للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مولانا محمد علي الزعيم الهندي
وفاته ودفنه

محمد علي وشقيقه شوكت علي زعيمان من زعماء مسلمي الهند السياسيين،
وأولى الشخوص البارزة وأصحاب اللسن والبيان الخطابي والكتابي فيهم، وهما
المؤسِّسان لجمعية الخلافة هنالك، وشهرتهما الواسعة تغني عن تعريفهما ووصفهما
وقد سافرا مع وفود من أمراء الهند وزعمائها إلى لندن في هذا العام لعقد مؤتمر
منهم ومن كبار رجال الحكومة البريطانية للنظر في مشكلة الهند التي تفاقم أمرها،
وتعذر على الدهاء الإنكليزي حل عقدها، وعقد هنالك المؤتمر وعبر عنه (بمؤتمر
المائدة المستديرة) وكان مما قاله محمد علي لرجال الحكومة البريطانية: إننا
خرجنا من من وطننا منبوذين من أمتنا بالالتحاد إليكم، فإذا لم تجيبونا إلى ما
يرضيها من الاستقلال فإننا لا نستطيع أن نعود إلى بلادنا، وأنا أوطِّن نفسي على
الموت هنا، أو ما هذا معناه.
وقد كان من قضاء الله وقدره أن اشتد عليه المرض الذي كان عرض له قبل
السفر أو في أثنائه، فتوفِّي هنالك في شهر شعبان الماضي رحمه الله تعالى، وكان
معه أهل بيته. فعزم شقيقه (مولانا شوكت علي) على نقله إلى الهند ليُدفن فيها،
ولكنه ما لبث أن جاءته برقية من السيد جمال الدين الحسيني مفتي فلسطين ورئيس
المجلس الشرعي الإسلامي فيها يدعوه بها إلى دفن شقيقه في حجرة من الحُجر
التابعة للمسجد الأقصى الذي كان يدافع عنه، فتلقى ذلك هو وأسرة أخيه بالقبول
والشكر، وكانوا قد حنطوا الجثة ووضعوها في صندوق محكم فسافروا بها، حتى إذا
ما بلغت الباخرة بهم ثغر بورسعيد وجدوا وفودًا كثيرة من مصر وفلسطين
تنتظرهم، ووجدوا الحكومة المصرية قد أعدت جميع وسائل الراحة والضيافة لهم
وللوجهاء الذين جاءوا بورسعيد لاستقبالهم ثم لسفرهم إلى القدس الشريف.
وقد تفضل صاحب الجلالة ملك مصر فأصدر أمره بتعزيتهم، وأوفد صاحب
الدولة رئيس حكومته مندوبًا من قبله للتعزية، وكذلك صاحب الدولة مصطفى باشا
النحاس رئيس الوفد المصري. وكان ممن حضر بورسعيد لاستقبالهم صديقهم
رئيس جمعية الشبان المسلمين ومندوب جمعية الرابطة الشرقية وكثير من الوجهاء.
تناولوا مع بعض الوجهاء المستقبلين طعام الإفطار على مائدة محافظ الثغر
بضيافة الحكومة المصرية وباتوا ليلتهم، وسافروا في اليوم التالي إلى القدس مع كثير
من المشيعين، وكانوا يجدون في كل محطة من محطات السكة الحديدية في فلسطين
جماهير المسلمين تعزيهم بادية الحزن والكدر، حتى إذا ما بلغوا محطة القدس
وجدوا فيها ألوفًا من أهلها وأهل البلاد التابعة لها وفيهم كثير من النصارى ولكن
ليس فيهم أحد من اليهود الذين ساءهم دفن هذا الزعيم بجوار المسجد الأقصى الذي
كان يدافع عنه وعن حقوق المسلمين في هذه البلاد التي يحاول هؤلاء اليهود
انتزاعها منها. ثم حمل نعش الفقيد إلى المسجد الأقصى وكان اليوم يوم الجمعة (٤
رمضان المعظم) فصلي عليه صلاة الجنازة بعد صلاة الجمعة، فحضرها ألوف
كثيرة، وكان يومًا مشهودًا من أيام التاريخ التي تؤثر وتدون، وأبَّن الفقيد كثير من
الخطباء والشعراء وقد اشتركت حكومة فلسطين البريطانية في الاحتفال بجنازة
الزعيم بما يليق بها وبمركزه، وكان اقتراح رئيس المجلس الإسلامي الأعلى
مستحسنًا ومرضيًّا عند حكومة لندن، وهي التي أمرت حكومة فلسطين بالقيام بما
يليق بها.
وعسى أن لا يعقب دفن الزعيم الهندي في هذا المكان القدسي شيئًا آخر من
بدع القبور المعروفة فيكون إثمه الديني أكبر من نفعه السياسي.
وقد أعد صاحب السماحة المفتي ورئيس المجلس الإسلامي موائد الفطر في
ذلك اليوم لأسرة الفقيد المرحوم وللمشيعين للجنازة من مصر وكثير من غيرها،
وظلت رسائل التعزية البرقية والبريدية تمطر الزعيم شوكت علي عدة أيام،
والجرائد المصرية والفلسطينية والسورية تفيض أنهارها بوصف الجنازة وأخبارها،
ورسائل التعزية وأشعارها، ثم شاركتها في ذلك جرائد العراق وتونس وغيرها،
ويعلم قراء المنار ما كان من الخلاف بيني وبين الزعيمين في مسألة الحجاز،
ولكن يعلمون ما كان بيننا من التعارف وما بيني وبين المرحوم - عفا الله عنا
وعنه - من عهد الأخوة الخاصة، وعليهم أن يعلموا ذلك من الكتاب الآتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلام
إلى الأخ الكبير، والزعيم الشهير والأستاذ النحرير، مولانا شوكت علي
حفظه الله تعالى آمين
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته. أما بعد:
فإنني أعزيكم مع المعزين باسم الجامعة الإسلامية، وأعزيكم مع المعزين باسم
الأمة العربية، وأعزيكم مع المعزين باسم الرابطة الشرقية، وأعزيكم تعزية
خاصة شخصية عن أخيكم وأخي في العهد الإسلامي الخاص بي وبه، الذي
عقدناه في جوف بيت الله الحرام حيث اشتركنا في غسل أرضه وجُدُره بماء
زمزم وماء دموعنا، وتطييبها بعطر الورد، هنالك تعاقدنا وتعاهدنا على أخوَّة
الإسلام ومودته والقلوب خافقة، والدموع متشابكة.
إن أكبر عزاء لكم بعد الإيمان، والتسليم بقضاء الديان، هذه الألوف الكثيرة
التي جاءتكم من مختلف البلدان، تشارككم في رُزئكم وتعده مصابًا لها في ملتها
وقوميتها، وإن وفاة شقيقكم وجنازته ودفنه بجوار المسجد الأقصى الذي كان يدافع
معكم عنه قد كانت خاتمة حسنة في خدمة الإسلام توثقت بها الجامعة الإسلامية
العامة، والعربية الهندية الخاصة، تحفظ له الذكر الخالد، والمجد الطريف التالد.
فنسأل الله تعالى أن يطيل لها بقاءكم، ويديم توفيقكم، وينفع بكم أهل ملتكم ووطنكم
والسلام عليكم من أخيكم الداعي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
شوكت علي في الأمصار العربية:
رأى (مولانا شوكت علي) بعد الانتهاء من تقبل رسائل التعازي في القدس
الشريف أن يزور قواعد الأمصار العربية التي اشتركت في تشييع جنازة أخيه
وتأبينه وتعزيته عنه، فزار عمان فمصر فبيروت فدمشق فبغداد فالبصرة، وسافر
منها إلى الهند، وقد تلقاه المسلمون في كل بلد بالحفاوة وحسن الضيافة، ورغبت إليه
الجماعات في كل منها بأن يلقي فيها بعض الخطب والنصائح، بما له من الخبرة
والتجارب، فتقبَّل طلبها بقبول حسن، وألقى في كل من مصر وبيروت ودمشق
وبغداد خطبًا (أو محاضرات) بعضها على الرجال وبعضها على النساء، كان لها
أحسن تأثير، وأثنت عليها الجماهير، وتبارت في حديثها الصحف، وقد سرَّنا أنه
حث في كل منها على التربية الدينية الإسلامية، والاعتصام بكتاب الله القرآن وسنة
الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد انفرد بهذه النصائح الثمينة دون أمثاله
من رجال السياسة، وايْم اللهِ إن أهل هذه البلاد الإسلامية لأحوج إليها من كل ما
يلقيه فيها زعماء السياسة، ومؤسسو الجمعيات والأندية على النساء والرجال.
ويلي هذه النصيحة في الفائدة تحذيره النابتة الجديدة من تقليد الإفرنج في
أزيائهم وعاداتهم وتقاليدهم، وإقناع الشبان المفتونين بهذه المظاهر بضررها القومي
والسياسي. ومما قاله في جمعية الشبان المسلمين في القاهرة أنه هو تربى وتعلم في
البلاد الإنكليزية وتخرج في مدرسة أكسفورد الجامعة، وعاد إلى الهند متفرنجًا في
زيه وهيئته وأكله وشربه، وأثاث داره، ولقاء زواره، وكان يظن أن هذا يقربه
إلى الإنكليز الحاكمين في بلاده زلفى، ويزيده عندهم ودًّا، ولكنه لم يزده إلا امتهانًا
منهم وبُعدًا، فاستيقظ من رقدته، وتنبه من غفلته، وعاد إلى شارات قومه وشعائر
ملته، فاضطروا إلى احترامه ومراعاة كرامته.
ولقد كافأ الزعيم الكريم إخوانه من مسلمي هذه البلاد العربية على تكريمهم له
وتعظيمهم إياه وتعزيته في مصابه أفضل المكافأة بهذه النصائح الثمينة التي مهدت
تلك الحفاوة والإطراء السبيل لاستماع الجماهير لها والتأمل فيها.
ولم يكن هذا الزعيم غافلاً في نصائحه الإسلامية عن مراعاة الحقوق الوطنية
والتعاون بين المسلمين وغير المسلمين من المشاركين لهم وفي وطنهم، بل أعطى
هذه المسألة المهمة حقها في كل مكان، إلا أنه جزم بأن الاتفاق بين العرب واليهود
الصهيونيين في فلسطين هو وراء حدود الإمكان.
السيد أمين الحسيني:
لا جرم أن الفضل الأول في هذه الحركة الجديدة من أطوار الجامعتين
الإسلامية والشرقية للزعيم العربي الإسلامي الحازم السيد محمد أمين الحسيني مفتي
القدس ورئيس المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى لفلسطين. فأتى فيها تدبيره،
بأقصى ما قدر لها تفكيره، فعلت بها مكانته في البلاد العربية والهندية وغيرها،
على حين لم يظهر في البلاد العربية التي رُزئت بالعدوان الأوروبي المسمى
بالانتداب زعيم إسلامي سياسي غيره لا من بيوتات العلم الديني وشرف النسب
كبيته، ولا من سائر البيوت العربية، وإنما وجد في سورية والعراق أفراد من وجهاء
الوطنيين المدنيين يجاهدون عدوان الاستعمار الأجنبي والأمة تشد أزرهم، ويستعين
الأجانب عليهم بصنائعهم من منافقي البلاد يرفعونهم إلى مناصب الحكومة
لإخلاصهم لهم.
صدر أولئك الأجانب المعتدون على استقلال البلاد العربية أفرادًا منها ليكونوا
أعوانًا لهم على رسوخ أقدامهم فيها فتصدروا وخدموا مصدريهم بمناصبهم، وإنما
صدر أمينًا جده وجده فكان مجاهدًا للنفوذ الأجنبي الصهيوني ناصرًا للقومية العربية
وحقوقها الوطنية، حتى فكر خصومه وخصومها أخيرًا في الالتجاء إلى بعض
أصحاب الألقاب الكبيرة من متصدري الأجانب ليشتروا منهم شرق الأردن وما
ألحقوا بها من الحجاز بتكبير اللقب وتوسيع دائرة الملك اللفظي. وإن كان صوريًّا
وهميًّا، وسترى ما يكون من عاقبة ذلك. وقى الله الإسلام والعرب شره.
اقتراح إنشاء مدرسة جامعة إسلامية في القدس:
اتفق السيد محمد أمين الحسيني مع الزعيم شوكت علي على السعي في العالم
الإسلامي لإنشاء مدرسة عربية إسلامية جامعة في القدس الشريف لتقوية الإسلام
والعرب فيها تجاه الخطر الصهيوني والمدارس اليهودية في فلسطين، وهذه فكرة
عالية كبيرة يجب التمهيد لها قبل كل شيء بوضع نظام لجمع المال الكثير الذي
يتوقف عليه المشروع فيها بحيث يكون مضمونًا لا ريب فيه، وتكون الثقة بالمشروع
لا مِرَاء فيها.