للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الفتح الأوربي والفتح الإسلامي
والاستعمار البريطاني والفرنسي

يا حسرةً على المسلمين جهلوا تاريخهم وجهلوا دينهم فجهلوا أنفسهم، فهم
يخْرِبون بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم الظالمين المستذلين لهم، شغلهم الفاتحون
لبلادهم عن أنفسهم وعن مقومات أمتهم من دين قيم، وتشريع عادل، وتاريخ مجيد،
وأدب رائع - بزُخرف من زينة حضارتهم، ودعاوى كاذبة عن عدالتهم وتهاويل
مرعبة من مظاهر قوتهم، فرضي كثير منهم بأن يكونوا أعوانًا لهم على استعبادهم
واستذلالهم، ثم لم يرضَ الفاتح منهم بسلب المال، وتنكيس رؤوس الرجال،
حتى عمد إلى سلبهم ما لهم من الرجاء في سعادة الآخرة بتحويلهم عن الإسلام بعد
أن سلبهم سعادة الدنيا.
كان المسلمون يفتحون المِصر من الأمصار والقطر من الأقطار فيرضَوْن من
أهله بقليل من المال يسمى (الجزية) يجعلون لهم بها حق حمايتهم والدفاع عنهم،
مع حريتهم المطلقة في عقائدهم وعباداتهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويسمحون
لهم بتلقي العلوم معهم في مساجدهم ومدارسهم كأبنائهم، وبجميع الأعمال التي
يقدرون عليها لترقية أنفسهم. ومن اختار منهم الدخول في الإسلام كان أخًا
للمسلمين في الأمور الروحية، فوق ما كان له من مساواتهم في الحقوق المدنية،
وترفع عنه الجزية التي قلما كانت تزيد على دينار في السنة من البالغ الحر القادر
على الأداء.
وأما هؤلاء المستعمرون من الإفرنج فهم يسلبون من أهل البلاد التي يستولون
عليها أكثر ثمرات كسبهم، ويجعلونهم أذل من عير الحي والوتد في بلادهم،
ومَن لم يرضَ مع الذل والعبودية بخيانة أمته ووطنه والخدمة الصادقة لهم -
يسومونه سوء العذاب، ولا يساوون أحدًا منهم بأبناء جنسهم، وإن هو دخل في
دينهم. وأشدهم إسرافًا في هذه الخطة الدولة الفرنسية، وقد كان رجال سياستها
يسخرون من الإنكليز؛ إذ يرونهم يسمحون لبعض الناس في البلاد التي يتغلبون
عليها بأن يكونوا أصحاب ثروة واسعة، وأن يعلّموا أولادهم بعض العلوم العالية،
ويتركون لهم شيئًا من الوجاهة وحرية الدين التي لا تعارض السلطة، ويكتفون في
سبيل تحويلهم عن دينهم ونعرتهم القومية والوطنية بالتعليم والتربية المدرسية
ودعاية المبشرين بالنصرانية معتذرين عن دعايتهم بأنه مقتضى الحرية الدينية
العامة لا خروج عنها.
كان الدكتور غوستاف لوبون فيلسوف فرنسة يفضل في كتبه سيرة إنكلترة في
مستعمراتها على سيرة دولته (فرنسة) وكان ساستها يسخرون من فلسفته ومن
السياسة الإنكليزية الاستعمارية، ولما قامت مصر والهند بعد الحرب تطلبان
الاستقلال، وتبذلان في سبيله الأموال - اقتنعت إنكلترة بأن فرنسة أحذق منها في
استعباد البشر؛ إذ لا تدَع لهم سبيلاً إلى الثورة ولا إلى العلم الذي يجمع الكلمة،
ولكنها لا تستطيع أن تكون مثلها، فإن حاولت ذلك كان خَسارها أكبر من ربحها!
إن جميع الحكومات الأوربية تتعمد إفساد أخلاق أهالي البلاد التي تستولي
عليها بأي اسم من أسماء الاستيلاء حتى الحماية والمساعدة والانتداب، وتُلقي بين
المختلفين من أهلها في الدين أو المذهب أو الجنس الشقاق والبغضاء. أما إفساد
الأخلاق وكذا صحة الأبدان فبإباحة الفواحش والمنكرات كالخمور والمخدِّرات
بأنواعها ونشرها باسم الحرية الشخصية وحرية التجارة، وإما إلقاء العداوة
والبغضاء والتفريق بين الأهالي فباسم حماية حقوق الأقليات.
والغرض الذي يتوخونه من كل ذلك أن لا توجد في البلاد وحدة تجمع كلمة
أهلها على المطالبة باستقلالها، ولا فضائل تؤلف بين الأفراد وتنهض بهِممهم
إلى القيام بشئون الإصلاح فيها، وإنما يكون همّ كل واحد منهم التمتع بشهواته
الحيوانية، وهم كل فريق يجمعه دين أو مذهب أو جنس معاداة من يخالفه فيه
من أهل بلاده.
وأما المسلمون فكانوا على إطلاقهم الحرية للمخالفين لهم في الدين يمنعونهم
من الفواحش والمنكرات التي تفسد أخلاقهم وتجني على صحتهم، كما يمنعون منها
المسلمين أنفسهم؛ لأن الله تعالى لما أذن لهم بالقتال دفاعًا عن أنفسهم ودينهم عند
تمكنهم منه كان مما أوجبه عليهم إذا صاروا أصحاب السيادة في الأرض أن يأمروا
بالمعروف وينهوا عن المنكر، فلا تبيح الحكومة الإسلامية الصحيحة لغير المتدينين
بدينها من المنكر عندها إلا ما تبيحه لهم ديانتهم كشرب الخمر مثلاً، إذا كان فيما
بينهم بصفة لا يضر غيرهم.
وقد رأينا بعد الحرب الكبرى من ظلم الدول المستعمِرة للمسلمين وتعديها على
دينهم ودنياهم ما تفاقم شره بعد سقوط الدولة العثمانية، وقيام حكومة تركية من
أنقاضها، أعلنت الإلحاد ونبذت الشريعة الإسلامية وراء ظهرها، وأبطلت محاكمها
ومدارسها وأوقافها، وأكرهت رعيتها على ترك لغتها وهي العربية، وعلى كتابة
اللغة التركية بالحروف اللاتينية، وترجمت لها القرآن المجيد باللغة التركية ترجمة
لا يثق بها مسلم؛ لتكتبه بالحروف اللاتينية، تمهيدًا لمحوه من البلاد التركية.
ولم يمكن الشعب التركي الذي يَدين سواده الأعظم بالإسلام وتعد الملاحدة فيه
كالنقطة السوداء في الثور الأبيض - أن يصد حكومته العسكرية القاهرة عن هذا
الإلحاد لضعفه بالفقر والحروب الطويلة التي أنهكت قُواه، وقد حاول اغتيال رئيس
جمهوريته الإلحادية (اللاييك) مرارًا فلم يظفر به، فهو ينتظر الفرج من الله تعالى
بانقلاب آخر.
فهذا الحدث الفاحش أطمع الدول المستعمرة للبلاد الإسلامية في إخراج
المسلمين من دينهم بالقوة القاهرة. وقد كانت دولة فرنسة تمهد السبيل من قبل
لإخراج شعب البربر الإسلامي القوي الشكيمة من الإسلام إلى النصرانية أو الإلحاد،
ثم تجرأت في هذا العهد على تنفيذ ذلك بالقوة العسكرية في المغرب الأقصى،
واستعانت على ذلك بحيلة صورية، أرادت أن تجعل بها هذه الفعلة ذات صبغة
رسمية أو شرعية، فطلبت من سلطان المغرب السابق أن يُصدر لها ظهيرًا
(مرسومًا سلطانيًّا) يهبها به ما كان له من الرياسة الدينية والحق الشرعي الديني
على شعب البربر ويجرد نفسه منه، فيكون لها به حق التصرف المطلق في أمور
هذا الشعب الدينية من قضائية وتعليمية؛ ظنًّا منها أن السلطان الذي يملك حق
الولاية الدينية على هذا الشعب الإسلامي يملك أن يتركه لسلطة غير إسلامية،
ويجعل لها حق التصرف في دين هذا الشعب فترده عن الإسلام بكل الوسائل التي
تقدر عليها، فامتنع أن يصدره على شدة التهديد في زمن الحرب الكبرى، وهم
يزعمون أنه أصدره، ولكنها لم تنشر نصه ولم تكتفِ به، بل عادت بعد موته إلى
ولده الشاب الذي نصبته بعده واستصدرت الظهير في هذا العام بنفوذ رئيس حكومة
المخزن (الطيب المقري) ، وشرعت في إخراج البربر بالفعل من دين الإسلام
بتعليم أولادهم الديانة النصرانية باللغة الفرنسية ومنعهم من تعلم القرآن واللغة
العربية وبوضع قانون جاهلي للأحكام الشخصية من زواج وطلاق وإرث وغيره
يحل محل الشريعة الإسلامية، في محاكم بربرية تنشأ بدلاً من المحاكم الشرعية.
أما الحق الشرعي في هذه الوسيلة فهو أن السلطان لا يملك أن يعطيها هذا
الحق، كما أنه لا يملك أن يغير نصًّا من أحكام الشرع، كأحكام الزوجية والطلاق
والإرث، وهي منصوصة في القرآن، بل لم يكن للرسول الأعظم حق في مخالفة
القرآن في حكم من أحكامه وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ
الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن
تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (يونس: ١٥) ، فأي مسلم اعتقد أن له الحق في أن يغير حكمًا من أحكام القرآن
أو غيرها من أحكام الإسلام المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة يحكم
بارتداده عن الإسلام وقتله وعدم دفنه في مقابر المسلمين.. إلخ، وكذا مَن استحل
أن يفعل ذلك أو أن يسمح لغيره بفعله فهو كافر مُراق الدم، وإذا كان من يجحد مثل
هذه الأحكام جحودًا يُحكم يكفره ويجب قتله أيضًا فكيف بمن ينفذ إبطال هذه الأحكام
بالفعل أو يسمح لغيره بتنفيذها وإخراج بعض المسلمين من دينهم؟ ! قال صاحب
عقيدة جوهرة التوحيد:
وَمَن لمعلوم ضرورة جحد ... من ديننا يقتل كفرًا ليس حد
ولما شرعت حكومة المغرب الفرنسية في تحويل البربر عن دينهم بالفعل
تجرأ مسلمو المغرب الأقصى على مقاومة السلطة الفرنسية بالفعل، وكان قد
استحوذ عليهم الخوف والجبن، وسنبين في الجزء الآتي ما كان من تأثير هذه الفتنة
هنالك ثم ما كان وما سيكون من تأثيرها في العالم الإسلامي كله، مع البحث في
آراء ساسة فرنسة فيما يجب أن تعامل به المسلمين؛ فإنهم مختلفون في ذلك ولم
يبلغنا عن أحد منهم قبل الحرب الكبرى أنه يجب عليها إكراههم على ترك الإسلام
بل هذا رأي حديث سنبين أنه رأي أفين، ونرد على ما أقاموا عليه من الدليل،
ونبين الرأي المعقول الجامع بين مصلحة فرنسة ومصلحة المسلمين، ومصلحة
البشر أجمعين.