للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شكيب أرسلان


لماذا تأخر المسلمون؟
ولماذا تقدم غيرهم؟
(٢)

(بقية الكلام في خيانة بعض المسلمين لدينهم وأمتهم)
ولعل الأخ الشيخ بسيوني عمران يقول: إن هؤلاء أفراد قلائل فلا يجوز أن
نجعل الأمة الاسلامية مسؤولة عن مخازيهم وموبقاتهم.
الجواب على ذلك: أن الظلم يخص والبلاء يعم كما لا يخفى، ولكني لا أسلم
أن هؤلاء أفراد قلائل، وأن الأمة غير مسؤولة؛ إذ لو كان وراء هؤلاء أمة
يخشونها، ما تجاسروا على الاتِّجار بدينها بعد الاتجار بدنياها، بل كانوا لو اقترح
عليهم الفرنسيس اقتراحًا مضرًّا بملتهم وأمتهم ولم يقدروا على رده - اعتزلوا
مناصبهم، ولزموا بيوتهم، وكان الفرنسيس كلفوا بالعمل غيرهم، فإذا أبى الخلف
ما أباه السلف مرة بعد مرة - علم الفرنسيس أن لا فائدة في الإصرار؛ فعدلوا عن
دسيستهم البربرية وما أشبهها، ولكنهم مصرون عليها بسبب استظهارهم بأناس ممن
يزعمون أنهم (مسلمون) ، فهم يهدمون الإسلام بمعاول في أيدي أبنائه، ويقولون:
لسنا من هذا الأمر في قبيل ولا دبير أفلا ترى كيف قالوا عن الظهير البربري: إنه
قد أصدره السلطان وحكومة المخزن. أفهذا هو الإسلام الذي يناشد الله الشيخ بسيوني
عمران بتأييد أهله؟ !
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود:
١١٧) .
ولا شك أن (المسلمين) الذين يبلغون هذه الدركات من الانحطاط وتتركهم
الأمة الإسلامية وشأنهم يلعبون بحقوقها يستحقون للإسلام التمحيص الذي هو فيه [١]
فإنما سمح الله بأن يستولي الأجانب على ديار المسلمين ويجعلوهم خولاً، ويغتصبوا
جميع حقوقهم، تعليمًا لهم وتهذيبًا وتصفيةً وتطهيرًا كما يصفَّى الذهب الإبريز بالنار.
قال الله تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم
بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم: ٤١) .
لقد أصبح الفساد إلى حد أن أكبر أعداء المسلمين هم المسلمون! وأن المسلم
إذا أراد أن يخدم ملته أو وطنه قد يخشى أن يبوح بالسر من ذلك لأخيه؛ إذ يحتمل
أن يذهب هذا إلى الأجانب المحتلين فيقدم لهم بحق أخيه الوشاية التي يرجو بها
بعض الزلفى، وقد يكون أمله بها فارغًا.
ولله در الملك ابن سعود حيث يقول: ما أخشى على المسلمين إلا من
المسلمين، ما أخشى من الأجانب كما أخشى من المسلمين [٢] .
وهو كلام أصاب كبد الصواب، فإنه ما من فتح فتحه الأجانب من بلاد
المسلمين إلا كان نصفه أو قسم منه على أيدي أناس من المسلمين، منهم من تجسس
للأجانب على قومه، ومنهم من بث لهم الدعاية بين قومه، ومنهم من سلّ لهم
السيف في وجه قومه، وأسال في خدمتهم دم قومه.
فأين إسلامهم وإيمانهم من قوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:
١٠) ، وقوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: ٥١) ، وقوله:
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا
عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: ٩) ،
وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأنفال: ١) .
أفبمثل هذا تكون طاعة الله ورسوله؟ أم بمثله تكون أخوة الإيمان وولايته
وولاية أهله؟ !
أو لمثل هؤلاء يعِد الله العز والنصر والتمكين في الأرض، وهم سعاة بين
أيدي الأجانب على ملتهم وقومهم، كلما عاتبهم الإنسان على خيانة اعتذروا بعدم
إمكان المقاومة، أو باتقاء ظلم الأجنبي أو بارتكاب أخف الضررين؟ وجميع
أعذارهم لا تتكئ على شيء من الحق. ولقد كانوا قادرين أن يخدموا ملتهم
بسيوفهم فإن لم يستطيعوا فبأقلامهم، فإن لم يستطيعوا فبألسنتهم، فإن لم يستطيعوا
فبقلوبهم [٣] فأبوا إلا أن يكونوا بطانة للأجانب على قومهم، وأبوا إلا أن يكونوا
روادًا لهم، وأبوا إلا أن يكونوا مطايا للأجانب على أوطانهم، وتراهم مع ذلك
وافرين ناعمي البال، متمتّعين بالهناء وصفاء العيش، وهم يأكلون مما باعوا من
تراث المسلمين، ومما فجروا من دماء المسلمين، وينامون مستريحين. مثل هؤلاء
ليس لهم وجدان يعذبهم من الداخل، ولا نجد من المسلمين مَن يجرؤ أن يعذبهم
من الخارج.
ولم نكن لنطلق الكلام إطلاقًا على العالم الاسلامي في هذا الموضوع؛ فإن
الأمة الأفغانية مثلاً لا يمكن أحدًا أن يحطب فيها في حبل الأجانب علنًا ويبقى حيًّا،
والنجديون لا يوجد فيهم مَن يجرؤ أن يمالئ الأجانب على قومه، والمصريون قد
ارتقت تربيتهم السياسية كثيرًا عن ذي قبل، فأصبحت مجاهرة أحدهم بالميل للأجنبي
أو تفضيل حكم الأجنبي خطرًا عليه. فأما في سائر بلاد الإسلام فمن شاء من
المسلمين أن يخلع الرسن ويجاهر بالعصوبة لعدو دينه وبلده فلا يخشى شرًّا، ولا
يحاذر قلقًا ولا أرقًا!
أفلمثل هؤلاء يقول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ
الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} (النور: ٥٥) ؟ !
حاش لله أن يكون تعالى عنى بهؤلاء (المسلمين) الذين يخونون ملتهم
ويسعون بين يدي أعدائها ويناصبون إخوانهم العداوة ابتغاء مرضاة الأجانب
والحصول على دنيا زائلة وحطام فانٍ، كيف وقد قرن الإيمان بلازمه وهو عمل
الصالحات؟ ! ، بئسما شَرَوْا به أنفسهم. وكذلك لا يعني الله بهؤلاء المسلمين الذين
إن لم يكونوا خامروا على قومهم، وسعوا بين أيدي الأجانب في خراب أمتهم،
وأوطئوا مناكبهم لركوب الغريب الطامح - فإنهم اكتفوا من الإسلام بالركوع
والسجود والأوراد والأذكار وإطالة السبحة والتلوم في السجدة، وظنوا أن هذا هو
الإسلام، ولو كان هذا كافيًا في إسلام المرء وفوزه في الدنيا والأخرى لما كان
القرآن ملآن بالتحريض على الجهاد، والإيثار على النفس، والصدق والصبر،
ونجدة المؤمن لأخيه، والعدل والإحسان، وجميع مكارم الأخلاق. ولو كان هذا
كافيًا لأجل التحقق بالإسلام لما قال الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ
وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ
تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ
بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} (التوبة: ٢٤) [٤] .
أفيقدر أخونا الشيخ بسيوني عمران أو غيره أن يقول: إن المسلمين اليوم - إلا
النادر الأندر، والكبريت الأحمر - يفضلون الله ورسوله على آبائهم وأبنائهم
وإخوانهم وأزواجهم وتجارتهم وأموالهم ومساكنهم؟ أو يؤْثِرون حب الله ورسوله
- وإنما حب الله ورسوله إقامة الإسلام - على الجزء اليسير من أموال اقترفوها
وتجارة يخشون كسادها؟ !
لنعمل هذه التجربة.. فبضدها تتبين الأشياء.
لنفرض أن مسألة البربر دخلت في طور النجاح، وانتدب البابا الكاثوليك
الذين في العالم لبذل الأموال اللازمة لهذا التحويل الذي تتوخاه فرنسة في البربر من
دين الإسلام إلى دين النصرانية، فكم مليونًا تظن من الجنيهات يُدرّ على المبشرين
والرهبان والراهبات لبناء الكنائس والمدارس والملاجئ والمستشفيات ومراكز
الأسقفيات وما أشبه ذلك - لإتمام هذا العمل الذي تضم به الكثلكة ثمانية ملايين من
البرابر إلى الأربعمائة مليون كاثوليكي الذين في العالم؟
لا شك أن الجواب يكون: عدة ملايين تجمع في بضعة أشهر.
فإن قيل للبروتستانت: تعالَوْا فقد أذناكم بتنصير البرابرة فابذلوا في هذه
السبيل ما أمكنكم، فإنها تُدرّ حينئذ الملايين بقدر ضعفي ما يُدرّ من الكاثوليك وفي مدة
أقصر من المدة التي يجتمع فيها المال الذي يجود به الكاثوليك!
فلنقل للمسلمين: إن البرابرة صاروا على شفا الخروج من الإسلام، وإن
الأس في هذا الصبوء عن دين الاسلام هو الجهل. فعلينا أن نرسل إليهم علماءً
ووعاظًا ليتفقهوا في الدين، وأن نبني لهم المساجد والمدارس والكتاتيب والملاجئ
إلى غير ذلك من الوسائل التي تمسك بحجزاتهم عن مفارقة الإسلام والمسلمين.
فكم تظن المبلغ الذي يجود به المسلمون بعد اللتيا والتي لهذا العمل؟ لا أظن
أنهم يجودون بما يتجاوز جزءًا من مائة مما يبذله الكاثوليك أو البروتستانت!
فهذه هي حمية المسيحيين على دينهم، وهذه هي حمية المسلمين. ومن الناس
من يسأل عن أسباب انحطاط المسلمين وقصورهم عن مباراة سواهم، ولو تأمل في
هذه الفروق في النهضة والحمية لوجد عندها الجواب الكافي.
ومن أغرب الأمور أن نرى الأوربيين ودعاتهم وتلاميذهم من الشرقيين بعد
هذا كله يتهمون المسلمين بالتعصب الديني، وينبزونهم بلقبه، وينتحلون لأنفسهم
التساهل في الدين! إن هذا - والله - لعجب عُجاب.
وها أنا الآن في كتابتي هذه التي معناها الدفاع لا التجاوز، والأستاذ الأكبر
صاحب المنار، وعبد الحميد بك سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين، والأستاذ
صاحب مجلة الفتح وغيرنا من الرجال الذين يبغون منع الاعتداء على الإسلام،
وينادون المسلمين لينتبهوا للخطر المحدق بهم - متهمون بالتعصب الديني
ومنبوزون بهذه الكلمة، لا بين غير المسلمين فقط، بل بين المسلمين الجغرافيين أيضًا
- أعني الذين يتباهون بأن سياستهم (لا دينية) وطالما صرحوا بأنهم لا يقيمون للدين
وزنًا، وطالما تزلفوا إلى المسيحيين بكونهم هم لا يدافعون عن الدين الإسلامي كما
يدافع زيد وعمرو.
فالمسلم إذًا لا يخلص من لقب (متعصب) إلا إذا سمع أن الفرنسيس
يحاولون تنصير البربر فمر بذلك كأن لم يسمع شيئًا، وإلا إذا سمع أن الهولانديين
نصَّروا مائة ألف - وقد زعم أحد نواب البرلمان الهولاندي أنهم فازوا بتنصير
مليون مسلم من مسلمي الجاوي - وهز كتفه قائلاً: أنا لا يهمني أكان الجاوي مسلمًا أم
مسيحيًّا.. هنالك (المسلم) يصير (راقيًا) ويعد (عصريًّا) ويقال فيه كل خير.
وأما الأوربي فله أن يبذل القناطير المقنطرة على بث الدعاية المسيحية بين
المسلمين، وله أن يحميها بالمدافع والطيارات والدبابات، وله أن يَحُول بين
المسلمين ودينهم بالذات وبالواسطة، وله أن يدس كل دسيسة ممكنة لهدم الإسلام في
بلاد الإسلام، وليس عليه حرج في ذلك، ولا يسلبه هذا العمل صفة (راقٍ)
و (متمدن) و (عصري) وأغرب من هذا أنه لا يسلبه نعت (مدني) و (لا ديني)
و (متساهل) !
وهؤلاء (المسلمون الجغرافيون) برغم هذه الشواهد الباهرة للأعين، وبرغم
ما عملته جمهورية فرنسة (اللادينية) في قضية البربر لمآرب دينية كاثولكية،
وبرغم حماية هولاندة لمبشري الإنجيل في الجاوي، وبرغم قرار الحكومة البلجيكية
رسميًّا إكمال تنصير أهل الكونغو، وبرغم منع الإنكليز في الأوغاندة وفي دار
السلام - وكذا السودان - بث الدعاية الإسلامية بين الزنوج، وبرغم أمور كثيرة - لا
يسعنا الآن شرحها - لا يزالون يخدعون المسلمين قائلين لهم: إن أوربة قد رفست
الدين برجلها وسارت على خطة لا دينية، وبذلك قد نجحت، ونحن لن نفلح ما دمنا
سائرين على خطة إسلامية! [٥] .
قد قام ببث هذه السفسطة أناس في تركيا ووجدوا ممن تلقاها بالقبول عددًا
كبيرًا. وترى أناسًا في مصر والشام والعراق وفارس يقولون بها ويكابرون في
المحسوس ولا يبالون؛ لأنهم يجدون على كل الأحوال من الأغرار مَن يصدقهم.
***
أهم أسباب تأخر المسلمين
فمن أعظم أسباب تأخر المسلمين: الجهل، الذي يجعل فيهم مَن لا يميز بين
الخمر والخل، فيتقبل السفسطة قضية مسلَّمة ولا يعرف أن يرد عليها.
ومن أعظم أسباب تأخر لمسلمين: العلم الناقص، الذي هو أشد خطرًا من
الجهل البسيط؛ لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشدًا عالمًا أطاعه ولم يتفلسف عليه
فأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري ولا يقتنع بأنه لا يدري!
وكما قيل: ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلائكم بنصف مجنون. ...
أقول: ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلائكم بشبه عالم.
ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين: فساد الأخلاق؛ بفقد الفضائل التي حث
عليها القرآن، والعزائم التي حمل عليها سلف هذه الأمة، وبها أدركوا ما أدركوه من
الفلاح، والأخلاق في تكوين الأمم فوق المعارف، ولله در شوقي إذ قال:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ومن أكبر عوامل تقهقر المسلمين: فساد أخلاق أمرائهم بنوع خاص، وظن
هؤلاء - إلا مَن رحم ربك - أن الأمة خُلقت لهم، وأن لهم أن يفعلوا بها ما
يشاؤون، وقد رسخ فيهم هذا الفكر حتى إذا حاول محاول أن يقيمهم على الجادة
بطشوا به عبرة لغيره. وجاء العلماء المتزلفون لأولئك الأمراء المتقلبون في
نعمائهم، الضاربون بالملاعق في حلوائهم، وأفتوا لهم بجواز قتل ذلك الناصح
بحجة أنه شقَّ عصا الطاعة، وخرج عن الجماعة.
ولقد عهد الإسلام إلى العلماء بتقويم أَوَد الأمراء. وكانوا في الدول الإسلامية
الفاضلة بمثابة المجالس النيابية في هذا العصر، يسيطرون على الأمة، ويسددون
خطوات الملك، ويرفعون أصواتهم عند طغيان الدولة، ويهيبون بالخليفة فمن بعده
إلى الصواب. وهكذا كانت تستقيم الأمور؛ لأن أكثر أولئك العلماء كانوا متحققين
بالزهد، متحلين بالورع، متخلين عن حظوظ الدنيا، لا يهمهم أغضِب الملك الظالم
الجبار أو رضي. فكان الخلائف والملوك يرهبونهم ويخشون مخالفتهم لما يعلمون
من انقياد العامة لهم، واعتقاد الأمة بهم، إلا أنه بمرور الأيام خلف من بعد هؤلاء
خَلْف اتخذوا العلم مهنة للتعيُّش، وجعلوا الدين مصيدة للدنيا، فسوغوا للفاسقين من
الأمراء أشنع موبقاتهم، وأباحوا لهم باسم الدين خرق حدود الدين، هذا والعامة
المساكين مخدوعون بعظمة عمائم هؤلاء العلماء، وعلو مناصبهم، يظنون فُتياهم
صحيحة، وآراءهم موافقة للشريعة، والفساد بذلك يعظم، ومصالح الأمة تذهب،
والإسلام يتقهقر، والعدو يعلو ويتنمَّر. وكل هذا إثمه في رقاب هؤلاء العلماء [٦] .
ومن أعظم عوامل تقهقر المسلمين: الجبن والهلع، بعد أن كانوا أشهر الأمم
في الشجاعة واحتقار الموت، يقوم واحدهم للعشرة وربما للمائة من غيرهم. فالآن
أصبحوا - إلا بعض قبائل منهم - يهابون الموت الذي لا يجتمع خوفه مع الإسلام
في قلب واحد. ومن الغريب أن الإفرنج المعتدين لا يهابون الموت في اعتدائهم
هيبة المسلمين إياه في دفاعهم. وأن المسلمين يرون الغايات البعيدة التي يبلغها
الإفرنج في استحقار الحياة والتهافت على الهَلَكَة في سبيل قوميتهم ووطنهم، ولا
تأخذهم من ذلك الغيرة، ولا يقولون: نحن أولى من هؤلاء باستحقار الحياة. وقد قال
الله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ
وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} (النساء: ١٠٤) .
وقد انضم إلى الجبن والهلع اللذين أصابا المسلمين: اليأس والقنوط من رحمة
الله، فمنهم فئات قد وقر في أنفسهم أن الإفرنج هم الأعلَوْن على كل حال، وأنه لا
سبيل لمغالبتهم بوجه من الوجوه، وأن كل مقاومة عبث، وأن كل مناهضة خرق
في الرأي. ولم يزل هذا التهيب يزداد ويتخمر في صدور المسلمين أمام الأوربيين
إلى أن صار هؤلاء يُنصَرون بالرعب، وصار الأقل منهم يقومون للأكثر من
المسلمين. وهذا بعكس ما كان في العصر الأول:
يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
نسي المسلمون الأيام السالفة التي كان فيها العشرون مسلمًا لا غير يأتون من
(برشلونة) إلى (فراكسيمة) من سواحل فرنسة ويستولون على جبل هناك
ويبنون به حصنًا، ويتزايد عددهم حتى يصيروا مائة رجل فيؤسسون هناك إمارة
تعصف ريحها بجنوبي فرنسة وشمالي إيطالية، وتهادنها ملوك تلك النواحي
وتخطب ولاءها، وتستولي على رؤوس جبال الألب، وعلى المعابر التي عليها
الطرق الشهيرة بين فرنسة وإيطالية، وتضطر جميع قوافل الإفرنج أن تؤدي
للعرب المكوس لأجل المرور، ثم تتقدم هذه الدولة العربية الصغيرة في بلاد
(البيامون) مسافات بعيدة إلى أن تبلغ سويسرا وبحيرة كونستانزة في قلب أوربة،
وتضم القسم العالي من سويسرة إلى أملاكها، وتبقى خمسًا وتسعين سنة مستولية
على هذه الديار إلى أن تتألب الأمم الإفرنجية عليها، ولا تزال تناجزها إلى أن
استأصلتها، وكانت تلك العصابة العربية يوم انقرضت لا تزيد على ألف وخمسمائة
رجل (وقد نشرنا تفصيل خبرها في المجلد ٢٤ من المنار) .
***
شبهات الجهلاء الجبناء وردّها
من السخفاء من يقول: نعم، قد كان ذلك لكن قبل أن يخترع الإفرنج آلات
القتال الحديثة، وقبل المدافع والدبابات والطيارات، وقبل أن صار الإفرنج إلى ما
صاروا إليه من القوة المبنية على العلم. وهذا القول هو بمنتهى السخف والسفه
والحماقة، فإن لكل عصر علمًا وصناعة ومدنية تشاكله، وهي فيه كما هي العلوم
والصناعات والمدنية الحاضرة في هذا العصر. وأمور الخلق كلها نسبية. ولقد
كانت في العصر الذي نتكلم عنه آلات قتال ومنجنيقات ودبابات ونيران مركبة
تركيبًا مجهولاً اليوم، وكانت في ذلك الوقت كما هي المدافع والرشاشات وقنابر
الديناميت وما أشبه ذلك في هذه الأيام.
على أنه ليست الدبابات والطيارات والرشاشات هى التي تبعث العزائم،
وتوقد نيران الحمية في صدور البشر، بل الحمية والعزيمة والنجدة هي التي تأتي
بالطيارات والدبابات والقنابر. وما هذه إلا مواد صماء لا فرق بينها وبين أي حجر،
فالمادة لا تقدر أن تعمل شيئًا من نفسها، وإنما الذي يعمل هو الروح فإذا هبت أرواح
البشر وتحركت عزائمهم فعند ذلك تجد الدبابات والطيارات والرشاشات والغواصات،
وكل أداة قتال ونزال على طرف الثمام.
ويقولون: إلا أن هذا ينبغي له العلم الحديث، وهذا العلم مفقود عند المسلمين؛
فلذلك أمكن الإفرنج ما لم يمكنهم.
(الجواب) أن العلم الحديث أيضًا يتوقف على الفكرة والعزيمة، ومتى
وجدت هاتان وُجد العلم الحديث ووجدت الصناعة الحديثة. أفلا ترى أن اليابان إلى
حد سنة ١٨٦٨ كانوا أمة كسائر الأمم الشرقية الباقية على حالتها القديمة، فلما
أرادوا اللحاق بالأمم العزيزة تعلموا علوم الأوربيين، وصنعوا صناعاتهم، واتسق
لهم ذلك في خمسين سنة. وكل أمة من أمم الإسلام تريد أن تنهض وتلحق بالأمم
العزيزة يمكنها ذلك وتبقى مسلمة ومتمسكة بدينها، كما أن اليابانيين تعلموا علوم
الأروبيين كلها وضارعوهم ولم يقصروا في شيء عنهم، ولبثوا يابانيين ولبثوا
متمسكين بدينهم وأوضاعهم. وأيضًا فمتى أرادت أمة مسلمة أدوات أو أسلحة حديثة
ولم تجدها؟ إن ملاك الأمر هو الإرادة فمتى وُجدت الإرادة وجد الشيء المراد.
فلو أن أمة من أمم الإسلام أرادت أن تتسلح لوجدت السلاح الحديث اللازم
بأنواعه وأشكاله من ثاني يوم. ولكن اقتناء السلاح ينبغي له سخاء بالأموال، وهم
لا يريدون أن يبذلوا، ولا أن يقتدوا بالإفرنج واليابان في البذل، بل يريدون
النصرة بدون سلاح وعتاد، أو السلاح والعتاد بدون بذل أموال، وإذا تغلب العدو
عليهم من بعد ذلك صاحوا قائلين: أين المواعيد التي وعدنا إياها القرآن في قوله:
{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: ٤٧) كأن القرآن ضمن للمؤمنين
النصر بدون عمل وبدون كسب وبدون جهاد بالأموال والأنفس، بل بمجرد قولنا:
إننا مسلمون، أو بمجرد الدعاء والتسبيح؟ .
وأغرب من ذلك بمجرد الاستغاثة بالأولياء، فأصبح الكثير من المسلمين
وهم عزل من السلاح الحديث، وغير مجهزين بالعلم اللازم لاستعماله لا يقومون
للقليل من الإفرنج المسلحين المجهزين، وصاروا إذا التقى الجمعان تدور الدائرة في
أغلب الأحيان على المسلمين. فتوالى هذا الأمر عليهم مدة طويلة إلى أن فقدوا كل ثقة
بنفوسهم، واستولى عليهم القنوط، ودب فيهم الرعب، وألقوا بأنفسهم إلى العدو،
وبعد أن كانوا مسلمين صاروا مستسلمين، وقد ذهلوا عن قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا
وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ
وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: ١٣٩-١٤٠) ونسوا أنه لا يجوز أن
يتطرق اليأس إلى قلب أحد لا عقلاً ولا شرعًا، ولا سيما المسلم الذي يخبره دينه بأن
اليأس هو الكفر بعينه. وغفلوا عن قوله تعالى في سلفهم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ
إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا
بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} (آل عمران: ١٧٣-١٧٤) الآيات.
فتجدهم إذا استنهضتهم لمعاونة قوم منهم يقاتلون دولة أجنبية تريد لتمحوهم
كان أول جواب لهم: أية فائدة من بذل أموالنا في هذا السبيل وتلك الدولة غالبة لا
محالة؟ ! ولو تأملوا لوجدوا أن الاستسلام لا يزيدهم إلا ويلاً، ولا يزيد العدو إلا
استبدادًا وجبروتًا، سنة الله في خلقه. ولو فكروا قليلاً لرأوا أن هذا الشح بالمال
على إخوانهم الذين في مواطن الجهاد لم يكن توفيرًا وإنما كان هو الفقر بعينه؛ لأن
الأمة المستضعَفة لا تعود حرة في تجارتها واقتصادياتها، بل يمتص العدو الغالب
عليها كل ما فيه علالة رطوبة في أرضها، ولا يترك للأمة المستضعفة إلا عظامًا
يتمششونها، من قبيل (قوت لا يموت) وكثيرًا ما تحصل مساغب ويموتون جوعًا
كما يقع كثيرًا في جزائر الغرب والهند وغيرها، ترى المجاعات واقعة في الهند
ولا يموت منها ولا إنكليزي، وتراها تشتد في الجزائر ولا يموت بها إلا المسلم.
وما السبب في ذلك إلا أن الأجانب قد استأثروا بخيرات البلاد ولم يتركوا للمسلمين
إلا الفقر. فقام المسلمون اليوم يعتذرون عن عدم بذل الأموال لمساعدة إخوانهم بعدم
وجودها، وهذا صحيح إلى حد محدود، وذلك أنهم بخلوا بها في الأول فجنوا من
بخلهم على الجهاد الذل والخنوع أولاً، والفقر والجوع ثانيًا. فإن من سنن الله في
أرضه أن الذل يردفه الفقر، وأن العز يردفه الثراء، والمثل العربي يقول: مَن
عَزَّ بَزَّ.
والشاعر العربي الإياديّ يقول:
لا تذخروا المال للأعداء إنهمُ إن يظهروا يأخذوكم والتلاد معا
هيهات لا خير في مال وفي نعم ... قد احتفظتم بها إن أنفكم جُدعا
والمتنبي يقول:
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
فالمسلمون عز عليهم المال ففقدوه، وعزت عليهم الحياة ففقدوها، وأبى الله
إلا تصديق كلام النبي الموحى إليه حيث يقول: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما
تداعى الأكلة على القصاع) قالوا: أوَمن قلة فينا يومئذ يا رسول الله؟ قال: (لا،
ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يجعل الوهن في قلوبكم وينزع من قلوب أعدائكم؛ من
حبكم الدنيا وكراهيتكم الموت) .
هذا الحديث كان رواه لي الشيخ الكتاني الفاسي رحمه الله يوم لقيته في المدينة
المنورة منذ ثماني عشرة سنة، ثم قرأته في الكتب، واستشهدت به في مقدمة
(حاضر العالم الإسلامي) ، وألفاظه تختلف من رواية عن رواية. فالأستاذ صاحب
المنار أمتع الله بطول حياته هو الأدرى بأصح رواياته [٧] ، ومعناه ظاهر؛ وهو: أن
المسلمين يأتي عليهم يوم يصيرون فيه مأكلة وتمتد إليهم الأيدي من كل جهة، فهذا
العصر الذي نحن فيه هو ذلك اليوم، وأن المسلمين لا يكون عيبهم يومئذ من قلة
العدد، بل يكون عددهم كثيرًا وإنما لا تغنيهم كثرتهم شيئًا؛ لأن الكثرة بنفسها لا
تفيد إن لم تقترن بجودة النوع، والكمية لا تغني عن الكيفية، وعلة العلل في
ضعف المسلمين ذلك اليوم هو الجبن والبخل، صريح ذلك في قوله صلى الله عليه
وسلم: (من حبكم الدنيا وكراهيتكم الموت) .
ومن المعلوم أن الإفراط في حب الدنيا يحرم الإنسان التمتع بها، وأن الغلو
في المحافظة على الحياة تكون عاقبته زيادة التعرض للهلاك، هذه من سنن الله في
خلقه أو من النواميس الطبيعية كما يقال في هذا العصر.
فالقرآن يأمر المسلم بأن يحتقر الحياة والمال وكل عزيز في سبيل الله، ويأمر
المسلم أن يثبت ولا ييأس، وأن يصبر ولا يتزلزل مهما أصيب.
وتراه يقول: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:
١٤٦) .
هكذا يريد الله ليكون المسلمون، فإن لم يكونوا هكذا بصريح نص القرآن،
فكيف يستنجزون الله عداته بالنصر والتمكين، والسعادة والتأمين؟ !
***
ضياع الإسلام بين الجامدين والجاحدين
ومن أكبر عوامل انحطاط المسلمين: الجمود على القديم، فكما أن آفة
الإسلام هي الفئة التي تريد أن تلغي كل شيء قديم، بدون نظر فيما هو ضار منه
أو نافع، كذلك آفة الإسلام هي الفئة الجامدة التي لا تريد أن تغير شيئًا، ولا
ترضى بإدخال أقل تعديل على أصول التعليم ظنًّا منهم بأن الاقتداء بالكفار كفر،
وأن نظام التعليم الحديث من وضع الكفار.
فقد أضاع الإسلامَ جاحدٌ وجامدٌ.
أما الجاحد فهو الذي يأبى إلا أن يفرنج المسلمين وسائر الشرقيين، ويخرجهم
عن جميع مقوماتهم ومشخصاتهم، ويحملهم على إنكار ماضيهم، ويجعلهم أشبه
بالجزء الكيماوي الذي يدخل في تركيب جسم آخر كان بعيدًا فيذوب فيه ويفقد هويته.
وهذا الميل في النفس إلى إنكار الإنسان لماضيه واعترافه بأن آباءه كانوا سافلين،
وأنه هو يريد أن يبرأ منهم، لا يصدر إلا عن الفسل الخسيس، الوضيع النفس،
أو عن الذي يشعر أنه في وسط قومه دنيء الأصل، فيسعى هو في إنكار أصل أمته
بأسرها؛ لأنه يعلم نفسه منها بمكان خسيس ليس له نصيب من تلك الأصالة، وهو
مخالف لسنن الكون الطبيعية التي جعلت في كل أمة ميلاً طبيعيًّا للاحتفاظ بمقوماتها
ومشخصاتها من لغة وعقيدة وعادة وموسيقى وطعام وشراب وسكنى وغير ذلك.
محافظة الشعوب الإفرنجية على قومياتها
فلننظر إلى أوربة - لأنها هي اليوم المثل الأعلى في ذلك - فنجد كل أمة فيها
تأبى أن تندمج في أمة أخرى. فالإنكليز يريدون أن يبقوا إنكليزًا، والإفرنسيس
يريدون أن يبقوا إفرنسيسًا، والألمان لا يريدون أن يكونوا إلا ألمانًا، والطليان لا
يريدون أن يكونوا إلا طليانًا، والروس قصارى همهم أن يكونوا روسًا، وهلم جرًّا.
ومما يزيد هذا المثال تأثيرًا في النفس أن الأيرلنديين مثلاً أمة صغيرة مجاورة
للإنكليز، وقد بذل هؤلاء جميع ما يتصوره العقل من الجهود ليدمجوهم في سوادهم
مدة تزيد على سبعمائة سنة، فأبوا أن يصيروا إنكليزًا، ولبثوا أيرلنديين بلسانهم
وعقيدتهم وأذواقهم وعاداتهم.
وفي فرانسة نفسها تأبى أمة (البريتون) إلا أن تحافظ على أصلها. وفي
جنوبي فرانسة جيل يقال لهم (الباشكنس) احتفظوا بقوميتهم تجاه القوط ثم تجاه
العرب، ثم تجاه الأسبان، ثم تجاه الفرنسيس. وجميعهم مليون نسمة، وهم لا
يزالون على لغتهم وزيهم وعاداتهم وجميع أوضاعهم.
والفلمنك يأبون أن يجعلوا اللغة الإفرنسية لغتهم، والثقافة الإفرنسية ثقافتهم،
ولم يزالوا يصيحون في بلجيكا حتى اضطرت دولة بلجيكا إلى الاعتراف بلغتهم لغة
رسمية.
وفي سويسرا ثلاثة أقسام: القسم الألماني وهو مليونان وثمانمائة ألف،
والقسم المتكلم بالفرنسية وهو ثمانمائة ألف، والقسم المتكلم بالطليانية وهو أكثر
قليلاً من مائتي ألف، وكل قسم منها محافظ على لغته وقوانينه ومنازعه مع أنهم
كلهم متحدون في مصالحهم السياسية ويعيشون في مملكة واحدة.
وإن الدانمرك وبلاد الإسكنديناف وهولاندة فروع من الشجرة الألمانية لا
مراء في ذلك، لكنهم لا يريدون الاندماج في الألمان ولا العدول عن قومياتهم، وبقي
(الشيك) مئين من السنين تحت حكم الألمان وبقوا تشيكًا، واستأنفوا بعد الحرب
العامة استقلالهم السياسي، بعد أن حفظوا لسانهم واستقلالهم الجنسي مدة خمسة
قرون.
وقد هذب الألمان أمة المجر وعلّموهم ورقوهم ولكنهم لم يتمكنوا من إدماجهم
في الألمانية، فتجدهم أحرص الأمم على لغتهم المغولية الأصل وعلى قوميتهم
المجرية.
ولبثت الروسية العظيمة من مائتين إلى ثلاثمائة سنة تحاول إدخال بولونية في
الجنس الروسي، وحمل البولونيين على نسيان قوميتهم الخاصة؛ بحجة أن العرق
السلافي يجمع بين البولونيين والروس، ففشلت جميع مساعيها في إدماج البولونيين
فيها، وعاد هؤلاء بعد الحرب العامة أمة مستقلة في كل شيء؛ وذلك لأنهم
لم يتخلوا طرفة عين عن قوميتهم.
وليس من العجب أن لا تريد أمة عددها ٣٠ مليونًا الاندماج في غيرها، ولكن
الأستونيين - وهم مليونان فقط - انفصلوا عن الروسية ولم يقبلوا الاندماج فيها
وأحيوا استقلالهم ولسانهم المغولي الأصل، وجعلوا له حروفًا هجائية. ومثلهم أهالي
فنلاندة المنفصلون عن الروسية أيضًا. وقد خابت مساعي الروس في إدماج
اللتوانيين من هذه الأمم البلطيكية في الجنس الروسي، وانتفضوا بعد الحرب العامة
أمة مستقلة كما كانوا مستقلين قوميًّا، وجميعهم أربعة ملايين. وأقل منهم جيرانهم
اللتوانيون الذين هم مليونان لا غير، ومع هذا قد انفصلوا بعد الحرب وأسسوا
جمهورية كسائر الجمهوريات البلطيكية؛ لأنهم من الأصل لبثوا محافظين على
لغتهم وجنسهم.
وقد عجز الروس من جهة - كما عجز الألمان من جهة أخرى - عن إدخال
هذه الأقوام في تراكيبهم القومية العظيمة؛ لأن كل شعب مهما كان صغيرًا لا
يرضى بإنكار أصله، ولا بالنزول عن استقلاله الجنسي.
وقد حفظ الكرواتيون استقلالهم الجنسي مع إحاطة أمتين كبيرتين بهم هما
اللاتين والجرمان.
وحفظ الصربيون استقلالهم الجنسي مع سيادة الترك عليهم مدة قرون، ولم يزل
الأرناؤوط أرناؤوطًا منذ عهد لا يعرف بدؤه، وهم بين أمتين كبيرتين اليونان
والصقالبة؛ أي السلاف.
وكذلك البلغار أبوا إلا أن يبقوا بلغارًا فيما بين الروم والسلاف واللاتين، ثم
جاءهم الترك فتعلموا التركية لكنهم بقوا بلغارًا.
ولا أريد أن أخرج في الاستشهاد عن أوربة؛ لأني إن خرجت عن أوربة
قالت تلك الفئة الجاحدة: نحن لا نريد أن نجعل قدوة لنا أممًا متأخرة مثلنا!
فالأمم التي استشهدنا الآن بها كلها أوربية - وكلها متعلمة راقية - وكلها
ذوات بلدان ممدنة منظمة، وكلها عندها الجامعات، والأكاديميات، والجمعيات
العلمية والجيوش والأساطيل.. إلخ.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))