للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


إصرار فرنسة
على إخراج البربر من الإسلام

نشرت بعض الجرائد المصرية كتابين في شأن قضية البربر أحدهما لسلطان
المغرب والآخر لوزير فرنسة فيه يدلان على إصرار فرنسة على خطتها في إخراج
شعب البربر من الإسلام وعلى أن كل ما تحاوله الآن هو استخدام ما بقي من
احترام السلطان ونفوذه لإلزام المسلمين الرضاء بذلك وإخماد نار الاضطراب الذي
وقع وتهوين الخطْب الفظيع الذي أوقدها. وإنَّا ننشر الكتابين ونبين في تعليقنا على
كل منهما ما يثبت كل ما يشكو منه المسلمون في المغرب وغيره من هذا العدوان،
وينقض ما ادعاه الوزير المفوض بمصر في بيانه الذي نشرناه في الجزء الماضي
من أساسه.
كتاب السلطان
(في إقرار فرنسة على جنايتها ودعوة حكومته ورعيته لقبولها)
الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا
إلى خدامنا الباشاوات وكافة الأهالي نخص منهم الشرفاء والعلماء والأعيان
وفقكم الله، وسلام عليكم ورحمة الله، وبعد:
فغير خفي أن للقبائل البربرية عوائد قديمة يرجعون إليها في حفظ النظام،
ويجرونها في ضبط الأحكام، وقد أقرهم عليها الملوك المتقدمون من أسلافنا ومن
قبلهم، فتمشوا على مقتضاها منذ مدة مديدة، وسنين عديدة، وكان آخر مَن أقرهم
على ذلك مولانا الوالد، قدس الله روحه في أعلى المشاهد، اقتداءً بمن تقدمه من
الملوك، وإجابة لآمالهم، ورغبة في إصلاح حالهم، وحيث إن ذلك من جملة
الأنظمة المحترمة اقتضى نظرنا الشريف تجديد حكم الظهير المذكور؛ لأن تجديده
ضروري لإجراء العمل به بين الجمهور وقد قامت شرذمة من صبيانكم الذين
يكادون لم يبلغوا الحُلُم وأشاعوا - ولبئس ما صنعوا - أن البرابرة بموجب الظهير
الشريف تنصَّروا، وما دروا عاقبة فعلهم الذميم وما تبصروا، وموهوا بذلك على
العامة وصاروا يدعونهم لعقد الاجتماعات بالمساجد عقب الصلوات لذكر اسم الله
تعالى اللطيف، فخرجت المسألة من دور التضرع والتعبد، إلى دور التحزب
والتمرد، فساء جنابنا الشريف أن تصير مساجد قال الله في حقها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (النور: ٣٦) الآية - محلات اجتماعية سياسية
تروج فيها الأغراض والشهوات. ومعلوم لدى الخاص والعام أن مولانا السلف
الصالح كان أحرص الناس على إيصال الخير لأمته، فكيف يعقل أن يسعى في
تكفير جزء عظيم من قبائل رعيته، ونحن - والحمد لله - سائرون على أثره في
ذلك، ساهرون على دفع كل ضرر يلحق برعايانا السعيدة، فليس إبقاء تقرير
البرابر على عوائدهم إلا مساعدة من جنابنا الشريف على محض طلبهم، وإجراء
لهم على ما كانوا عليه منذ أزمان طويلة، على أننا قررنا أن كل قبيلة بربرية
تطلب إجراء الأحكام الشرعية عندها تساعَد على ذلك فورًا، أو يعين لها القاضي
من لدن جنابنا الشريف حرصًا على صيانة دينها، وبرهانًا على ما لنا من الذود عن
حرمة الإسلام في بلادهم، فآمركم أن تلزموا السكينة والوقار، وأن ترجعوا إلى
سلوك الجادة والاعتبار.
أصلح الله بمنّه ودائم لطفه أحوالكم، وهداكم لما فيه الخير من حالكم ومآلكم
والسلام.
في ١٣ ربيع النبوي الأنور عام ١٣٤٩.
***
الرد على كتاب السلطان
وكونه حجة عليه لا له
(١) قوله: إن أسلافه من الملوك أقروا عوائد البربر القديمة غير مسلَّم
على إطلاقه كما عُلم من البيان السابق، ولئن صح لم يكن حجة شرعية على جواز
إقراره هو ما خالف الشرع منها، فإن أسلافه لم يكونوا معصومين، ولا يقول مسلم
يعرف دينه: إن إقرارهم أو قولهم أو فعلهم حجة في دين الإسلام بل هو معصية فيما
ذكر، واستحلال ما خالف الشرع منها مخالفة قطعية كفر وارتداد عن الإسلام،
ومنه يعلم حكم الظهير الذي أصدره أبوه والظهير الذي أصدره هو.
(٢) قوله في الذين أثاروا هذا المعارضة الإسلامية من الشبان - إنهم
شرذمة من الصبيان الذين يكادون لم يبلغوا الحلم - ليس في مصلحة جلالته؛ فإن
أكثر الذين يعنيهم أكبر منه سنًّا وعلمًا، وقد رأينا فيهم الكُتاب والبلغاء ونرى كتابه
هذا في غاية الركاكة والضعف، فكيف يصح أن يكون هو سلطانًا وشارعًا ينسخ
شرع الله وهو شاب مثلهم وأصغر من كثير منهم، ولا يصح أن ينكروا هم ما هو مخالف لدينهم، وخطر على بلادهم؟ وكيف أمكنهم أن يثيروا البلاد كلها لو لم يكن فعلهم دفاعًا عن الإسلام؟!
(٣) قوله إنه ساءه من اجتماعات الأمة في المساجد لذكر اسم الله اللطيف
أن تصير المساجد محلات اجتماعية سياسية وقد قال الله في حقها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (النور: ٣٦) - يدل على أن الذي كتب له هذا
الكتاب لا يعقل معناه ولا أنه مخالف لدين الإسلام وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم،
(أما الأول) فلأن عملهم موافق للآية الكريمة؛ لأنه ذكر لاسمه (اللطيف)
والإنكار عليه هو المخالف لها، (وأما الثاني) فلأن مسجد النبي صلى الله عليه
وسلم كان في عصره وعصر خلفائه الراشدين محلاًّ للاجتماعات السياسية
والاجتماعية المتعلقة بمصلحة الملة ولم يكن هنالك (مخزن) لذلك ويظهر أن الذي
وضع له هذا الكتاب من رجال فرنسة لا من منافقي المخزن عنده؛ لأن الإفرنج
ودعاتهم من النصارى هم الذين يفرقون هذه التفرقة بين الدين والسياسة.
(٤) ما ذكره من حرص سلفه على إيصال الخير لأمته وسيره هو على
أثره واستدلاله على ذلك بأنه لا يُعقل أن يسعى لتنصير جزء عظيم من قبائل رعيته
يجاب عنه:
(أولاً) بأن المسألة ليست بالدعوى والنظريات العقلية وإنما هي نازلة واقعة
وقضية عملية مشاهَدة.
(وثانيًا) بأن أمره ليس بيده وإنما هو مسخر للقوة الفرنسية التي يستند إليها
في منصبه.
(٥) قوله: إن إقرار البربر على عاداتهم ليس إلا مساعدة من جنابه
الشريف على طلبهم - إذا سلمناه كان حجة عليه؛ إذ لا يبيحه له الإسلام كما تقدم،
وإنما تحتج به فرنسة على من ينكرون عليها إكراه الناس على ترك دينهم وهو
مخالف للتقاليد المدنية، وللقوانين الدولية. وهذا دليل على أنها هي الواضعة له هذا
الكتاب.
(٦) قوله: إننا قررنا أن كل قبيلة بربرية تطلب إجراء الأحكام الشرعية -
إلى قوله - حرصًا على صيانة دينها - هو نص رسمي منه على أن النظام الذي
جرى عليه العمل في ظهيره وظهير والده هو خروج بالبربر عن حكم الشريعة
وعن دينهم وأنه هو لا يأمر برجوعهم إليها إلا إذا طلبوا ذلك. وهذا ينقض أقواله
السابقة مع العلم بأن قوله بمساعدة الذين يطلبون ذلك فورًا ليس بيده وقد اشترط فيه
صاحب السلطان الفعلي الوزير الفرنسي ما يجعله مُحالاً كما يعلم من كتاب هذا
الوزير. وهذا نصه:
كتاب الوزير الفرنسي الجديد
في معنى كتاب السلطان
بلغني أن الظهير الشريف المؤرخ بالسادس عشر من شهر مايو سنة ١٩٣٠
المتعلق بتنظيم المحاكم البربرية فهم منه ما ليس بمقصود حتى من قِبَل الولاة
المحليين.
وفي الحقيقة أن ما أصدره جلالة السلطان ليس فيه ما يُحدث شيئًا جديدًا، بل
المراد منه هو تنظيم الجماعات البربرية المكلفة بالأحكام، وإعطاؤها صبغة قانونية
بحيث تصير أحكامها صالحة لأن تنفذ على البرابرة وغيرهم، وأن الظهير المشار
له قد أقر حالة كان يتمشى عليها من قديم الزمان، فلا فائدة حينئذ في استعماله لغاية
دون الغاية التي قصدها، وإحداث أمور جديدة يتمسك بها ذوو الشهوات الذين لا
يعتمدون على أدنى شيء في أقوالهم.
فلا ينبغي - والحالة هذه - السعي في جعل الجماعات البربرية المعبر عنها
بنزرف تقف في وجه الشرع، بل الذي يحسن سلوكه هو إجراء الظهير
المذكور برفق ولين لتطمين النفوس وتسكين الخواطر.
أما الذين كانت لهم الحرية من قديم في رفع دعاويهم لدى الشرع وإن كانوا
قاطنين في بلاد البربر فالأولى هو إبقاؤهم على ما كانوا عليه، ولا يمكن الآن
إجبارهم على الانقياد إلى المحاكم البربرية، لما ينشأ عن ذلك من حوادث متعددة.
وكذلك إذا رغبت بعض الأفخاذ المستعربة في البقاء على إجراء دعاويهم لدى
الشرع مثل ما كانت تفعله قبل فلا مانع من إجابة مرغوبها، بل إذا صرحت بعض
القبائل أو الأفخاذ ممن كانوا منقادين إلى الجماعات البربرية واتفقوا بأجمعهم على
سلوك منهج الشرع فإن جلالة السلطان مستعد لتلبية طلبهم وتعيين قاضٍ لهم.
هذا وإن الطلبة والفقهاء الذين كانوا قائمين بمهمتهم بالقبائل البربرية إلى الآن
بلا مانع فلا يُمنَعون من الدخول إليها. ومثلهم مشايخ الطرق الذين يتجولون بالقبائل
المذكورة لأجل جمع الصدقات حتى تبقى مسألة الترخيص لهم في الدخول منوطة
بالإدارة العليا كما كان العمل به جاريًا قبل.
وبالجملة فإنه من المصلحة البينة أن يعلم كل واحد بأن الظهير الشريف المؤرخ
بالسابع عشر من شهر ذي الحجة سنة ١٣٤٨ لم يصدر ليكون آلة جبر، بل ليجري
العمل به بلين ورفق. اهـ.
***
تفسير كتاب الوزير الفرنسي
المقيم بالمغرب وكونه حجة عليهم
(١) قال: إن ما أصدره السلطان هو إعطاء تنظيم البربر صيغة قانونية
به (تصير أحكامها صالحة لأن تنفذ على البربر) ونقول هذا نص صريح بأن ما
ينفذونه الآن بمقتضى الظهير المذكور في البربر يراد جعْله أساسًا لأجل تنفيذه في
العرب! وهو تصريح بعزم فرنسة على إلغاء الشريعة الإسلامية من بلاد المغرب
كلها (فليتأمل المسلمون) ولكنه أمر المنفذين له الآن بالرفق واللين لتسكين
الخواطر الثائرة.
(٢) قال: إن الذين كانت لهم الحرية من قديم في رفع دعاويهم لدى الشرع
وإن كانوا قاطنين في بلاد البربر فالأولى عدم إجبارهم (الآن) على الانقياد إلى
المحاكم البربرية لما ينشأ عن ذلك من الحوادث المتعددة.
ونقول: هذا نص صريح أن البربر ممنوعون من رفع دعاويهم إلى الشرع،
وفي أن غيرهم - وهم العرب - لا يُجبرون الآن على ذلك اتقاءً للحوادث أي
الثورة، وتقييد ذلك بقوله (الآن) دليل على أنهم سيجبرونهم على ذلك بعد أن
تسكن ثورة الأمة ويزول هذا الهياج بنصائح السلطان ورجاله، ورشوة رئيس
الجمهورية لمن رشاه منهم.
(٣) قال: إذا رغبت بعض القبائل أو الأفخاذ واتفقوا بأجمعهم على سلوك
منهج الشرع فإن جلالة السلطان مستعد لتلبية طلبهم وتعيين قاضٍ لهم. ونقول: إن
هذا هو القيد الذي قيد به قول السلطان في المسألة السادسة من تعليقنا على كتاب
جلالته، وهو أنه لا يقبل طلب أحد من البربر ولا من الأفخاذ المستعربة المشار
إليها أن يسلكوا منهج الشريعة إلا إذا أجمعوا على ذلك، ومعلوم أن هذا الشرط لا
يمكن تحقيقه في قبائل أكثرهم أميون جاهلون وهو طلبهم جميعهم لما ذكر، وإن
حكامهم الفرنسيين يمكنهم أن يمنعوهم منه إذا أرادوه، أو يمنعوا بعضهم على الأقل
فلا يتحقق الشرط الذي قيد به الطلب وهو أن يتفقوا عليه ويطلبوه بأجمعهم. وهو
دليل رسمي على قطع هذا الطريق عليهم.
(٤) ما ذكره الوزير في مسألة طلبة العلم والفقهاء الذين كانوا قائمين
بمهمتهم في قبائل البربر ومشايخ الطرق الذين يجمعون الصدقات من حيث عدم
طروء مانع يمنع من دخولهم إليها، ومن حيث إبقاء مسألة الترخيص لهم في
الدخول إلى بلاد تلك القبائل - هو دليل على صحة ما يشكو منه المسلمون من
الحيلولة بين قبائل البربر وأهل العلم الديني وطرق الصوفية، وعلى أن كل ما
تجدد من المعاملة لتسكين الهياج هو أنه يجوز دخول من لا ترى السلطة الفرنسية
هنالك مانعًا من دخولهم برخصة من إدارتها العليا، فالحجر على الدخول باقٍ،
والرخصة المنوطة برجال فرنسة لمن يثقون به لم يرفع الحجر بالطبع، ولا يعتقد
أحد أنهم ينفذونه بالفعل، إذ يستحيل أن يمنحوا هذه الرخصة لمن يعلمون أو
يخشون أن يعلم البربر شيئًا من أمر دينهم. فهو محاولة لتسكين الاضطراب في
مدن المغرب وفي غيرها بألفاظ مبهمة ككلمة الوزير التي ختم بها كتابه وهو أنه
يجب تنفيذ المشروع باللين والرفق.
فالكتابان الرئيسيان حجة على مُصدِريهما، وناقضان لما كانت أذاعته
المفوضية الفرنسية هنا من بقاء البربر مسلمين حالاً واستقبالاً.
***
نصيحة علنية لفرنسة أو أحرارها
(١) إننا لا نجهل تاريخ فرنسة الحربي وما تفوق به غيرها من دول أوربة
اليوم من قوتها العسكرية، ولكننا نعتقد أن هذه القوة يخشى أن تقتلها كما جرى
لعدوتها ألمانية عند ما فاقت أوربة كلها بالقوة. ونعتقد أن فرنسة غير غافلة عن هذا
الخطر عليها، وأن رجلها ووزيرها ملير إن لم يقترح المحال من توحيد أوربة حبًّا
في السلم بل لتأمين فرنسة من خطر الحرب المنتظرة، فإذا كانت كل من فرنسة
وإنكلترة لا تحارب الأخرى لإخراجها من إحدى مستعمراتها كما قال أحد ضباطها
في المغرب الأقصى واهمًا أو موهمًا، فقد تحاربها ألمانية لاسترجاع حقوقها
ومجدها، أو إيطالية لإرضاء مطامح وزيرها وشعبها، ومشاركة فرنسة في
مستعمراتها. ولولا التنازع على الاستعمار لما وقعت الحرب الكبرى الأخيرة، وإن
الحرب المنتظرة لأجل الاستعمار والثأر معًا لأكبر هولاً وأعظم خطرًا.
(٢) إننا لا نجهل ضعف شعوبنا الإسلامية أو الشرقية تجاه فرنسة وغيرها
من الدول القاهرة لهم بالقوة العسكرية - ولكننا نعلم أن هذا الضعف قد بدأ يتحول
إلى قوة، كما ينتظر أن تنقلب قوتهم إلى ضعف، وإنما يستحيل الضعف قوة
بمعرفة الشعوب لأنفسها، وشعورها بالحاجة إلى تنظيم وحدتها، واعتقادها بصحة
قاعدة موقظي الشرق (الحكيم الأفغاني والإمام المصري) :
إن القوة الآلية القليل عمالها لا يدوم لها الغلب على الكثرة العددية إذا اتفقت
آحادها. وقاعدتهما في استحالة إبادة أمة لأمة كبيرة تماثلها أو تزيد عليها في العدد،
وقاعدتهما (العاقل لا يظلم فكيف إذا كان أمة؟!) ، فإبادة فرنسة لمسلمي إفريقية أو
تنصيرهم ضرب من المحال، واستمرار استعبادها واستذلالها لهم بالقوة ضرب من
المُحال.
(٣) إن الإسلام حيّ لا يموت، والقرآن كلام الله الحي الذي لا يموت، بل
هو العلاج الوحيد الذي يمكن أن ينقذ أوربة من الهلاك الذي تنذرها إياه مفاسد الحياة
المادية، فتنصير شعب إسلامي من المطامع التي لا تنال، والغايات التي لا تُدرك،
وما كان ما يرونه من ضعف المسلمين ووجود أعوان لهم منهم إلا بجهلهم بالقرآن،
الذي ردى بعضهم في الإلحاد والبدع والفسق وضعف الإيمان، فبهذا وجد
المستعمرون في المغرب والمشرق من أمراء المسلمين ورؤسائهم - ومن حملة
العمائم والطيالس والبرانس أيضًا - مَنْ هم أقوى على إخضاع المسلمين لها من
قواد جيشها، وأقدر على هدم دينهم من أساقفة النصرانية ودعاتها، ولولاهم لما
تمكنوا في شيء من بلادها، كما تبين من شواهد الجزء الماضي في مقالة (آفة
الشرق) .
(٤) يقول (الكابتن أدينو) لمسلمي المغرب في كتابه الحديث (السياسة
الصريحة) : إنكم تعتقدون أن استيلاءنا عليكم وقهرنا لكم هو حكم قضاه الله وقدره
بحسب عقيدتكم، فيجب عليكم أن ترضوا به ولا تعارضونا فيه. ونرد عليه بأن
مسألة الرضاء بالمقضيّ والمقدر من جهالات بعض الصوفية مخالفة لأصول الإسلام
وإنما الواجب على المؤمن أن يؤمن بأن كل شيء بقدر الله وقضائه ولا يجوز له أن
يعترض على الله فيه. ولكن لا يجب عليه أن يرضى بكل ما قدره الله تعالى بل لا
يجوز له أن يرضى بالكفر، ولا بالفسق ولا بالفحشاء والمنكر؛ لأن الله تعالى لا
يرضى بذلك أيضًا كما قال: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (الزمر: ٧) ولا أن
نرضى بالظلم والضرر وقد أمرنا أن ننكر المنكر ونغيره بما نستطيع وهو مقدر،
وأن نفر من الوباء والأمراض ونقاومها بالأدوية وهي مقدرة. كما قيل لسيدنا عمر
أمير المؤمنين لما امتنع من دخول الشام لوجود الوباء فيها: أتفر من قدر الله؟! قال
: نفر من قدر الله إلى قدر الله، وقال إمام الصوفية وقطبهم الأكبر في عصره الشيخ
عبد القادر الجيلاني ما معناه: إننا نغالب الأقدار بالأقدار، ولكن بدعة الصوفية
نشرت هذه الأفكار التي استخدمتها فرنسة لإخضاع جهلة المسلمين بها، وإخماد
الشعور الإسلامي بوجوب مقاومة الكفر والإلحاد والبدع والسلطة الأجنبية، ولو
بالقوة الحربية، كوجوب مقاومة الأوبئة والأمراض بالأدوية المجربة والوقاية
الصحية ولماذا لا تقولون للمسلمين يجب عليكم أن ترضوا بهذه الأمراض لأنها
مقدرة؟!
(٥) إن الشعوب الإسلامية قد تنبهت لمفاسد هؤلاء الرؤساء الذين
يستخدمهم المستعمرون لاستعباد المسلمين، وسنراهم - بعد قليل من السنين -
يجاهدون هؤلاء الرؤساء المنافقين، كما يجاهدون سادتهم الذين يجاهدون بهم
الإسلام والمسلمين، فلا يخضعون لظهير ولا لمرسوم ولا لأمر عالٍ، ولا لفتوى
يصدرها مفتٍ موظف في حكومة استعمارية أو إلحادية يراها مصدر رزقه وجاهه
في هذه الدنيا. ثم يتلوه زمان قريب لا يقبلون سلطانًا ولا أميرًا ولا مفتيًا ولا قاضيًا
ولا صاحب منصب آخر في أمتهم، إلا إذا كان مجلس الأمة هو الذي يختاره
ويرضاه، بشرط تقييده باتباع شرع الله، والتزامه مصلحة الأمة التي تقررها
جماعة أولي الأمر وأهل الحل والعقد من نوابها.
وإذا كان الله تعالى قد أرشدهم في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى
أن الطاعة لا تكون إلا في المعروف، وأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)
كما رواه الإمام أحمد والحاكم بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم و (لا
طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف) كما رواه البخاري ومسلم
وغيرهما من حديث علي مرفوعًا أيضًا. وجعل لهم القدوة في ذلك الرسول
المعصوم فقال في آية المبايعة: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة: ١٢)
مع العلم بأنه لا يأمر إلا بالمعروف، فهل يطيعون من ينصبه لهم المستعبِدون من
ملك أو سلطان أو باي أو أمير أو وزير؟ أو موظفيهم السياسيين أو الشرعيين في
ترك الشريعة وإباحة الكفر والمعاصي؟ أو يعملون بقول مثل شيخ جامع أو مفتٍ
في بلاد مستعمَرة أو يقتدون بفعلها أو إقرارها لما يخالف الشرع كما جرى في
مؤتمر دعاة النصرانية (الأفخارستي) في تونس؟ كلا، ثم كلا، ثم كلا.
(٦) لقد أسرفت فرنسة أكثر مما أسرف غيرها في احتقار الأمة الإسلامية
فلم تبالِ بما علمت به من اضطراب جميع شعوبها لجرأتها على الشروع في تحويل
شعب البربر عن الإسلام تمهيدًا لتنصير سائر المسلمين العرب في جميع
مستعمراتها، حتى أن رئيس جمهوريتها قد سافر إلى بلاد المغرب ليشد عزم
السلطان وحكومته الصورية على الثبات والاستمرار على تنفيذ الجريمة التي تنافي
إسلام كل مَن يرضى بها وتقتضي ردته - أي كفره - كما صرح به البيان
الإسلامي العام، الذي أمضاه كثير من العلماء الأعلام، ونشرته جمعية الشبان
المسلمين في العالم كله، وكنا نظن أنه إنما ذهب ليتلافى الفتنة ويقف تنفيذها،
فخاب الظن بالحكومة الفرنسية.
وسبب هذا أنها تظن أن العالم الإسلامي قوّال غير فعّال، ولا سيما مسلمي
مصر، فلا يمكنه أن ينفذ ما أنذرها إياه في البيان العام المشار إليه من مقاطعة تجارتها
وإعلان عداوتها؛ لأنه لا بد من وضع نظام لذلك قبل الشروع فيه والمسلمون - في
رأيها - لا يثبتون على نظام. وتظن أيضًا أن أهل المغرب الفرنسي - من تونس
إلى مراكش - لا يمكنهم بث الدعوة إلى الاستفادة من الحرب الأوربية المنتظرة
بالثورة على فرنسة وإخراج جميع رجالها من بلادهم، أو بعدم إعطائها أحدًا من
الرجال للقتال معها، وهي تعلم أنها لا يمكنها أن تقهرهم على هذا مهما يكن عدد
جندها في بلادهم، وتعلم أنه قد ثبت عندهم أن عصيانها في ذلك لا يمكن أن يفضي
إلى قتل عشر العشر مما يقتل فيهم في الدفاع عنها، كما أنهم يعلمون أن الحرب
القابلة ستكون أشد فتكًا وإبادة من الحرب التي قبلها، التي قتل منهم مئات الألوف
فيها، فإذا علمت أن هذه الظنون في المسلمين في غير محلها فإنها ترجع عن
غيها لمصلحتها، فهل يمكنهم إعلامهم بهذا؟!