للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الشيخ محمد عبد العزيز الخولي

رُزئت مصر، بل نهضة الإصلاح الإسلامي في هذا العصر، باغتضار
الشيخ محمد عبد العزيز الخولي في شرخ شبابه وغضاضة إهابه، وغضارة
معيشته، وصولة مجاهدته، بعد مرض فجأه على غرة فأقصده، بجهل الطبيب
كنهه وعلاجه، لاستكماله ما كتب الله له من العمر، وإذا قُضي الأجل عمي البصر،
وضاعت الحيل، وخاب الأمل.
مات الشاب الذي فاق الشيوخ حكمةً وعلمًا، وفات الكهول همةً وثباتًا وحِلمًا،
وبَذَّ الشباب نجدةً وإقدامًا.
مات خطيب مصر المفوَّه، وواعظها الديني المؤثر، المبشر المنذر، الذي
تخشع لوعظه القلوب، وتسيل الغروب، وتجيش الصدور، وتستهل الشؤون.
مات المصنف المدرس الصحيح العلم، الجيد الفهم، المتحري لهدى القرآن
الحكيم، وهدي محمد خاتم النبيين، صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه،
والتابعين لهم في التزام سنته، والنصح لأمته.
نعم، مات أخونا وصديقنا وأحد أركان جماعتنا دعاة الإصلاح على المنهج
الذي تقتضيه حال الزمان، من هدم الخرافات والبدع، وإقامة قواعد السنن، والقيام
بحقوق الروح والجسد، واستقلال العقل والفكر، والجمع بين الدين والعلم، والعمل
النافع في عمران الدنيا والاستعداد للآخرة، فحزنت لموته القلوب، وفاضت الدموع،
وإنا على فقده لمحزونون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
كان أول عهدنا بمعرفته سنة ١٣٣١؛ إذ اشترك في مجلة المنار وصار يتردد
علينا للمذاكرة والبحث، وكان طالبًا في مدرسة القضاء الشرعي، فكانت قراءته
للمنار وزياراته لنا في بعض الأحيان مقوية لاستعداده لمعرفة حقيقة الإسلام،
والاهتداء بهما للعمل والتعليم على منهج الإصلاح.
ولما حان وقت امتحانه النهائي لنيل شهادة المدرسة، وكان لا بد له من كتابة
رسالة في أحد المباحث العلمية الدينية للتقديم بين يدي الامتحان اتباعًا للعادة
الملتزمة - اختار بحث السنة وعلومها وتاريخها، فكتب رسالته التي سماها (مفتاح
السنة - أو تاريخ فنون الحديث) وكان يستشيرنا في تأليفها وفي الكتب التي يستمد
منها، وفي الوقوف على أخبار المشتغلين بعلم السنة في الأقطار الإسلامية في
عصرنا. ونشرنا له هذه الرسالة في مجلد المنار الثاني والعشرين وطبعناها مستقلة
في مطبعة المنار سنة ١٣٢٩ (١٩٢١ م) وقدمها للمدرسة فنالت حسن القبول.
وقد نَوَّهَ رحمه الله تعالى في أواخر هذه الرسالة بما كان من تأثير مجلة المنار
في نشر السنة والاهتداء بها؛ إذ قال في فصل (حال السنة في عصرنا الحاضر)
ما نصه (ص٦١ من الطبعة الأولى) : (ولما كانت مجلة المنار سلفية المنهج،
وكانت عنايتها موجهة إلى محاربة البدع، والرجوع بالدين إلى ما درج عليه
الرعيل الأول من السلف، وكان ذلك داعيًا للعناية بالسنة والبحث فيها وفي فنونها،
والاستدلال بها في الفتاوى وغيرها - كان لها أثر صالح في نشر السنة وتكثير
سواد الطالبين لها في الأقطار الإسلامية المختلفة) اهـ.
وبقي لنا عليه دَين أدبي كان يعد بوفائه من غير مطالبة، وهو تقريظ تفسير
المنار كما قرظه أخص إخوانه من علماء الأزهر وغيرهم، وكان يسوِّف فيه؛ ليجد
فرصة لكتابة شيء لم يسبقه إليه غيره، فرحمه الله وعفا عنه.
خلاصة ترجمته
قال صديقه ورفيقه في الطلب والتدريس الأستاذ الشيخ مصطفى محمد خفاجي
المدرس في تجهيزية دار العلوم في تأبينه إياه في حفلة المدرسة (في ٢٦ ذي
الحجة) :
(وُلد رحمه الله ببلدة الحامول من أعمال المنوفية سنة ١٣١٠ من الهجرة،
ولما أتم حفظ القرآن وتجويده التحق بالجامع الأزهر كسائر أهل بلده إذ ذاك (كذا) .
ولكنه لم يرُقْه ما كان عليه من الفوضى، فولى وجهه شطر الإسكندرية وانتسب إلى
معهدها؛ إذ كان على شيء من حسن النظام والدقة، فقضى به أربع سنين إلا بعض
السنة، ثم تاقت نفسه الوثَّابة وآماله البعيدة إلى الالتحاق بمعهد يكون أدق نظامًا
وأعلى إحكامًا، فكانت مدرسة القضاء الشرعي طِلبته، ومغناها بُغيته، فألقى
عصاه بذُراها، وانتظم في طلبتها وذلك سنة ١٣٢٩هـ الموافق سنة ١٩١١ ميلادية
وما زال بها الطالب المجد والجندي القوي حتى أتم تسع السنين.
ثم غادرها إلى حلبة الحياة العملية وقد اتسعت أمامه الأرجاء، وانفتح لمداركه
وآماله مغلق الأنحاء، فعُين مدرسًا بالمعهد الذي تخرج فيه سنة ١٩٢٢. ولما أنشئ
به قسم التخصص في الشريعة الإسلامية، كنا ممن اختير ليدرس في هذا القسم، ولما
عصفت الأعاصير بذلك المعهد الشامخ نقلنا إلى مدرسة دار العلوم، حتى إذا كان
صيف العام الماضي، نقلنا إلى المدرسة التجهيزية حيث نحن الآن، ثم غادرنا إلى
الدار الآخرة قبل شهر كامل من اليوم) (أي في ٢٥ ذي القعدة) .
ثم ذكر خلاصة ما علمه بالمعاشرة، والمزاملة في المدرسة، من شمائله
وآدابه وأخلاقه، وأسلوبه في المدرسة، ومنزعه في الخطابة والوعظ، وصلته
للأرحام، ووفائه للخلان، وغيرته على الدين، واهتمامه بأمر السلمين، وذكر أنه
لقي في طريقته الوعظية التي جرى عليها في المساجد معارضة من الخرافيين
الجامدين، فنصره الله عليهم.
وأقول: إن الخطابة الدينية قد ارتقت في هذه السنين بمصر ارتقاءً يبشر
بخير عظيم، فنبغ فيها طائفة من علماء الخطباء العارفين بحال الزمان، يُرجى
فيهم الخير الكثير في هداية العوام، الذين زادهم جهلاً على جهلهم، وضلالاً على
ضلالهم خطباء الفتنة الذين يلقون على منابرهم خطب الدواوين المعروفة، وكان
فقيدنا رحمه الله تعالى في الذروة منهم. ومن عرف كنه ما هبطت إليه الخطابة
الدينية في المساجد الإسلامية بموت العلم وإفساد الملوك والأمراء الفاسقين للعلماء
الرسميين وأنها صارت في هذا العصر مشوهة للإسلام في نظر المتعلمين
المصريين، ومعززة للخرافات في أنفس العوام الجاهلين - علم أن مثل فقيدنا اليوم
خير لدينه وأهل ملته من ألف عالم من هؤلاء المتأخرين الجامدين، حتى من
يعدونهم من كبراء المصنفين، كالشرقاوي والباجوري والإنبابي والسقا
وأضرابهم. وكتابه في الوعظ والخطابة، ورسالته في تاريخ الحديث أنفع من كل
تلك المصنَّفات ودواوين الخطب التي ليس لأحد منهم تحقيق مسألة دينية نافعة.
فرحمه الله رحمة واسعة، آمين.