للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

وصف كلامه تعالى بالقديم
وبحادث الآحاد قديم النوع وهل هما مبتدعان؟
وما حكم القائل بهما؟ ونذر زيارة قبر الوالد والصالح؟
(س١٣-١٥) من إمام الحاج محمد جابر في كمفوغ سوك هاتي (سمبس -
برنيو)
حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدي ومولاي العالم العلامة السيد محمد
رشيد رضا صاحب المنار الأغر، رزقه الله عمرًا مديدًا ونفع بعلومه المسلمين
جميعًا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أرفع إليكم هذه الأسئلة الآتية راجيًا التفضل بجوابها في صفحات مناركم
الغراء وهي:
(١) قال في كتاب (تنبيه ذوي الألباب السليمة) من الكتب النجدية صفحة
٢٠: إن لفظ (القديم) إذا وُصف به كلامه سبحانه وتعالى فهو من الألفاظ المبتدعة
حيث قال: فقوله * كلامه سبحانه قديم * هو من جنس ما قبله من الألفاظ المبتدعة
المخترعة التي لم ينطق بها سلف الأمة وأئمتها. اهـ. مع أن علماء الكلام نطقوا
بلفظ القديم فهذه كتبهم بين ظهرانينا مذكورة فيها أقوالهم بأنهم عرفوا ووصفوا كلامه
جل وعلا بالقديم، ويعتقدون قدمه. وقال الشيخ حسين والي في كتابه كلمة
التوحيد صفحة ٥٧: (ويجل مقام أحمد بن حنبل وأضرابه أن يعتقدوا قدم القرآن
المقروء) ولا أسيء الظن بهم أنهم يعتقدون شيئًا ويمنعون أن يقولوا به في مثل هذه
القضية.
ومعلوم أن القرآن هو كلام الله. قال صاحب الهداية السنية النجدية صفحة
١٠٦: (ونعتقد أن القرآن هو كلام الله.. إلخ) وما رأيكم في قول صاحب كتاب
التنبيه المذكور؟ هل هو صحيح في عدِّه الواصفين بلفظ القديم من أهل البدع كما
يدل عليه مفهوم قوله الآتي، أم لا؟ فإن كان صحيحًا فهل يأثم الواصف به أم لا؟
(٢) وقال أيضًا: والذي عليه أهل السنة والجماعة المخالفون لأهل البدع
أن كلام الله سبحانه وتعالى حادث الآحاد قديم النوع.. إلخ، فهل قوله (حادث
الآحاد وقديم النوع) من الألفاظ المبتدعة أم لا؟ وهل وردت هاتان الكلمتان في
السنة أو في كلام سلف الأمة؟ فإن وردتا فيهما فذاك وإلا فهما من الألفاظ المبتدعة
أيضًا، وإني لم أقف في كتاب من كتب أهل السنة على نص يوصف فيه كلامه
تبارك وتعالى بهما أو ينقل فيه قول من أقوال سلف الأمة يقولون بهما، ولم أسمع
أحدًا من المشايخ يصف بهما كلامه تعالى. أليستا من الألفاظ التي توهم التشبيه؟
وإني أرجو أن تحرروا مع الجواب معناهما ومرادهما وبينوا لنا ذلك بيانًا شافيًا؛ فإني
لم أزل في وهم وإشكال وأرى أنكم من أقدر الناس في هذا العصر على حل
المشكلات.
(٣) إذا نذر المريض وقال: (إن شفى الله مرضي فعليَّ زيارة قبر فلان
أو قبر والدي مثلاً؛ لاعتقاده أن لصاحب القبر كرامة ومزيَّة ولا يعتقد أنه مؤثر في
ذلك ومن المعلوم أن زيارة القبور من القربات. فهل يجوز ذلك ويصح نذره، أم لا؟
وإذا قلتم بعدم الجواز فهل الناذر يكون مشركًا بسبب ذلك الاعتقاد أو آثمًا فقط، أم
لا؟ أفتونا ولكم من الله الأجر والثواب) .
جواب المنار مرتبًا على عدد الفتاوى فيه
(١٣) وصف كلام الله بالقديم ومن قال إنه مبتدع:
قول من قال: إن وصف كلام الله تعالى بالقديم من الألفاظ المبتدعة - صحيح،
ومثله قول الآخر إن كلام الله تعالى حادث بالآحاد قديم النوع، كلاهما لم يرد في
كتاب الله تعالى ولا في أقوال رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في أقوال الصحابة
رضي الله عنهم. ولكن ليس كل من يستعمل لفظًا محدثًا يكون من أهل البدع
المخالفين لأهل السنة والجماعة، فجميع أئمة الأمصار من مدوني علوم الشرع في
الأصول والفروع قد استعملوا ألفاظًا اصطلاحية لم تُستعمل في القرآن ولا في أقوال
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والذين تصدوا من أهل السنة للرد على
المبتدعة لم يسلموا من استعمال بعض الألفاظ الاصطلاحية المبتدعة، ومنها قولهم:
إن كلامه تعالى قديم بقدم ذاته، وهذا من أسباب وقوع الخلاف بين المسلمين في
مسألة كلام الله تعالى وكذا غيرها من صفاته، ولم يسلم من ذلك أئمة الحديث والفقه
منهم، وقد اشتهر ما وقع من الخلاف في ذلك بين البخاري والذهلي من أئمتهم.
بل أتباع إمام الأئمة أحمد بن حنبل المنسوبين إلى مذهبه في العقائد والفروع قد وقع
بينهم الخلاف في هذه المسألة. فلا يصح أن يقال في كل من استعمل لفظًا محدثًا
في ذلك ولا كل من خالف أحمد أو جمهور السلف في مسألة من دقائق هذه المسائل
- إنه من المبتدعة المخالفين لأهل السنة والجماعة.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في شرح كتاب التوحيد من البخاري وبعض أقوال
أهل السنة من المحدثين واتباع المذاهب الأربعة وأقوال المبتدعة في مسألة القرآن
في مواضع وقال بعدها كلمة كررها بعد ذكر الخلاف بينهم وهي: والمحفوظ عن
جمهور السلف ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه والاقتصار على القول بأن القرآن
كلام الله وأنه غير مخلوق، ثم السكوت عما وراء ذلك. اهـ. وهذا الذي ينبغي
لكل مسلم إلا أن مَن كان في قلبه اضطراب من هذا الخلاف ولم يطمئن بهذا التسليم،
فله أن يراجع كلام المحققين الجامعين بين المعقول والمنقول وينظر فيه باستقلال
فكر وإخلاص قلب فإنه حينئذ يصل إلى ما يطمئن به قلبه إن شاء الله تعالى.
وكنت أخرت الجواب عن هذه الأسئلة راجيًا أن أجد وقتًا واسعًا أكتب فيه
خلاصة هذا البحث المضطرب الأمواج، ولما أجد الوقت الذي يتسع له، ولكنني
سأشرع إن شاء الله تعالى قريبًا في طبع عدة فتاوى في ذلك لشيخ الإسلام تقي الدين
ابن تيمية، وأشهد بالله إنني لم أجد في كتب أحد من علماء هذه الملة من أحاط بما
أحاط به من حفظ النصوص وأقوال الناس من المحدثين والمتكلمين والفلاسفة
والمبتدعة في هذه المسألة وأمثالها، والوقوف على أدلتهم وتمحيصها وتحرير الحق
الذي كان عليه سلف الأمة وإقامة الحجة عليه، فلينتظر ذلك السائل وغيره ممن
يهمهم تحقيق هذه المباحث وهي ستطبع في كتاب مستقل وربما ننشر بعضها في
المنار.
وأما وصف كلام الله تعالى بالقديم فهو صحيح في نفسه وأثبته علماء السنة
وفي المراد منه عند السلفيين وعند غيرهم بحث مفصل في مباحث شيخ الإسلام.
***
(١٤) مَن قال: إن كلامه تعالى حادث الآحاد قديم النوع
إن قول من قال: إن كلامه تعالى حادث الآحاد قول مبتدع مبهَم موهم، وله
وجه يظهر أنه هو مراده منه، وهو ما قاله بعضهم في تفسير قوله تعالى: {مَا
يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} (الأنبياء: ٢) وقد جعل البخاري هذه الآية
ترجمة لأحد أبواب كتاب التوحيد من صحيحه مع آية {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ
أَمْراً} (الطلاق: ١) وقال عقبها: وإن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: ١١) يعني أن كونه محدثًا لا
يقتضي كونه مخلوقًا، فهو كقول السلف من أهل الحديث وغيرهم: له يد لا كأيدينا
واستواء لا كاستوائنا، وإن كلامه الموحى إلى رسله بصوت لا كصوتنا. ومن
القائلين بهذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وهو يقول كغيره من أئمة السلف: إن
القرآن المقروء بالألسنة المكتوب في المصاحف كلام الله غير مخلوق، وهم
يصرحون بأن القارئ مخلوق وقراءته وكتابته مخلوقتان، وإنما يتقون في هذا المقام
ما يتضمن الإيهام. فما قاله الشيخ حسين والي وغيره من إجلال الإمام أن يقول كذا
مبني على الاقتناع بنظرية المتكلمين في المسألة وبكون الإمام أحمد كان من أئمة
الهدى والسنة، ومقتضاه عنده أنه لا يخالفها. وليس مبنيًّا على النقل عنه. وكان
شيخنا الأستاذ الإمام ذكر مثل هذا في رسالة التوحيد، وعند قراءته لهذا البحث منها
في الأزهر صرح بأنه رجع عنه وبأنه سيحذف هذه الجملة في الطبعة الثانية
للرسالة وكتب ذلك في حاشية نسخة الدرس، ولذلك حذفناها من كل طبعاتنا لها.
وقد استدلت المعتزلة بالآية على خلق القرآن، والتحقيق أن المراد منها محدث
إتيانه ونزوله. قال إسحاق بن راهويه من شيوخ البخاري وأقران أحمد وقد سأله
عن الآية حرب الكرماني ما نصه: قديم من رب العزة محدث إلى الأرض. اهـ
وراجع سائر الأقوال في الآية وفي المسألة من فتح الباري.
***
(١٥) نذر زيارة قبر الوالد والصالح:
لا ريب في أن زيارة القبور مستحبة بالنية التي أرشد إليها الحديث الوارد في
الإذن بها بعد النهي وهي تذكر الآخرة، وإنما هي مستحبة بهذه النية وإلا فإن
الأصل في الإذن بالشيء بعد النهي عنه الإباحة، وما كان من نية صالحة أخرى
في الزيارة تزيد هذا الاستحباب تأكيدًا كزيارة قبر أحد الوالدين أو كليهما، فإنها تعد
من بقايا برهما وتذكُّرهما، الذي يترتب عليه ما أمرنا الله به من الدعاء لهما،
وكذلك زيارة قبر الرجل الصالح إذا كان لذكرى صلاحه ورجاء في قوة الاقتداء به،
لا لطلب نفع أو كشف ضر منه، ولم يكن فيها شيء من البدع ولا من إقرارها.
ويصح نذر مثل هذه الزيارة المشروعة. ولا وجه للقول بعدم جوازها فضلاً
عن القول بإثم فاعله أو رميه بالشرك والعياذ بالله تعالى. فإن الشرك لا يثبت إلا
بدليل قطعي لا مجال فيه للتأويل، ولكن بعض الغلاة في مذاهبهم يرتكبون من
مخالفة الشرع في الطعن على مخالفيهم ما هو أكبر إثمًا مما ينكرونه عليهم إن كان
منكرًا. أعاذنا الله من ذلك.
***
الجمع بين الصلاتين في الحضر
واشتراط الطهارة في الصلاة وصلاة مكشوف الرأس
(س١٦-١٨) من صاحب الإمضاء في (ببا - من الوجه القبلي)
حضرة صاحب الفضيلة العالم الكبير والأستاذ المحقق السيد محمد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبعد:
فقد سمعت منذ سنوات عديدة ممن أثق به (توفي رحمه الله) في أحاديثه
الخاصة معي أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في صلاته بين الظهر والعصر
وبين المغرب والعشاء جمع تأخير بلا عذر، وأنه لا حرج على المصلي إذا كان
بثوبه أو بدنه شيء من النجاسات وأنه لا كراهة في الصلاة ورأس الإنسان عارٍ بل
ربما كان ذلك أفضل؛ لأن هذا المظهر أقرب إلى التذلل والخضوع والعبودية.
ولأمر خاص بي أريد التثبت من ذلك ولثقتي بفضيلتكم بعثت بهذا إليكم،
فأرجو إفتائي على ما تقدم والله تعالى يتولى مثوبتكم بفضله.
وتفضلوا بقبول عظيم الاحترام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... سيد أحمد عابدين
جواب المنار
(١٦) أما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في المدينة
المنورة، فقد ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنه في سنن الشافعي وصحيح
مسلم وغيرهما من كتب السنن، وقد تأول ذلك فقهاء المذاهب المعروفة بتكلُّف،
وظاهر قول ابن عباس فيه: (لئلا يحرج أمته) يدل على أنه رخصة، وبهذا
أخذ بعض فقهاء الحديث وهو ما أعتقده، ولا يخفى أن الرخصة تؤتى عند الحاجة
لا دائمًا، ولولا أن سبق لنا بيان هذه المسألة ونص الحديث فيها من قبل لبسطت
الكلام فيها وذكرت لفظ الحديث وتأويلات مَن تأوَّله.
(١٧) وأما قول ذلك الثقة عندكم بأنه لا حرج على المصلي إذا كان في ثوبه
وبدنه شيء من النجاسات - فهو مخالف لقول أكثر علماء الأمة بأن طهارة الثوب
والبدن شرط في صحة الصلاة، وعن مالك أنها واجبة وليست بشرط لصحة
الصلاة. فالمسألة اجتهادية والاحتياط تحري الطهارة في الصلاة؛ لأنها إذا كانت
واجبة في غيرها فهي فيها أوجب، نعم؛ إن الوجوب لا يقتضي الشرطية، وقد أطال
الشوكاني في الرد على من قال بها، ولأن تكون صلاتك صحيحة بالإجماع خير من أن تكون مختلفًا فيها، ولك الأخذ بالقول الآخر عند تعسر الطهارة وفي ترك
القضاء إذا علمت بعد الصلاة أنه كان في ثوبك أو بدنك نجاسة.
(١٨) وأما قول ذلك الثقة: إنه لا كراهة في الصلاة مع كشف الرأس - فهذا
قد يظهر فيمن يصلي في بيته منفردًا إذا لم يلتزمه متعمدًا. وأما التزامه أو فعله
مع الجماعة المستوري الرؤوس أو في المسجد بحضرة من يستنكرونه ويكون
مدعاة للخوض في ذم فاعله - فالقول فيه بالكراهة واضح. أما الأول فلأنه التزام لا
دليل في الشرع عليه بل هو مخالف لما جرى عليه العمل الغالب من صدر
الإسلام، وأما الثاني فلمخالفته للجماعة وهو منهي عنه، وأما الثالث فلما ذكرناه في
صفته من كونه سببًا لوقوع الناس في الإثم ولأنه من الشهرة المذمومة.
وأما قوله إن ذلك ربما كان أفضل وتعليله بما علله به فهو قول بالرأي
المحض في مسألة تعبدية، ومعارَض بأنه تشبه بالنصارى وغيرهم ممن يلتزمون
كشف رءوسهم في الصلاة وقد نهينا عن التشبه بهم حتى في العادات. ومعارض
أيضًا بأن العرف عندنا في هيئة الكمال التي نقابل بها الملوك والأمراء وكبار
العلماء والصلحاء والرؤساء أن يكون على رءوسنا ما جرت به عادتنا من عمامة أو
كمة أو طربوش أو غيرها، وإنما يُتساهل في ترك ذلك بين الأقران والأصدقاء،
والعرف عندهم خلاف ذلك.
***
النسخ والأحاديث المشكلة
وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتوسل
(س١٩-٢٣) لصاحب الإمضاء في صنبو (من الوجه القبلي)
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة السيد الفاضل، والأستاذ الكامل، من جعله الله للشريعة موئلاً وللدين
ملجأً، المهدي الرشيد، السيد محمد رشيد.
سلامًا وتحية واحترامًا، وبعد:
فإني أرجوك للإجابة عن هذه الأسئلة التي طالما ترددت في خاطري، فتفضل
بذلك ولك مني الشكر ومن الله جل وعلا الأجر:
(١) في القرآن الكريم ناسخ ومنسوخ ولكن العلماء فيهما مختلفون، فما القول
الفصل الذي يرتاح إليه المسلمون في ذلك؟
(٢) في كتب الحديث مئات الأحاديث الحاضّة على فضائل الأعمال ولكنها
رتبت على فعلها ثوابًا لا يتناسب معها، فهل يصح العمل بها؟
(٣) ما هو الحد الذي إذا بلغه المؤمن سقطت عنه تبعة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ولا سيما في هذا الزمن الذي عمت شروره، وطمت من الفساد
بحوره؟
(٤) كيف يستطاع جمع الزكاة على الطريقة الشرعية لتصرف في
مصارفها في هذا العصر العصيب؟
(٥) ما الحق في مسألة التوسل التي لا تزال تشغل قلوب جمهور المسلمين؟
وتفضلوا بقبول فائق احتراماتي.
... ... ... ... ... ... ... مصطفى أحمد الرفاعي
... ... ... ... ... ... الأستاذ بمدرسة ميخائيل فلتس بصنبو
أجوبة المنار
(١٩) الناسخ والمنسوخ:
قد فصلنا القول في هذه المسألة في تفسير قوله تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ..} (البقرة: ١٠٦) من سورة البقرة وهي الآية ١٠٦ من سورة البقرة فراجعوه في
ص٤١٤ من جزء التفسير الأول، وذهب السيوطي في الإتقان إلى أن الآيات
المنسوخة عشرون آية. وقال الشوكاني بعده بل هي بضع آيات. وأنكر النسخ أبو
مسلم الأصفهاني في تفسيره ووضح رأيه الطبيب البحاثة محمد توفيق صدقي
ونشرنا بحثه في المجلد الثامن من المنار وطبع في ضمن كتاب له. ولا يتسع وقتنا
لإعادة الكلام في هذا الموضوع وليس باب الفتاوى بمحل له. وكثيرًا ما يسألنا
السائلون عن تحقيق مسائل لا يمكن تحقيقها إلا في سفر كبير، وجملة القول أن
النسخ بالمعنى المعروف عند السلف ثابت ونحن نحقق ما قيل إنه منه في كل آية
عند تفسيرنا لها.
***
(٢٠) العمل بأحاديث فضائل الأعمال وشرطه:
الأعمال الدينية مبنية على قاعدتين (إحداهما) أنه لا يُعبد إلا الله (والثانية)
أن يعبد بما شرعه. والمشروع قسمان: قسم مطلق وقسم مقيد بأقوال مخصوصة
وأفعال مخصوصة وصفات مخصوصة وأوقات مخصوصة وأعداد معينة، فما ورد
في الشرع مقيدًا بشيء من هذه القيود وجب التزام قيوده بلا زيادة ولا نقصان، ومنه
شعائر الإسلام كلها كالأذان والإقامة والصلاة والجماعة والجمعة ومناسك
الحج ... إلخ.
والمطلق يجري على إطلاقه في دائرة النصوص العامة كصلاة النفل غير
الراتبة وذات السبب، فإن هيئتها كسائر الصلوات ولكن لا يجوز لأحد أن يقيدها
بزمان ولا مكان ولا عدد ولا صفة بحيث تلتزم هذه القيود فيها كقيود الشرع؛
ولذلك قال الفقهاء إن صلاة الرغائب وصلاة ليلة نصف شعبان اللتين قيدهما بعض
العباد بالعدد والزمان وغيرهما - أنهما بدعتان قبيحتان مذموتان. وذلك أنه لا يصح ما
ورد فيهما مع كونهما بصفة مقيدة بقيود لا تثبت إلا بنص الشارع، وقد ذُكر من
ثوابهما نحو مما تستشكلونه في السؤال.
وإن من علامات وضع الحديث أن يذكر فيه ثواب كبير جدًّا على عمل صغير
جدًّا في نفسه وفي أدائه وفي قاعدته، أو عقاب عظيم جدًّا على عمل لا ضرر فيه
في الدين ولا في النفس ولا في العقل ولا في العرض ولا في المال.
هذا وإنه لا يجوز لأحد أن يعتمد على كل ما يراه من الأحاديث في الكتب ولا
على كل ما يسمعه من الخطباء من غير تخريج له عن حُفاظ السنة بما يبين مرتبته
من الصحة وعدمها. وإذا تحرى الإنسان الأحاديث الصحيحة يرى أنه قلما يوجد
فيها ما ذكره السائل من الإشكال.
وأما الأحاديث الضعيفة فقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي: إنه لا يجوز
العمل بها مطلقًا، وقال الجمهور: يجوز العمل بها في فضائل الأعمال كالذكر وصلاة
النفل المعتادة وصيام التطوع، واشترطوا لذلك شروطًا بيناها من قبل ملخصها ألا
يكون الحديث شديد الضعف، وألا يعتقد العامل بالحديث منها صحته لئلا ينسب إلى
النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، وأن يكون معناه مندرجًا تحت أصل عام في
الشريعة.
***
(٢١) الحد الذي تسقط به فرضية الأمر والنهي:
قد اختلف العلماء في هذه المسألة ما بين مشدد ومخفف، وينبغي لكل أحد أن
يحاسب نفسه في هذا وأمثاله، وإذا كانت المنكرات في زماننا أكثر منها في أزمنة
أولئك العلماء كالغزالي والشاطبي وابن تيمية - فإن في زماننا من حرية القول في
مثل هذه البلاد ما لم يكن في أزمنتهم. وإننا نرى سفهاء الجرائد يطعنون أشد
الطعن وأقذعه في الأمراء والوزراء والعلماء ولا يصيبهم أذى، فأجدر بمن يأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر بالنزاهة والأدب وحسن النية ألا يصيبه أذى.
ولا خلاف بين العلماء في سقوط الفريضة عمن يخاف على نفسه أذًى كبيرًا،
ورخص بعضهم في الترك لمن يعتقد أن أمره ونهيه لا يفيد، ولكن استفتِ قلبك وما
أنا ممن يستطيع أن يضع لك حدًّا، ولا ينبغي أن تنسى أن هذه الفريضة هي سياج
الدين فلولا ترْك القيام بها لما فشت المنكرات إلى هذا الحد.
***
(٢٢) جمع أموال الزكاة وصرفها في مصارفها:
إن هذا العمل غير مستطاع في زماننا في بلادنا، وإنما الشأن فيه للحكومة
الإسلامية التي تقيم الشرع، والمسلمون في جزيرة العرب يؤدون زكاة المواشي
والزروع إلى أئمتهم وحكامهم، وزكاة النقدين إلى الفقراء والمساكين، وينبغي في
مثل بلادنا أن تؤلف جمعية إسلامية من رجال يوثق بهم تقنع أهل الدين بأداء الزكاة
إلى رجالها بعد أن تبين في نظامها كيف تنفق ما تجمعه في مصارفه الشرعية.
***
(٢٣) التوسل الشاغل للمسلمين:
التوسل المشروع ليس فيه ما يشغل قلب أحد فهو التقرب إلى الله تعالى بما
شرعه من علم وعمل على القاعدتين اللتين في الفتوى آنفًا (ص١٢٧) وأما
التقرب إليه تعالى بأشخاص الصالحين من الأنبياء فمن دونهم الذي تعنونه بالتوسل -
فهو غير مشروع في الإسلام، بل هو أصل الوثنية. فإن الوثنيين هم الذين يعتمدون
في نجاتهم من عذاب الآخرة ومن مصائب الدنيا وفي نيل الخير والسعادة في
الدارين على أشخاص رجال الدين فيهم، وأما أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام
فأمر الثواب والعقاب عندهم منوط بالعقائد والأعمال التي تتزكى بها أنفسهم وتصلح،
أو تتدسى وتفسد، وآيات القرآن صريحة في ذلك، وأمر منافع الدنيا ومضارها
منوط بالأسباب المشروعة التي يعرفها الناس بالعلم والتجربة كطرق الكسب
والتداوي في المرض مثلاً. وقد سمى الناس منذ القرون الوسطى ما فشا فيهم باتباع
سنن من قبلهم في الاعتماد من أشخاص الأنبياء والصالحين في جلب النفع ودفع
الضر توسلاً، وبنوا عليه بدعًا كثيرة تنافي التوحيد المجرد والإخلاص في العبادة،
كدعاء الموتى والنذر لهم والاستغاثة بهم مع العلم بأن الدعاء هو العبادة أو مخ
العبادة كما ورد في الحديث وفي مثل قوله تعالى {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: ١٨) وليس لما يعملون شبهة من كتاب الله ولا من سنة رسوله ولا من
عمل السلف الصالح. والخرافيون من سدنة قبور الصالحين وغيرهم يأتون على
ذلك بشبهات ضعيفة الرواية أو الدلالة أو باطلة أمثلها حديث الأعمى الذي طلب من
النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يرد له بصره فأمره بأن يدعو بدعاء فيه
لفظ التوسل والاستشفاع به فدعا ودعا له صلى الله عليه وسلم. فالتوسل هنا إنما كان
بالدعاء منه ومن النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء مشروع وطلبه مشروع فهو
غير خارج عن قاعدتي عبادة الله وحده بما شرعه. فلا يدل على التوسل بالشخص
والذات من غير عمل، ولا على طلب الدعاء من الأموات، فضلاً عن طلب قضاء
الحاجات فيما لا يطلب إلا من الله عز وجل وهو ما وراء الأسباب.
وقد شرحنا هذا في مواضع كثيرة من المنار والتفسير فلهذا نختصره هنا،
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كتاب مستقل في هذه المسألة طبع المرة بعد المرة باسم
(التوسل والوسيلة) فإن شئتم الإحاطة بها من كل وجه فعليكم بمطالعته وهو يطلب
من مكتبة المنار بمصر.