستقلال
في العلم واتباع السلف في هداية الدين.
ولكن نجم في هذه السنين الأخيرة رجل من أعداء السنن، كما ينجم قرن
المعز، لم يلبث أن تصدى لنطاح صخرة هداية السنة النبوية والسيرة السلفية،
دون غيرها من المقاصد الإصلاحية، وهو شيخ تركي لا ندري أكان من أولئك
الجامدين الذين فتنوا رجال الدولة العثمانية عن الدين بتعصبهم لتقاليد كتب الحنفية،
فصدوا أولئك السياسيين عن أصل الملة الحنيفية، أم هو دسيسة كمالية يبغي بها
الكماليون مقاومة حركة الإصلاح الإسلامية، التي تقاوم دعاية التفرنج الكمالية؟ !
بدأ هذا التركي نطاحه للسنة وحُفَّاظها بدسائس ببثها في حواشي المطبوعات
من كتبها، التي يتَّجر تلميذ له من الأغرار بطبعها، ثم بث دعايته في الأزهر
فاستمال لمشايعته عليها عالم من أشياخه المشهورين، كان في موقف التجاذب
والتدافع بين الجامدين والمجددين، حتى كان بعض تلاميذه وأصدقائه يرجون أن
يخلف الأستاذ الإمام في ناحية من نواحي خدمته للإسلام، فخابت فيه الآمال.. أو
يعود إلى الاعتدال.
كان الشيخ التركي أحذق من الشيخ المصري في الصد عن السنة وحفاظها،
وعن مذهب السلف وأنصاره. فإنه سلك فيه مسلك الدسائس السياسية، وقدر السير
فيها مراحل كالمراحل الكمالية في هدم الشريعة الإسلامية، فبدأ هو بالطعن على
بعض حفاظ السنة المشهورين، وتفضيل أهل الرأي على أهل الحديث، وسخَّر
الشيخ المصري للجهر بما لم يتجرأ هو على الجهر به من مناجزة المعاصرين،
واستدرجه إلى كتابة شيء جهر فيه بالنيل من شيخ الإسلام، وهجر بغميزة الأستاذ
الإمام، ونشره له مطبوعًا باسمه، ولعله فعل ذلك بدون إذنه، ليجعله دريئة له في
ميدان الجدال، ومِجَنًّا يتقي به في معارك النزال.
لا خوف اليوم على مذهب السلف من سيف هذا التركي ولا من مِجَنِّهِ. وقد
أعلى الله مناره، وأعز مهاجرته وأنصاره، وأنشأ له دولة، وجعل له صولة،
فتعددت جمعياته وصحفه، وكثرت رسائله وكتبه، فتضاءلت أمامه التأويلات
الكلامية والتقاليد الخرافية، ولا خوف على طريقة الأستاذ الإمام في الإصلاح،
بعد أن اتفقت الكلمة على إمامته، وانكشفت بموته الحجب التي كانت مضروبة أمام
جلالته، من استبداد أمير، وحسد شيخ كبير، وتقليد غر جاهل، وحقد غمر
متجاهل. وإن ظهر أن لحسد بعض الأشياخ بقية في الزاوية، أخرجها منها ذلك
التركي الداهية، وسنفرُغ في هذا المجلد لرد هذا الهجوم ببيان بطلانه وضرره في
الإسلام والمسلمين في هذا العصر، الذي يهاجم الإسلام جيشان قويان من جحافل
الكفر أقواهما جيش الملاحدة الذين صار لهم دولة، وإن كانت واحدة، وأضعفهما
جيش المبشرين وإن كان لهم دول متعددة، فيجب على أهل العلم وحملة الأقلام من
المسلمين الاتحاد والتعاون للجهاد في هذه السبيل سبيل الله، بدلاً من إضعاف
الإسلام بالتعصبات المذهبية التي كانت أضر عليه في عهد قوته من كل أعدائه من
الكفار. فكيف يكون ضررها الآن؟ ! .
وقد كان من حكمة الله في تقديره ولطفه في تدبيره أن بلغنا عند كتابة هذه
الفاتحة الكلام على تأسيس جمعية العروة الوثقى من تاريخ الأستاذ الإمام الذي
ألجأتنا أحداث السياسة إلى تأخير نشره إلى هذا العام. فرأينا أن ننشر لقراء المنار
بعض تعاليمها السرية؛ لأنها قد صارت من الحوادث التاريخية، فهي أفضل أطوار
الإصلاح الذي نتخوَّلهم به في هذه الفواتح، وخير صدمة لتقحم الجامح، وتهجم
الطامح، وهذا نصها:
بعض الأصول العملية
لأعضاء جمعية العروة الوثقى السياسية
العقد الرابع للعروة الوثقى:
(١) ينعقد بثلاثة يقسمون اليمين المعهود.
(٢) مذاكرة المجتمعين عند الالتئام المعتاد تكون في أمور: التذكير بآيات
الله - النظر في حالة الإسلام عند بدئه وما كان عليه النبي وخلفاؤه فقط - البحث في
السبب الذي امتدت به سطوة الإسلام حتى صال على جميع الأديان وكان يبتلعها في
زمن قصير - كيف انقلب الحال وآل إلى ما نراه؟ .
(٣) يلاحظ كل باحث أن ذاته في موضوع البحث فيطلب العلة من نفسه
قبل أن يطلبها في غيره، ويقارن بين حاله وحال السلف بوجه الدقة والإنصاف.
(٤) مدارسة أحكام الجهاد وحقوق المسلم وما هو مكلف به في معاملة غيره
وما يُفرض عليه إذا زحف الأعداء لخضد شوكة الإسلام.
(٥) النظر في حال المسلمين لهذا الوقت أخذًا من أقوالهم وأعمالهم للوقوف
على إحساسهم الديني ومقدار الداعية الاعتقادية ليعلم الداء ويعالج بالدواء اللائق به.
(٦) كتب كل فكر وتدوينه مفصلًا ثم مجملاً مع ما تستقر عليه الآراء.
(٧) العمل في الدواء بالقول (ومنه الكتابة والتأليف) وبذل المال في
مساعدة من يقوم بنصر الدين وحمل السلاح للمقاتلة بين يديه عند المُكنة.
(٨) كل واحد من أهل العقد مكلف بالعمل وإعداد أسبابه وما لا يتم إلا به،
وبدعوة الناس إلى عقده والارتباط به؛ مع الاحتراس التام من كل ما يفيد أن هناك
عقدًا، والثقة بمريد الانضمام إنما تتحقق عند اتفاق آراء أهل العقد عليها.
(٩) يكون معظم الاهتمام بضم الصالحين للأمر من ذوي المكانة على
اختلاف طبقاتهم من علماء وأمراء ورؤساء عشائر وغيرهم. وفريضة كل منهم أن
يعمل للإسلام فيما خوله الله.
(١٠) في كل حالة يراعى تمكين الفكر وتأسيس الارتباط حتى يكون عند
كل واحد أن مصلحة الكل بمنزلة الشخص أو أعلى، ولا يُقبل قول من قائل حتى
يكون عمله أزيد من قوله أو مساويًا. العمل: بذْل المال والروح، والأول أقرب
الدليلين.
(١١) على أهل العقد أن يرسلوا رسلاً إلى نواحي الوطن الحالِّين به وإلى
المواطن المستعدة من غيره؛ متى أمكنهم ذلك.
(١٢) لا يكون الشخص رسولاً حتى يكون سير العقد ملكة راسخة فيه،
ويكون على قدرة كاملة في تصريف القول، وتوفيق النصح مع طباع المنصوحين
وحالة السلطة العارضة عليهم، فيكون حكيمًا في عمله لا يحتاج لوصية من غيره،
ولا لقَيِّم يلاحظ عمله.
(١٣) يسمح للعقد أن يبعث رسلاً من الخارجين عنه على أنهم وعاظ
يعملون المعروف من الدين ويؤيدون مناطيق القرآن، وعلى العقد أن يرسم لهم
طريق النصيحة بدون أن يعرفوا أن هناك عقدًا.
(١٤) على الرسول إن كان من أهل العقد أن يكاشف عقده بما يحس به من
انفعالات الناس، وما يأخذ قوله من قلوب السامعين لدعوته، وما أثر تعليم الوعاظ
المبعوثين من طرف العقد.
(١٥) من استحق باستعداده الدخول في العقد فعليه أن يقدم رسمًا ماليًّا أقله
مائة فرنكٍ وأوسطه مائتان وأكثره ثلاثمائة، ولا يُستثنى من ذلك إلا عالم أو معتقَد
عند الناس لا يستطيع أداءً، على شريطة أن يبذل العالم وسعه في تبيين الحق وبثه،
والمعتقد جهده في حمل معتقديه على العمل في مقاصد العقد، فإن استطاع هذان
الصِّنفان تأدية النقد فهم أولى الناس بها.
(١٦) يجتمع أهل العقد في كل أسبوع مرتين للمذاكرة فيما سبق بيانه في
الفصل الأول وما بعده.
(١٧) يجب على كل واحد أن يؤدي في آخر كل جلسة مقدارًا من النقد
على حسب استطاعته قليلاً أو كثيرًا يدور على الحاضرين مَن أصغرهم سنًّا
بصندوق صغير له فوهة ضيقة يضع فيها كل واحد ما تيسر خفية حتى لا يُعلم مَن
أدى أقل ومن أدى أكثر. لا يستثنى من ذلك أحد، ويسمى هذا الصندوق صندوق
التبرع.
(١٨) يحفظ النقد المجتمع من الرسوم الابتدائية والتبرع عند من ينتخبه
العقد أمينًا.
(١٩) يودع في ظرف تكتب عليه هذه العبارة: (هذا مال حق التصرف
فيه لعقد الإخلاص تحت رئاسة فلان) (يُذكر اسم الرئيس) .
(٢٠) يستعمل هذا المال في النفقة على محل الاجتماع ولوازمه، وفي
سبيل نشر المشرب وإرسال الرسل الداعين إلى الحق، وفي إغاثة المقصرين مما
ترجى منهم فائدة لمقصد الجمعية، وما يفضل عن ذلك فالنظر فيه للجمعية العليا
(جمعية العروة الوثقى) إما مباشرة أو على يد أحد نوابها.
(٢١) يكون للعقد أربعة دفاتر (أحدها) لحصر أسماء رجاله (ثانيها)
لأسماء رسله (ثالثها) لحصر النقد المجتمع (رابعها) لإحصاء النفقات.
(٢٢) إذا توفر في الصندوق مبلغ من النقد وافر وأمكن تنميته على وجه
شرعي مأمون الخسارة فعلى أهل العقد أن يدبروا أمر نموه.
(٢٣) على القائم بضبط الحساب في الإيراد والصرف أن ينهج الطريقة
المعهودة في مركز العقد: أن يضعوا لها نظامًا حسب المعروف في بلادهم.
(٢٤) لا يصرف شيء إلا بقرار من أهل العقد يتفق عليه جميعهم أو
أكثرهم.
(٢٥) إذا قضت الحوادث بعمل عاجل يقرب من مقصد الجمعية وخيف
فوات الفرصة بفوات الوقت واحتيج إلى نفقة تقتضي زيادة عن الموجود وجب على
أهل العقد أن يبذلوا ما في وسعهم لإتمام العمل.
(٢٦) لا يباح لأحد من رجال العقد أن يذكر شيئًا من أحوالهم ومقاصدهم
ومذاكراتهم عند مَن ليس من مقصده في شيء، بل لا يباح التصريح باسم العقد
وأهله إلا لمن حصلت الثقة بحاله عند رجال العقد.
(٢٧) على رجال العقد أن يحمي بعضهم بعضًا ويعِين كل منهم باقيهم بقدر
الاستطاعة.
(٢٨) الاستطاعة لا تفسر بالأهواء حتى يعد كل وهم عجزًا وإنما هي
المعروفة عند المخلصين التي لا يعدمها الإنسان ما دام حيًّا قادرًا على الحركة.
(٢٩) إذا رأى أهل العقد أن يزيدوا شيئًا فيما وصلهم من قانون الجمعية
حسب حالة بلادهم فعليهم مخابرة من يتولى مواصلتهم فيما يريدون.
(٣٠) القانون الداخلي للاجتماع يضعه أهل العقد.
***
اليمين الذي يحلفه المرتبطون بالعقد
أقسم بالله العالِم بالكلي والجزئي، والجلي والخفي، القائم على كل نفس بما
كسبت، الآخذ لكل جارحة بما اجترحت - لأُحَكِّمَنَّ كتاب الله تعالى في أعمالي
وأخلاقي بلا تأويل ولا تضليل. ولأجيبن داعيه فيما دعا إليه ولا أتقاعد عن تلبيته
في أمر ولا في نهي، ولأدعون لنصرته، ولأقومن بها ما دمت حيًّا، لا أُفضل
على الفوز بها مالاً ولا ولدًا.
أقسم بالله مالك روحي، ومالي، القابض على ناصيتي، المصرف لإحساسي
ووجداني، الناصر لمن نصره، الخاذل لمن خذله - لأبذلن ما في وسعي لإحياء
الأُخوَّة الإسلامية، ولأنزلنها منزلة الأبوة والبنوة الصحيحتين، ولأعرفنها كذلك
لكل من ارتبط برابطة العروة الوثقى وانتظم في عقد من عقودها، ولأراعينها في
غيرهم من المسلمين، إلا أن يصدر عن أحد ما يضر بشوكة الإسلام، فإني أبذل
جهدي في إبطال عمله المضر بالدين، وآخذ على نفسي في أثره مثل ما آخذ عليها
في المدافعة عن شخصي.
أقسم بهيبة الله وجبروته الأعلى أن لا أقدم إلا ما قدمه الدين، ولا أؤخر إلا ما
أخره الدين، ولا أسعى قدمًا واحدة أتوهم فيها ضررًا يعود على الدين جزئيًّا كان أو
كليًّا، وأن لا أخالف أهل العقد الذين ارتبطت معهم بهذا اليمين في شيء يتفق رأي
أكثرهم عليه، وعليّ عهد الله وميثاقه أن أطلب الوسائل لتقوية الإسلام والمسلمين
عقلاً وقدرة بكل وجه أعرفه، وما جهلته أطلب علمه من العارفين، لا أدع وسيلة
حتى أحيط بها بقدر ما يسعه إمكاني الوجودي.
وأسأل الله نجاح العمل، وتقريب الأمل، وتأييد القائم بأمره، والناشر لواء
دينه، آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... النائب: محمد عبده

(المؤلف) مَن تأمل هذه الأصول وهذه اليمين حق التأمل تجلى له أن كاتبها
الداعي إليها، المجاهد في سبيل غايتها - من أقوى المؤمنين بالله وبما جاء به محمد
رسول الله وخاتم النبيين إيمانًا، وأشدهم في إيمانهم إيقانًا، وأرسخهم في يقينه
وجدانًا، وأعلمهم بمقاصد هذا الدين وتاريخه وإصلاحه لأمور البشر، وأعظمهم
غيرة عليه وجهادًا في سبيل الله لإعادة مجده، وتجديد ملكه، وإحياء شرعه، وإنقاذ
أهله من الذل.
ومن قرأ مكتوباته - قدس الله روحه - لبعض العلماء والكبراء من المنتظمين
في سلك العقد في الفصل الأول من الباب الخامس من منشآته، المصدَّر أكثرها بكلمة
شعاره (لا إله إلا الله وحده لا شريك له وبه الحول والقوة) رأى فيها شرحًا جليًّا لهذه
الأصول الجليلة، وعلم من هذا وذاك أن خدمة الجم الغفير من كبار علماء الأزهر
وغيره من المصنفين في العلوم الإسلامية المختلفة منذ عدة قرون للإسلام لَتصغُر
وتتضاءل في جانب خدمة هذا الرجل وأستاذه، فإن علومهم ومصنفاتهم كانت في العهد
الذي تهدَّم فيه ملك الإسلام وضعفت هدايته ولم يكن لها أقل تأثير في العلم والعمل؛
لأنها كلها مباحث لفظية، ومناقشات في عبارات بعض كتب المقلدين، وليس لأحد
منهم فيها كلمة تدل على الشعور بذلك، فضلاً عن الدعوة إلى تداركه، والجهاد في
سبيله.
ولو شئنا شرح هذه الأصول وما أدمج فيها من الحِكَم والعبر لزدنا القارئ
إعجابًا بأمر هذين الحكيمين وجهادهما، ولا تظن أن بين ما في الأصل الثاني من
التذكير بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه فقط، وما في الأصل
الثالث من الاعتبار بسيرة السلف، وما في الأصل الرابع من الإشارة إلى أحكام
الفقه - لا تظن أن بين ما ذكر شيئًا من التعارض فإن لكل نوع منها غرضًا خاصًّا،
فالأول للاعتبار بنشأة الإسلام وتأسيسه، وما بعده ظاهر لا يحتاج إلى بيان.اهـ.
من الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام.
فليعتبر قراء المنار بهذا الجهاد، ونسأله تعالى أن يهدينا سبيل الرشاد.
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا