للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاتفاق بين دولة الحجاز ونجد السعودية
ودولتي إيران وبولونية

وعدنا في الجزء الأخير من المجلد الثلاثين بنشر اعتراف دولة بولونية
بالمملكة السعودية، وسبب ذلك أنه قد زار مصر صاحب الفضيلة مفتي المسلمين في
بولونية وزعيمهم الديني الشيخ يعقوب شنكفتش في طريقه إلى الحجاز، فلقي من
تكريم فضلاء المسلمين وجمعية شبانهم، ومن جمعية الرابطة الشرقية ما يليق
بزعامته وشخصه الكريم، وقد ألقى في نادي الخطابة من دار جمعية الشبان
المسلمين محاضرة في بيان حال المسلمين في بولونية وما لهم فيها من حرية الدين
المطلقة ومن مساعدة الحكومة البولونية الكاثوليكية لهم ما كان موضع الإعجاب
والعجب من كل مَن سمعه؛ لأنه فوق المعهود من الدول الأوربية. وسببه الحقيقي
عندنا أن تدين بولونية أمتها وحكومتها بالنصرانية تدين عقيدة وإخلاص، فهو لا
ينافي الاتفاق مع المسلمين، وأما تدين دول الاستعمار والدعاية فهو تدين سياسة
وتجارة وبذلك كان مثار الشرور.
ثم سافر المفتي إلى الحجاز، وحظي مع الوفد البولوني المؤلف برياسة المعتمد
السياسي الجديد لدولته لدى ملك المملكة الحجازية النجدية بلقاء ملكها في مدينة جدة،
واحتفل فيها بتبادل خطبتي الاتفاق بين الدولتين بما هو صريح في اعتراف حكومة
بولونية وشعبها بمزايا الشعب العربي الإسلامي، والرغبة الصادقة في مودته بأسلوب
لم يعهد مثله من الدول الأوربية في روحه ومغزاه. وكان جواب الملك السعودي زعيم
العرب والإسلام له بمثل هذه الروح الشريفة؛ لهذا أحببنا نشر ذلك في المنار للتنويه
به.
وقد اتفق أن جريدة أم القرى الحجازية الغَرَّاء نشرت تفصيل الاحتفال بالوفد
والمعتمد البولوني عقب تفصيل الاحتفال بالمعتمد الإيراني وكنا نوهنا في المنار
بالاتفاق بين الدولتين السعودية والبهلوية الإيرانية في المنار وأظهرنا السرور به
ولكننا رأينا في خطبة المعتمد الإيراني وجواب الملك السعودي له ما ضاعف
سرورنا بأصل الاتفاق بين هاتين الدولتين الإسلاميتين المستقلتين، وهو التصريح
فيهما بالجامع الأقوى والأعلى بينهما وهو الرابطة الإسلامية وتعزيز الإسلام، وقد
أكبرنا هذا التصريح الذي يعبق منه شذى الصدق والإخلاص؛ لأنه وقع بعد سعاية
خبيثة لإيقاع الشقاق بينهما إحياءً وتجديدًا لشر المصائب والرزايا القديمة التي
أضعفت الإسلام والمسلمين وهي العداوة بين أهل السنة والشيعة. وبعد ما وقع من
شيعة العراق من إظهار العداوة والبغضاء لأهل السنة النجديين وتكفيرهم، ومن شيعة
سورية من نشر أحد شيوخ علمائهم لكتاب خبيث في الطعن في دين الوهابية
يتضمن الطعن في السنة وأئمتها وحُفاظها، ومن تأليف عالم آخر منهم لكتاب آخر في
دعاية الرفض والطعن في أهل السنة، وتصدي مجلتهم العرفان لنشر هذه الدعاية.
فهذا الاتفاق بين الدولة المقيمة للسنة على أصولها الصحيحة والدولة الممثلة
لفريق الشيعة الإمامية، وبناؤه على ما صرح به في الخطبتين من جعل الشعور
الإسلامي والوحدة الإسلامية أساسًا للمودة، والاتفاق والتعاون - يعد مبدأ إصلاح
إسلامي عظيم تعب دعاة الإصلاح في سبيله تعبًا عظيمًا ولم يفوزوا بما كانوا
يرجون منه، وناهيك بما قام به حكيمَا نهضتنا الإسلامية منذ نصف قرن من السعي
الحميد لذلك. وهما السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني والشيخ محمد عبده
المصري.
وإننا نبدأ بنشر خطبتي هذا الاتفاق وننشر عقبه خطبتي الاتفاق الآخر.
خطاب الممثل الإيراني
(وهو صاحب السعادة حبيب الله خان هويدا)
يا صاحب الجلالة:
إن مولاي المعظم صاحب الجلالة شاهنشاه إيران - خلد الله ملكه - أولاني
أسمى شرف، وأعظم فخر، وأغلى ثقة، بتعييني ممثلاً في بلاط جلالتكم؛ لأقوم
بكل قواي على إحكام روابط المحبة والوداد الموجودة لحسن الحظ بين الدولتين
الصديقتين الإسلاميتين.
إن اطمئناني - يا صاحب الجلالة - على وجود الصداقة الخالصة المتينة بين
الحكومتين المعظمتين، واعتمادي وثقتي على العواطف السامية الملوكانية التي
شملتموني بها عند مثولي بين يدي جلالتكم في الدفعات الماضية، وشعوري على ما
بين الأمتين من روابط الإخاء والولاء يشدد ساعدي في تأدية الواجب، ويقوي
عزيمتي على القيام بمهمتي.
يا صاحب الجلالة:
إن بين الشعبين صلة أكيدة، قوامها الدين المبين، وأواصر إخاء وثيقة،
عمادها الاتحاد والغاية في النزعة القومية؛ لأن الأمتين استناروا من نور واحد
أشرق من أفق البطحاء واستفاضوا من منبع فيض واحد كان ينبوعها هذه الأراضي
المقدسة.
فأي ضمان أثبت على دوام المحبة وأحفظ على تبادل الولاء الصادق من
الاتفاق في شعائر الدين والتقاليد القومية؟ وإني - يا صاحب الجلالة - أراني في
هذه الساعة محاطًا بروح الشرف والفخار بتشرفي بالمثول بين يدي جلالتكم لتقديم
أوراق اعتمادي، الكتاب الكريم المرسل من لدن صاحب الجلالة شاهنشاه بهلوي
متبوعي المعظم مليك إيران لجلالتكم بتعييني ممثلاً للدولة الإمبراطورية في بلاط
جلالتكم مليك الحجاز ونجد وملحقاتها، فأغتنم هذه الفرصة الثمينة - يا صاحب
الجلالة المعظم - لأعرب عن المودة الصادقة الأكيدة التي يبديها مليكي المعظم في
تمنياته لذاتكم الملوكانية بالفوز والتأييد، ولأسرتكم الملكية الكريمة بالعظمة والإقبال،
ولأمتكم المجيدة بالسعادة والرفاء، كما أن حكومة جلالة مولاي المعظم والأمة
الفارسية لترجو بأن يكون عهد توليتكم شؤون الدولة وتبوأكم عرش المملكة فاتحة
واطرادًا للرقي والتقدم، ويعود على الأمة العربية بالعز والرفاهية، ويزيد الصلات
الودية الموجودة بين الشعبين الفارسي والعربي متانةً وإحكامًا، مولاي.
***
الجواب الملوكي
وقد تلاه أمين السر لصاحب الجلالة السعودية الأستاذ الشيخ يوسف ياسين
يا جناب الممثل:
إنه لمن دواعي سرورنا العظيم أن نتقبل ممثل صديقنا العزيز جلالة شاهنشاه
إيران في بلاطنا ليكون واسطة في تأييد أواصر الصداقة - القائمة ولله الحمد -
وتمتين حسن الصلات بين البلدين اللذين يرتبطان بصلات الجوار والحس المشترك
في الشعور الإسلامي العام.
وإنه ليسر شعب هذه البلاد المقدسة أن يروا هذه الصلات الحسنة مستمرة
على الدوام مع سائر الشعوب التي تنتسب للإسلام ليكون هذا عونًا على ارتباط
المسلمين جميعًا للتعاضد على العمل الذي كان منشؤه - كما ذكرتم - هذه البلاد
المقدسة ليسطع نور الإسلام في سائر الآفاق ويكون من آثار سطوعه تعاضد
المسلمين على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
ولقد كان من دواعي سرورنا أن يقع اختيار جلالة صديقنا العزيز لجنابكم
لتمثلوه لدينا لما عرفناه في شخصكم من القديم في السعي والحرص في تأييد أواصر
الصداقة بين البلدين. تلك المساعي التي أنتجت - ولله الحمد - هذا العصر السعيد
من الوئام والاتحاد بيننا وبين الجارة الصديقة؛ لذلك نتقبل بسرور أوراق اعتمادكم
التي حملتموها من لدن جلالته.
ونحب أن تكونوا على ثقة - جناب الممثل - من أنكم ستلقون منا ومن
رجال حكومتنا كل مساعدة وتأييد لتتمكنوا من القيام بمهمتكم التي أُسندت إليكم خير
قيام، وإنا لنتمنى لكم توفيقًا ونجاحًا في جميع ما تسعون إليه من أعمالكم
المفيدة. والسلام.
***
اعتراف حكومة بولونيا بالحكومة السعودية
(منقول من جريدة أم القرى الغراء بحروفه)
في الساعة الحادية عشرة من اليوم المذكور تشرف الكونت إدوارد راشينسكي
والدكتور يعقوب شنكفتش مفتي مسلمي بولونيا أعضاء الوفد البولوني الذي ذكرنا نبأ
وصوله في العدد الماضي بمقابلة صاحب الجلالة الملك المعظم، وقد استقبل الوفد
بالمراسم المعتادة ولقي من جلالة الملك كل عطف ورعاية.
ثم ألقى الكونت إدوارد راشينسكي أمام جلالة الملك خطابًا نشرنا صورته فيما
يلي وعقبه الشيخ يوسف يس فألقى الخطاب الجوابي الملوكي.
***
(خطاب الكونت إدوارد)
يا صاحب الجلالة:
أتشرف بأن أقدم إلى جلالتكم رسالة حضرة صاحب الفخامة رئيس جمهورية
بولونيا الفتية الناهضة وباسم فخامته أعرض على جلالتكم تمنيات صحتكم ودوام
ملككم لرفاه الأمم المتحدة تحت لوائكم المنصور.
إن مملكة بولونيا تعرف جيدًا الأمة العربية الجسورة وفروسيتها، وتقدرها
حق قدرها، وقد اشتهرت في العالم بحبها للحرية حتى بلغت شهرتها إلى بولونيا،
فتغنى شعراؤها منذ العصور بفروسية هذه الأمة الكريمة.
إن الأمة البولونية تقدر هذه الفروسية وهذا الحب للحرية؛ لأنها هي أيضًا
قاتلت متفانية لنيل استقلالها وتحملت آلامًا ومتاعب كثيرة لبلوغ غايتها من الحرية
المنشودة، وقد كانت حياتها في خطر ولكن بفضل الله سبحانه وتعالى وكرمه
استطاعت أن تحافظ على كِيانها حتى أصبحت مملكة قوية يتمنى العالم كله هدوءها
وسكونها للمحافظة بسببها على السلام العام.
أقدم هذا التقدير وهذه الممنونية التي تحفظها الأمة البولونية نحو الأمة العربية
الكريمة ونحو جلالتكم الذي جمعتم هذه الأمة العربية وكونتم مملكة الحجاز ونجد
وملحقاتها العظيمة على يدكم المنصورة بسعيكم النادر وحكمتكم النافذة، وشجاعتكم
الشخصية التي هي أكبر ما تقدرها الأمة البولونية.
إن شهرة جلالتكم - كأتقى ملك وأكثرهم دفاعًا عن الدين - تزداد انتشارًا يومًا
فيومًا بين إخوانكم المسلمين في بولونيا الذين توطنوا بلاد الشمال البعيدة منذ قرون
عديدة، وقوبلوا من الأمة البولونية كإخوة لشهرتهم بالتخلق بالأخلاق الحسنة
والفروسية والتفاني في الدفاع عن الوطن مع إخوانهم البولونيين حين هجوم الأعداء
على بلادهم، وقد حضر اليوم معي إلى هنا ممثلهم ورئيس ديانتهم المحترم المفتي
الأكبر يعقوب شنكفيتش ليرتبط بمنبع ديانتهم ارتباطًا وثيقًا ويهنئ جلالتكم بالصعود
على عرش البلاد المقدسة والدفاع عنها.
إنني لا أشك من أن وفدنا - الذي أتشرف بأن أكون رئيسه - ليستطيع أن
يضع الأساس الأول لارتباط الأمتين الكريمتين (الأمة العربية والأمة البولونية)
برباط الصداقة القلبية المتينة لمنفعة هاتين الأمتين اللتين يمكنهما أن تنتفعا من
بعضهما انتفاعًا عظيمًا فتظهر هذه المنفعة جليًّا في ميدان الاقتصاد؛ لأن بلادنا
محشودة بثروات طبيعية وصناعات تتقدم بسرعة مدهشة فيمكن أن تستفيد هاتان
المملكتان البعيدتان من بعضهما فائدة عظيمة بسبب تبادل محصولاتهما الطبيعية
والصناعية.
بعد أن تشرفت بتقديم إحساسات وتمنيات حضرة فخامة رئيس الجمهورية
البولونية الفتية، وحضرة القائد المنصور المارشال جوزيف بيلسودسكي وباسم
الحكومة البولونية والأمة البولونية كلها _ ألتمس السماح لي بأن أتشرف بتقديم
تمنياتي وإحساساتي الشخصية مع إحساسات وتمنيات زميلي المحترم وأرجو
وألتمس من جلالتكم التنازل بقبولها وتعطفوا علينا بمعونتكم في إنهاء مهمتنا التي
تشرفنا بتحملها لإنهائها مع معاونة جلالتكم.
***
الجواب الملوكي
يا جناب المندوب:
إننا نتقبل بسرور رسالة حضرة صاحب الفخامة رئيس جمهورية بولونيا
الفتية الناهضة ونتقبل بامتنان التمنيات الطيبة التي نقلتموها لنا عن فخامته.
كما أننا نفاخر بما ذكرتم مما هو معروف في بلادكم عن مزايا أمتنا العربية
التي نراها تشابه في كثير من الحالات الأمة البولونية في مراميها ومزاياها من
الشجاعة والإقدام.
وإن الأمة العربية لتنظر للبراعة التي ظهرت في الأمة البولونية وعلى
الأخص في الأيام الأخيرة بعين التقدير والاحترام، ولقد سرنا ما ذكرتم لنا عن
الذين ينتسبون للإسلام ويتفيئون ظلاله، وإنا لنتمنى لهم هناءً وراحةً وتوفيقًا في
إقامة شعائر دينهم ونجاحًا في السير على ما جاء به الإسلام الذي كان منشؤه هذه
الديار المقدسة التي تسر باستقبالكم فيها، وإنا لنرحب بحضرة ممثل المسلمين في
ديار بولونيا وسيلقى منا ومن رجال حكومتنا كل مساعدة في سبيل تأييد الصلات مع
أولئك المسلمين الذين نهتم بأمرهم كل الاهتمام.
وإنا لواثقون من أنه سيكون لوفدكم الكريم أحسن الأثر في العلاقات
الاقتصادية بين بلادنا وبلاد الأمة البولونية النجيبة.
ونرجوكم أن تقدموا بالنيابة عنا لحضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية
البولونية ولحضرة القائد المنصور المارشال جوزيف بيلسودسكي تمنياتنا بدوام
صحتهما ورفاهيتهما، كما نرجو إبلاغ الأمة البولونية النجيبة تمنياتنا لسعادتها
وسُؤْدُدها كما نتمنى لجنابكم ولرفيقكم الموقر كل هناء وصحة وعافية، ونأمل أن
يبدأ في القريب العاجل عهد علاقات ودية واقتصادية بين البلادين تكون مفتاح هذه
العلاقات والسلام.
وبعد الانتهاء من الخطب أبلغ الدكتور إدوارد راشنسكي جلالة الملك اعتراف
حكومة بولونيا بارتقاء جلالته على عرش مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، فشكر
جلالته الحكومة البولونية على صنيعها هذا. اهـ.