للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مسيح الهند القادياني الدجال
ودعاة مسيحيته في سورية
(١)

إن هؤلاء المسيحيين الإسلاميين قد جمعوا من الهند أموالاً كثيرة بثُّوا بها
دعايتهم في البلاد، وقد طبع دعاتهم في سورية رسائل متعددة في الدعوة إلى نِحْلته
فانخدع بها شاب دمشقي عنده هوس في الأفكار الدينية بغير علم بأصول الإسلام
الصحيحة ولا فروعه، اسمه (منير الحصني) جاء مصر في العام الماضي فتمنينا
لو يلقانا لنتكلم معه فلم يكن ذلك. وأخيرًا جاءنا منه رسالة يرد فيها على بعض ما
كنا نشرناه في المنار من تفنيد هذه المسيحية وتكذيب دجالها القادياني في حال حياته،
وإننا لكثرة الشواغل لم نفرغ للاطِّلاع على شيء من تلك الرسائل التي طبعوها
أخيرًا.
وأما هذه الرسالة الخطية فقد كنت أراجع في آخر هذا الشهر (رجب)
إِضْبارَة الرسائل المحفوظة للمراجعة فوقعت عيني عليها، وكان تحرير الجزء
الخامس من المنار لم يتم فأحببت أن ألخصها وأبين أهم ما فيها من حجج القوم
الداحضة. والرد عليها بالبينة الناهضة.
يرد هذا الداعية للمسيحية الإسلامية التي يسمونها (الأحمدية) على المنار في
ثلاث مسائل:
(١) ما أنذر مسيحهم به صاحب المنار فكان إنذاره كاذبًا.
(٢) نسخ مسيحهم لمشروعية الجهاد.
(٣) كوْنهم أعداءً للإسلام، كافرين ببعض القطعيات من أصوله، مضللين
لأهله.
* * *
١ - إنذار القادياني لصاحب المنار
ذكر الكاتب في مقدمة رسالته أن مسيحهم بلغني دعوته فأنكرتها عليه (بلا
دليل بيِّن ولا حجة دامغة) لجهله ما اتفق عليه علماء الشرع والعقل من أن البينة
على المدعي، ثم قال: (وقد جئت بأسطري هذه ردًّا على ما يمس الأحمدية التي
هي عندي الإسلام الصحيح من تُهَمك المنشورة عنها في المنار، وأملاً أن تذعن
للحق ولو على نفسك، كما أنني أفعل ذلك إذا أظهرت لي بعض الخطأ، والله على
ما أقول شهيد) .
ثم قال: (ذكرت في مجلتك كما كتبت إلى أحد قرائها في بيروت ما مفاده بأن
أحمد المسيح الموعود عليه السلام كان أنبأ في كتابه - الهدى والتبصرة لمن يرى -
بوحي من الله عن موتك في حياته ولكن نبوته لم تصدق إذ مات في حياتك وهذا ما
أدرجته في منارك بنصه:
(وقد رددنا عليه في حياته بما أظهر بهتانه حتى بنفس مماته فإنه كان رد
علينا في كتابه الهدى والتبصرة لمن يرى فزعم أنه قد جاءه الوحي بأن صاحب
المنار (سيهزم فلا يرى نبأ من الله الذي يعلم السر وأخفى) يعني أن الله تعالى
وعده بأن ينتقم له منه، ولكنه مات ولم تقر عينه بموتنا ولا بمصيبة يفسر بها وحيه
الشيطاني) .
فقبل أن أبين لك خطأك الفادح في فهم هذا النبأ الذي تم صدقه بكل وضوح
أقول: إن نفس مماته عليه السلام كان دليلاً على صدقه لا على بهتانه، كما تزعم؛
لأن الله أخبره عن عمره قبل وفاته بثلاثين سنة بقوله: (ثمانين حولاً أو قريبًا من
ذلك) وقد توفي عن ٧٥ سنة توالى عليه الوحي في السنوات الأخيرة منها بشأن الوفاة
إذ أخبره الله في ديسمبر سنة ١٩٠٥ بقوله: (قرب أجلك القدر) وقال له
في ٧ نوفمبر سنة ١٩٠٧: (موت قريب هي) أي أن الموت قريب. وكذلك أوحى
إليه بهذا المعنى مرتين في ٧ مارس سنة ١٩٠٨ و٣ نيسان سنة ١٩٠٨ ونُشرت هذه
الأنباء في حينها في الجرائد والمجلات وأن وفاته عليه السلام في مايو سنة ١٩٠٨
طبق الأنباء المذكورة بدليل ساطع على صدقه.
بعد هذا حصر الرد على عبارتي في الشق الأول مما فسرت به إنذار مسيحه
وهو موتي، وترك الشق الثاني وهو وقوع مصيبة بي يفسر بها وحيه الشيطاني،
وقد أطال في تخطئتي واستطال في التثريب عليَّ والتأنيب لي والتحقير والتهديد بما
يدل على هوسه العقلي في هذا الدجل الشيطاني، فأقول:
زعم القادياني أن الله أخبره بعمره!
أقول في تفنيد هذا الهوس:
(أولاً) مَن كان واسع الاطلاع على التواريخ أو الاختبار لأحوال الأمم
وأخبار الدجالين فيها يعلم أن الأغرار ينخدعون بأمثال هذه الأخبار التي يسميها
الجاهلون كشفًا وكرامات، أو وحيًا ونبوات، وإن كان مثلها معتادًا، والصادق منها
كثير الوقوع من غير مَن يعتقدون هذا الاعتقاد فيهم، ولكن أغرار العوام قلما
يميزون بين الصادق والكاذب، فهذا الذي ذكره الحصني من وحي مسيحهم القادياني
أدل على كذبه منه على صدقه.
فهو يقول: إن الله تعالى أخبر مسيحهم عن عمره بقوله: (ثمانين حولاً أو
قريبًا من ذلك) أي هذا نص الوحي الذي خاطبه الله به، ووجه الدلالة هذا القول
على كذبه في دعوى أنه وحي: تردده في تحديد العمر، فلو كان هذا خبرًا من الله
تعالى - وهو علام الغيوب - لكان جزمًا بالتحديد، وتعيينًا لعدد الخمسة والسبعين،
وقد يزاد على هذا أن عدد ٧٥ لا يعد قريبًا من عدد الثمانين في مثل هذا المقام؛
لأن الخطأ في العدد التقريبي هو ما كان في كسر السنة لا في عدة سنين.
ثم ما فائدة هذا الوحي المتتابع من أواخر سنة ١٩٠٥ إلى ما يقرب من نصف
سنة ١٩٠٨ وهي بعد استكماله لسن السبعين بتلك العبارات السخيفة؟ وما الدليل
على أن تلك الخواطر وحي من الله تعالى بتلك الألفاظ العامية؟ ولماذا جاءه الوحي
بتاريخ مسيح اليهود والنصارى، ولم يجئه بتاريخ الهجرة المحمدية أو بتاريخ
مسيحيته هو؟ !
ومن المعلوم أن مسألة قرب الأجل مما يكثر خطره في أذهان أكثر الناس في
هذه السن ويكثر تعبيرهم عنه، وقد اشتهر عن كثير من الناس ذكر قرب آجالهم في
حال الصحة وذكر مواضع موتهم، ووقوع الحوادث على وفق الخواطر في هذه
المسألة كثير.
(ثانيًا) إن إنذاره لي كان كإنذاره لأناس غيري في إبهامه واحتماله للتأويل
وكذلك دأب الدجالين في نُذُرهم وما يدعونه من الإنباء بالغيب، فإن اتفق صدقه
هللوا وكبروا، أو طبلوا وزمروا، وزعموا أنه يدل على صدقهم فيما زعموا، وإن
لم يتفق صدقه - كما هو - التمسوا له تأويلاً ولو سلبيًّا كما فعل الحصني في
رسالته هذه.
ادعى أنني جزمت بأن إنذار مسيحه لي نص بأنني أموت قبله وأطال في
ذلك بما أشرت إليه آنفًا، وهذا كذب صريح وبهتان جلي عليَّ فإنني إنما فسرته أنا
بأنه يعني به انتقام الله تعالى له مني، وأنني لو متُّ قبله لفسر هذا الانتقام بموتي،
وكذلك لو أصابتني مصيبة لفسره بها أيضًا. فهذا الحصر الذي حمل عليه الحصني
كلامي إما أن يكون عن جهل منه بمدلول الألفاظ العربية وحينئذ لا يكون أهلاً
للمناظرة في شيء قط؛ لأنه لا يفهم ما يكتب وما يقال، وإما أن يكون تحريفًا
متعمدًا؛ فيكون منافقًا في مسيحيته الأحمدية هذه، ولا يغنيه إزراؤه بنا في رسالته
وتحدينا بنقل ألفاظ الوحي المنزلة بأننا نموت قبله وتوبيخنا عليها، ولولا أن نقلها
سفه وإضاعة لوقتنا ووقت القراء لنقلناها لإضحاك الناس على كاتبها! ، وإنما نذكر
منها ما يتعلق بالاحتجاج.
(ثالثًا) قال: إن مسيحه الدجال صرح في جريدته (الحكم) : (أنه ليس
بضروري أن يموت أعداء الأنبياء في حياتهم) واستثنى المباهل ثم قال مكررًا
للكلام: (وهذا وإن كل مَن دعا عليه المسيح الموعود وأخبره الله عن استجابته
ذلك الدعاء بالوحي وكذلك مَن باهله على شرط أن يموت الكاذب في حياة الصادق
أهلكه الله في حياته مثل ألكسندر دوتي من أهالي أمريكا [١] وفريق من النصارى
في الهند) وذكر أسماءً أخرى. ثم توعدني بآيات القرآن، فيمن يمدهم الله في
طغيانهم يعمهون ويملي لهم ليزدادوا إثمًا.. إلخ.
وهذا عين ما قلته في ضلالهم وإضلالهم وهو أن من يموت من المكذبين له أو
تصيبه مصيبة يقولون: إنه مات معجزة له، وتصديقًا للوحي الذي زعمه، ومن
يبقى حيًّا يقولون إنه ما دعا عليه، وإنه ما عاش إلا ليزداد طغيانًا وإثمًا، ونحمد الله
أنه تعالى أحيانا حياة طيبة نقيم دينه بالقول والعمل، وندافع عنه بالحجة، لا ندَع
ملحدًا ولا داعية كفر وضلالة، ولا أصحاب بدعة ولا أولي منكر إلا
ونرد عليهم، ونفسر كتابه العزيز بما فضله العلماء المستقلون على جميع تفاسير
الأمة، لا كتحريف القادياني وأتباعه له بما يتبرأ منه الدين واللغة كزعمه أن
البشارة به من معاني البسملة.
زَعْم الحصني صدق مسيحه فيما أوعدنا به:
ثم إنه رد عليَّ بما زعمه أن ما قاله مسيحه فيَّ قد صدق ووقع وهو الهزيمة
من مناظرته قال:
(وفهمك منه أنه أراد موتك في حياته فإن هذه الجملة لا تدل على ما ذهبت
إليه بتاتًا، وليس فيها سوى ذكر الهزيمة، والهزيمة هي الفرار إبقاءً على الحياة،
فكيف يسوغ لك أن تفهم منها الموت، نعم إن النبأ واضح على فرارك من الميدان
الذي دعاك إلى المبارزة فيه بصورة لا ترى فيه أبدًا، وأن ما دعاك إليه هو كتابة
كتاب مثل كتابه الذي تحداك به وجعله معيارًا لصدقه كما قال في ص ٢٠ ما نصه:
ووقفت لتأليف ذلك الكتاب، فسأرسله إليه بعد الطبع وتكميل الأبواب، فإن أتى
بالجواب الحسن وأحسن الرد عليه فأحرق كتبي وأقبّل قدميه، وأعلق بذيله، وأكيل
للناس بكيله، وها أنا أقسم برب البرية، وأؤكد العهد بهذه الآلية) اهـ.
(أقول) :
(أولاً) بوجه الإجمال إن المسيح الدجال القادياني قد كذب وأخلف وعده
بإرسال الكتاب المذكور فليس لي علم بهذا الكتاب، وكذب الحصني في زعمه أنه
دعاني للمبارزة في هذا الميدان ففررت منه بصورة لا أرى فيها أبدًا. فأنا ظللت
أرد عليه حتى هلك، وإنما ميداني الواسع هو المنار، ولا أزال أجول فيه وأصول،
بسيف الله المسلول، وسُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم على أنني ظهرت ورئيت
بفضل الله في ميادين أخرى لسانية لا كتابية كثيرة، منها ميدان بلاده الهندية،
فقد زرت الهند ولقيت حفاوة وحفلات عظيمة بيَّنت دجل القادياني وكذبه على الله
في بعضها كما سأبينه بعد.
(للمسألة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))