للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

أسئلة من قبودان الصين لأحد العلماء وأصحاب الصحف
(٢٧-٣٢)
من أحقر الأنام، عثمان بن حسين الصيني إلى الأستاذ العلامة محمد رشيد
يا سيدي سلام عليكم ورحمة الله (وبعد) :
فقد وصل إلى الفقير الجزء الأول من المنار الشريف وأحاط بما فيه وسُرّ
سرورًا شديدًا، جزاكم الله تعالى عنا خير الجزاء.
فالمرفوع آنفًا أن علماء الصين تنازعوا في بضع مسائل:
(١) أن بعضهم قالوا بأن أرض الصين دار إسلام فإن المسلمين تولدوا في
الصين ونشئوا وتمكنوا على التدين والعمل بالشرائع فهي دار إسلام فأحكام دار
الإسلام كعدم جواز بيع الخمر ووجوب العشر ونحو ذلك جارية فيها، وبعضهم قالوا
بكونها دار حرب فإن المسلمين داخلون تحت الحكام والقضاة للكفار وليس لهم قاضٍ
ولا حاكم مستقل.
(٢) أن مسلمي الصين يَدْعُون الإمام والمؤذن والقراء إلى بيوتهم لقراءة
القرآن لأجل موتاهم، وعادتهم إن دعوا مثلاً عشرة قراء إلى بيوتهم فقرأ كلٌّ ثلاثة
أجزاء من القرآن معًا أو قرؤوا كل جزء إلى نصفه أو أقل أو أكثر باختيارهم
فأطبقوا القرآن فإن الداعي يُخرج لهم أنواع الطعام ويعطي كل واحد منهم أربعة
دراهم أو أقل أو أكثر بعد الأكل وهذا ديدنهم.
فقال بعض العلماء إن هذا مخالف للكتب الفقهية لا يجوز وغيروا هذه العادة
ثم صار أمرهم إلى أنهم إن قرؤوا عن الغير لم يأكلوا ولم يقبلوا الهديات وإن أكلوا
من طعام الداعي لم يقرؤوا، لكن نهض بعض أهل العلم والقوم لمعارضتهم وهم الذين
قراءة القرآن عند القبر مناط معاشهم ولم يرضوا بتغيير عادة السلف وأخذوا في
القيل والقال، فالمرجو من كرمكم - يا سيدي - إعطاء الجواب الحسن القاطع
للنزاع بينهم المفيد على مذهبنا الحنفي؛ لأنهم وقعوا في ورطة للتفرق والشقاق بهذا
السبب.
(٣) إن بعض الناس إذا وجع ضرسه أو داد سنه وفسد وضع ضرسًا من
الذهب أو غيره في موضعه وإذا فسد بعض ضرس رصعه بالذهب وسده به
وأصلحه. هل هذا جائز أم لا؟ هل هو مانع لصحة الغسل أو لا؟ هل وجود
الضرورة شرط لجواز الوضع؟ وهل إخراج هذا الضرس الوضعي بعد الموت
واجب أم لا؟
(٤) إن بعض نساء المسلمين قطعن ذوائبهن؛ لاقتفاء النساء الإفرنج
والمشركات ويمضين في الأسواق بغير قناع هل هذا حرام غليظ أم خفيف كيف
حكمه على مذهبنا الحنفي؟
(٥) بعض مسلمي الهند لم يتمذهبوا بمذهب من مذاهب الأئمة رضي الله
عنهم وقالوا إن أهل المذاهب خالف بعضهم بعضًا بل خالف رأي بعض الأئمة
الحديث الشريف وهذا يؤدي إلى التشاجر والتقاطع ونحن محمديون نقتدي بالقرآن
وبمحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ونعمل بالقرآن والحديث، لا نقتدي بهذا ولا
بذاك هل رأيهم هذا صواب أم لا؟
فالمرجو من كرمكم الفتوى وإعطاء الجواب على التفصيل على مذهبنا الحنفي
سراعًا.
جزاكم الله تعالى عنا خير الجزاء فإنا كالضفادع في غَيَابة الجُبّ.
(٦) ثم بقية المرام أنهم تنازعوا في مسألة الهلال، ودخول شهر رمضان
وخروجه وقبول أخبار الآفاق بالرؤية وعدمه وتخالفوا، فالإرشاد الإرشاد، فلله
دركم والسلام.
... ... ... ... ... ... ... الداعي تلميذكم
... ... ... ... عثمان بن حسين بن نور الحق الحنفي الصيني
أجوبة المنار على ترتيب عدد باب الفتاوى
(٢٧) دار الإسلام ودار الحرب:
إن دار الإسلام هي البلاد التي تنفذ فيها شريعة الإسلام بالسيادة والحكم من
قِبَل أولي الأمر من المسلمين. لا كل بلاد يمكن للمسلم فيها أن يصلي ويصوم؛
فإننا إن قلنا بهذا حكمنا بأن جميع ممالك أوربة وأميركة دار إسلام، إذ لا يُمنع أحد
فيها من صلاة ولا صيام، وإن المسلمين يصلون الجمعة والعيدين في باريس
عاصمة فرنسة ولندن عاصمة الإنكليز فهل هما من دار الإسلام؟ . كلا. ولا كل
بلاد فتحها المسلمون وإن زال حكمهم منها دار إسلام، فإننا إن قلنا بهذا نكون قد
حكمنا بأن بلاد الأندلس وجنوب فرنسة دار إسلام. وإننا ننقل لهؤلاء المختلفين في
هذه المسألة بعض أقوال فقهاء الحنفية الذين ينتمون إلى مذهبهم:
قال في الكافي: ودار الإسلام عندهم ما يجري فيه حكم إمام المسلمين من
البلاد، ودار الحرب ما يجري فيه أمر رئيس الكفار من البلاد. وفي الزاهدي أن
دار الإسلام ما غلب فيه المسلمون وكانوا فيه آمنين، ودار الحرب ما خافوا فيه من
الكافرين. ولا خلاف في أنه يصير دار الحرب دار الإسلام بإجراء بعض أحكام
الإسلام فيها. وأما صيرورتها دار الحرب نعوذ بالله تعالى فعنده [١] بشروط:
(أحدها) إجراء أحكام الكفر اشتهارًا بأن يحكم الحاكم بحكمهم ولا يرجعون
إلى قضاة المسلمين، ولا يحكم بحكم من الإسلام كما في الحرة.
(وثانيها) الاتصال بدار الحرب بحيث لا تكون بينهما بلدة من بلاد الإسلام
يلحقهم المدد منها.
(وثالثها) زوال الأمان أي لم يبق مسلم ولا ذِمّيّ آمنًا بأمان الإسلام، ولم
يبق الأمان الذي كان للمسلم بإسلامه، وللذمي بعقد الذمة كما كان قبل استيلاء الكفرة،
وعندهما [٢] لا يشترط إلا الشرط الأول. اهـ.
هذا، وإن الصين لم تكن دولة إسلامية تابعة لخليفة من أئمة المسلمين ولا
لسلطان من سلاطينهم تنفذ فيها أحكام شريعتهم ويكون مسلمو أهلها آمنين فيها
بإسلامهم وغير المسلمين آمنين بعقد الذمة مع أولي الأمر من المسلمين فتكون دار
إسلام، فلا أدري من أين جاءت الشبهة لبعض متفقهة إخواننا من مسلميها بأنها دار
إسلام؟ !
نعم، إن بعض فقهاء الحنفية تساهلوا في شروط إبقاء حكم دار الإسلام في
البلاد التي تنفصل من سلطنة إمام المسلمين بتغلب الكفار أو البغاة عليها فلا
يشترطون في صيرورتها دار حرب الشروط الثلاثة التي اشترطها إمام المذهب
الأعظم، بل قال بعضهم: إنها تعد دار الإسلام والمسلمين ببقاء بعض أحكام الإسلام
فيها ولو حكمًا واحدًا (كما في العمادي وفتاوى عالم كير وفتاوى قاضي خان
وغيرها) ولكنهم جعلوا هذا من قبيل الاحتياط كما في جامع الرموز، والذي نفهمه
من الاحتياط أنه يجب على أهل هذه البلاد أن يعدوها تابعة لحكومة خليفة الإسلام،
ويجتهدوا في إزالة ما عرض لهم فيها من العدوان، كما فعلت بعض البلاد التي
استولت عليها جيوش الدول الأوربية وأبطلوا فيها بعض أحكام الإسلام دون بعض.
وهذا الاحتياط لا يمنع الإمام في دار الإسلام والعدل من التصدي لإعادتها إلى حكمه
ولو بالقتال عند الإمكان، ومن هذا القبيل ما ذكرناه من البحث في دار الإسلام
الأصلية مما تغلَّب عليه أهل الحرب من الكفار وقلنا بوجوب سعي المسلمين إلى
إعادة حكم الإسلام فيها (راجع ص ٥٧٦ و٥٨٠ من مجلد المنار ٣٠) .
ولكن هذا الاحتياط لا يأتي في بلاد الصين فهي دار كفر وحرب من الأصل
فيباح لأهلها المسلمين في مذهبهم الحنفي أكل أموال غير المسلمين فيها بالعقود
المعروفة فيها كالربا وغيره وبكل وسيلة من وسائل التعامل والتراضي أو ما عدا
الغدر والخيانة فإن الإسلام لا يبيح هذه الرذيلة. ولا ينبغي لمسلم أن يبيع فيها
الخمر لشاربيها بفتح حانة لها؛ لأن هذا إعانة على الفحشاء والمنكر والشرور،
ولكن له أن يأخذ ثمن الخمر في دَيْن له، وكذا الخمر نفسها وبيعها لهم لا للمسلمين،
ولهذا الباب فروع كثيرة لا محل لذكر شيء منها هنا.
ولكنني أزيد على هذا الجواب تنبيه قرائه من علماء مسلمي الصين وعقلائهم
ما أعتقده من أنهم لو أقاموا دينهم كما يجب، ونموا ثروتهم بالطرق العصرية
المباحة في مذهبهم، ونشروا المعارف الإسلامية والاقتصادية بينهم، وعنوا مع ذلك
بنشر دعوة الإسلام في الصين كما يعنى دعاة النصرانية - لغلب الإسلام في الصين
جميع الأديان، وصار دولة إسلامية عزيزة السلطان، باذخة البنيان، قوية الأركان.
وقد كان كثير من ساسة أوربة وعلمائها في القرن الماضي وأوائل هذا القرن
يحسبون لهذا الأمر كل حساب. وقد صرح به بعضهم ونقلنا بعض أقوالهم في
مجلدات المنار الأولى وأولها ما نشرناه في المجلد الأول بتاريخ ربيع الآخر سنة
١٣١٧ وسنعيد نشره كله أو بعضه في جزء آخر ليعتبر مسلمو الصين بتقصيرهم.
***
(٢٨) قراءة القرآن للموتى وأخذ الأجرة عليها
قراءة القرآن عبادة كالدعاء والذكر لا يجوز أخذ الأجرة عليها بوجه من
الوجوه. وإذا كان فقهاء الحنفية منعوا أخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ لأنه عبادة
فمنع أخذها على قراءته أولى بالحظر، لأن للأخذ على التعليم وجهًا وقد قال
الجمهور بجوازه. وقد بينا هذه المسألة في الفتوى العاشرة من فتاوى مجلد المنار
الثلاثين (ص١٠٨) .
وأما أصل مسألة القراءة على الموتى فقد فصلنا القول فيها في ١٦ صفحة من
جزء التفسير الثامن (صفحة ٢٥٥-٢٧٠) وبينا أن التحقيق أن قراءة القرآن
للموتى بدعة غير جائزة وذكرنا أدلة مجوزيها مع بيان ضعفها فليراجعها السائل.
ولكن هنا مسألة أخرى وهي أن قراءة القرآن في البيوت من الأمور التي
تقوي إيمان أهل البيت وتزيد أنس أرواحهم وشرح صدورهم بالإسلام سواء فهموا
القرآن أو لم يفهموه، فإن سماعهم له مع اعتقادهم أنه كلام الله تعالى يؤثر في
قلوبهم بقدر إيمانهم، وفائدة من يفهم منهم تكون أعظم. وقد جرت عادة الموسرين
في بلاد مصر أن يجعلوا في كل بيت من بيوتهم حافظًا من حفاظ القرآن يتلوه في
ليالي رمضان من بعد صلاة العشاء والتراويح إلى وقت السحور، ومنهم من يقرأ
القرآن في داره كل يوم، ويعطون لهؤلاء القراء شيئًا معينًا في الشهر من باب الهبة
والتبرع، لا الأجرة التي تثبت بالتعاقد، وقد فرقت الشريعة بين التعاقد والتبرع
الاختياري فثبت في الأحاديث الصحاح استحباب قضاء الدين بزيادة وفضل عن
أصله، وأخذ بهذا من لا يبيح التعاقد على هذه الزيادة بل يعدها من الربا، والمتفقه
من هؤلاء القراء يستبيح أخذ ما يُعطاه من هذا الباب، وكذلك المعطي له يعد ذلك
قربة من باب الصدقة لا الأجرة على التلاوة.
وقد ذكرت هذه المسألة في الفتوى العاشرة من المجلد الماضي التي أشرت
إليها آنفًا، وقلت فيها:
فإذا قصد القارئ ذلك (أي فائدة السامعين للقرآن) مع التعبد والاتعاظ بنفسه
أرجو أن يباح له أخذ ما يُعطَى في كل شهر وهو يكون بغير عقد، وهو غير
خسيس يخل بقدر حافظ القرآن، ولعل أكثر الأغنياء لا يسمعون القرآن إلا بهذه
الوسيلة، وهو هجر للقرآن وناهيك به من مصيبة.
فالذي أراه أن يجتمع إخواننا المختلفون في هذه المسألة في بلاد الصين
ويتذاكروا فيما كتبناه لعلهم يتفقون على أن يكرموا قراء القرآن بشيء من المال
يدفعه لهم الموسرون في كل شهر، ويرغِّبون إليهم أن يختلفوا إلى بيوتهم في أوقات
معينة لتلاوة القرآن فيها، وأن يكون من هذه الأوقات ما تحدث فيه المصائب
لتعزية أهلها وصرفهم عن البكاء بسماع القرآن على أن لا يعطوهم شيئًا في هذا
الوقت بنفسه كالسابق.
وأما أكل الطعام في هذه البيوت فيحسن أن يكون في الأوقات التي يأكل فيها
غيرهم من الأصدقاء أو الفقراء وأن لا يقرؤوا فيها.
***
(٢٩) الأضراس الصناعية وإصلاح الطبيعية بالحشو والذهب:
صرح بعض الفقهاء في كتاب الخلاف بجواز ما ذكر في السؤال كله وباتخاذ
مَن جدع أنفه أنفًا من ذهب وقد أمر به النبي بعض أصحابه. رواه الترمذي وهو
حديث حسن، والسن والضرس أولى بالجواز ولم يذكروا فيها خلافًا، قال النووي
في المجموع: وقول المصنف إن اضطر إلى الذهب جاز استعماله فمتفق عليه وقال
أصحابنا فيباح له الأنف والسن من الذهب ومن الفضة وكذا شد السن العليلة بذهب
وفضة جائز ويباح أيضًا الأنملة منهما.. إلخ ولم يذكر فيه خلافًا للمذاهب كعادته.
والأصل في التداوي وإزالة الضرر والفساد الإباحة بمعناها الأعم المقابل
للحظر، فيدخل فيها الواجب، والتداوي وإزالة الآلام العارضة والآفات المفسدة
للأعضاء بما هو معروف مجرب واجب. والتحقيق أن الحرام لا يثبت إلا بنص
قطعي من الشارع كما صرح به الإمام أبو يوسف نقلاً عن مشايخه وعن السلف
الصالح وهو رواية عن الإمام أحمد، وصرح شيخ الإسلام ابن تيمية من كبار حفاظ
الحديث والآثار أن السلف لم يكونوا يحرمون شيئًا إلا بدليل قطعي، كما بينا ذلك
في المجلد الثلاثين من المنار.
وقد اختلف الأئمة في استعمال الذهب والفضة ولم يصح النهي عن النبي
صلى الله عليه وسلم إلا عن الأكل والشرب في أوانيهما وعن خاتم الذهب وإن صح
عن بعض الصحابة (رضي الله عنهم) لبسه، وكذا لبس الذهب إلا مقطعاً وبهذا
يقول فقهاء الحديث المستقلون. ومذهب الشافعي القديم أن النهي عنهما للكرامة.
قال القرطبي: وشذت طائفة فأباحتهما مطلقاً ونقله عنه الحافظ ابن حجر في
شرح البخاري. وأما جمهور فقهاء المذاهب فيحرمون جميع أنواع الاستعمال إلا ما
ورد النص به كخاتم الفضة والضبة في الإناء على تفصيل معروف، أما الأكل
في صحافهما والشرب من آنيتهما فبالنص وأما ما في معناهما من الاستعمال
فبالقياس، على أنهم مختلفون في علة التحريم.
ويرد عليهم من لا يثبت من القياس إلا المنصوص على علته أو المعلومة
علته بالقطع كالإسكار في الخمر. ويرد عليهم أهل الحديث بقوله: صلى الله عليه
وسلم: ( ... وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياءَ - رحمة بكم غير نسيان -
فلا تسألوا عنها) وهو من حديث رواه الدارقطني وحسنه النووي في الأربعين.
وروى معناه البزار والحاكم وصححه وغيرهما.
ويُستثنى من المحرم - ولو بالنص - ما احتيج إليه لدفع ضرر، وقد صح
في الحديث الإذن بلبس الحرير لدفع ضرر القُمَّل ومثله ما هو مثله في الضرر،
وما هو أشد بالأولى ومنه مداواة الأضراس وحفظها من السقوط بتلبيسها بالذهب
وهو ليس لبساً ولا زينة. وينبغي نزع الأضراس الصناعية عند غسل الجنابة ليعم
الماء الفم كله بالمضمضة وواجبة فيه عند الحنفية وسنة عند الجمهور. ولكن لا
يجب نزع لباس الضرس الملبس بالذهب ولا من الميت لما فيه من المشقة بل يتعذر
على غير الطبيب. ويزال من الميت كل شيء صناعي زائد لا يترتب على نزعه
منه تشويه شيء من جسمه.
***
(٣٠) تفرنج النساء بالتبرج وقص الشعور ... إلخ:
إن ما ذكره عن النساء فيه مخالفة لأحكام الشرع الإسلامي من عدة وجوه
ومفاسده تختلف باختلاف أحوال البلاد العامة. والاعتصام بالدين والتهاون به وغلظ
التحريم وخفته منوطان بدرجة ما في العمل من الفساد:
فمنه أنه من ذرائع الزنا ومسهلاته، ومن أسباب ترك الصلاة، ومن أسباب
قلة إقبال الرجال على الزواج الشرعي لعدم الثقة بعفة النساء الحافظة للنسل.
ومن مفاسده الاجتماعية السياسية التي يغفل عنها أكثر الناس أنه مقطع لروابط
الأمة، مضعف لتماسكها ووحدتها، ومعد لها لقبول عادات الكفار الذي قد ينتهي
بقبول الدخول في دينهم.
ومن الثابت بالاختبار أن ارتكاب الصغائر يجرِّئ على الكبائر وأن الاستهانة
بالكبائر يفضي إلى الكفر كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر.
ومن المجمع عليه أن استحلال مخالفة القطعي من الأوامر والنواهي الإلهية
كفر وردة عن الإسلام.
فيعلم من هذا أن بعض ما ذكر عن النساء مكروه وبعضه محرم خفيف أو
غليظ وبعضه يخشى أن يكون كفراً أو يفضي إلى الكفر باستحلال مخالفة الأمر
والنهي.
***
(٣١) التمذهب وأهل الحديث في الهند:
إذا أردتم أن تعرفوا الحق في هذه المسألة بأدلته الشرعية التي جرى عليها
الأئمة الأربعة وغيرهم رضي الله عنهم فطالعوا ما أرسلناه إليكم من كتاب الوحدة
الإسلامية مع مقالات المصلح والمقلد ورسالة (القول السديد في بعض مسائل
الاجتهاد والتقليد) لأحد علماء الحنفية؛ إذ لا يمكن تفصيل القول في ذلك في فتوى
مختصرة مستعجلة، وقد سبق لنا بسطه في المنار، فإعادته تكرار لا حاجة إليه.
ومنه تعلمون أن أهل الحديث في الهند وغيرها على صواب وأنهم أولى باتباع
الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة السلف الذين صرحوا بتحريم تقليدهم وتقليد غيرهم
ووجوب اتباع الكتاب والسنة دون ما خالفهما. فإن بقي عندكم شبهة في المسألة بعد
مطالعة ما ذكرنا فاكتبوا إلينا به لنجيبكم عنه بما يدفع الشبهة ويجلِّي الحجة إن شاء
الله تعالى.
***
(٣٢) مسألة هلال رمضان:
إن الشارع ناط مسألة رمضان وغيره برؤية الهلال بالأعين كما ناط مواقيت
الصلاة بأمور مشهودة بالحس حتى لا يختلف المسلمون ولا يكونوا محتاجين في
مواقيت دينهم إلى الرؤساء والعلماء. ولكن المسلمين ضيقوا على أنفسهم باختلافهم
في الكتاب الذي سدّ أبواب الخلاف في الدين وزادته السنة بياناً بالعمل وقد نهوا أن
يشددوا على أنفسهم كما فعل بنو إسرائيل والنصارى من قبلهم.
قال صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم
فأكملوا شعبان ثلاثين يوماً) . وهو متفق عليه ومشهور يذكره فقهاء جميع المذاهب
في كتبهم وخطباء المنابر في خطبهم، ولكن المسلمين قلما يعملون به كما يجب،
فإذا استهل جماعة من أهل البلد بعد غروب الشمس من اليوم التاسع والعشرين من
شعبان ولم يروا الهلال ولم يكن هنالك مانع من رؤيته كسحاب أو قتر وجب عليهم
إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً وليس لهم أن يقبلوا قول مخبر برؤيته، وأما إن كان
هنالك مانع من الرؤية وشهد غيرهم بأنه رآه وجب أن يقبلوا شهادته. وفي المسألة
فروع كثيرة يُبنى بعضها على اختلاف الفقهاء في اعتبار اختلاف المطالع وعدمه،
فينبغي للسائل أن يبين لنا بالتفصيل اختلاف أهل بلده في المسألة وما يستدل به كل
فريق لعلنا نوفَّق إلى إفتائهم بما يرفع الخلاف والله الموفق.