للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مناظرة في الجامعة المصرية
في المدنيتين الفرعونية والعربية
(وأيتهما تختار مصر هذا العصر؟ !)

مقدمة وتمهيد:
كنت كتبت في سنة ١٣٢٩ بضع مقالات عنوانها (المسلمون والقبط) نشرتها
في جريدة المؤيد وفي مجلة المنار معًا، كان الداعي إلى كتابتها الخلاف والتنازع
الذي أهب وبعثهم على عقد (مؤتمر قبطي) عام لتقرير ما يرونه من حقوقهم في
هذه البلاد وحكومتها، وما يدعونه من هضم المسلمين لها، واضطرار المسلمين إلى
عقد مؤتمر آخر سموه (المؤتمر المصري) معارضة لذلك المؤتمر وتخطئة له في
اسمه وموضوعه، بناءً على رأيهم، وفي وجوب وحدة الشعب المصري، وعدم جواز تفرُّقه وجعْله طوائف دينية.
بحثت في تلك المقالات في حال الشعب المصري بحثًا اجتماعيًّا أخلاقيًّا؛ أثبتُّ
فيه أن القبط أرقى من المسلمين بدرجات في جامعتهم الدينية، ورابطتهم الملية،
وتعاونهم على مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية، وأنه - من ثم - كانت ثروتهم
النسبية أوفر، وعددهم في مصالح الحكومة أكثر، وكانوا معذورين أو جديرين
بارتقاء همتهم إلى تحويل حكومة هذه البلاد عن الصبغة الإسلامية إلى الصبغة
القبطية، باسم الجنسية والوطنية، وقلت يومئذ: إنهم قد غلطوا أو أخطئوا في المظهر
الذي ظهروا به في مؤتمرهم القبطي ومطالبهم القبطية فيه؛ لأنهم قد يوقظون به في
المسلمين (وهم الأكثرية الساحقة التي تمثل السيادة في البلاد) نعرة الجامعة الملية
التي ضعفت فيهم حتى تكاد تزول، وحينئذ تتحول ثوائب مدهم إلى جزر، وربحهم
في مساعيهم إلى خُسر. وقد اعتبروا بذلك وصاروا يدارون عواطف المسلمين بقدر
معلوم، وتحولت دعايتهم عن اسم الجنسية القبطية إلى المدنية الفرعونية، ويؤيدهم
في ذلك ساسة الاستعمار ودعاة النصرانية من الإفرنج عامة؛ ولذلك راجت هذه
الدعاية لدى ملاحدة المسلمين المتفرنجين، وأفراد غيرهم من السذج الغافلين،
فنشروها في الجرائد والمجلات المختلفة، وعقدوا لها مناظرة في كلية الحقوق من
الجامعة المصرية من عهد قريب باللغة الإنكليزية موضوعها:
أي المدنيتين ينبغي أن تختار مصر: آلمدنية الفرعونية، أم المدنية العربية؟
وكان الفلج فيها على ما قيل لنا للمدنية الفرعونية، فرأت لجنة المناظرات
والمحاضرات في تلك المدرسة أن تعقد مناظرة أخرى في هذا الموضوع باللغة
العربية، واختارت صاحب مجلة المنار لتأييد الجامعة العربية، ظنًّا منها - على ما
نقل إلينا - أنه إذا فشل ودحضت حجته لا يُرجى لأنصار المدنية العربية أن تنهض
لهم حجة على لسان غيره. وطفقوا يعرضون تأييد المدنية الفرعونية على أصحاب
اللسن والخلابة، فيأبونها حتى أجاب دعوتهم إليها الأستاذ لطفي جمعة المحامي
الخطيب الكاتب المشهور.
عُقدت المناظرة بعد المغرب من يوم الجمعة ٢١ رجب الماضي الموافق ليوم
١٢ من شهر ديسمبر الماضي، وكان الرئيس المنظم للاجتماع الأستاذ وحيد رفعت من
أستاذِي الجامعة، وكان المعضِّد للأستاذ لطفي جمعة - محمد أفندي أبو شقة من طلبة
الجامعة المصرية، والمعضد لصاحب المنار أحمد أفندي حسين من طلبة الجامعة
أيضًا.
كانت الكلمة الأولى لمناظرنا الأستاذ لطفي جمعة فبدأ كلامه بتخطئة لجنة
المناظرة في قولها: (المدنية الفرعونية) ، وقرر أن هذا التعبير لا يصح؛ لأن كلمة
(فرعون) لقب لبعض ملوك مصر الأولين، وقد تولى حكم مصر بعدهم ملوك
البطالمة وأمراء العرب، وآخرون لُقِّبوا بالسلاطين، وآخرون لقبوا بالخديويين، ثم
عادت حكومة البلاد الآن ملكية، فإذا صح أن تسمى مدنية هذه البلاد فرعونية في
عصر جاز أن تسمى في عصور أخرى سلطانية وخديوية وملكية، وهذا ما لا يقول
به أحد.
ثم قال: إن لهذه البلاد مدنية خاصة يجب أن تسمى (المدنية المصرية) ،
ولا يجوز أن تسمى فرعونية ولا عربية لا في الأزمنة الماضية ولا في هذا الزمن،
واحتج على ذلك بأن المصري الذي ذهب إلى بلاد العرب كالحجاز أو غيرها من
الأقطار، يقال: فلان المصري لا العربي. وذكر أن المدنية المصرية تمتاز على
جميع مدنيات الشعوب بمزايا خاصة بالمصريين لا يساويهم فيها أحد. وذكر منها
سمرة اللون وخفة الروح وحسن الفكاهة والظرف في النكت المليحة. وأطال في
وجوب محافظة المصريين على تسمية مدنيتهم مصرية وعدم نسبتها إلى العربية،
وذكر أن تدينهم بالإسلام لا يقتضي أن يكونوا عربًا في مدنيتهم وجنسيتهم، فإن
الإسلام دين عام يشمل جميع شعوب البشر، وذكر أنه هو يرى - كمسلم مصري أو
مصري مسلم - الأخذ بالمدنية المصرية. وقد أطال في هذا بفصاحته وبداهته،
بما لا يستطيع كل أحد أن يطيل به لضيق الموضوع وإعوازه الحقائق التي تمده،
وفقده للدلائل التي تثبته.
ولما انتهى الوقت الموقوت له في الكلام وما زاده عليه، قمت فشكرت له إنكاره
لنسبة المدنية إلى لقب فرعون، وقلت: إنني كنت عازمًا على هذا الإنكار فكفاني
مؤنته. وأثنيت على فصاحته واستقلال فكره؛ إذ لم يرضَ لنفسه أن يكابر الحق في
المسألة، وذكرت أن جعل سمرة اللون من آيات الجنسية أو المدنية المصرية
تُخرجه هو ورئيس اللجنة منها؛ فإنهما أشقران لا أسمران، ثم أفضت في
الموضوع.
وملخص ما قلته مع اختصار لبعض المسائل وايضاح قليل لبعضٍ مع التزام
الموضوع: أن مسألة النسبة إلى مصر نسبة إلى بلد هذا القطر. وكان المعروف
عند علمائنا أن العرب الأقدمين كانوا ينسبون الأشخاص إلى أجناسهم النسبية
وقبائلهم، فيقولون مثلاً: قرشي أو تميمي ... إلخ، وينسبون الأعاجم إلى شعوبهم:
كرومي وهندي وفارسي، والأشياء إلى بلادها كالحبر اليمانية والقباطي المصرية.
وكان الأعاجم ينسبون الأشخاص إلى بلادهم فيقولون: مصري وبصري
ودمشقي وخراساني مثلاً؛ لأن الأنساب قلما تحفظ في الأمصار.
وبعد الحضارة الإسلامية تغلبت النسبة إلى البلاد على النسبة إلى القبائل؛
لأن من شأن الحضارة أن تمزج القبائل الكثيرة والأجناس الكثيرة في مصر واحد،
وإنما تحفظ الأنساب في أطوار البداوة.
والنسبة إلى مصر الآن عندما نقول: فلان مصري. يراد بها الجنسية السياسية
التي تُنال بالإقامة وقبول الحكومة، لا النسبة إلى جيل من سكان هذا القطر كالقبط
والعرب، فكل مَن له حق الجنسية المصرية الآن يقال له: مصري (وإن كان غير
المسلم والقبطي منهم قد يُنسب أيضًا إلى أهل ملته كاليهودي أو جيله
كالرومي) .
أما المصريون القدماء فقد اختلف علماء الآثار العادية في أصلهم، فمن علماء
الآثار مَن يقول: إن أصلهم من العرب؛ كما بينه الأستاذ جبر ضومط من أساتذة
الجامعة الأمريكية ببيروت في محاضرة له ألقاها في تلك المدرسة الشهيرة، نقل فيها
عن بعض علماء الأجناس واللغات من الإنجليز وغيرهم قول مَن يقول: إن أصل
المصريين من العرب، ونشرناها في المنار. وكذلك الأستاذ نعوم بك شقير بيَّن هذا
في كتابه (تاريخ سينا القديم والحديث وجغرافيتها) وبعد ما أورد بعض النقول عن
علماء أوروبا قال ما خلاصته: إن أكثر الذين يسكنون الآن مصر وسورية
والعراق هم من أصل واحد كما كانوا من قديم الزمان.
ويرجع العلم التفصيلي أو الكلام في هذا إلى العالِم المصري الأثري الشهير
المرحوم أحمد كمال باشا المصري فهو قد ألف معجمًا كبيرًا للغة الهيروغليفية بيَّن
فيه أن كثيرًا من ألفاظها القديمة موافقة للغة العربية (المُضرية) . وقد نشرنا في
المجلد الثامن عشر من المنار فصولاً له في الشواهد على ذلك، ويصح أن نقول: إن
هذا العالم المصري أوسع علمًا بهذا الأمر من علماء أوربة المشهورين لجمْعه بين
اللغتين الهيروغليفية والعربية، وفيما ذكرناه من معجمه: أن أسماء (الحَبّ) الذي
نتخذ منه خبزنا في اللغتين واحد مع تحريف لبعض الألفاظ: فمنها كلمة (بُر)
وهي لغة الحجاز (وقمحو) وهو تحريف قمح (وحنت) وهو تحريف حِنطة؛
لأن الطاء تاء مفخمة.
وقد ترجم نجله الدكتور حسن بك كمال الحجر الوحيد الذي فيه ذكر بني
إسرائيل من الآثار المصرية، وبين والده ما فيه من الألفاظ العربية (المضرية)
وهي لا تقل عن نصف ألفاظه، وقد نشرناه في المنار أيضًا.
ومما نقلناه عن المرحوم أحمد كمال باشا أنه يوجد في الدير البحري بقرب
الأقصر أثر قديم من زمن الدولة المصرية الثامنة عشرة فيه كلمة عن أصل المصريين
القدماء، ملخصها: أنه كان هناك قوم يسمون الأعناء هم أول مَن بنى
المدن في الوجه القبلي. وفيه أنه ذهب بعض هؤلاء الأعناء إلى بلاد العرب،
وبعضهم إلى الصومال وإفريقية وبلاد أخرى ولا يُعلم من أين جاؤوا! والأعناء
جمع (عنو) وهو لفظ معناه بالعربية والهروغليفية: الأقوام المختلطون من قبائل
شتى. وما ذكر من أن بعضهم ذهب إلى بلاد العرب يدل على أن بلاد العرب كان
فيها سكان غيرهم، ولكن خبرهم واسمهم المشترك أقدم الآثار التاريخية في علاقة بلاد
العرب ببلاد مصر، وامتزاج شعوبها من قبل استيلاء دولة الرعاة (الهيكسوس)
العربية عليها عدة قرون، فهذا ملخص ما يتسع له المقام من الإشارة إلى النقول
التاريخية في أصل المصريين القدماء.
وأما المصريون في هذا العصر فمن المعلوم أنهم أيضًا كأكثر بلاد الحضارة
مؤلَّفون من أمم مختلفة من القبط والعرب والترك والشركس والمغاربة واليونان
والرومان وغيرهم، حتى إن فيهم أيضًا كثيرًا من الشعوب الإفرنجية الحديثة تجنَّسوا
بالجنسية المصرية.
***
قوام المدنية ومقوماتها
بعد هذا نرجع إلى الكلام في المدنية فنقول: إن المدنية قوامها اللغة والفنون
والصناعات والثقافة المعنوية من العقائد والتشريع والآداب.
فنحن إذا نظرنا إلى أن المصريين القدماء يمتزجون بالعرب وأن بعض
العلماء يقول إنهم كلهم أو أصلهم من العرب، ولم نستطع ترجيح هذا القول على ما
قبله فإننا نجزم قطعًا بأن المصريين بعد الفتح الإسلامي قد امتزجوا بالعرب المسلمين
وغلبت عليهم الحضارة العربية بجميع مقوماتها ومشخصاتها، فلغتهم كلهم عربية،
ودين السواد الأعظم منهم هو الإسلام الذي هو ينبوع ثقافة الآداب والتشريع.
وإذا أردنا المقارنة بين المدنية العربية الإسلامية وما يسمى المدنية الفرعونية -
والمراد بها القبطية - وأردنا أن نرجح بين المدنيتين فإننا نقول: إن مدنية الفنون
والصناعات تختلف باختلافات الأزمنة وحاجات البشر فيها، فالفنون والصناعات
التي رقاها الأوربيون من وسائل المعايش والتنقلات كالسكك الحديدية وغيرها لا
يصلح للبشر في ارتقائهم المدني في هذا العصر غيرها (على أن المباني العربية
أجمل من الإفرنجية والفرعونية، ولا يوجد أمة في هذا العصر تسفه نفسها ببناء
أهرام كأهرام الجيزة!) .
فيبقى النظر في اللغة والثقافة المعنوية، فأما اللغة فلا يمكن أن يقال: إنا نؤْثِر اللغة الهيروغليفية على العربية؛ لأنها لغة ميتة ذهبت عينها وبقيت آثارها، وليس فيها مزيَّة توجب إحياءها واستبدالها بالعربية لو كان ممكنًا.
وأما الدين فدين الفراعنة كان وثنيًّا، ودين السواد الأعظم من المصريين
الإسلام وتليه النصرانية فاليهودية، ولا يرضى أحد من المصريين أن يرجع إلى
دين الفراعنة الوثنيين فيعبد العجل (أبيس) وغيره من آلهتهم.
فأساس العقائد الإسلامية التوحيد، ومن مقتضاه أن لا يخضع البشر ولا يذلوا
إلا لله تعالى خالقهم ورازقهم ولا يخافوا سواه.
وأما الفرعونية فأساسها عبادة البشر والبقر والثعابين وغيرها!
وكفاكم ما قصَّه الله تعالى من قول فرعون موسى عليه السلام لقومه: {مَا
عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص: ٣٨) وقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات: ٢٤) وقوله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} (الزخرف: ٥٤) ؛ أي
حملهم على الخفة والجهل؛ أي السفه، وأي قوم يسفهون أنفسهم في هذا العصر
فيعبدوا ملكهم ويقبلوا استبداده فيهم باختيارهم؟ !
وأما التشريع - وهو الذي يهم إخواننا طلبة الحقوق بوجه خاص - فأساس
التشريع الإسلامي السياسي والمدني والعسكري فيه مبني على أن السلطة للأمة
بنص قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: ٣٨) ، وقوله لرسوله:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: ١٥٩) ، فأنتم ترون أن الله أمر نبيه
المعصوم أن يشاور الناس في المصالح العامة، فكان يشاورهم ويعمل برأيهم ولو
خالف رأيه؛ كما فعل في غزوة بدر وغزوة أحد (وقد ذكرت بعض الشواهد على
ذلك) .
وحسبكم من التصريح بسلطة الأمة في الإسلام - الخطبة الأولى للخليفة الأول
أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) ؛ فإنه بعد مبايعته بالخلافة صعد منبر الرسول
صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد فقد وُليت عليكم ولست
بخيركم، فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت - أي اعوججت - فقوموني) .
فهو قد صرح بأن الأمة لها الحق أن تقوِّم حاكمها العام إذا اعوج وخالف
مصالحها وشريعتها، (وتبعه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في هذا التصريح
الرسمي، فقد اشتهر قوله على المنبر: مَن رأى فيكم عوجًا فليقومه. وما أجابه به
أعرابي من تقويمهم إياه بسيوفهم) ؛ فسلطة الأمة إنما جاء بها الإسلام وعنه أخذها
الأوربيون، ومنهم ومن المسلمين مَن يجهل هذا، ومنهم من يعرفونه وهم له
جاحدون!
إن مدنية العرب الحديثة - أي الإسلامية - قد اعترف بها كثير من علماء
الإفرنج على اختلاف أجناسهم، وألف بعضهم فيها كتبًا مشهورة، منها كتاب
(سيديو) (خلاصة تاريخ العرب) وهو مترجم بالعربية ومطبوع، ومنها كتاب
(حضارة العرب) لغوستاف لوبون الفيلسوف الفرنسي الشهير. وهو كتاب ضخم
ترجمه محمد بك مسعود المشهور، وربما ينشر قريبًا.
وإن كان بعض الشعوبية المبغضين للعرب يدَّعون أن مدنية العباسيين في
الشرق قد اشترك فيها العجم مع العرب. والحق أن العرب هم الذين أوجدوها،
وبلُغتهم انتشرت علومها وفنونها، فهذه آثار هذه المدنية في الأندلس - ولا سيما قصر
الحمراء وبقية جامع قرطبة - آثار ماثلة مشاهَدة تفقأ عيني كل مكابر منكر لمدنية
العرب من الغربيين وغيرهم، فالذين أحدثوا تلك المدنية الباذخة كلهم من العرب
الأقحاح الخلص المعروفة أصولهم وقبائلهم في كتب التاريخ.
وقد قال الدكتور جوستاف لوبون في كتابه (تطور الأمم) ما معناه: إن ملكة
الفنون لم تستحكم لأمة من الأمم المتحضرة في أقل من ثلاثة أجيال: جيل التقليد،
وجيل الخضرمة وجيل الاستقلال، وشذ العرب وحدهم فاستحكمت لهم ملكة الفنون
في جيل واحد!
وأخبرني صديقي محمود بك سالم الشهير من عهد بعيد أن لديه كتابًا باللغة
الفرنسية ألفه بعض علماء أوربة وسماه (فسيولوجيا الأمم) يبحث فيه عن البنية
البشرية في الشعوب المختلفة، وقد أثبت فيه أن بنية الشعب العربي أكمل البنى. وقد
نسيت اسم هذا الكتاب، ولعلنا نسأله عنه، وهو في باريس الآن.
وأما مدنية العرب من حيث الثقافة الدينية فهي مبنية على إصلاح النفس
البشرية عقلاً وأخلاقًا؛ لأن النفس البشرية متى صلحت فهي تُصلح كل شيء،
وإصلاح النفس البشرية له أساسان: (أحدهما) استقلال الفكر وحرية الوجدان
(والثاني) عزة النفس وقوة الإرادة.
وكانت العرب قبل الإسلام أعظم أمم الأرض استعدادًا لهذا الإصلاح؛ فإن
من المعلوم عند جميع المطَّلعين على تواريخ الأمم أنها كانت قبل ظهور الإسلام
مستعبَدة للملوك ولرؤساء الأديان، فلا حرية لفرد منها في دينه ووجدانه، ولا في
إراداته، وقد فصلت هذا في مجلة المنار وأجملته في (خلاصة السيرة المحمدية) .
وأما العرب -ولا سيما عرب الحجاز- فلم يكن لهم ملوك مستبدون
يستعبدونهم، ولا رؤساء أديان يحملون على ما يقررونه في الدين وإن لم يعقلوه،
فضلاً عن كون عقولهم تنكره وتأباه، وبهذا كانوا أشد استعدادًا للإصلاح الإسلامي
على بداوتهم من شعوب المدنية المعاصرة لهم، فجاء الإسلام في عقائده وفي تشريعه
مكرِمًا للنفس البشرية، ومعليًا لشأنها، فهو لا يحكم على البشر بأن يذلوا ويخضعوا
لأحد إلا لخالقهم، حتى إن الرسول المعصوم قد خاطبه الله في نصوص القرآن
بمثل قوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: ٢١ -
٢٢) وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: ٤٥) وقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ
} (الشورى: ٤٨) ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الفرقان: ٥٦) أي
إنما أرسلناك معلمًا مربيًا لا مسيطرًا ولا قهَّارًا.
(وأما المدنية الفرعونية فقد كانت تستعبد البشر وتذلهم، كما فعلت ببني
إسرائيل وغيرهم، وهذه الأهرام - التي هي أظهر آثارهم - حجة عليها وعليهم؛
فقد كانوا يسخِّرون في بنائها مئات الألوف الخاضعين لهم) .
وقال تعالى - في حرية العقيدة والدين -: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ
مِنَ الغَيِّ} (البقرة: ٢٥٦) ، فبهذه العقائد والآداب والحكم خرج عرب الجاهلية
من بداوتهم وجهلهم، وفتحوا الممالك بالعدل والفضيلة والآداب، لا بالقهر والظلم
والإذلال، فإن ملكهم قد امتد في قرن واحد من شواطئ القاموس المحيط الغربي
(الأطلنطيق) إلى حدود الصين؛ إذ فتحوا كشغر من تركستان الصينية قبل
انقضاء القرن الأول، وأوجدوا مدنية جديدة جمعت بين الدين والدنيا كما أرشدهم
القرآن في آياته الكثيرة.
ومن المعلوم أنه لم يكن في بلاد العرب قواعد حربية تُخرج الجنود، وتمدها
بالذخائر، والمؤن من الشرق إلى الغرب، وإنما كانت قوتها العدل والفضائل
الإسلامية.
فهذا مجمل وجيز من مدنية الثقافة الإسلامية التي ينكرها بعض الجاهلين
والمكابرين، ويماري فيها بعض الملاحدة المتفرنجين.
وكانت آخر كلمة لي أن قلت في آخر المناظرة: إن البلاد التي تنطق باللغة
العربية الآن - وهي نصف إفريقية الشمالي من مملكة مراكش إلى مصر والشطر
الغربي من سواحل البحر الأحمر إلى العراق وعُمان ومسقط - كل قطر منها
ينتسب أهله إليه لا العرب كما ينتسب المصري إلى قطره (إذا كان كل منهم في
خارجه، وينتسب كل فرد إلى بلده إذا كان في بلد آخر من قطره، كما يقال:
الإسكندري والأسيوطي والمنفلوطي) ويعدون الرابطة الجامعة بينهم هي اللغة
العربية والثقافة العربية، على اختلاف مشاربهم وعقائدهم، ويعدون مصر رأسًا
لهذه الشعوب، ويتمنون لو تكون كل هذه البلاد ممالك متحدة مركزها مصر، فبقاء
انتساب مصر إلى العربية يحفظ لها هذه الرياسة على هذه الشعوب الكثيرة، ولها
من ذلك فوائد سياسية وأدبية واقتصادية كبيرة، وتبرُّؤها من العربية وانتسابها إلى
الفرعونية ليس فيه أدنى فائدة لمصر لا مادية ولا معنوية.
وقد قام بعدي مؤيد الفرعونية، فألقى كلامًا شعريًا مبهَمًا في المدنية الفرعونية
يظهر أنه كان مكتوبًا محفوظًا فلم يستطع الخروج عنه، وقد أراد هذا الخروج فلم
يكن إلا خروجًا عن آداب المناظرة، حتى صاح به السامعون: اسكت، اسكت،
انزل انزل، تكلمْ في الموضوع، وما هو إلا أن حام حول العاطفة الدينية الإسلامية،
ذاهبًا إلى أنه لا يصح أن تحول مسلمي مصر عن مدنية بلادهم الفرعونية (وما
هيه؟ !) .
وتلاه مؤيدي فكان أفصح لسانًا، وأجرأ جَنانًا، وأقوى برهانًا، فزاد ما قلته
بيانًا، أورد فوائد تاريخية وأدبية أحسن فيها إحسانًا. وانتصر لكل منا واحد من
المستمعين، فكنا نحن المنصورين، فأخذت الحدة الأستاذ لطفي جمعة بعد أن قررنا
ما قررنا، فقام من بعدنا وألقى كلمات كلها مكابرة وتهكم ببعض الأقوال التاريخية،
وتحقير لأحمد كمال باشا والأستاذ جبر ضومط ونعوم بك شقير المؤرخ، لو لم يقل
شيئًا منها لكان خيرا له. وإننا نُمسك قلمنا عن ذكرها، كما أمسكنا لساننا عن ردها.
وقد عجز الرئيس عن حفظ النظام، وفي الختام أُخذت الأصوات فكانت
الأكثرية الساحقة مؤيدة لنا في تفضيل المدنية العربية واختيارها، وظهر من الهتاف
لنا والتصفيق أن السواد الأعظم معنا يرجح المدنية العربية من كل وجه.
ثم طلب الرئيس من المستمعين أن يخرج المرجحون للعربية من باب النادي
الذي عن يميننا، ويخرج المرجحون للمدنية الفرعونية من الباب الذي عن شمالنا،
فتأكد بذلك أن الأكثرية الساحقة من أصحاب اليمين، والظاهر أن أكثر أصحاب
الشمال من القبط، وأقلهم من المسلمين الغافلين، وأما الذين أخذوا منهم بطائق
التصويت وكتبوا عليها رأيهم فكانت نسبة الترجيح لنا منهم أقل من الواقع، ذلك بأن
الهيئة الإدارية التي تولت الإحصاء لها أعلنت أن المؤيدين للعربية منهم ١٨٧ صوتًا
تجاه ١٠٣ في جانب الفرعونية.
قالت جريدة الشورى وكان صاحبها من حاضري المناظرة بعد ذكر الرقمين: إنه وإن كانت الأكثرية الرقمية كذا؛ فإن الحقيقة أنه كان يجب أن تكون ٦٠٠
في الجانب الأول وأقل مما كان للثانية بكثير) .
ولما فرغنا من المناظرة أقبل الناس فُرادَى وثُبات يهنئونني بالفلج والظفر،
ويدعون الله لي بما يناسب المقام، ولله الحمد على توفيقه.