للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شكيب أرسلان


لماذا تأخر المسلمون؟
ولماذا تقدم غيرهم
بقلم أمير البيان
(٣)

العبرة للعرب وسائر المسلمين برُقي اليابانيين
ولكني أخرج من أوربة إلى اليابان فقط؛ لأن رقي اليابان يضارع الترقي
الأوربي، وقد تم لليابانيين كما تم رقي أوربة للأوربيين؛ أي في ضمن دائرة
قوميتهم ولسانهم وآدابهم وحريتهم ودينهم وشعائرهم ومشاعرهم وكل شيء لهم.
فأنقل إلى القراء العرب فقرة من رسالة طويلة جاءت من مراسل أوربي سائح
في اليابان وظهرت في جريدة (جورنال دو جنيف) بتاريخ ٢٠ أكتوبر، فإنه
يقول:
(إن الياباني يحب الفن قبل كل شيء، وإن رأيته ساعيًا في كسب المال
فلأجل أن يلذذ بالمال أهواءه المنصرفة إلى الحُسن والجمال. وقد انتقش في صفحة
نفسه الشعور القومي الشديد عدا الميل إلى الجمال؛ لأنه يفتخر بكون اليابان في مدة
ستين سنة فقط صارت من طور أمة من القرون الوسطى إقطاعية الحكم إلى أمة
عظيمة من أعظم الأمم، ومما لا ريب فيه أن الديانة اليابانية هي ذات دور عظيم
في سياسة اليابان (ليتأمل القارئ) وهي في الحقيقة فلسفة مبنية على الاعتراف
بكل ما تركه القدماء لسلائلهم، فالياباني العصري قد ائتلف مع جميع
احتياجات الحياة العصرية، لكن مع حفظ الميل الدائم إلى الرجوع إلى ماضيه،
ومع التمسك الشديد بقوميته، غير مجيب نداء التفرنُج (وفي الأصل التغرب
Accidentalisme) الذي لا يريد الياباني أن يأخذ منه إلا ما هو ضروري له
لأجل مصارعة سائر الأمم بنجاح، ولاشك أن هذا مثال فريد في تاريخ أمم الشرق
الأقصى) .
ثم يقول:
(كان اليابانيون يكرهون الأسفار إلى البلدان البعيدة، ويحظرون دخول
الأجانب في بلاهم، ولكن هذا المنع قد ارتفع بعد النهضة العصرية، وتلافت
اليابان ما فات بشكل مدهش. والنتائج هي أمامنا، إلا أن الماضي لا يزال عند
اليابانيين مقدسًا معظمًا في جميع طبقاتهم؛ لأنه في هذا الماضي المقدس يجد
اليابانيون جميع شعورهم بقيمتهم الحاضرة، فتراهم يكافحون بوسائل المدنية
الحديثة التامة التي لا سبيل إلى الحياة بدونها في أيامنا هذه، لكن ينبذون كل
(تغرب) بمجرد ما يجدون أنفسهم في غنى عنه، ويعودون مع اللذة إلى شعورهم
القومي الخالص الذي به يعتقدون أنهم الأعلون.
وهناك هياكل (شنيتو) ومعابد (زن) والهياكل البوذية وهي مكرمة معظمة
بأشد ما يمكن من الحماسة الدينية والإيمان الثابت كما كانت منذ قرون. والحق أن
هذا الاحترام الشديد الذي يشعر به اليابانيون لقديمهم ولمعبوداتهم هو الذي قام عندهم
حصنًا منيعًا دون المبادئ الشعوبية، والأفكار الشيوعية المضرة) .
ومنذ بضع سنوات ظهر في فرنسة تأليف جديد عن اليابان للمركيز
(لامازليير) Mazeliere La قد أطنبت الجرائد في وصفه، ونشرت عنه جريدة
(الديبا) مقالاً رنّانًا، فنحن نوصي القراء الذين يهمهم أن يعرفوا كيفية ارتقاء اليابان
- وهو موضوع في غاية الجلالة لما فيه من الاستنتاج لسائر بلاد الشرق -
بمطالعة هذا الكتاب الذي لا يمكن أن يُنسب إلى مؤلفه التعصب لليابان، على أنني
رأيته في الجملة مطابقًا لتواريخ ألفها علماء يابانيون متخصصون في التاريخ.
وهذه التواريخ مترجمة من اليابانية إلى الإفرنسية. ولا بد لي في هذه العجالة من
نقل بعض فِقَر من تاريخ لامازليير المذكور، قال في أثناء الكلام على تمدن اليابان
العصري وخروج هذه الأمة من عزلتها القديمة ما يلي:
(فبدأت اليابان تستعير من أوربة وأمريكا قسمًا من مدنيتهما المادية، ومن
نظامهما العسكري، ومن مباحث تعليمهما العام، ومن سياستهما المالية، فكان
المجددون يجتهدون في أن يقتبسوا من كل شعب ما يرونه الأحسن عنده، فكان ذلك
مشروع تجديد وهدم وإعادة بناء، وظهرت آثار ذلك في جميع مناحي الحياة
اليابانية) .
ثم تكلم عن الحرب اليابانية الصينية، وانتهى إلى قوله الذي نترجمه ترجمة
حرفية:
إن ظفر اليابان بالصين لم يُثبت علو الأفكار والمبادئ العلمية التي أخذتها
اليابان عن الغرب وكفى، بل أثبت أمرًا آخر وهو أن شعبًا آسيويًّا بمجرد إرادته
وعزيمته عرف أن يختار ما رآه الأصلح له من مدنية الغرب (تأمل جيدًا) مع
الاحتفاظ باستقلاله وقوميته وعقليته وآدابه وثقافته) اهـ.
وقبلاً كنت نشرت في الجرائد - وما نشرته لم يكن إلا نقطة من غدير -
خلاصة الحفلات التي أقامها اليابانيون لتتويج عاهلهم منذ سنتين، وكيف استمرت
مراسم هذا الاحتفال مدة شهر، وكانت بأجمعها دينية، وكيف أن الميكادو هو كاهن
الأمة الأعظم، وكيف أنه من سلالة الإلهة (الشمس) وكيف اغتسل في الحمام
المقدس المحفوظ من ألفي سنة، وكيف أكل مع الآلهة (!) الأرز المقدس الذي
زرعته الدولة تحت إشراف الكهنة، حتى يكون تام القدسية لا شبهة فيه، وكيف
كان ثمة في الحفل ستمائة ألف ياباني وكلهم يهتفون: ليحيى الميكادو عشرة آلاف
سنة إلى غير ذلك!
لماذا لا نسمي اليابان وأوربة رجعية بتدينهما؟ !
فلماذا - يا ليت شعري - تتقدم اليابان هذا التقدم السريع المدهش وتصير هذه
الأمة العصرية يضرب برقيها المثل، وهي تضرب بأعراقها إلى عقائد وعادات
ومَنازع مضى عليها ألفا سنة، ويكون إمبراطورها هو كاهنها الأعظم، ولا
يقال عنها: (رجعية) و (مرتجعة) و (ارتجاعية) ؟ (فإن كانت اليابان
رجعية فمَرْحَى بالرجعية!) .
ولماذا كان ملك إنكلترة وإمبراطور الهند السيد على ٤٠٠ مليون آدمي في
الأرض من البيض والسمر والصفر والحمر والسود - هو رئيس الكنيسة
الإنكليكانية، ومجالسه النيابية تبحث في جلسات عديدة في قضية الخبز والخمر، هل
يستحيلان بمجرد تقديس القسيس إلى جسد المسيح ودمه فعلاً بدون أدنى شك أم ذلك
من قبيل الرمز والتمثيل؟ ! ولا يقال عنه: إنه (رجعي) ولا يقال عن دولته
العظمى: إنها (متأخرة) أو (متقهقرة) ؟ فإن كانت إنكلترة بعد هذا متقهقرة فيا
حبذا (التقهقر) !
ولماذا كانت القارة الأوربية كلها مسيحية مفتخرة بمسيحيتها، تتباهى بذلك في
كل فرصة، متحدة في هذا الأمر على ما بينها من عداوات ومنافسات، ولا ننبزها
بقولنا: (رجعية) و (ارتجاعية) والحال أن الديانة التي تدين بها أوربة عمرها ١٩
قرنًا. وهذا عهد يصح أن يقال عنه: قديم (وقديم جدًّا) . وهؤلاء اليهود - مهما
ننكر عليهم، فلا نقدر أن ننكر عليهم المقدرة والذكاء والحس العملي والجد الهائل -
لا يزالون يفخرون بتوراة وُجدت منذ آلاف السنين، ويشاركهم فيها المسيحيون؟ !
ولماذا نرى أعظم شبان اليهود رقيًّا عصريًّا يجاهدون في إحياء اللغة العبرية التي لا يعرف تاريخها لتوغلها في القدم. ولا يقال عنهم: إنهم (رجعيون)
و (متأخرون) و (قهقريون) ؟ !
وقد نشر وايزمان رئيس الجمعية الصهيونية حديثًا في جريدة (الماتن) كان
في أهم ما فخر به وأدلى به كمأثرة ينبغي أن تذكرها لهم الإنسانية هو: (أن
فلسطين الحديثة تتكلم اليوم بأجمعها بلغة الأنبياء) يريد بفلسطين الحديثة فلسطين
اليهودية التي قد نشر الصهيونيون فيها اللغة العبرانية القديمة وأجبروا نشئهم الجديد
على أن يتحدثوا بها لتكون اللغة الجامعة لليهود. ومَن الذي فعل هذا؟ الجواب:
هم اليهود العصريون الأشد أخذًا بمبادئ العلم الحديث والحضارة العصرية {وَمَا
يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: ٢٦٩) وماذا عساني أحصي من هذه الأماثيل
والعبر في رسالة وجيزة كهذه؟ !
كل قوم يعتصمون بدينهم ومقومات ملتهم ومشخصات قومهم الموروثتين ولا
ينبزون بهذه الألقاب إلا المسلمين.
فإنه إذا دعاهم داعٍ إلى الاستمساك بقرآنهم وعقيدتهم ومقوماتهم ومشخصاتهم
وباللسان العربي وآدابه والحياة الشرقية ومناحيها - قامت قيامة الذين في قلوبهم
مرض، وصاحوا: لتسقط الرجعية! وقالوا: كيف تريدون الرقي وأنتم متمسكون
بأوضاع بالية باقية من القرون الوسطى ونحن في عصر جديد؟ !
جميع هؤلاء الخلائق تعلموا وترقوا وعلوا وطاروا في السماء والمسيحي منهم
باقٍ على إنجيله وتقاليده الكنَسية، واليهودي باق على توراته وتلموده، والياباني
باق على وثنه وأرزه المقدس، وكل حزب منهم فرح بما لديه. وهذا المسلم
المسكين يستحيل أن يترقى إلا إذا رمى قرآنه وعقيدته ومآخذه ومتاركه ومنازعه
ومشاربه ولباسه وفراشه وطعامه وشرابه وأدبه وطربه وغير ذلك، وانفصل من كل
تاريخه، فإن لم يفعل ذلك فلا حظ له من الرقي!
فهذا ما كان من ضرر الجاحد الذي يقصد السوء بالإسلام وبالشرق أجمع
ويخدع السذج بأقاويله.
غوائل الجامدين في الإسلام والمسلمين:
وبقي علينا المسلم الجامد؛ الذي ليس بأخف ضررًا من الجاحد، وإن كان لا
يشركه في الخبث وسوء النية، وإنما يعمل ما يعمله عن جهل وتعصب!
فالجامد هو الذي مهد لأعداء المدنية الإسلامية الطريق لمحاربة هذه المدنية،
محتجين بأن التأخر الذي عليه العالم الإسلامي إنما هو ثمرة تعاليمه، والجامد هو
سبب الفقر الذي ابتلي به المسلمون؛ لأنه جعل الإسلام دين آخرة فقط. والحال أن
الإسلام هو دين دنيا وآخرة، وأن هذه مَزِيَّة له على سائر الأديان. فلا حصَر كسب
الإنسان فيما يعود للحياة التي وراء هذه كما هي ديانات أهل الهند والصين، ولا
زهده في مال الدنيا وملكها ومجدها كتعاليم الإنجيل، ولا حصر سعيه في أمور هذه
المعيشة الدنيوية كما هي مدنية أوربة الحاضرة.
والجامد هو الذي شهر الحرب على العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية
وفنونها وصناعاتها بحجة أنها من علوم الكفار. فحرم الإسلام ثمرات هذه العلوم،
وأورث أبناءه الفقر الذي هم فيه وقص أجنحتهم. فإن العلوم الطبيعية هي العلوم
الباحثة في الأرض، والأرض لا تخرج أفلاذها إلا لمن يبحث فيها [١] فإن كنا
طول العمر لا نتكلم إلا فيما هو عائد للآخرة قالت لنا الأرض: اذهبوا توًّا إلى
الآخرة فليس لكم نصيب مني.
ثم إننا بحصر كل مجهوداتنا في هذه العلوم والمحاضرات الأخروية جعلنا
أنفسنا بمركز ضعيف بإزاء سائر الأمم التي توجهت إلى الأرض، وهؤلاء لم
يزالوا يعملون في الأرض ونحن ننحط في الأرض، إلى أن صار الأمر كله في
يدهم، وصاروا يقدرون أن يأفكونا عن نفس ديننا، فضلاً عن أن يملكوا علينا
دنيانا. وليس هذا هو الذي يريده الله بنا وهو الذي قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} (النور: ٥٥) الآية، وقال:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: ٢٩) وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا
خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: ٣٢) وقال - فيما حكاه وأقره -: {وَلاَ تَنسَ
نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: ٧٧) وعلَّمنا أن ندعوه بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة: ٢٠١) .. إلخ.
والمسلم الجامد لا يدري أنه بهذا المشرب يسعى في بوار ملته وحَطّها عن
درجة الأمم الأخرى، ولا يتنبه لشيء من المصائب التي جرها على قومه إهمالهم
للعلوم الكونية حتى أصبحوا بهذا الفقر الذي هم فيه، وصاروا عيالاً على أعدائهم
الذين لا يرقبون فيهم إلاًّ ولا ذمة، فهو إذا نظر إلى هذه الحالة علَّلها بالقضاء
والقدر بادئ الرأي، وهذا شأن جميع الكُسالى في الدنيا يحيلون على الأقدار.
هذا الخلق هو الذي حبب الكسل إلى كثير من المسلمين فنجمت فيهم فئة
يلقبون (بالدراويش) ليس لهم شغل ولا عمل، وليسوا في الواقع إلا أعضاء شلاء
في جسم المجتمع الإسلامي.
وهذا الخلق بعينه هو الذي جعل الإفرنج يقولون: إن الإسلام جبري لا يأمر
بالعمل؛ لأن ما هو كائن هو كائن، عمل المخلوق أم لم يعمل.
آيات العمل المبطلة لتفسير القدر بالجبر والكسل:
ولا أدل على فساد هذا الزعم الإفرنجي من القرآن الملآن بالحث على العمل
وباستنهاض الهمم، وابتعاث العزائم، ونوط الثواب والعقاب والفوز والفشل بالعمل
الذي يعمله المكلف. قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (التوبة: ١٠٥) وقال تعالى: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} (يونس:
٤١) وقال تعالى: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} (التوبة: ٩٤) وقال تعالى: {وَلَنَا
أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} (البقرة: ١٣٩) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (محمد: ٣٣) وقال تعالى: {وَاللَّهُ
مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} (محمد: ٣٥) أي: لا ينقصكم أعمالكم، وقال تعالى:
{وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} (الحجرات: ١٤) لا يلتكم:
من لاته يليته أو ولته بمعنى: نقصه، أي لا يبخسكم من أعمالكم شيئًا، وقال تعالى:
{نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} (هود: ١٥) وقال عز وجل:
{وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} (هود: ١١١) وقال عز وجل: {وَلِكُلٍّ
دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (الأحقاف: ١٩) وقال عز
وجل: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم} (آل عمران: ١٩٥) وقال عز وجل:
{فَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ} (الزمر: ٧٤) وقال عز وجل: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ
العَامِلُونَ} (الصافات: ٦١) وقال عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر: ١٠) وقال عز وجل: {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} (النحل: ١١١) وقال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: ٩٧)
وقال عز وجل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن
سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} (آل عمران: ٣٠) وقال عز وجل:
{وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} (الزمر: ٧٠) وقال عز وجل:
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} (النحل: ٣٤) وقال تبارك وتعالى: {وَوَجَدُوا
مَا عَمِلُوا حَاضِراً} (الكهف: ٤٩) وقال تبارك وتعالى: {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي
عَمِلُوا} (الروم: ٤١) وقال تبارك وتعالى: {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ
لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} (سبأ: ٣٧) وقال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا
عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (الأحقاف: ١٩) وقال تعالى: {فَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: ٧-٨)
وقال تعالى: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: ١٨٠) ، وقال تعالى:
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:١٧) وقال تعالى: {وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ} (العنكبوت: ٥٥) .. إلى غير ذلك مما لا يكاد يُحصى من الآيات التي
امتلأ بها القرآن، ومنها ما هو نص في مسألتنا كقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن
مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: ٣٠) وقوله: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ
قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: ١٦٥) .
إن صاحب السؤال يعلم وأكثر المسلمين لا يعملون - أن هذه الآية خاطب الله
تعالى بها أكمل هذه الأمة إيمانًا وإسلامًا وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم؛ إذ تعجبوا من ظهور المشركين عليهم في غزوة أُحُد، فرد الله عليهم ببيان
السبب وهو مخالَفتهم أمْرَه صلى الله عليه وسلم للرماة الذين يحمون ظهور المقاتِلة
بألا يبرحوا أماكنهم، سواء كان الغَلَب للمسلمين أو عليهم، فلما انهزم المشركون
خالفوا الأمر لمشاركة المقاتلين في الغنيمة، فكرَّ عليهم المشركون حتى شجّ رأس
النبي صلى الله عليه وسلم.. إلخ.
وكلها ناطقة بأن الإسلام دين العمل لا دين الكسل، ولا هو دين الاتِّكال على
القدر المجهول للبشر، كما يقول الدراويش البطَّالون: رِزقنا على الله، عَمِلنا أم لم
نعمل! أو كما يزين للناس بعض مؤلفي الإفرنج من أن دين الإسلام دين جمود
وتفويض وتسليم، وأن تأخر المسلمين إنما نشأ عن ذلك.
ولو كان في هذه الدعوى ذرة ما من الصحة لما نهض الصحابة - أخبرُ الناس
بالإسلام - وفتحوا نصف كرة الأرض في خمسين سنة، ولكن التسليم الذي يتكلمون
عنه ويهرفون بما لا يعرفون إنما هو مقرون بالعمل وبالكدح وبالسعي، وإلا فلا
يسمى تسليمًا بل يسمى جمودًا، ويعد بطالة، وهو مخالف للقرآن وللسنة.
وأما إذا كان التسليم لله مقرونًا بالعمل فإنه أنفع في الدنيا والأخرى؛ لأن إفراط المرء
في الاعتماد على نفسه يورط في البطَر إذا نجح، وفي الجزع إذا فشل. والذي يريده
الإسلام إنما هو أن يعقل الإنسان ويتوكل [٢] وأن يدبر لنفسه بهداية عقله الذي جعله
الله مرشدًا، ويعلم مع ذلك أن ليس كل الأمر بيده، وأن من الأقدار ما لا تدركه
الأفكار. وهذا صحيح، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم القدر سأله بعض
أصحابه: ألا نتَّكل؟ ! فقال: (اعملوا؛ فكلٌّ ميسر لما خُلق له) رواه البخاري
ومسلم.
ومن أغرب الغرائب أن هؤلاء الإفرنج الذين لا يفتئون ينعتون الإسلام
بالجبرية، وينسبون تأخر المسلمين إلى هذه العقيدة - التي كان يقول بها فئة قليلة من
المسلمين - يذهلون عما هو وارد في الإنجيل من (آيات) القضاء والقدر التي
تماثل ما في القرآن وقد تزيد عليه مثل قوله: لا تسقط شعرة من رؤوسكم إلا بإذن
أبيكم السماوي. ومثل (آي كثيرة) لو أردت استقصاءها لطال المقال. ولا نجد
في الإفرنج الذين هم مغرمون بالعمل وهائمون وراء الكسب ومنكِرون للقضاء
والقدر في الجملة - إلا مَن يقرأ الإنجيل (الشريف) ويقدسه ويعجَب بمبادئه
السامية كما نعجَب بها نحن. فما بالهم نسوا ما فيه من آيات القضاء والقدر؟ وما
بالهم لم يصفوا أقوال المسيح صلوات الله عليه بالجبرية؟ {يُحِلُّونَهُ عَاماً
وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} (التوبة: ٣٧) وحقيقة الأمر أن كل ما هو وارد في الإنجيل
وكل ما هو وارد في القرآن من آيات القضاء والقدر - إنما كان مقصودًا به سبْق
علم الله بكل ما يقع [٣] . ولم يكن مقصودًا به نفي الاختيار والتزهيد في الكسب.
وفي حديث الوزنتين والوزنات وغير ذلك من مواعظ الإنجيل (الشريف) ما يدل
على ما عزاه القرآن إلى صحف إبراهيم وموسى؛ أي وغيرهما من رسل الله {أَلاَّ
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *
ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى} (النجم: ٣٨-٤١) .
كون المسلمين الجامدين فتنة لأعداء الإسلام وحجة عليه:
ونعود إلى المسلم الجامد فنقول: إنه هو الذي طرق لأعداء الإسلام على
الإسلام، وأوجد لهم السبيل للقالة بحقه، حتى قالوا: إنه دين لا يأتلف مع الرقي
العصري، وإنه دين حائل دون المدنية. والحقيقة أن هؤلاء الجامدين هم الذين لا
تأتلف عقائدهم مع المدنية، وهم الذين يحُولون دون الرقي العصري. والإسلام
بَرَاء من جماداتهم هذه.
إن الإسلام هو - من أصله - ثورة على القديم الفاسد، وجبٌّ للماضي القبيح،
وقطع مع كل العلائق غير الحقائق، فكيف يكون الإسلام ملة الجمود؟ والقرآن
هو الذي جاء فيه من قصة إبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ
التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ
وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الأنبياء: ٥٢-٥٤) وجاء فيه: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً
فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا
بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ
* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ العَالَمِينَ} (الشعراء: ٧١-٧٧) وجاء فيه: {إِنَّا وَجَدْنَا
آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ
آبَاءَكُمْ} (الزخرف: ٢٣-٢٤) وجاء فيه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ
قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: ١٧٠) وجاء فيه: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَتِي
كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة:
١٤٢) ، وغير ذلك من الآيات الداعية إلى الثورة على القديم إذا لم يكن صحيحًا
ولم يكن صالحًا.
على أن الذين يفهمون الإسلام حق الفهم يرحبون بكل جديد لا يعارض العقيدة،
ولا تخشى منه مفسدة. ولا أظن شيئًا يفيد المجتمع الإسلامي يكون مخالفًا للدين
المبني على إسعاد العباد. أفلا ترى علماء نجد أبعد المسلمين عن الإفرنج والتفرنُج،
وأنْآهم عن مراكز الاختراعات العصرية، كيف كان جوابهم عندما استفتاهم الملك
عبد العزيز بن سعود - أيده الله - في قضية اللاسلكي والتليفون والسيارة الكهربائية؟
أجابوه أنها محدَثات نافعة مفيدة، وأنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله
- لا بالمنطوق ولا بالمفهوم - ما يمنعها.
أفليس الأدنى لمصلحة الأمة أن تقدر الدولة على معرفة أي حادث يحدث
بمجرد وقوعه حتى تتلافى أمره؟ أفليس الأنفع للمسلمين أن يتمكن الحاج ببضع
ساعات من اجتياز المسافات التي كانت تأخذ أيامًا وليالي؟ لقد سألت الشيخ محمد
بن علي بن تركي من العلماء النجديين الذين بمكة عن رأيه في التليفون واللاسلكي
فقال لي: هذه مسألة مفروغ منها، وأمر جوازها شرعًا هو من الوضوح بحيث لا
يستحق الأخذ والرد.
ولم تكن مقاومة الجديد خاصة بجامدي الإسلام؛ فقد قاومت الكنيسة في
النصرانية كل جديد تقريبًا من قول أو عمل، ثم عادت فيما بعد فأجازته. ولما قال
(غاليله) بدوران الأرض كفّرته، ولا يزال يوجد إلى اليوم من أحبار النصارى
مَن يكفر كل مخالف لما جاء في التوراة من كيفية التكوين، ومن سنتين حُوكم أحد
المعلمين في محاكم إحدى الولايات المتحدة لقوله بنظرية داروين ومُنع من التدريس،
ولكن هذا لم يمنع سير العلم في طريقه [٤] .
فالنصارى عندهم جامدون كما عندنا جامدون، والمسلم الجامد يحارب كل علم
غير العلم الديني التقليدي الذي ألِفه، حتى إنه ليحارب مَن لا يعتدّ في دينه إلا
بالكتاب والسنة، وينسى أن العلوم الطبيعية والرياضية والهندسة وجر الأثقال
والفلك والطب والكيمياء وطبقات الأرض؛ وكل علم يفيد الاجتماع البشري - هي
علوم دينية؛ إن لم تكن مباشرة، فمن حيث النتيجة [٥] . وكم جرى تدريس هذه العلوم
في الأزهر والأموي والزيتونة والقرويين وقرطبة وبغداد وسمرقند وغيرها عندما كان
للإسلام دول كبار وأعاظم رجال. وكم نبغ في الإسلام من عظماء جمعوا بين
الحكمة والشريعة، ونظموا بين الحديث والرياضة، وإن أكبر فيلسوف عربي
اشتهر اسمه في أوربة هو القاضي ابن رشد، وقد كان من أكابر الفقهاء.
***
مدنية الإسلام
أما زعم مَن زعم أن الإسلام لم يتمكن من تأسيس مدنية خاصة، والاستدلال
على ذلك بحالته الحاضرة - فهو خرافة يموه بها بعض أعداء الإسلام من الخارج،
وبعض جاحديه من الداخل. أما القسم الأول فلأجل أن يصبغوا المسلمين بالصبغة
الأوروبية، وأما القسم الثاني فلأجل أن يزرعوا في العالم الإسلامي بذور الإلحاد،
ونحن لا ننكر تأثير الدين في المدنية، ولكننا لا نسلم بأن يصح أن يكون لها ميزانًا؛
وذلك لأنه كثيرًا ما يضعف تأثير الدين في الأمم فتتفلت من قيوده، وتفسد أخلاقها
وتنهار أوضاعها، فيكون فساد الأخلاق هو علة السقوط، ولا يكون الدين هو
المسؤول، وكثيرًا ما تطرأ عوامل خارجية غير منتظرة؛ فتتغلب على ما أثلته
الشرائع من حضارة وتزلزل أركانها، وقد تهدمها من بوانيها، ولا يكون القصور
من الشريعة. فتأخر المسلمين في القرون الأخيرة لم يكن من الشريعة، بل من الجهل
بالشريعة، أو من عدم إجراء أحكامها كما ينبغي. ولما كانت الشريعة جارية على
حقها كان الإسلام عظيمًا عزيزًا.
ومدنية الإسلام قضية لا تقبل المماحكة؛ إذ ليس من أمة في أوربة سواء
الألمان أو الفرنسيس أو الإنكليز أو الطليان.. إلخ - إلا وعندهم تآليف لا تُحصى
في (مدنية الإسلام) ، فلو لم تكن للإسلام مدنية حقيقية سامية راقية مطبوعة
بطابعه، مبنية على كتابه وسنته - وما كان علماء أوربة حتى الذين عرفوا منهم
بالتحامل على الإسلام يُكثرون من ذكر المدنية الإسلامية ومن سرد تواريخها، ومن
المقابلة بينها وبين غيرها من المدنيات، ومن تبيين الخصائص التي انفردت هي
بها.
فالمدنية الإسلامية هي من المدنيات الشهيرة التي يزدان بها التاريخ العام،
والتي تغص سجلاته الخالدة بآثارها الباهرة. وقد بلغت بغداد في دور المنصور
والرشيد والمأمون من احتفال العمارة، واستبحار الحضارة، وتناهي الترف والثروة
- ما لم تبلغه مدينة قبلها ولا بعدها إلى هذا العصر، حتى كان أهلها يبلغون
مليونين ونصف مليون من السكان. وكانت البصرة في الدرجة الثانية عنها، وكان
أهلها نحو نصف مليون.
وكانت دمشق والقاهرة وحلب وسمرقند وأصفهان وحواضر أخرى كثيرة
من بلاد الإسلام أمثلة تامة، وأقيسة بعيدة في استبحار العمران، وتطاول البنيان،
ورفاهة السكان، وانتشار العلم والعرفان، وتأثل الفنون المتهدلة الأفنان.
وكانت القيروان وفاس وتلمسان ومراكش في المغرب أعظم وأعلى من أن
يطاولها مطاول، أو يناظرها مناظر، أو أن يكاثرها مكاثر في ممالك أوربة حتى
هذه القرون الأخيرة.
وكانت قرطبة مدينة فذة في أوربة لا يدانيها مدان، وكان عدد سكانها نحو
مليون ونصف نسمة، وكان فيها نحو سبعمائة جامع عدا المسجد الأعظم الذي لما
زرته في هذا الصيف قال لي المهندس - الذي كان معي من قِبَل الحكومة الأسبانيولية
-: إنه يسع بحسب مساحته خمسين ألف مصلٍّ في الداخل و٣٠ ألف مصل في
الصحن، فجملة مَن يسعهم هذا المسجد العجيب ثمانون ألفًا من المصلين!
ولما ذهبنا إلى آثار قصر الزهراء رأيناها آثار مدينة لا آثار قصر واحد،
وعلمنا أنها تمتد على مسافة تسعمائة متر طولاً في ثمانمائة متر عرضًا،
والأسبانيول يقولون: مدينة الزهراء، وقال لي المهندسون الموكلون بالحفر على
آثارها: إنهم يرجون الإتيان على كشفها كلها من الآن إلى خمسين سنة. وحسبك
أن غرناطة التي كانت حاضرة مملكة صغيرة في آخر أمر المسلمين بالأندلس لم
يكن في أوربة في القرن الخامس عشر المسيحي بلدة تضاهيها ولا تدانيها، وكان
فيها عندما سقطت في أيدي الأسبانيول - نصف مليون نسمة. ولم يكن وقتئذ
عاصمة من عواصم أوربة تحتوي نصف هذا العدد، وحمراء غرناطة لا تزال
يتيمة الدهر إلى اليوم.
هذه لمحة دالة من مآثر حضارة الإسلام وغُرَر أيامه، وإلا فلو استقصينا كل
ما أثر المسلمون في الأرض من رائع وبديع لم تسع ذلك الأجلاد الكثيرة، المرصوفة
طبقًا فوق طبق.
وكم حرر المؤرخون الأوروبيون تحت عنوان (مدنية الإسلام) كتبًا قيمة
ومجاميع صور تأخذ بالأبصار. وإن أشد مؤرخي الإفرنجية تحامُلاً على الإسلام لا
يتعدى أن يحاول التصغير من شأن مدنيته، وأن ينكر كونه أبا عذرتها. فقصارى
هذه الفئة أن ينكروا كون المسلمين قد ابتكروا علومًا، وسبقوا إلى نظريات صارت
خاصة بهم، وغايتهم أن يقولوا: إن المسلمين لم يزيدوا على أن نقلوا وأذاعوا
وكانوا واسطة بين المشرق والمغرب. وهذا القول مردود عند المحققين الذين
يعرفون للمسلمين علومًا ابتكروها، وحقائق كشفوها، وآراءً سبقوا إليها، فضلاً
عما زادوا عليه وأكملوه، وما نشروه ونقلوه، ومَن استرقَ شيئًا وقد استرقّه، فقد
استحقه.
وبعد: فلم نعلم مدنية واحدة من مدنيات الأرض إلا وهي رشح مدنيات سابقة،
وآثار آراء اشتركت بها سلائل البشرية، ومجموع نتائج عقول مختلفة الأصول،
ومحصول ثمرات ألباب متباينة الأجناس.
الرد على حُسَّاد المدنية الإسلامية المكابرين:
أينسى حساد الإسلام والمكابرون في عظمة فضله، الزاعمون أنه إنما نقل
وتعلم وقلد واقتدى، وأنه إنما صلى وراء غيره - أن المدنية الشرقية يوم ظهر
الإسلام كان أخنى عليها الذي أخنى على لبد، وأنه هو الذي جددها وأحيا آثارها،
وأقال عثارها؟ وأنها بعد أن كانت قد امَّحت ولحقت بالغابرين - أبرزها من
أصدافها، وجلاها من بعد أن كانت ملفوفة بغلافها، ونشرها في الخافقين، وبلَّجها
كفلق الصبح لكل ذي عينين، وأضفى عليها لباس الإسلام الخاص، ودبجها بديباجة
القرآن، التي لم تفارقها في شرق ولا غرب، ولا سهل ولا وعر، حتى حمل ذلك
كثيرًا من علماء الإفرنج ممن لم يُعمه الهوى، ولم يحِدْ في التحقيق عن مهيع الهدى
- على أن اعترفوا بأن مدنية الإسلام لم تكن نسخًا ولا نقلاً، وإنما هي قد نبعت من
القرآن، وتفجرت من عقيدة التوحيد؟
فأما ما ترجمته حضارة الإسلام من كتب، وما أخذته عن غيرها من علوم،
وما أفادته في فتوحاتها من مَنازع جميلة، وطرائق سديدة، فلا يقدح ذلك في
بكارتها الإسلامية، ومسحتها العربية؛ لأن هذا شأن الحضارات البشرية بأجمعها
أن يأخذ بعضها عن بعض ويكمل بعضها بعضًا؛ فالعلم الحقيقي ينحصر في هذا
الحديث الشريف: (الحكمة ضالة المؤمن ينشدها ولو في الصين) [٦] وهذه من
أقدس قواعد الإسلام.
وعلى كل حال لا يقدر مكابر أن يكابر أن الإسلام كان له دور عظيم في الدنيا،
سواء في الفتوحات الروحية أو العقلية أو المادية، وأن هذه الفتوحات قد اتَّسقت
له في دور لا يزيد على ثمانين سنة، مما أجمع الناس على أنه لم يتسق لأمة قبله
أصلاً. وكان نابليون الأول لشدة دهشته من تاريخ الإسلام يقول في جزيرة
سنتيهلانة: إن العرب فتحوا الدنيا في نصف قرن لا غيره!
وتأمل أيها القارئ في أن قائل هذا القول هو بونابرت الذي لم تكن تملأ عينه
الفتوحات مهما كانت عظيمة.
وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
فهذا رجل عظيم جدًّا استعظم حادث العرب الذي لم يسبق نظيره في التاريخ،
وقد بقي دور العرب هو الأول في وقته، ولبثوا هم المسيطرين في الأرض، لا
يضارعهم مضارع، ولا يغالبهم مغالب، مدة ثلاثة أو أربعة قرون. ثم أخذوا
بالانحطاط، وجعلت ظلالهم تتقلص عن البلدان التي كانوا غلبوا عليها شيئًا فشيئًا،
وذلك بفتور الهمم، ودبيب الفساد إلى الأخلاق، ونبذ عزائم الدين، واتباع شهوات
الأنفس، وأشد ما ابتُلوا به التنافس على الإمارات والرئاسات - ولا سيما القيسية
واليمانية - مما لولاه لدانت لهم القارة الأوربية بأجمعها، وكانت الآن عربية كما هو
المغرب.
فالمصائب التي حلت بالمسلمين إنما هي مما صنعته أيديهم، ومما حادوا به
عن النهج السوي الذي أوضحه لهم القرآن الذي لما كانوا عاملين بمُحكم آيه علوا
وظهروا، وكانت لهم الدول والطوائل، فلما ضعف عملهم به وصاروا يقرؤونه بدون
عمل، وانقادوا إلى أهواء أنفسهم من دونه - ذهبت ريحُهم، وولى السلطان الأكبر
الذي كان لهم، وانتقصت الأعداء أطراف بلادهم، ثم قصدوا إلى أوساطها.
ولنضرب الآن بعض أمثلة عن الأمم الأخرى لأجل المقابلة بيننا وبينهم؛ إذ
كانت بضدها تتبين الأشياء.
اليونان والرومان قبل النصرانية وبعدها:
كان اليونانيون قبل النصرانية أرقى أمم الأرض أو من أرقى أمم الأرض،
وكانوا واضعي أسس الفلسفة، وحاملي ألوية الآداب والمعارف، ونبغ منهم مَن لا
يزالون مصابيح البشرية في العلم والفلسفة إلى يوم الناس هذا.
وكان الإسكندر المكدوني أعظم فاتح عرفه التاريخ ومن أعظم الفاتحين الذين
عرفهم التاريخ - حاملاً للأدب اليوناني، ناشرًا لثقافة يونان بين الأمم التي غلب
عليها. وما كانت دولة البطالسة التي لمعت في الإسكندرية بعلومها وفلسفتها إلا من
فتوح الإسكندر. ثم لم تزل هذه الحالة إلى أن تنصرت يونان بعد ظهور الدين
المسيحي بقليل، فمذ دانت هذه الأمة بالدين الجديد بدأت بالتردي والانحطاط، وفقد
مزاياها القديمة، ولم تزل تنحط قرنًا عن قرن، وتتدهور بطنًا عن بطن - إلى أن
صارت بلاد اليونان ولاية من جملة ولايات السلطنة العثمانية. ولم تعد إلى شيء
من النهوض والرقي إلا في الماضي، وأين هي مع ذلك الآن مما كانت قبل
النصرانية؟ !
أفيجب أن نقول: إن النصرانية كانت المسؤولة عن انحطاط يونان هذا؟ !
إن القائلين بأن الإسلام قد كان سبب انحطاط الأمم الدائنة به لا مفر لهم من
القول بأن النصرانية قد أدت أيضًا إلى انحطاط يونان التي كانت من قبلها عنوان
الرقي.
ثم كانت رومة في عصرها الدولة العظمى التي لا يُذكر معها دولة، ولا يؤبه
في جانب صولتها لصولة، ولم تزل هكذا هي المسيطرة على المعمور إلى أن
تنصرت لعهد قسطنطين. فمنذ ذلك العهد بدأت بالانحطاط مادةً ومعنًى إلى أن
انقرضت أولاً من الغرب، وثانيًا من الشرق. ولم تسترجع رومة بعد انقراض
الدولة الرومانية شيئًا من مكانتها الأولى، وبقيت على ذلك مدة ١٥ قرنًا حتى
استأنفت شيئًا من مجدها الغابر. وما هي إلى هذه الساعة ببالغة ذلك الشأْو الذي
بلغته أيام الوثنية.
أفنجعل تنصر الرومان هو العامل في انحطاط رومة وتدحرجها عن قمة تلك
العظمة الشاهقة؟ لقد قال بهذا علماء كثيرون كما قال آخرون مثل هذه المقالة في
الإسلام، وكلا الفريقين جائر حائد عن الصواب.
فإن لسقوط الرومان بعد فشوّ الدين المسيحي فيهم، ولسقوط اليونان من قبلهم
بعد أن تقبلوا دعوة بولس إلى النصرانية - أسبابًا وعوامل كثيرة من فساد الأخلاق،
وانحطاط الهمم، وانتشار الخَنَى والخلاعة، وشيوع الإلحاد والإباحة، ومن هرم
الدول الذي يتكلم عنه ابن خلدون، وغير ذلك من أسباب السقوط الداخلية منضمة
إليها غارات البرابرة من الخارج، فكانت ثمة أسباب قاسرة مؤدية إلى السقوط الذي
كان لا بد منه، فلو فرضنا أن النصرانية لم تكن جاءت وقتئذ، لم يكن الرومان
ولا اليونان نجوا من عواقب تلك الحوادث، ولا تخطَّتهم نتائج تلك الأسباب.
فدعوى بعض المؤرخين الأوربيين أن تغلب المسيحية على اليونان والرومان
أخنى على عظمتها، وذهب بمدنيتها، ليس فيه من الصحيح إلا كون الأوضاع
الجديدة تذهب بالأوضاع القديمة، سنة الله في خلقه، وأنه في هيعة هذا التحول
لا بد من اضطراب الأحوال وانحلال القواعد واستحكام الفوضى، وإلا فلا أحد يقدر
أن يقول: إن الوثنية أصلح للعمران من النصرانية [٧] .
وهذه الدعوى كانت تكون أشبه بدعوى أعداء الإسلام الذين يزعمون أن
الشرق كان راتعًا في بحابح العمران، فجاء الإسلام وطمس المدنيات الشرقية
القديمة! لولا أن الحقيقة هي كما قدمنا أن المدنيات الشرقية كانت كلها قد
انقرضت أو انحطَّت قبل ظهور الإسلام بكثير، وأن الإسلام وحده لا غيره هو
الذي جدَّد مدنية الشرق الدارسة، واستأنف صوْلته الذاهبة الطامسة، وبعث تلك
الحواضر العظمى الزاخرة بالبشر كبغداد والبصرة وسمرقند وبخارى ودمشق
والقاهرة والقيروان وقرطبة وهلم جرًّا، ولئن كانت قد بقيت للشرق آثار مدنيات
قديمة، فإن الإسلام هو الذي وطد بوانيها، وطرز حواشيها، وحمل السيف بيد والقلم
بيد، إلى أبعد ما تصوره العقل من حدود الأقطار التي لم يسبق لشرقي أن يطأها
بقدمه.
فإذا كان الإفرنج الصليبيون من الغرب، وكان المغول أولئك الجراد المنتشر
من الشرق، قد تبَّروا ما علا الإسلام في تلك الممالك، ونسفوا عمران هاتيك
الحواضر، وكانت منافسات ملوك الإسلام الداخلية واتباعهم للشهوات، وإمعانهم في
الضلالات، ومحيدهم عن جادة القرآن القويمة، وفقدهم ما يزرعه في الصدور من
الأخلاق العظيمة، قد قضت في الداخل، على ما عجز عن تعفيته العدو من
الخارج، فليس الذنب في هذا التقلص ذنب الإسلام، ولا التبعة في هذا الانقلاب
عائدة على القرآن، وإنما الذنب هو ذنب الهمج من الإفرنج، وجناية ذلك الجراد
الزحاف من المغول، وإنما هي تبعة المسلمين الذين رغبوا عن أوامر كتابهم
واشتروا بآياته ثمنًا قليلاً، إلا النادر منهم.
وأيضًا فقد تنصرت الأمم الأوربية في القرن الثالث والرابع والخامس
والسادس من ميلاد المسيح، وبقيت أمم في شرقي أوربة إلى القرن العاشر حتى
تنصرت. ولم تنهض أوربة نهضتها الحالية التي مكَّنتها تدريجًا من هذه السيادة
العظمى بقوة العلم والفن إلا من نحو أربعمائة سنة؛ أي من بعد أن دانت بالإنجيل
بألف سنة. ومنها بعد أن دانت به بسبعمائة سنة ومنها بثمانمائة سنة ... إلخ. وهذه
هي القرون المسماة في التاريخ بالقرون الوسطى. ولا نقول: إن الأوربيين كانوا في
هذه القرون بأجمعها هائمين في ظلمات بعضها فوق بعض؛ بل نقول: إن العرب
كانوا أعلى كعبًا منهم بكثير في المدنية بإقرار مؤرخيهم، وبرغم أنف لويس برتران
وأضرابه.
ومن الكتب المخرجة حديثًا الشاهدة بذلك (التاريخ العام) للكاتب الفيلسوف
الإنكليزي (ولز) و (تاريخ مدنيات الشرق) لمؤلف إفرنسي متخصص في
التواريخ الشرقية اسمه (غروسه) ، فالحقيقة التاريخية المجمع عليها هي واحدة في هذا الموضوع، لم يظهر ما ينقضها ولن يظهر، وهي: أن العرب في القرون
الوسطى كانوا أساتيذ الأوربيين، كان الواحد من هؤلاء إذا تخرج على العرب
تباهى بذلك بين قومه!
سبب تأخر أوربة الماضي ونهضتها الحاضرة:
أفنجعل هذا التأخر الذي كان عليه الأوربيون في القرون الوسطى مدة ألف
سنة - ناشئًا عن النصرانية التي كانت دينهم الذي يعَضّون عليه بالنواجذ؟
نعم، إن الأمم البروتستانية منهم تجعل مصدر هذا التأخر الكنيسة البابوية لا
النصرانية من حيث هي. وتزعم أن نهضة أوربة لم تبدأ إلا بخروج (لوثير،
وكلفين) على الكنيسة الرومانية.
وأما فولتير ومَن في حزبه من أقطاب الملاحدة فلا يفرقون كثيرًا بين الكاثوليك
والبروتستانت، وعندهم أن جميع هذه العقائد واحدة وأنها عائقة عن العلم والرقي؛
ولهذا قال فولتير تلك الكلمة عندما ذُكر لديه لوثير وكلفين، قال: (كلاهما لا
يصلح أن يكون حذاءً لمحمد) ! يريد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بلغ من
الإصلاح ما لم يبلغا أدناه، مع اعتقاد الكثيرين أن مذهبهما كان فجر أنوار أوربة [٨] .
والحق الذي لا نرتاب فيه أن النصرانية نفسها لم تكن هي المسؤولة عن
جهالة الإفرنج المسيحيين مدة ألف سنة في القرون الوسطى بل للمسيحية الفضل في
تهذيب برابرة أوربة.
وهؤلاء اليابانيون هم وثنيون. ومنهم مَن هم على مذهب بوذا. ومنهم من
يقال: لهم طاويون، وكثيرون منهم يتبعون الحكيم الصيني كنفوشيوس. ولقد مضى
عليهم نحو ألفي سنة، ولم تكن لهم هذه المدنية الباهرة ولا هذه القوة والمكانة بين
الأمم. ثم نهض اليابان من نحو ستين سنة وترقوا وعزوا وغلظ أمرهم، وعلا
قدرهم، وصاروا إلى ما صاروا إليه ولم يبرحوا وثنيين. فلا كانت الوثنية إذًا
سبب تأخرهم الماضي، ولا هي سبب تقدمهم الحاضر، وقد تقاوت اليابان والروسية
وتحاربتا فتغلبت اليابان على الروسية. مع أن اليابانيين في العدد هم نصف الروس،
ولكن مما لا شك فيه أن اليابانيين أرقى من الروس، والحال أن الروسية عريقة
في النصرانية، واليابان عريقة في الوثنية.
فليترك إذًا بعض الناس جعْل الأديان هي المعيار للتأخر والتقدم [٩] .
أفنقول من أجل هذا المثال: إن الإنجيل هو الذي أخَّر الروسية عن درجة
اليابان، وإن عبادة الإلهة ابنة الشمس هي التي جذبت بضبع اليابان حتى سبقت
الروسية؟
إن لهذه الحوادث أسبابًا وعوامل متراكمة ترجع إلى أصول شتى، فإذا
تراكمت هذه العوامل في خير أو شر تغلبت على تأثير الأديان والعقائد، وأصبحت
فضائل أقوم الأديان عاجزة بإزاء شرها، كما أصبحت معايب أسخفها غير مؤثرة
في جانب خيرها.
ولسنا هنا في صدد أسباب تقدم اليابان السريع حتى نبين أن اعتقاد عامتهم
(وجود حصان مقدس يركبه الإله فلان) - لم يقف حائلاً دون تقدمهم المبني على ما
رُكب في فطرتهم من الحماسة، وما أوتوا من الذكاء، وما أورثهم نظام الإقطاع
القديم من التنافس في المجد والقوة.
وعندنا أمثلة كثيرة لا تكاد تُحصى في هذا الباب اجتزأنا منها بما ذكرناه. ولم
نكن لنتعرض لهذا المقام لولا حملات القسوس والمبشرين وكثير من الأوربيين على
الإسلام، وزعمهم أنه هو عنوان التأخر، وأنه رمز الجمود، وتحدثهم بذلك في
الأندية والمجامع، ونشرهم هذه الافتراءات في المجلات والجرائد، وقولهم: إن
الشجرة تعرف من ثمارها، وإن حالة العالم الإسلامي الحاضرة هي نتيجة جمود
الإسلام، وتحجر القرآن! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} (الكهف: ٥) .
وحسبك أن المسيو (سان) المقيم الإفرنسي السامي في المغرب ينشر في
العدد الأخير من (مجلة الإحياء) الإفرنسية مقالة يتكلم فيها عن يقظة المغرب بعد
(ليل الإسلام) ! هكذا تعبيره.
فإن كان تأخر إحدى الممالك الإسلامية حقبة من الدهر يجب أن يقال: فيه
(ليل الإسلام) فكم كان ليل النصرانية طويلاً عندما بقيت أوربة المسيحية زهاء ألف
سنة وهي في حالة الهمجية أو ما يقرب من الهمجية؟ !
لماذا - أيها الناس - تُدخلون الأديان فيما هي براءة منه؟ ولماذا تقحمونها في
موضوع يكذبكم فيه التاريخ بأماثيله الجمة؟ !
إن إدخال الأديان في هذا المعترك وجعْلها هي معيار الترقي والتردّي ليس من
النَّصَفَة في شيء.
حث القرآن على العلم باعث للمسلمين على سبْق الأمم في الرقي:
والعالم الإسلامي يمكنه النهوض والرقي واللحاق بالأمم العزيزة الغالبة إذا أراد
ذلك المسلمون ووطنوا أنفسهم فيه. ولا يزيدهم الإسلام إلا بصيرة فيه وعزمًا. ولن
يجدوا لأنفسهم حافزًا على العلم والفن خيرًا من القرآن الذي فيه: {هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: ٩) ، والذي فيه: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي
العِلْمِ} (البقرة: ٢٤٧) والذي فيه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
العِلْمِ} (آل عمران: ٧) والذي فيه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ
وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} (آل عمران: ١٨) والذي فيه: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ
فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ} (العنكبوت: ٤٩) والذي فيه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: ١١) والذي فيه: {وَيُعَلِّمُهُمُ
الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (البقرة: ١٢٩) وفيه: {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ
الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} (البقرة: ٢٦٩) وفيه: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ
الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً} (النساء: ٥٤) وغير ذلك من الآيات
الكريمة، فيه ما هو خاص بالأمة العربية: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً
مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: ٢) .
وقد زعم بعضهم ومن جملتهم (سيكار) هذا الذي بالمغرب الذي ألّف في
الطعن على الإسلام، والذي يكتب في مجلة (مراكش الكاثوليكية) - أن المراد
بلفظة (العلم) في القرآن هو العلم الديني، ولم يكن المقصود به العلم مطلقًا لنستظهر
به على قضية تعظيم القرآن للعلم وإيجابه للتعليم. وقد أتى سيكار من المغالطة في
هذا الباب ما لا يستحق أن يرد عليه لما فيه من المكابرة في المحسوس. وكل من
تأمل في مواقع هذه الآيات المتعلقة بالعلم وبالحكمة وغيرها مما يحث على السير
في الأرض والنظر والتفكير يعلم أن المراد هنا بالعلم هو العلم على إطلاقه متناولاً
كل شيء، وأن المراد بالحكمة هي الحكمة العلمية المعروفة عند الناس، وهي غير
الآيات المنزلة والكتاب كما يدل عليه العطف، وهو يقتضي المغايرة. ويعزز ذلك
الحديث النبوي الشهير: (اطلبوا العلم ولو في الصين) [١٠] فلو كان المراد بالعلم
هو العلم الديني - كما زعم سيكار - ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على
طلبه ولو في الصين؛ إذ أهل الصين وثنيون، لا يجعلهم النبي مرجعًا للعلم الديني
كما لا يخفى.
وفي بعض الآيات من القرائن اللفظية والمعنوية ما يقتضي أن المراد بالعلم
علم الكون؛ لأنه في سياق الخلق والتكوين وهي في القرآن أضعاف الآيات في
العبادات العملية كالصلاة والصيام، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا
وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: ٢٧-٢٨) ؛ أي العلماء بما ذكر في الآية من الماء
والنبات والجبال وسائر المواليد المختلفة الألوان وما فيها من أسرار الخلق؛ لا العلماء
بالصلاة والصيام والقيام.
وقد كنا ظننا هذا الرجل على شيء من حب الحقيقة، فلما أنكر المدنية
الإسلامية رددنا عليه في (المنار) وجادلناه بالتي هي أحسن، وعظَّمنا من قدر
المدنية المسيحية ووقرنا منها ورددنا على القائلين من الأوربيين بأن النصرانية
كانت وقفًا لسير المدنية وسببًا لسقوط اليونان والرومان إلى غير ذلك. فكان من
سيكار هذا أن نشر سلسلة مقالات تتضمن من الطعن على الإسلام ما لو جئنا نرده
لم نستغنِ عن إيراد شُبه واعتراضات تتعلق بالدين المسيحي، مما نأبى أن نتعرض
له؛ لأنه ليس من العدل ولا من الكياسة ولا من حسن الذوق - أن نغيظ (إخواننا)
المسيحيين من أجل رجل اسمه سيكار أو غيره من هذه الطبقة من الدعاة والمبشرين.
هذا زائدًا إلى ما رأيناه في كلامه من الخلط والخبط والمغالطة التي من قبيل قوله:
إن العلم المقصود في القرآن ليس هو العلم المعروف عند الناس بمفهومه المطلق
وإنما هو العلم الديني فقط؛ لأن القرآن لا يهمه شيء من علوم الدنيا! فمكابر
كهذا لا يستحق الجواب.
ثم علمنا أن المسيو سيكار هذا هو من مستخدمي فرنسة في الرباط بإدارة
الأمور الإسلامية، وأنه هو والمسيو لويس برينو مدير التعليم الإسلامي هناك،
والقومندان ماركو مدير قلم المراقبة على الجرائد والمطبوعات، والقومندان مارتي
مستشار العدلية الإسلامية، ورهطًا آخرين - هم الذين لعبوا الدور الأهم في قضية
العمل لتنصير البربر. وما كان استخدام فرنسة لهم في مهمات كلها عائد للإسلام إلا
على نية نقض كل ما يقدرون عليه من بناء الإسلام بالمغرب، وستذوق فرنسة -
ولو بعد حين - وبال ما عملته وتعمله من التعرض للدين الإسلامي الذي تعهدت في
معاهداتها باحترامه.
كلمة لطلاب النهضة القومية دون الدينية:
يقول بعض الناس [١١] : ما لنا وللرجوع إلى القرآن في ابتعاث هِمَم المسلمين
إلى التعليم؛ فإن النهضة لا ينبغي أن تكون دينية بل وطنية قومية كما هي نهضة
أهل أوربة، ونجيبهم أن المقصود هو النهضة سواء كانت وطنية أم دينية [١٢] على
شرط أن تتوطن بها النفوس على الخبّ في حلبة العلم. ولكننا نخشى إن جردناها
من دعوة القرآن أن تفضي بنا إلى الإلحاد والإباحة، وعبادة الأبدان، واتباع
الشهوات، مما ضرره يفوت نفعه. فلا بد لنا من تربية علمية سائرة جنبًا إلى
جنب مع تربية دينية، وهل يظن الناس عندنا في المشرق أن نهضة من نهضات
أوربة جرت بدون تربية دينية؟ !
أفلم يقل رئيس نُظار ألمانية في الرايستاغ منذ ثلاث سنوات: إن ثقافتنا مبنية
على الدين المسيحي. وهذا هو إعلان ألمانية التي هي المثل الأعلى في العلم
والصناعة وإتقان الآلات والأدوات، لا ينازع في ذلك أحد ولا أعداؤها.
أفتوجد جامعة في ألمانية أو إنكلترة أو غيرهما من هذه الممالك الراقية بدون
أن يكون فيها علم اللاهوت المسيحي؟ [١٣]
ثم إنهم عندما يقولون في أوربة: (نهضة وطنية) ، أو (نهضة قومية) أو
(جامعة وطنية) ، أو (قومية) - لا يكون مرادهم بالوطن: التراب والماء والشجر
والحجر. ولا بالقوم: السلالة التي تتحدّر كلها من دم واحد، وإنما الوطن والقوم
عندهم لفظتان تدلان على وطن وأمة بما فيهما من جغرافية وتاريخ وثقافة وحرث
وعقيدة ودين وخلق وعادة مجموعًا ذلك معًا، وهذا الذي يناضلون عنه، ويستبسلون
كل هذا الاستبسال من أجله.
خلاصة الجواب أن المسلمين ينهضون بمثل ما نهض به غيرهم:
إن الواجب على المسلمين لينهضوا ويتقدموا ويعرجوا في مصاعد المجد
ويترقوا كما ترقى غيرهم من الأمم - هو الجهاد بالمال والنفس الذي أمر به الله في
قرآنه مرارًا عديدة وهو ما يسمونه اليوم (بالتضحية) .
فلن يتم للمسلمين ولا لأمة من الأمم نجاح ولا رقي إلا بالتضحية.
وربما كان الشيخ محمد بسيوني عمران أو غيره من السائلين عن رأينا في
هذا الموضوع قد ظن أني سأجيبه أن مفتاح الرقي هو قراءة نظريات (أينشتين)
في النسبية مثلاً، أو درس أشعة (رونتيجن) وميكروبات (باستور) ، أو التعويل
في اللاسلكي على التموجات الصغيرة دون الكبيرة، أو درس اختراعات (أديسون) ،
وأن سبب حادثة المِنطاد الإنكليزي الذي سقط أخيرًا واحترق - هو كونه لم يُنفخ
بالهليوم وإنما نُفخ بالهيدروجين، والحال أن الهيدروجين - وإن كان أخف في
الوزن - قابل للاشتعال، وأنه لا خوف من اشتعال الهليوم، وإن كان أثقل شيئًا من
الهيدروجين، وما أشبه ذلك.
والحقيقة أن هذه الأمور إنما هي فروع لا أصول، وأنها نتائج لا مقدمات،
وأن (التضحية) أو الجهاد بالمال وبالنفس هو العلم الأعلى، فإذا تعلمت الأمة هذا
العلم وعملت به - دانت لها سائر العلوم، ودنت جميع القطوف.
وليس بالضروري أن يكون صاحب الحاجة عالمًا بعملها حتى يكون عالمًا
بالاحتياج إليها. قال لي مرة حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني:
(إن الوالد الشفيق يكون من أجهل الجهلاء، فإذا مرض ابنه اختار له أحذق
الأطباء، وعلم أن هناك شيئًا نافعًا هو العلم، لا يعلم هو شيئًا منه، ولكنه يعلم -
بسائق حرصه على حياة ابنه - أنه ضروري) .
ولم يكن محمد علي عالمًا وربما كان أميًّا، ولكنه بعث مصر من العدم إلى
الوجود في زمن قصير، وصيَّرها في زمانه من الدول العظام بسائق هذا العلم
الأعلى الذي هو الإرادة، وهو الذي يبعث صاحبه إلى التفتيش عن العلوم، وحمل
الأمة عليها.
فالمسلمون يمكنهم - إذا أرادوا وجردوا العزائم وعملوا بما حرضهم عليه
كتابهم - أن يبلغوا مبالغ الأوربيين والأمريكيين واليابانيين من العلم والارتقاء،
وأن يبقوا على إسلامهم كما بقي أولئك على أديانهم، بل هم أولى بذلك وأحرى؛
فإن أولئك رجال ونحن رجال، وإنما الذي ينقصنا الأعمال، وإنما الذي يضرنا هو
التشاؤم والاستخذاء وانقطاع الآمال.
فلننفض غبار اليأس ولنقدم إلى الأمام، ولنعلم أننا بالِغُو كل أمنية بالعمل
والدأب والإقدام، وتحقيق شروط الإيمان التي في القرآن: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} (العنكبوت: ٦٩) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان