للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد بن تيمية


رسالة في حقيقة الصيام
وما يفطِّر الصائم بالنص والإجماع
وما أُلحق به من الرأي والاجتهاد
(تتمة ما سبق في الجزء السابع)
(٢)

فصل
وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة والجائفة، فهذا ما
تنازع فيه أهل العلم، فمنهم مَن لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع
لا بالكحول، ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لا يفطر بالكحول ولا
بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك.
والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك. فإن الصيام من دين المسلمين الذي
يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في
الصيام، ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك
لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه. فلما لم ينقل أحد من أهل العلم
عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثًا صحيحًا ولا ضعيفًا ولا مسندًا -
علم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك. والحديث المروي في الكحل ضعيف، رواه أبو داود
في السنن ولم يروه غيره، ولا هو في مسند أحمد ولا سائر الكتب المعتمدة.
قال أبو داود: حدثنا النفيلي ثنا علي بن ثابت حدثني عبد الرحمن بن النعمان
ثنا معبد بن هودة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه أمر
بالإثمد المروح عند النوم، وقال: ليتقه الصائم) قال أبو داود: قال يحيى بن معين:
هذا حديث منكر. قال المنذري وعبد الرحمن: قال يحيى بن معين: ضعيف،
وقال أبو حاتم الرازي: وهو صدوق، لكن من الذي يعرف أباه وعدالته وحفظه؟ !
وكذلك حديث معبد قد عورض بحديث ضعيف، وهو ما رواه الترمذي بسنده
عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اشتكيت
عيني أفأكتحل وأنا صائم؟ قال (نعم) قال الترمذي: ليس بالقوي، ولا يصح عن
النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء. وفيه أبو عاتكة. قال البخاري:
منكر الحديث.
والذين قالوا: إن هذه الأمور تفطر كالحقنة ومداواة المأمومة والجائفة لم يكن
معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس،
وأقوى ما احتجوا به قوله: (وبالِغْ في الاستنشاق إلا تكون صائمًا) قالوا: فدل
ذلك على أن ما وصل إلى الدماغ يفطر الصائم إذا كان يفعله، وعلى القياس كل ما
وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها، سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء
أو غيره من حشو جوفه، والذين استثنوا التقطير قالوا: التقطير لا ينزل إلى جوفه،
وإنما يرشح رشحًا في الداخل إلى إحليله كالداخل إلى فمه وأنفه.
والذين استثنوا الكحل قالوا: العين ليست كالقبل والدبر، ولكن هي تشرب
الكحل كما يشرب الجسم الدهن والماء.
والذين قالوا: الكحل يفطر - قالوا: إنه ينفذ إلى داخله حتى يتنخَّمه الصائم؛
لأن في داخل العين منفذًا إلى داخل الحلق.
وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها لم يجز إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة
لوجوه:
(أحدها) القياس وإن كان حجة إذا اعتبرت شروط صحته، فقد قلنا في
الأصول: إن الأحكام الشرعية بيَّنتها النصوص أيضًا، وإن دل القياس الصحيح على
مثل ما دل عليه النص دلالة خفية، فإذا علمنا بأن الرسول لم يحرم الشيء ولم
يوجبه، علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد،
ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء فعلمنا
أنها ليست مفطرة.
(الثاني) أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول
صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًّا، ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا علم أن هذا
ليس من دينه، وهذا كما يعلم أنه لم يفرض صيام شهر غير رمضان، ولا حج بيت
غير البيت الحرام، ولا صلاة مكتوبة غير الخمس، ولم يُجِبْ الغسل في مباشرة
المرأة بلا إنزال، ولا أوجب الوضوء من الفزع العظيم، وإن كان في مظنة خروج
الخارج، ولا سن الركعتين بعد الطواف بين الصفا والمروة كما سن الركعتين بعد
الطواف بالبيت، وبهذا يعلم أن المني ليس بنجس؛ لأنه لم ينقل من أحد بإسناد
يحتج به أنه أمر المسلمين بغسل أبدانهم وثيابهم من المني مع عموم البلوى بذلك بل
أمر الحائض أن تغسل قميصها من دم الحيض مع قلة الحاجة إلى ذلك، ولم يأمر
المسلمين بغسل أبدانهم وثيابهم من المني.
والحديث الذي يرويه بعض الفقهاء: (يغسل الثوب من البول والغائط والمني
والمذي والدم) ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في شيء من كتب
الحديث التي يعتمد عليها ولا رواه أحد من أهل العلم بالحديث بإسناد يحتج به.
وروي عن عمار وعائشة من قولهما.
وغسل عائشة للمني من ثوبه وفركها إياه لا يدل على وجوب ذلك، فإن
الثياب تغسل من الوسخ والمخاط والبصاق، والوجوب إنما يكون بأمره، لا سيما
ولم يأمر هو سائر المسلمين بغسل ثيابه من ذلك، ولا نقول: إنه أمر عائشة بذلك،
بل أقرها على ذلك، فدل على جوازه أو حسنه واستحبابه.
وأما الوجوب فلا بد له من دليل.
وبهذه الطرق يعلم أيضًا أنه لم يوجب الوضوء من لمس النساء ولا من
النجاسات الخارجة من غير السبيلين، فإنه لم ينقل أحد عنه بإسناد يثبت مثله أنه أمر
بذلك، مع العلم بأن الناس كانوا لا يزالون يحتجمون ويتقيئون ويجرحون في الجهاد.
وغير ذلك، وقد قطع عرق بعض أصحابه ليخرج منه الدم وهو الفصاد، ولم ينقل
عنه مسلم أنه أمر أصحابه بالتوضؤ من ذلك.
وكذلك الناس لا يزال أحدهم يلمس امرأته بشهوة وغير شهوة ولم ينقل عنه
مسلم أنه أمر الناس بالتوضؤ من ذلك، والقرآن لا يدل على ذلك، بل المراد
بالملامسة الجماع كما بسط في موضعه. وأمره بالوضوء بمس الذكر إنما هو
باستحباب إما مطلقًا وإما إذا حرك الشهوة. وكذلك من تفكر فتحركت شهوته فانتشر،
وكذلك من مس الأمرد أو غيره فانتشر.
فالتوضؤ عند تحرك الشهوة من جنس التوضؤ عند الغضب، وهذا مستحب
لما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الغضب من الشيطان،
وإن الشيطان من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) وكذلك
الشهوة الغالبة هي من الشيطان والنار، والوضوء يطفئها فهو يطفئ حرارة الغضب.
والوضوء من هذا مستحب. وكذلك أمره بالوضوء مما مسته النار أمر استحباب؛
لأن ما مسته النار يخالط البدن. فليتوضأ فإن النار تطفئ بالماء. وليس في
النصوص ما يدل على أنه منسوخ، بل النصوص تدل على أنه ليس بواجب،
واستحباب الوضوء من أعدل الأقوال من قول من يوجبه وقول من يراه منسوخًا.
وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره.
وكذلك بهذه الطريق يعلم أن بول ما يأكل لحمه وروثه ليس بنجس، فإن هذا
مما تعم به البلوى، والقوم كانوا أصحاب إبل وغنم، يقعدون ويصلون في أمكنتها
وهي مملوءة من أبعارها، فلو كانت بمنزلة المراحيض كانت تكون حشوشًا. وكان
النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم باجتنابها، وأن لا يلوثوا أبدانهم وثيابهم بها ولا
يصلون فيها. فكيف وقد ثبتت الأحاديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
كانوا يصلون في مرابض الغنم، وأمر بالصلاة في مرابض الغنم، ونهى عن
الصلاة في معاطن الإبل فعلم أن ذلك ليس لنجاسة الأبعار، بل كما أمر بالتوضؤ
من لحوم الإبل، وقال في الغنم: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ، وقال:
(إن الإبل خُلقت من جن، وإن على ذروة كل بعير شيطانًا) وقال: (الفخر
والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل، والسكينة في أهل الغنم) .
فلما كانت الإبل فيها من الشيطنة ما لا يحبه الله ورسوله أمر بالتوضؤ من
لحمها فإن ذلك يطفئ تلك الشيطنة، ونهى عن الصلاة في أعطانها؛ لأنها مأوى
الشياطين، كما نهى عن الصلاة في الحمام؛ لأنها مأوى الشياطين، فإن مأوى
الأرواح الخبيثة أحق بأن تُجتنَب الصلاة فيه وفي موضع الأجسام الخبيثة، بل
الأرواح الخبيثة تحب الأجسام الخبيثة؛ ولهذا كانت الحشوش محتضرة تحضرها
الشياطين، والصلاة فيها أولى بالنهي من الصلاة في الحمام ومعاطن الإبل، والصلاة
على الأرض النجسة، ولم يرد في الحشوش نص خاص؛ لأن الأمر فيها كان
أظهر عند المسلمين أن يحتاج إلى بيان. ولهذا لم يكن أحد من المسلمين يقعد في
الحشوش ولا يصلي فيها، وكانوا ينتابون البَرِّية لقضاء حوائجهم قبل أن تتخذ
الكنف في بيوتهم.
وإذا سمعوا نهيه عن الصلاة في الحمام أو أعطان الإبل علموا أن النهي عن
الصلاة في الحشوش أولى وأحرى، مع أنه قد روى الحديث الذي فيه النهي عن
الصلاة في المقبرة والمجزرة والمزبلة والحشوش وقارعة الطريق ومعاطن الإبل،
وظهر بيت الله الحرام.
وأصحاب الحديث متنازعون فيه وأصحاب أحمد فيه على قولين: منهم من
يرى هذه من مواضع النهي ومنهم من يقول: لم يصح هذا الحديث، ولم أجد في كلام
أحمد في ذلك إذنًا ولا منعًا، مع أنه قد كره الصلاة في مواضع العذاب. نقله عنه
ابنه عبد الله للحديث المسند في ذلك عن علي الذي رواه أبو داود، وإنما نص علي
الحشوش وأعطان الإبل والحمام، وهذه الثلاثة هي التي ذكرها الخرقي وغيره.
والحكم في ذلك عند من يقول به قد يثبته بالقياس على موارد النص وقد يثبته
بالحديث، ومن فرق يحتاج إلى الطعن في الحديث وبيان الفارق، وأيضًا المنع قد
يكون منع كراهة، وقد يكون منع تحريم.
فإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه
وسلم بيانًا عامًّا ولا بد أن تنقل الأمة ذلك، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به
البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب. فلو كان هذا مما يفطر لبيَّنه
النبي صلى الله عليه وسلم كما بيَّن الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك علم أنه من
جنس الطيب والبخور والدهن، والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ
وينعقد أجسامًا، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله ويتقوى به الإنسان، وكذلك
يتقوى بالطيب قوة جيدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز تطييبه
وتبخيره وادِّهانه، وكذلك اكتحاله. وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه
وسلم يجرح أحدهم إما في الجهاد وإما في غيره مأمومة وجائفة، فلو كان هذا يفطر
لبين لهم ذلك، فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم أنه لم يجعله مفطرًا.
(الوجه الثالث) إثبات التقطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحًا،
وذلك إما قياس على بابه الجامع، وإما بإلغاء الفارق، فإما أن يدل دليل على العلة
في الأصل معدى لها إلى الفرع، وإما أن يعلم أن لا فارق بينهما من الأوصاف
المعتبرة في الشرع، وهذا القياس هنا منتفٍ.
وذلك أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطرًا
هو ما كان واصلاً إلى دماغ أو بدن، أو ما كان داخلاً من منفذ أو واصلاً إلى
الجوف، ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم
عند الله ورسوله، ويقولون: إن الله ورسوله إنما جعل الطعام والشراب مفطرًا لهذا
المعنى المشترك من الطعام والشراب، ومما يصل إلى الدماغ والجوف من دواء
المأمومة والجائفة وما يصل إلى الجوف من الكحل ومن الحقنة والتقطير في الإحليل
ونحو ذلك.
وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكم بهذا الوصف دليل كان قول القائل:
إن الله ورسوله إنما جعلا هذا مفطرًا لهذا - قولاً بلا علم، وكان قوله: (إن الله
حرم على الصائم أن يفعل هذا) قولاً بأن هذا حلال وهذا حرام، بلا علم، وذلك
يتضمن القول على الله بما لا يعلم، وهذا لا يجوز.
ومن اعتقد من العلماء أن هذا المشترك مناط الحكم فهو بمنزلة من اعتقد
صحة مذهب لم يكن صحيحًا، أو دلالة لفظ على معنى لم يرده الرسول، وهذا
اجتهاد يثابون عليه، ولا يلزم أن يكون قولاً بحجة شرعية يجب على المسلم اتباعها.
(الوجه الرابع) أن القياس إنما يصح إذا لم يدل كلام الشارع على علة
الحكم [١] إذا سبرنا أوصاف الأصل، فلم يكن فيها ما يصلح للعلة إلا الوصف المعين،
وحيث أثبتنا علة الأصل بالمناسبة أو الدوران أو الشبه المطرد عند من يقول به،
فلا بد من السبر، فإذا كان في الأصل وصفان مناسبان لم يجز أن يقول الحكم بهذا
دون هذا.
ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض
والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى المتوضئ عن المبالغة في الاستنشاق إذا كان
صائمًا، وقياسهم على الاستنشاق أقوى حججهم كما تقدم، وهو قياس ضعيف،
وذلك لأن (من) نشق الماء بمِنْخريه ينزل الماء إلى حلقه وإلى جوفه، فحصل له
بذلك ما يحصل للشارب بفمه ويغذي بدنه من ذلك الماء، ويزول العطش ويطبخ
الطعام في معدته كما يحصل بشرب الماء، فلو لم يرد النص بذلك لعلم بالعقل أن
هذا من جنس الشرب، فإنهما لا يفترقان إلا في دخول الماء من الفم، وذلك غير
معتبر، بل دخول الماء إلى الفم وحده لا يفطر، فليس هو مفطرًا ولا جزءًا من
المفطر لعدم تأثيره، بل هو طريق إلى الفطر، وليس كذلك الكحل والحقنة ومداواة
الجائفة والمأمومة. فإن الكحل لا يغذي ألبتة، ولا يدخل أحد كحلاً إلى جوفه لا من
أنفه ولا فمه، وكذلك الحقنة لا تغذي بل تستفرغ ما في البدن، كما لو شم شيئًا من
المسهلات، أو فزع فزعًا أوجب استطلاق جوفه وهي لا تصل إلى المعدة [٢] .
والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة لا يشبه ما يصل
إليها من غذائه [٣] والله سبحانه قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن
قَبْلِكُمْ} (البقرة: ١٨٣) وقال صلى الله عليه وسلم: (الصوم جُنة) وقال: (إن
الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع بالصوم) [٤] .
فالصائم نُهي عن الأكل والشرب؛ لأن ذلك سبب التقوى. فترك الأكل
والشرب الذي يولد الدم الكثير الذي يجري فيه الشيطان، إنما يتولد من الغذاء لا
عن حقنة ولا كحل، ولا ما يقطر في الذكر، ولا ما يداوى به المأمومة والجائفة،
وهو متولد عما استنشق من الماء؛ لأن الماء مما يتولد من الدم، فكان المنع منه
من تمام الصوم.
فإذا كانت هذه المعاني وغيرها موجودة في الأصل الثابت بالنص والإجماع
فدعواهم أن الشارع علق الحكم بما ذكروه من الأوصاف معارَض بهذه الأوصاف.
والمعارضة تبطل كل نوع من الأقيسة إن لم يتبين أن الوصف الذي ادعوه هو العلم
دون هذا.
(الوجه الخامس) أنه ثبت بالنص والإجماع منع الصائم من الأكل والشرب
والجماع، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الشيطان يجري من
ابن آدم مجرى الدم) ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب، وإذا أكل أو
شرب اتسعت مجاري الشياطين [٥] وإذا صام ضاقت وانبعثت القلوب إلى فعل
الخيرات التي بها تفتح أبواب الجنة، وإلى ترك المنكرات التي بها تفتح أبواب
النار، وصفدت الشياطين فضعفت قوتهم وعملهم بتصفيدهم فلم يستطيعوا أن يفعلوا
في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره، ولم يقل: إنهم قتلوا ولا ماتوا، بل قال:
(صفدوا) والمصفد من الشياطين قد يؤذي، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في
غير رمضان، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه، فمن كان صومه كاملاً دفع
الشيطان دفعًا لا يدفعه الصوم الناقص، فهذه المناسبة ظاهرة فيمنع الصائم من
الأكل والشرب، والحكم ثابت على وفقه، وكلام الشارع قد دل على اعتبار هذا
الوصف وتأثيره، وهذا المنع منتفٍ في الحقنة والكحل وغير ذلك.
فإن قيل: بل الكحل قد ينزل إلى الجوف ويستحيل دمًا. (قيل) هذا كما قد
يقال في البخار الذي يصعد من الأنف إلى الدماغ فيستحيل دمًا، وكالدهن الذي
يشربه الجسم. والممنوع منه إنما هو ما يصل إلى المعدة فيستحيل دمًا ويتوزع
على البدن جميعه.
ونجعل هذا وجهًا خامسًا، فنقيس الكحل والحقنة ونحو ذلك على البخور والدهن
ونحو ذلك، لجامع ما يشتركان فيه من أن ذلك ليس مما يتغذى به البدن ويستحيل
في المعدة دمًا، وهذا الوصف هو الذي أوجب أن لا تكون هذه الأمور مفطرة،
وهذا موجود في محل النزاع. والفرع قد يتجاذبه أصلان فيلحق كلاًّ منهما بما يشبهه
من الصفات.
(فإن قيل) هذا تطبخه المعدة ويستحيل دمًا ينمو عنه البدن لكنه غذاء ناقص
فهو كما لو أكل سمًّا أو نحوه مما يضره، وهو بمنزلة من أكل أكلاً كثيرًا أورثه تخمةً
ومرضًا. فكان منعه في الصوم عن هذا أوكد؛ لأنه ممنوع عنه في الإفطار وبقي
الصوم أوكد، وهذا كمنعه من الزنى فإنه إذا منع من الوطء المباح فالمحظور أولى.
(فإن قيل) فالجماع مفطر وهذه العلة منتفية فيه.
(قيل) تلك أحكام ثابتة بالنص والإجماع فلا يحتاج إثباتها إلى القياس، بل
يجوز أن تكون العلل مختلفة فيكون تحريم الطعام والشراب والنظر بذلك لحكمة،
وتحريم الجماع والفطر بالحيض لحكمة، فإن الحيض لا يقال فيه أنه يحرم هذا؛
لأن المفطرات بالنص والإجماع لما انقسمت إلى أمور اختيارية تحرم على العبد
كالأكل والجماع، وإلى أمور لا اختيار له فيها كدم الحيض، كذلك تنقسم عللها.
(فنقول) أما الجماع فإنه باعتبار أنه سبب إنزال المني يجري مجرى
الاستقاءة والحيض والاحتجام؛ كما سنبينه إن شاء الله تعالى، فإنه من نوع
الاستفراغ لا الامتلاء كالأكل والشرب، ومن جهة أنه إحدى الشهوتين فجرى
مجرى الأكل والشرب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن
الله تعالى: (الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي) فترك
الإنسان ما يشتهيه لله هو عبادة مقصودة يثاب عليها كما يثاب المُحرِم على ترك ما
اعتاده من اللباس والطيب ونحو ذلك من نعيم البدن، والجماع من أعظم نعيم البدن
وسرور النفس وانبساطها، وهو يحرك الشهوة والدم والبدن أكثر من الأكل، فإذا
كان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم. والغذاء يبسط الدم الذي هو مجاريه،
فإذا أكل أو شرب انبسطت نفسه إلى الشهوات، وضعفت إرادتها ومحبتها للعبادات،
فهذا المعنى في الجماع أبلغ، فإنه يبسط إرادة النفس للشهوات، ويضعف إرادتها
عن العبادات أعظم، بل الجماع هو غاية الشهوات، وشهوته أعظم من شهوة الطعام
والشراب، ولهذا أوجب على المجامع كفارة الظهار، فوجب عليه العتق أو ما يقوم
مقامه بالسنة والإجماع؛ لأن هذا أغلظ، وداعيه أقوى، والمفسدة به أشد. فهذا
أعظم الحكمتين في تحريم الجماع.
وأما كونه يضعف البدن كالاستفراغ، فذاك حكمة أخرى، فصار فيهما كالأكل
والحيض وهو في ذلك أبلغ منهما فكان إفساده الصوم أعظم من إفساد الأكل
والحيض.
فنذكر حكمة الحيض وجريان ذلك على وفق القياس، فنقول: إن الشرع جاء
بالعدل في كل شيء. والإسراف في العبادات من الجور الذي نهى عنه الشارع وأمر
بالاقتصاد في العبادات، ولهذا أمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور ونهى عن
الوصال، وقال: (أفضل الصيام وأعدل الصيام صيام داود عليه السلام، وكان
يصوم يومًا ويفطر يومًا ولا يفر إذا لاقى) فالعدل في العبادات من أكبر مقاصد
الشارع ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ
} (المائدة: ٨٧) الآية. فجعل تحريم الحلال من الاعتداء المخالف للعدل
وقال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن
سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} (النساء: ١٦٠- ١٦١)
فلما كانوا ظالمين عوقبوا بأن حرمت عليهم الطيبات، بخلاف الأمة الوسط العدل
فإنه أحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث.
وإذا كان كذلك فالصائم قد نهي عن أخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب
فيُنهى عن إخراج ما يضعفه ويخرج مادته التي بها يتغذى، وإلا فإذا مكن من هذا
ضره وكان متعديًا في عبادته لا عادلاً.
فالخارجات نوعان: نوع يخرج لا يقدر على الاحتراز منه أو على وجه لا
يضره، فهذا لا يمنع منه كالأخبثين، فإن خروجهما لا يضره ولا يمكنه الاحتراز منه
أيضًا، ولو استدعى خروجهما فإن خروجهما لا يضره بل ينفعه. وكذلك إذا ذرعه
القيء لا يمكنه الاحتراز منه، وكذلك الاحتلام في المنام لا يمكنه الاحتراز منه.
وأما إذا استقاء فالقيء يُخرج ما يتغذى به الطعام والشراب والمستحيل في
المعدة، وكذلك الاستمناء مع ما فيه من الشهوة فهو يخرج المني الذي هو مستحيل
في المعدة عن الدم فهو يخرج الدم الذي يتغذى به، ولهذا كان خروج المني إذا
أفرط فيه يضر الإنسان ويخرج أحمر.
والدم الذي يخرج بالحيض فيه خروج الدم، والحائض يمكنها أن تصوم في
غير أوقات الدم في حال لا يخرج فيها دمها، فكان صومها في تلك الحال صومًا
معتدلاً لا يخرج فيه الدم الذي يقوي البدن الذي هو مادته، وصومها في الحيض
يوجب أن يخرج فيه دمها، ويوجب نقصان بدنها وضعفها وخروج صومها عن
الاعتدال، فأُمرت أن تصوم في غير أوقات الحيض.
بخلاف المستحاضة فإن الاستحاضة تعم الزمان، وليس لها وقت تؤمر فيه
بالصوم، وكان ذلك لا يمكن الاحتراز منه كذرع القيء وخروج الدم بالجراح
والدمامل والاحتلام ونحو ذلك مما ليس له وقت محدد يمكن الاحتراز منه. فلم
يجعل هذا منافيًا للصوم كدم الحيض.
وطرد هذا إخراج الدم بالحجامة والفصاد ونحو ذلك، فإن العلماء متنازعون في
الحجامة هل تفطر الصائم أم لا؟ والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم
في قوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) كثيرة قد بيَّنها الأئمة الحفاظ.
وقد كره غير واحد من الصحابة الحجامة للصائم، وكان منهم من لا يحتجم إلا
بالليل. وكان أهل البصرة إذا دخل شهر رمضان أغلقوا حوانيت الحجامين. والقول
بأن الحجامة تفطر مذهب أكثر فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهم.
وأهل الحديث الفقهاء فيه العاملون به أخص الناس باتباع محمد صلى الله
عليه وسلم، والذين لم يروا إفطار المحجوم بما ثبت في الصحيح (أن النبي صلى
الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم) وأحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة وهي
قوله (وهو صائم) وقالوا: الثابت أنه احتجم وهو محرم. قال أحمد: قال يحيى بن
سعيد: لم يسمع الحكم حديث مقسم في الحجامة للصائم، يعني حديث شعبة عن الحكم
عن مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم.
قال مهنا: سألت أحمد عن حديث حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن
ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم. فقال: ليس
بصحيح، وقد أنكره يحيى بن سعيد الأنصاري، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله رد
هذا الحديث فضعفه، وقال: كانت كتب الأنصاري ذهبت في أيام المنتصر فكان بعدُ
يحدث من كتب غلامه، وكان هذا من تلك.
وقال مهنا: سألت أحمد عن حديث قبيصة عن سفيان عن حماد عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس.. إلخ فقال: هو خطأ من قبل قبيصة. وسألت يحيى عن
قبيصة فقال: رجل صدق، والحديث الذي يحدث به عن سفيان عن سعيد خطأ من
قبله.
قال مهنا: سألت أحمد عن حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم
احتجم وهو محرم صائم فقال: ليس فيه (صائم) إنما هو (محرم) ذكره سفيان عن
عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس، وعن عبد الرزَّاق عن معمر عن ابن
خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله، وهؤلاء أصحاب ابن عباس لا
يذكرون صائمًا.
(قلت) : وهذا الذي ذكره الإمام أحمد، هو الذي اتفق عليه الشيخان
البخاري ومسلم؛ ولهذا أعرض مسلم عن الحديث الذي ذكر حجامة الصائم ولم يثبتا
إلا حجامة المحرم. وتأولوا أحاديث الحجامة بتأويلات ضعيفة كقولهم: كانا يغتابان
وقولهم: أفطرا لسبب آخر. وأجود ما قيل ما ذكره الشافعي وغيره: أن هذا منسوخ،
فإن هذا القول كان في رمضان واحتجامه وهو محرم كان بعد ذلك؛ لأن الإحرام
بعد رمضان. وهذا أيضًا ضعيف بل هو صلوات الله عليه أحرم عام الحديبية
بعمرة في ذي القعدة، وأحرم من العام الثالث سنة الفتح من الجعرانة في ذي
القعدة، وأحرم سنة عشر بحجة الوداع في ذي القعدة، فاحتجامه وهو محرم صائم لم
يبين في أي الإحرامات كان، والذي يقوي أن إحرامه الذي احتجم فيه كان قبل
فتح مكة، وقوله (أفطر الحاجم والمحجوم) فإنه كان عام الفتح بلا ريب هكذا
في أجود الأحاديث.
قال أحمد: أنبأنا إسماعيل عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن الأشعث عن
شداد بن أوس أنه مر مع النبي صلى الله عليه وسلم زمن الفتح على رجل محتجم
بالبقيع لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم) . وقال
الترمذي: سألت البخاري فقال: ليس في هذا الباب أصح من حديث شداد بن أوس
وحديث ثوبان. فقلت: وما فيه من الاضطراب؟ فقال: كلاهما عندي صحيح؛ لأن
يحيى بن سعيد روى عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان عن أبي الأشعث عن
شداد الحديثين جميعًا.
(قلت) وهذا الذي ذكره البخاري من أظهر الأدلة على صحة كلا الحديثين
اللذين رواهما أبو قلابة؛ إلى أن قال: ومما يقوي أن الناسخ هو الفطر بالحجامة
أن ذلك رواه عنه خواص أصحابه الذين كانوا يباشرونه حضرًا وسفرًا، ويطلعون
على باطن أمره مثل بلال وعائشة، ومثل أسامة وثوبان مولياه، ورواه عنه
الأنصار الذين هم بطانته مثل رافع بن خديج وشداد بن أوس.
وفي مسند أحمد عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(أفطر الحاجم والمحجوم) قال أحمد: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع، وذكر
أحاديث (أفطر الحاجم والمحجوم) إلى أن قال: ثم اختلفوا على أقوال:
(أحدها) يفطر المحجوم دون الحاجم، ذكره الخرقي، لكن النصوص عن
أحمد وجمهور أصحابه: الإفطار بالأمرين، والنص دالّ على ذلك فلا سبيل إلى
تركه.
(والثاني) أنه يفطر المحجوم الذي يحتجم ويخرج منه الدم، ولا يفطر
بالافتصاد ونحوه؛ لأنه لا يسمى احتجامًا، وهذا قول القاضي وأصحابه، فالتشريط
في الآذان هل هو داخل في مسمى الحجامة؟ تنازع فيه المتأخرون فبعضهم يقول
التشريط كالحجامة؛ كما يقول شيخنا أبو محمد المقدسي، وعليه يدل كلام العلماء
قاطبة، فليس منهم من خص التشريط بذكر، ولو كان عندهم لا يدخل في الحجامة
لذكروه كما ذكروا الفصاد، فعلم أن التشريط عندهم من نوع الحجامة، وقال شيخنا
أبو محمد: هذا هو الصواب.... إلى أن قال:
(والرابع) وهو الصواب واختاره أبو المظفر بن هبيرة الوزير العالِم العادل
وغيره: أنه يفطر بالحجامة والفصاد ونحوهما؛ وذلك لأن المعنى الموجود في
الحجامة موجود في الفصاد شرعًا وطبعًا، وحيث حض النبي صلى الله عليه وسلم
على الحجامة وأمر بها فهو حض على ما في معناها من الفصاد وغيره، ولكن
الأرض الحارة تجتذب الحرارة فيها دم البدن فيصعد إلى سطح الجلد فيخرج
بالحجامة، والأرض الباردة يغور الدم فيها إلى العروق هربًا من البرد، فإن شبه
الشيء منجذب إليه كما تسخن الأجواف في الشتاء وتبرد في الصيف، فأهل البلاد
الباردة لهم الفصاد وقطع العروق كما للبلاد الحارة الحجامة، لا فرق بينهما في
شرع ولا عقل.
وقد بينا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس، وأنه من جنس
الفطر بدم الحيض والاستقاءة وبالاستمناء. وإذا كان كذلك فبأي وجه أراد إخراج
الدم أفطر، كما أنه بأي وجه أخرج القيء أفطر سواء جذب القيء بإدخال يده أو
بشم ما يقيئه أو وضع يده تحت بطنه واستخرج القيء، فتلك طرق لإخراج القيء
وهذه طرق لإخراج الدم؛ ولهذا كان خروج الدم بهذا وهذا سواء في باب الطهارة،
فبيَّن بذلك كمال الشرع واعتداله وتناسبه، وأن ما ورد من النصوص ومعانيها، فإن
بعضه يصدق بعضًا ويوافقه {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: ٨٢) .
وأما الحاجم فإنه يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه، والهواء
يجتذب ما فيها من الدم فربما صعد مع الهواء شيء من الدم ودخل في حلقه وهو لا
يشعر والحكمة إذا كانت خفية أو مستترة علق الحكم بالمظنة، كما أن النائم الذي
يخرج منه الريح ولا يدري؛ يؤمر بالوضوء، فكذلك الحاجم يدخل شيء من الدم مع
ريقه إلى بطنه وهو لا يدري.
والدم من أعظم المفطرات فإنه حرام في نفسه لما فيه من طغيان الشهوة،
والخروج عن العدل، والصائم أمر بحسم مادته. فالدم يزيد الدم فهو من جنس
المحظور. فينظر الحاجم لهذا كما ينقض وضوء النائم وإن لم يستيقن خروج الريح
منه؛ لأنه يخرج ولا يدري. وكذلك الحاجم قد يدخل الدم في حلقه وهو لا يدري.
وأما الشارط فليس بحاجم، وهذا المعنى منتفٍ فيه فلا يفطر الشارط. وكذلك
لو قدر حاجم لا يمص القارورة بل يمتص غيره، أو يأخذ الدم بطريق أخرى لم يفطر.
والنبي صلى الله عليه وسلم كلامه خرج على الحاجم المعروف المعتاد، وإذا
كان اللفظ عامًّا وإن كان قصده شخصًا بعينه فيشترك في الحكم سائر النوع للعادة
الشرعية من أن ما ثبت في حق الواحد من الأمة ثبت في حق الجميع. فهذا أبلغ،
فلا يثبت بلفظه ما يظهر لفظًا ومعنى أنه لم يدخل فيه مع بُعده عن الشرع والعقل.
والله أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه
وسلم تسليمًا كثيرًا. آمين.