للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الانتقاد على المنار

انشقاق القمر - همّ يوسف بامرأة العزيز - التأويل لدفع الشبهات
جاءت الرسالة التالية من البصرة بعد طبع جزء ذي الحجة فنشرناها في هذا
الجزء، وإن كانت على خلاف شرطنا والشرط العرفي عند أرباب الصحف، وهو
أن لا ينشروا شيئًا لمن يكتم اسمه عنهم وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدي الكريم المصلح الكبير والعالم الشهير السيد محمد رشيد رضا حفظه الله
وبارك له في سعيه وسدده في كل ما يأتي وما يذر، آمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد استفدت من الجزء الأخير في المنار الأغر ميلكم إلى عدم انشقاق القمر
معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم معللين ذلك بما يأتي، ولرجائي أن أكون معكم من
المتعاونين على البر والتقوى سأبدي رأيي راجيًا العفو عما أتقدم به: إن أحاديث
الانشقاق أتت في عامة الأمهات لا سيما الصحيحين على ما فيها من حسن وصحيح
ومرسل ومسند وأثبته التاريخ العربي والعجمي، وأظهر من ذلك أن الآية في
الانشقاق قد كانت تُتلى بمحضر المسلم والكافر، فلم نسمع بمنكر مع أن الضد
بالمرصاد، ومضى على ذلك القرون الكثيرة ما بين ناقل لذلك ومُقر عليه.
واختلاف الأحاديث فيه مع ورودها على معنى واحد وهو الإثبات - لا يوجب
الرد، واتفاق آية (سبحان) مع آية الانشقاق سهل يسير، وهو أن آية سبحان دلت
على منع الاقتراح المعين وآية الانشقاق أتت بغير اقتراح أو باقتراح لم يعين، هذا
ما دلت عليه الأحاديث المعتمدة. وأما مجيء آية الانشقاق باقتراح معين فلا يصح
كما بينتموه، وفرق بين حصول الآية باقتراح معين وحصولها بغير اقتراح أو
باقتراح لم يعين: القسم الأول يعقبه الهلاك؛ لأنه جاءهم عين ما طلبوا فلم تبق لهم
شبهة، وأما القسمان الأخيران فلهم شبهة تدرأ نزول العذاب بكون الآية لم تقنعهم.
وأما تفسيركم الآية بأن الانشقاق كناية عن ظهور الأمر واتضاحه، واستشهادكم
عليه من اللغة فلا ريب أن العرب تقول: انشق الصبح؛ بمعنى ظهر وبان، وأما
انشق القمر بمعنى: ظهر الحق وبان، فلا نسلم أن العرب تستعمل مثل ذلك ويكاد أن
يكون لغزًا لا يتفق مع بيان القرآن.
وقد ذكرني ذلك تفسيركم لهمّ يوسف بامرأة العزيز بالضرب، وكلا التفسيرين
بالنفس منهما شيء، فقوله تعالى: {.. لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: ٢٤)
دليل على أن المتقدم أمر لا يليق بمنصبه الشريف، والهم عارض لا مستقر ولا هو
بوسع الإنسان وإذا دفعه بعد رؤية البرهان فهو من الكمال ولا يمس منصب النبوة
بسوء.
ومما يناسب ذكره قولكم جوابًا لرسالة عالِم القصيم عبد الرحمن السعدي: (قد
يكون التأويل هو المنقذ الوحيد في الرد على..) إلخ وهذا لا يتفق مع جهادكم
الجهمية وأمثالهم، وليس في القرآن ولا السنة ما ظاهره يحتاج للتأويل على شرط أن
يؤخذ الحكم من مجموع السياق لا من مفرداته.
وأما قولكم: لا علاقة بين الانشقاق ودعوى النبوة حتى يكون علامة عليها، فله
علاقة لاصقة وهي أنه لما أخبر الله باقتراب الساعة التي هي خراب العالم أجمع
وكانت قريش تنكر ذلك أراهم الله آية محسوسة وهي شق القمر فِرقتين، فالقادر على
تخريب هذا الجرم الكبير - وإعادته كما كان - قادرٌ على إيجاد الساعة التي أخبر
بها الرسول صلى الله عليه وسلم والآية بعدها تثبته، وأما تصدير الجملة بالشرط
فهو يفيد أنهم سيكذبون بكل آية يأتي بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس التكذيب
مختصًّا بهذه المعجزة. وإن رغبتم الوقوف على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في
الانشقاق فهو في نمرة ٥٥ من الجزء الأول من الجواب الصحيح.
وبالختام أرجو الله أن يكون معكم وفي عونكم كما أننا نسأله أن يجعلكم
مؤثرين للحق، وقد علمت من بعض الإخوان محبتهم لمبادلتكم الأفكار في شيء من
البحوث بَيد أنهم يخشون عدم رغبتكم، فهذا رأيي الضعيف، والمرجو أن عفوكم
يسع ما تقدمت به حضرتكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... صديق نجديّ
تعليق المنار
رغبتنا في انتقاد النجديين
لقد كان أخونا الكاتب في غنًى عن الاعتذار وطلب العفو في أول رسالته
وآخرها، فإنما يكون الاعتذار وطلب العفو عما كان ذنبًا وإن في العرف، ونحن
نُسَر بالانتقاد، ونعدّه إحسانًا إلينا وإلى قراء مجلتنا؛ لأنه من أسباب تمحيص
الحقائق، ولا سيما انتقاد طالب الحق المخلص فيه، بخلاف مريد النيل من المنتقَد
عليه، أو مريد إظهار علمه إعجابًا به. وقد سبق لنا أن نشرنا لبعض المنتقدين ما
فيه تصريح بتجهيلنا، بل ما يتضمن تكفيرنا لئلا يتوهموا أننا تركنا نشره كراهة
لإظهار علمهم أو لأجل إخفاء جهلنا، ومنه ما لامنا كثير من فضلاء القراء على
إضاعة وقتنا ووقتهم به.
وأزيدهم أنني كنت منذ سنين كثيرة أتمنى لو يطَّلع علماء نجد على المنار
ويكتبون إلينا بما يرونه فيه منتقَدًا لما نرجو أن نستفيد منهم ويستفيدوا منا.
أما الأول: فلأنهم لشدة اعتصامهم بالسنة ومقتهم للبدع والمعاصي وقلة وجودها
في بلادهم وقلة قراءتهم للكتب التي يكثر فيها تأويل بعض البدع وعدّها مشروعة -
يكون لهم دقة نظر في نزعات الشرك الخفية والمشتبهات بين الحلال والحرام
والتأويلات المنكرة وسائر ما يخالف طريق السلف مما قد يخفى علينا بعضه أو
يفوتنا إنكاره لكثرته وألفته بكثرة أهله وكثرة كتبهم.
وأما الثاني: فلأنه يُخشى أن يكون من لوازم التشدد في الدين وقوع بعضهم في
الغلو المنهي عنه بِعَدّ بعض المباحات المستحدثة من البدع المنكرة، أو ما ليس من
الشرك الجلي منه، أو تحريم ما لم يحرمه الله ورسوله. ويدخل في هذا بعض
العلوم والفنون والصناعات الحادثة التي تقوم الدلائل على ندبها أو وجوبها لما فيها
من المصالح العامة في قوة الأمة والدولة الحربية والمالية.
وقد كنت كتبت إلى إمام نجد منذ بضع عشرة سنة كتابًا ذكرت له فيه أنني
أرغب في اطِّلاع علماء نجد على المنار وطالبتهم بأن يكتبوا إليّ بما يرونه فيه
منتقَدًا بالأدلة الشرعية لأجل نشره وفتح باب المناظرة بيني وبينهم فيه، وأنني
سأرسل إليه عشر نسخ من كل جزء لأجل توزيعها على كبارهم هدية مني، وقد
ظللت أرسل هذه النسخ من طريق البحرين عدة سنين ولكن لم يصل إليَّ ما يدل
على وصولها، فلا أدري ما فعل الله بها، ولكن علمت أن عمال البريد البريطاني
الذي ينقل الرسائل والمطبوعات إلى بلاد العرب من طريق الهند كانوا يمنعون
بعض ما لا يحبون وصوله إلى أهله من المطبوعات، حتى إذا كانت الحرب العامة
اشتدت المراقبة عندهم وفي جميع مكاتب البريد الدولية، وكثر اختزال كل ما
يرونه ضارًّا بسياستهم ولو بالشبهة البعيدة.
ولما صار يسهل على النجديين الاطلاع على المنار في الحجاز لم يبلغني عن
أحد منهم انتقاد على شيء مما يُنشر فيه ولو في أحاديثهم مع بعض الناس إلا
ونشرته وبينت ما عندي فيه، إلا أن يكون شيئًا سخيفًا يُعَدُّ نشره إهانة لقائله ولا يفيد
أحدًا.
بعد هذا التمهيد المقصود لذاته في باب الانتقاد على المنار أقول:
مسألة انشقاق القمر
(١) إن شُراح دواوين السنة - ولا سيما فتح الباري شرح صحيح البخاري
وبعض المفسرين - قد ذكروا أن بعض الناس أنكروا هذه القصة، وأن بعضهم
استشكلوها من عدة وجوه: منها أنها مما تتوفر الدواعي على نقل الأمم لها بالتواتر ولم
تنقل كذلك، فمن المستغرب أن يدعي المنتقد إثبات تواريخ الأمم لها وأن جميع الناس
تلقوها بالقبول.
(٢) ذكرنا أن الإشكال الأكبر عليها عندنا هو التعارض بين الحديث
والآيات الكثيرة في مسألة التحدي بالقرآن ولا حاجة إلى شرحه هنا، ولم أر أحدًا
من العلماء ذكره وأجاب عنه كما ذكروا غيره من الإشكالات وأجابوا عنها، وليس
التعارض بين آية الانشقاق وآية الإسراء وحدها، بل هناك آيات متعددة ذكرنا بعضها
في بحثنا، فمن كان يرى أن لا تعارض في المسألة كالمنتقِد فلا إشكال عنده فيها،
وها نحن أولاء قد ذكرنا دليله على عدم التعارض ونود أن يقبله جميع الناس،
ولهذا لا نرد على ما نرى فيه من ضعف؛ فإنه لا غرض لنا من البحث كله إلا أن
يكون القرآن في الأفق الأعلى من توجيه أي اعتراض عليه فيتضاءل دون وصوله
إليه، إلا أننا نقول: إن صح فرضه أن الآية وقعت بدون اقتراح، يزول هذا
الإشكال من أصله.
والفرق بيننا وبين مَن يكتبون لتأييد مذهب كلامي أو فقهي: أن هؤلاء على
اختلاف صفاتهم لا يقبلون ما يخالف مذاهبهم. وأما نحن فلا نلتزم مذهب إمام معين
فنجعله أصلاً ترد إليه نصوص الكتاب والسنة بل كلام الله ثم كلام رسوله عندنا
فوق كل مذهب وكل إمام فكل ما وافقهما فهو مقبول عندنا وكل ما خالفهما فهو
مردود، فإن تعارضا ولم نهتدِ إلى الجمع بين المتعارضين ببحثنا ولا بإرشاد غيرنا
لم يكن لنا مندوحة عن ترجيح كلام الله تعالى وهو القاعدة المتفق عليها عند سلفنا
الصالح وأئمة السنة. وأهون من ذلك أن يكون التعارض بين نص كلام الله أو كلام
رسوله وبين أقوال مروية عن بعض الصحابة في بيانهم لشيء منهما كحديث
انشقاق القمر، فإنه لم يروه أحد مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(٣) قوله: وأما تفسيركم لانشقاق القمر ... إلخ - يدل على أنه تفسير انفردنا
به لم يسبقنا إليه أحد، وليس الأمر كذلك وإنما نقلناه عن غيرنا واخترناه على تقدير
ما ظهر لنا في الرواية. وعدم تسليمه إياه ليس حجة على الذين قالوا به وهم أعلم
منه ومنا بهذه اللغة وناهيك بالراغب - صاحب كتاب مفردات القرآن - الذي لا
نعرف أحدًا من علماء اللغة يحدد معاني الكلمات العربية مثله. ولا تتوقف صحته
على سبق نطق العرب به فالقرآن حجة على العرب وغيرهم، وكم له من تعبير
مبتكَر لم يُعلم نطق العرب به بل يعجزون عنه. وقد نقله شارح القاموس عن
الراغب وأقره ولم يقل: إن اللغة العربية تتبرأ منه ولا أنه لا يفهم ويصح أن يعد
من الألغاز. ولعله لو لم ينقل عن العرب قولهم: انشق الفجر والبرق - لعدَّه المنتقِد
مما لا يُفهم أيضًا.
(٤) ما ذكره من العلاقة بين دعوى النبوة وانشقاق القمر بصرف النظر
عن الحديث فيه وهو إثبات قدرة الله على البعث - غريب جدًّا ولا حاجة بنا إلى
المناقشة فيه ولا سيما دلالته وإنما نذكره بأنه يخرج بالحدث عن موضوعه وعن
كونه تفسيرًا للآية، وبأن العرب لم تكن تنكر قدرة الله تعالى وما كل ما يقدر تعالى
عليه يفعله.
(٥) ما كتبه لشيخ الإسلام في المسألة قد اطلعنا عليه من قبل وهو مبني
على المشهور المسلَّم من أن القمر قد انشق جرمه بالفعل، وأن المنكرين لذلك من
المخالفين فيه إنما ينكرونه؛ لأنه معارض عندهم بعقولهم وبقول علماء الهيئة
المتقدمين: إن الفلك لا يقبل الخرق والالتئام ويرد عليهم كغيره بقدرة الله على ذلك.
وقد بينا أن مسألة الأفلاك واستحالة عروض الخرق والالتئام لها نظرية
يونانية سخيفة أجمع علماء الفلك في هذا العصر على بطلانها، ولو فكر شيخ
الإسلام رحمه الله تعالى في مسألة معارضة الآيات لحديث اقتراح كفار قريش على
النبي صلى الله عليه وسلم آية على صدقه وكون القمر قد انشق إجابة لهم إلى هذا
الاقتراح كما جرى عليه هو وغيره أخذًا بحديث أنس المرسل وكون المعارضة من
وجهين أحدهما الاكتفاء بالقرآن في إقامة الحجة على رسالته صلى الله عليه وسلم،
وثانيهما: كون إعطاء الآية باقتراح الكفار يقتضي وقوع العذاب كالذي وقع على
الأولين، وثَمّ وجه ثالث مصرَّح به في بعض الآيات وهو عدم الفائدة في إجابتهم
إليها - نعم، لو فكر وأجال قلمه السيال في هذا لرأينا من تحقيقه فيها ما لا يدع
مجالاً لقائل، كدأبه في أكثر ما يحققه من المسائل، ولكن شَغَله عن التفكر في هذا
توجيه همته كلها إلى الرد على أولئك الفلاسفة والمبتدعة الذين يردون كل ما يخالف
نظرياتهم وآراءهم. وهذا الفقير في اعترافه بل افتخاره بأنه استفاد من كتب شيخ
الإسلام قدس الله روحه ما كان أعظم مُثبِّت لقلبه ومقوٍّ لحجته في مذهب السلف
الصالح - يصرح بأنه على إعجابه بتحقيقه لا يقلده في شيء من أقواله تقليدًا، بل
يعده ممن يدخل في عموم قاعدة الإمام مالك رضي الله عنه: كل أحد يؤخذ من
كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر؛ يعني النبي صلى الله عليه وسلم. ومن
المعلوم أن له - كأمثاله من المجتهدين - عدة مسائل انفرد بها أو اختارها على ما
هو أقوى منها في مذهب الإمام أحمد لا يوافقه جمهور الحنابلة عليها كلها ومنهم
علماء نجد المتأخرون.
مسألة همّ يوسف وامرأة العزيز
استدل الأخ المنتقد على رد ما اخترناه في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ
بِهِ وَهَمَّ بِهَا} (يوسف: ٢٤) بأن قوله بعده: {.. لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: ٢٤) يدل على أن موضوع الهم لا يليق بمنصب يوسف الشريف (عليه
السلام) وهو غفلة منه عن كون همه بمثل ما همت به من الانتقام بالضرب لا يليق
بمنصبه الشريف أيضًا، وإذا كان الضرب الخفيف من المعاصي الصغائر في نفسه
فهو في مثل هذه الحال قد يفضي إلى القتل أو إلى ما يقرب منه كما وقع لموسى
عليه السلام؛ إذ وكز القبطي دفاعًا عن الإسرائيلي فقتله.
وليعلم الأخ المنتقد أنني ما اخترت هذا القول لأجل موافقة الآية لقول مَن قال
من المتكلمين بعصمة الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة وبعدها من كل ذنب، فالقرآن
عندي فوق المتكلمين وغيرهم، بل فوق كل علم وكل شيء خلقه الله. وإني أقول
إن آدم قد عصى ربه حقيقة كما قال الله تعالى بغير تأويل، وإنما اخترت ذلك القول
في الهم؛ لأنه المتبادر من استعمال اللغة والموافق للمعهود من طباع البشر والمؤيد
بما بعده مما بينته في محله، وقد قال به بعض العلماء قبلي.
مسألة التأويل
ما قاله المنتقد في مسألة التأويل مجمل وهو يدل على أنه لم يَرَ في المنار ولا
في تفسيره شيئًا مما كتبته في هذا الموضوع مرارًا، وملخصه أن ما أَدين الله تعالى
به في صفات الله تعالى وأخبار عالم الغيب وغيرهما من كل ما كان عليه السلف
من أمر الدين هو اتباع جمهورهم في إثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله ونفي ما نفياه
من غير تعطيل ولا تأويل. وإنني إن ذكرت لبعض الآيات في ذلك تأويلاً فإنما
أذكره لما أعلم بالاختبار من أن من الناس مَن لا يقتنع بحقيقة النص بدونه مع العلم
بأن علماء السنة قد صرحوا في القديم والحديث بأن من خالف ظواهر النصوص
متأولاً لا يكفر. وأن إنقاذ كثير من الناس من الكفر بضرب من التأويل الذي ينافيه
أمر عظيم و (لأنْ يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حُمْر النَّعَم) .
وأما قوله: (إنه ليس في الكتاب ولا في السنة ما يحتاج إلى التأويل إلخ) إن
أراد به تأويل غلاة المبتدعة كالباطنية وقدماء الجهمية المعطلين المخرج للكلام
عن مدلولات اللغة - فهو حق؛ وهذا لا يجوز بحال من الأحوال، ولا هو بالذي يُعَد عذرًا للمتأول. وإن أراد به ما يشمل صرف الكلام عن ظاهر مدلوله اللغوي
الذي يسمى حقيقة لغوية إلى مجاز أو كناية أو تمثيل - فقد قضى على بلاغة
القرآن وسعة علومه قضاءً لا يقوم عليه دليل، بل يقوم الدليل على خلافه،
وقد صح في الأحاديث المرفوعة تأويل بعض الآيات؛ كما يرى في تفسير {يَوْمَ
يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} (التوبة: ٣٥) من هذا الجزء. ومجال القول في
تأويل الأحاديث أوسع؛ لأن أكثرها منقول بالمعنى ولم يتواتر باللفظ إلا قليل منها؛
كما صرحوا به. وماذا يقول المنتقد في حديث خروج النيل والفرات من أصل سدرة
المنتهى فوق السماء السابعة؟ ! ومنابع هذين النهرين وغيرهما في الأرض
معروفة بمساحتها ومجاريها، يستطيع أن يراها كل أحد ولا سيما النيل، أفلا
يحتاج هذا الحديث إلى تأويل؟ ولا يتسع هذا التعليق لأكثر من هذه الكلمة
الموجزة فيه وفي أصل التأويل.
{وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: ٤) .