للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


إلحاد في القرآن
ودين جديد بين الباطنية والإسلام

{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: ١١٥)
طبع القرآن المجيد في خاتمة هذا العام، طبعة جديدة مشوهة حواشيها
بتحريف سخيف لآياته في العقائد والأحكام، وُصف كذبًا وزورًا بأنه تفسير للقرآن
بالقرآن وبهذا الوصف بِيعت نسخ كثيرة منه قبل طبعه باسم الاشتراك، لمَن صدقوا
أنه ليس فيه إلا تفسير كل آية بالدلالة على كل ما في معناها أو موضوعها من
الآيات.
ومن هؤلاء بعض أهل العلم الديني وفي مقدمتهم صاحب الفضيلة مفتي الديار
المصرية السبَّاق إلى اقتناء المطبوعات الجديدة المفيدة للمطالعة أو المراجعة.
وعرض الاشتراك فيه على آخرين بوصف آخر، فقبلوه به، وهو أنه تفسير
عصري سياسي يقيم الحجج من القرآن على بطلان الحكومة الشخصية الملكية وذم
استبداد الملوك (!) وإثبات الحكومة الوطنية النيابية (!) ويزيل من طريقها
عقبات التشريع المدني الذي وضعه الفقهاء وغيرهم من علماء الدين حتى ما كان
منها منصوصًا في القرآن كالحدود الشرعية وتعدد الزوجات والتسري، وكل ما
مستنده السنة النبوية. بل يبيح لهم تعمُّد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
بآرائهم وما يدعون من المصلحة بأهوائهم.
وعرض على بعض الماديين بأنه تفسير مادي يتأول لهم ما ورد في عالم
الغيب من الجن والشياطين والملائكة ومعجزات الأنبياء والمرسلين، فيكفيهم من
الإسلام أن يتعرفوا بألفاظ القرآن، ويتصرفوا في معانيها بما يشاءون غير مقيدين
باللغة العربية في مفرداتها ولا تركيبها ونظم أسلوبها، ولا بما ورد عن النبي صلى
الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنه فيها، ولا مَن دونهم من أئمة الحديث والفقه
بالأَوْلى.
ويلزم من هذا بالأَوْلى ألا يلتزموا كل ما قبله هذا الملحد من أحكام القرآن غير
محرف؛ إذ ما جاز له من الرد والتأويل بالهوى يجوز لغيره على قاعدته في
اختلاف معاني القرآن باختلاف الزمان والمكان وهو ما صرح به في ما نشره
بالأهرام.
ثم تم الطبع وظهر الكتاب، فوقع في يد فضيلة شيخ الأزهر فبادر إلى
مخاطبة الحكومة بمصادرته لتضمنه مخالفة ما أجمع عليه المسلمون من دين الله
تعالى. فصادرت الحكومة ما كان في مطبعة الحاج مصطفى البابي الحلبي وأولاده
منه وما وجد في إدارة البريد أو سكة الحديد مهيئًا لنقله.
ثم نشرت جريدة الأهرام حديثًا بعد حديث لفضيلة شيخ الأزهر في شأنه ليتهما
لم يُنشرا، فإنهما على كونهما لم يبينا للناس أهم ما يجب بيانه من تحريف تلك
الحواشي لكتاب الله، واشتمالها على ما هو ارتداد صريح عن دين الله، لا يحتملان
التأويل لغةً ولا شرعًا، قد تضمنا اتهام بعض علماء الأزهر المدرسين في قسم
التخصص منه - وهو أعلى أقسامه - بنشر هذا الكتاب، ويلزم منه موافقة صاحبه
على ما فيه، والتصريح بأن المجلس الأعلى للأزهر والمعاهد الدينية قد قرر نقل
اثنين من هؤلاء المتهمين من قسم التخصص إلى معهد أسيوط من باب الاحتياط قبل
التحقيق في أمرهما.
فبهذا وذاك فهم عامة الناس وبعض خاصتهم أن هذا التفسير الجديد للقرآن
موضوع خلاف بين علماء الأزهر أو بين شيخ الأزهر وبعض مدرسي القسم
الأعلى فيه، لا مما يتفق علماء الملة على كونه مخالفًا لإجماع المسلمين، وقد
نشرت الجرائد من عهد قريب لبعض العلماء إنكارًا على بعض ما نُشر في مجلة
الأزهر والمعاهد الدينية (نور الإسلام) مع الوعد بتتابع النشر، (ونحن قد جاءتنا
رسائل متعددة في الرد على هذه المجلة في مسائل تتعلق بالعقائد ومقام الرسول
صلى الله عليه وسلم وحديثه) ، فيكون للناس عذر إذا ظنوا أن الخلاف في التفسير
الجديد كالخلاف فيما تنشره مجلة المعاهد الدينية مما يعهد مثله دائمًا بين العلماء.
ولما نُشر في جريدة الأهرام وغيرها أسماء هذين المدرسين (وهما الشيخ
محمد العدوي والشيخ عبد الجليل عيسى) قويت الشبهة في اتهام الأستاذ الأكبر
إياهما لعلم المشتغلين بالقضية الوطنية - أو جمهور الناس - أنهما من الميالين إلى
الوفد المصري والمتصلين بأكبر زعمائه بصداقة سابقة، وأنهما من جماعة العلماء
الذين أنكروا على فضيلة شيخ الأزهر ومَن معه من هيئة كبار العلماء الرسميين -
ذلك المنشور المشهور الذي نشروه لتأييد الوزارة الإسماعيلية الحاضرة، ووضعوا
بيانًا آخر في موضوع الشقاق في القضية الوطنية، ولم يتمكن الشيخ من منع
نشرهم له إلا بجهد وعناء عظيمين.
فبهذا وجد واضع الحواشي البدعية الإلحادية طريقًا ممهدًا للرد على شيخ
الأزهر بأنه إنما سعى لدى الحكومة التي ينصرها بأن تصادر تفسيره لتأييد سياستها
لا للدفاع عن الدين، وطعن على فضيلته بأنه لم يعهد منه النضال عن الإسلام
والمسلمين، ويخشى أن يصدقه في هذه الدعوى أكثر المصريين، مستدلين - كما
استدل - بسكوت الشيخ عن الإنكار على أعمال الفرنسيس في المغرب الأقصى
وإيطالية في طرابلس وبرقة، والحق أن هذا لا يقاس على ذاك وإن كان واجبًا
وضروريًّا؛ فإن سكوت الشيخ - وهو رئيس العلماء الدينيين - عن هذا الكتاب يعد
إقرارًا له، وإنكاره إياه يقتضي منع نشر الإلحاد والفساد باسم القرآن، وأما الإنكار
على عدوان الدولتين على الإسلام والمسلمين فقصاراه أنه يقوي التكافل والتعاون
بين المسلمين في الدفاع عن أنفسهم وعن دينهم، ولكنه لا يمنع ذلك العدوان إلا إذا
ترتب عليه عمل كبير، وإنا لنعلم أنه وجد من الناصحين مَن حذر فضيلة الشيخ
الاستهداف لهذه التهمة وسوء تأثيرها في سمعته.
وشبهة الشيخ على هذين الأستاذين - كما علمناه من حديثنا مع فضيلته - أن
الرجل كان مصاحبًا لهما، ونحن نعلم أنه كان ينزل ضيفًا على أحدهما وعلى
المرحوم الشيخ محمد عبد العزيز الخولي خير أطباء مصر وأنفع وعاظها، ويلقى
عندهما أو معهما سائر إخوانهما من المدرسين الممتازين في الأزهر باستقلال الفكر،
والإنصاف والأدب في البحث، والدفاع عن الإسلام بدلائل العلم، ونعلم أيضًا
أنهم كانوا يناقشونه مناقشة علمية في فهمه الشاذ الذي نذكره قريبًا كيف تدرج فيه،
ولم يكونوا يثنون عليه بمثل ما نقل إلينا من ثناء الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر عليه
في محفل من المهنئين له بالرياسة، ولا كانوا يعرفون منه كل هذا الإلحاد الذي قاءه
في هذه الحواشي الجديدة. ويا فضيحة الأزهر إن كان هؤلاء يوافقونه فيه، وإني
لأشهد أنهما أنكرا أمامي كل ما أنكرته عليها.
لهذا كله افترص هذا المبتدع ما نشرته الأهرام من حديثي الشيخ لإعلان
تفسيره هذا واتهامه فيه وتهديده له، وصرح - بما نشره في الأهرام وغيرها -بأنه
مبطل للحكومة الحاضرة بدلائل القرآن وأنه سيبين هذا للناس. ومن المعروف عنه
أنه من غلاة أنصار الوفد، وقد سبق تأييده له من طريق الدين، بما فيه تحريف
ظاهر للقرآن المبين، وهو يرجو أن يكافئه الوفد إذا عادت له الكرة المرجوّة إلى
الحكم، ولهذا تجرأ على تهديد شيخ الأزهر في رده عليه، وسنبين خطأ ظنه في
موافقة الوفد له على إلحاده، وخيبة أمله في ازدلافه إليه بالباطل.
صفة الإلحاد الجديد في تفسير القرآن:
لهذا الضعف الذي وجدته في مقاومة شيخ الأزهر لهذا الإلحاد، ولما رأيته من
الضعف فيما نشر في الجرائد من إنكار هذا الإفساد - وجب عليَّ أن أبادر إلى بيان
ما ينبغي أن يعلمه المسلمون في هذه الفتنة الجديدة، بما لا تحوم حوله الشبهة، ولا
تدنو من قائله الظنة، وأنشره في الأهرام قبل نشره في المنار، وقبل أن يكثر
أنصارها من الجاهلين وأصحاب الأهواء الإلحادية والسياسية. فأقول:
(أولاً) إن هذه الحواشي (الهوامش) القليلة المبهمة لا يصح أن تسمى
تفسيرًا بوجه من الوجوه وخاصة ما سماه (تفسير القرآن بالقرآن) ؛ فإنه على
اعتماده فيه على فهمه الشاذ المخالف للغة والشرع - وهما مادة كل تفسير - يحيل
فيه عند أكثر الآيات التي يكتب شيئًا بإزائها على آيات متعددة وعلى سور كثيرة لا
يمكن أن تكون بمعنى الآيات أو الآية التي جعلها مفسرة لها، وقصاراه أن يكون في
بعضها مسألة منها، وأكثر الآيات لا يفسرها بشيء.
وقد فتحت المصحف الآن لأجل كتابة شاهد على ما قلت؛ فجاءت أمامي
سورة الجن، فإذا هو قد كتب في حاشيتها ما نصه:
(٦- ١٠) : اقرأ الصافات وتدبرها آية آية ثم الأعراف إلى ٣٨ و ٣٩ وما
بعدها إلى آخرها ثم سبأ وغافر وإبراهيم والأنعام ويس والشعراء ثم الإسراء
والكهف والحجر والرحمن والنمل وفصلت والذاريات وأواخر الأحزاب، ثم هود
والسجدة والناس، ثم الفاتحة ثم ١٤٦ و١٦٥-١٦٧ في البقرة. بعد هذا تفهم أنه
يطلق الجن والجِنة على الزعماء والمستكبرين من السادة المتبوعين، ويعبر عن
الإنس بسائر الناس المقلدين، والتابعين المستضعَفين. اهـ. بحروفه.
هذه الحاشية تقنع كل مَن له مسكة من العقل - أن كاتبها ليس له مسكة من
العقل، ولا شمة من العلم، وأنه لا يفهم ما يكتبه هو، فكيف يفهم كلام الله تعالى؟ !
الذي يتوقف فهمه على إتقان اللغة العربية، وسعة العلم بالعلوم الشرعية، وهو
لم يؤتَ منهما شيئًا له قيمة. أمر مَن يبتليه الله تعالى برؤية (هوامشه) أن يقرأ
عشرين سورة من السور الطوال والمئين وطوال المفصل ووسطه وقصاره بترتيب
معين، عطف بعضه بثم وبعضه بالواو، ثم بقراءة ثلاث آيات من البقرة بعد
قراءة الفاتحة وقال: (بعد هذا تفهم أنه (أي الله عز وجل) يطلق الجن والجنة
على الزعماء والمستكبرين من السادة المتبوعين، ويعبر عن الإنس بسائر الناس
المقلدين، والتابعين المستضعفين) .
إن في هذه العبارة من ضروب الجهل ما يربأ الإنسان بكرامة نفسه ويضن
بقيمة وقته أن يضيع شيئًا منه في شرحها وبيانها؛ إذ لا يوجد عامي ولا خاصي
يتوهم أن فيها شبهة على دعواه فنحاول ردها رحمة به، وحسب الأمي أن يفتش
في سورة الفاتحة التي يحفظها كل مسلم عن صحة دعواه التي لا نعرف في اللغة
اسمًا ولا وصفًا يليق بها. وإنما ذكّرني ذكره الفاتحة فيها ما استنبطه غلام أحمد
القادياني مسيح الهند الدجال من الدليل منها على مسيحيته، وما استنبطه منها أتباعه
من بقاء النبوة والوحي بعد خاتم النبيين، بل دعوى هذا المفسر الجديد أبعد عن
اللغة العربية من دعوى أولئك الأعجمين؛ لأنه أجهل بها منهم.
وأقول: (ثانيًا) إن ما ذهب إليه من تحريف آيات الله في الجن كما رأيت آنفًا
وفي الملائكة وفيما أيد الله به رسله من الآيات الكونية كعصا موسى وإحياء عيسى
للموتى وإبرائه للأكمه والأبرص بإذن الله تعالى وغير ذلك وزعم أن هذا من فهم
القرآن الذي تقتضيه علوم هذا الزمان - قد سبقه إليه ملاحدة الباطنية منذ أكثر من
ألف سنة، فليس هو مما أفاضته عليه فلسفة هذا العصر وعلومه المادية في شيء،
وعهدنا به أنه لا يعرف من هذه الفلسفة ولا من هذه العلوم شيئًا، إلا ما قد يراه في
بعض الصحف وقلما يفهمه. وقد كان أولئك الباطنية ممن حذفوا الفلسفة الطبيعية
والعقلية والعلوم الرياضية، وأتقنوا علوم اللغة العربية، كما يرى القارئ في كتاب
رسائل إخوان الصفا من كتبهم؛ ولذلك انخدع كثير من المتعلمين بدعايتهم التي
أرادوا بها تحويل الناس عن دين الإسلام بالانتقال البطيء من درجة في التأويل
لنصوص القرآن والحديث إلى درجة، ولم يفاجئوهم بمقصدهم دفعة واحدة.
ما أظن أن هذا الباطني الجديد قرأ شيئًا من كتبهم فسَرَتْ إليه دعوى الإلحاد
منها. فالذي أعلمه أنه لا يُعْنَى بمطالعة الكتب القديمة ولا الحديثة، ولكن لا يبعد
أن يكون قد لقي بعض دعاة البابية البهائية فهم ينشرون دينهم في مصر وفلسطين
وسورية، وكانوا ممنوعين من ذلك في عهد الدولة العثمانية.
ومما ينقل عنهم أن المراد بعصا موسى ما آتاه الله من القوة الروحية، ومن
إحياء عيسى للموتى إزالة جهل موتى القلوب بالعلم والتهذيب، ولكنهم مع هذا
يدَّعون ظهور لاهوت الرب في ناسوت المسيح تمهيدًا لمثل هذا في معبودهم البهاء؛
ولهذا قلت في العنوان: إن الدين الجديد الذي يبث دعايته مفسر دمنهور الجديد
هو وسط بين الباطنية والإسلام.
وأقول: (ثالثًا) إن ما يوجد في بعض هذه الحواشي وفي مقدمتها من المسائل
الصحيحة في الجملة: كسنن الله تعالى في خلقه، وتعظيم القرآن لشأن العلم والعقل
والبرهان، وهدمه لتقليد الآباء والأجداد في الإيمان وأصول الدين، وخطابه للأمة
بما يجعلها به متكافلة في تربيتها وسياستها وآدابها، وجعْله حكومة الأمة شورى بين
أولي الأمر وأهل الحل والعقد منها، وتكريمه للإنسان وإعلائه لشأنه بالتوحيد والعلم
وعزة النفس، وجعله الجزاء على الأعمال بقدر تأثيره في تزكية النفس، وموافقته
لمصالح البشر في كل زمان ومكان؛ لأنه دين الفطرة المكمل لها الجامع بين
مصالحها الجسدية والروحية - إن ما يوجد في مقدمته وبعض حواشيه من هذه
القضايا جُله أو كله مأخوذ من تفسير المنار ومن مجلة المنار أيضًا، يعلم ذلك كل
من يقرؤهما، ولكنه قد وضع بعض هذه القضايا في غير مواضعها، وحرّف كثيرًا
من الآيات عن مواضعها لإدخالها فيها، وسأبين هذا بالشواهد في مقال آخر. ومنه
يعلم أنه ربما لا يوجد في تفسيره كلمة حق قد انفرد هو بها.
ومن شاء أن يطلع على مآخذها صحيحة غير محرفة ولا مخالفة لقواعد الدين
ولا لفصيح اللغة فليراجعْها في مظانها من فهارس أجزاء التفسير العشرة، كلفظ
سنن الله، وسنن الاجتماع، والإسلام، والقرآن، والجزاء، ولا سيما الفصول
التي نلخص بها مسائل كل سورة في أبواب أصول الدين وفروعه وقواعد الاجتماع
وسنن العمران.
تنقُّل هذا الملحد في إلحاده بالتدريج:
وأقول: (رابعًا) إن هذا الرجل قد عُرف بالولوع بالشذوذ وحب الشهرة في
مخالفة جماعة المسلمين في أمور، له في بعضها وجه ما من المسائل العلمية، ثم فيما
ليس له وجه حتى في مخالفة العقائد القطعية، وتحريف نصوص القرآن الإجماعية،
فأول ما عرف به من ذلك أنه لا يكاد يصلي إلا بنعليه، والصلاة بالنعلين جائزة
إذا كانتا طاهرتين أو خاليتين من الخبث ولكنها ليست واجبة، وهي - في الغالب-
منافية للنظافة إن لم نقل للطهارة، وإنما كانوا يصلون بنعالهم في العصر الأول؛
لأنهم كانوا يصلون على التراب، لا على الحصير أو البساط. ثم حكي لنا عنه أنه
لا يتوضأ في السفر ولو من بلده إلى غيرها من بلاد وطنه، بل يصلي بالتيمم دائمًا
مع وجود الماء وإنما التيمم رخصة بشرطه لا عزيمة.
ثم إنه لما زار المدينة المنورة وعاد منها إلى مكة سنة ١٣٤٤ لأجل أداء
فريضة الحج - لم يُحْرم من ميقاتها الذي كان يحرم منه رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه، وهو (ذو الحُليفة) ، فشذّ دون جميع مَن كان معه من المسلمين.
ولا حاجة إلى بسط شبهته والجواب عنها هنا وقد شددت عليه النكير فيها بالمشافهة
في وقتها.
ثم إننا سمعناه يرفع عقيرته في المؤتمر الإسلامي العام في مكة المكرمة في
مسألة عملية ظننت أنها شذوذ جزئي من جهله بالفقه، ثم تبين الآن أنها فرع لأصل
من أصول دينه الجديد؛ ذلك أنه عندما بحث أعضاء المؤتمر في اقتراح إنشاء سكة
حديدية بين جدة ومكة المكرمة تُؤخذ نفقاتها من ضريبة يفرضها ملك الحجاز على
الحجاج وامتنع الملك ابن السعود من ذلك؛ بأنه لا يحل له فرض هذه الضريبة -
ادعى هو أنه يحل له ذلك، و (الإسلام لا يمكن أن يمنع الإصلاح) ، فأخذ يرفع
عقيرته ويصيح في المجلس بهذه القاعدة التي لا تدل على جواز إكراه الملوك للناس
على دفع أموالهم لأمثال هذا الإصلاح وقد بسطت حكم الشرع في هذه المسألة في
المؤتمر، بما لم ينكره أحد من أعضائه كما أنكروا عليه قاعدته المخترَعة، وكان
الأستاذ الظواهري من حاضري تلك الجلسة.
ثم جهر في نادي جمعية الشبان المسلمين بتحريف كلام الله تعالى في مسألة
عرش ملكة سبأ، فقام الناس في وجهه وأهانوه.
ثم ألَّف رسالة في الزواج أنكر فيها التسري وملك اليمين بما هو أبعد عن
اللغة والشرع والتاريخ من كل تلك الجهالات وهو مما خالف فيه الإجماع المعلوم
من الدين بالضرورة، وقد احتدمت في إنكاري عليه؛ حتى لم يعد يزورني منفردًا!
ثم كتب مقالة ونشرها في جريدة من جرائد الوفد الشهيرة - أراد التقرب بها
إليه والزلفى عنده بأقبح من كل ما تقدم من الجرأة على العبث بكلام الله تعالى،
جعل عنوانها قول الله عز وجل: {يَوْمَ نَحْشُرُ المُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً} (مريم:
٨٥) ، أراد أن يُثْبت فيها أن الآية تصدق على جماعة الوفد الذين ذهبوا إلى
لندن للمفاوضة في عقد المعاهدة بين مصر وإنكلترة، وسخر فيها من علماء
المسلمين في تفسيرهم للتقوى، كما سخر من أئمة الحديث والتفسير في رواية سحر
اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم، فعبر عنهم بوصف المسلمين بما يشعر أنه ليس
منهم، ولا يليق بمن يطالب بحرية الرأي والفهم أن يسخر من هؤلاء الأئمة فيما
يخالفهم فيه.
وبلغني أنه كان يكلم بعض أنصار الوفد - الذي رآه يستحسن مثل هذا الإلحاد
والتحريف لكتاب الله - في مكافأة الوفد له على هذه الخدمة، فأجابه بأنه يجب عليه
أن يصبر؛ لأن حالة الأمة الإسلامية الآن لا تساعد على ذلك! .
فهذا الاستدراك الذي ذكرناه هو الذي جرَّأه على أن يطبع كتاب الله مسخمًا
حواشيه بما ذكر وبما هو أبعد في الضلال وأوغل في الإلحاد من كل ما ذكر،
وعلى أن يهدد فضيلة شيخ الأزهر بأنه إنما أمر بمصادرته لما فيه من التصريحات
السياسية المخالفة لحكومة مصر الحاضرة.
نعم؛ إن فيه شيئًا كثيرًا مما ذكره، بعضه صحيح وبعضه باطل، والقصد
منه سياسي ظاهر، وهو أن يجعله الوفد - عندما تعود السلطة إليه -إمام المسلمين
في دينه الجديد، الذي يتوهم أنه هو الموافق لحال هذا العصر والواقع أنه إلحاد
قديم.
وأنا أعتقد أنه هو القاضي على جميع آماله هذه؛ فإن أكبر زعماء الوفد من
المسلمين متدينون فعلاً لا سياسةً، يصلون ويصومون ويَدينون الله بما هو مقرر في
كتب أهل السنة والجماعة من العقائد والعبادات، وفي مقدمتهم الرئيس الجليل
مصطفى باشا النحاس، ومحمد نجيب باشا الغرابلي، وفتح الله باشا بركات، وحمد
باشا الباسل، وكل منهم أحسن منه فهمًا للقرآن؛ لأن لهم من علم اللغة وغيرها ما
ليس له. فكيف يرضى أحد منهم أن يجعله إمامًا له، أو يجهل أن تكريمهم إياه
يُسقط مكانتهم من نفوس الأمة؟ !
وأقول: (خامسًا) إن أهل السنة والجماعة وغيرهم من الفرق الإسلامية
مجمعون أن مَن جحد شيئًا مجمعًا عليه معلومًا من الدين بالضرورة يُحكم بكفره
وارتداده عن الملة الإسلامية ولا يقبل منه تأويل إلا إذا تاب وأناب.
وفي هذه الحواشي عدة مسائل جحد كاتبها فيها ما ذكر، ومهد لها السبيل وقدم
لها الاحتجاج بما ذكره في مواضع كثيرة من حرية الاعتقاد، ولكن ما فاته في
اعتقاده لا يمنع علماء المسلمين أن يبينوا لهم أن عقيدته غير عقيدتهم، وأن يحثوا
الحكومة على منعه أن يشوه كتاب الله وينشر تحريفه بينهم، ولا يمكن لأية
حكومة مصرية أن تخالفهم في هذا، ولا يرضى أحد من زعماء الوفد المسلمين
بهذا، وحتى القبط منهم فلا يعرضون لهذه المسألة بوجه من الوجوه.
جحد هذا الملحد للمجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة:
وأقول: (سادسًا) إن أفظع ما خالف به إجماع المسلمين فيما هو معلوم من
دين الله بالضرورة إجازته عصيان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرأي
والمصلحة فيما كتبه عند قوله تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ
بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ
أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: ٦٣) ، فقد كتب عندها ما نصه:
(عن أمره) : يفيدك أن المخالفة هي التي تكون للإعراض عن أمره وأما
التي تكون للرأي والمصلحة فلا مانع منها، بل هي من حكمة الشورى. اهـ.
بحروفه. فإطلاقه جواز المخالفة للرسول بهذه العلة يشمل السنن العملية والقولية،
القطعي منهما والظني.
فهذه القاعدة من قواعد هذا الدين الجديد تبطل من قواعد الإسلام وجوب تقديم
النص على الرأي والاجتهاد المبني على الرأي ودعوى المصلحة، وجميع علماء
القوانين الوضعية موافقون للمسلمين فيها. (على أنه يعني بالرأي الهوى لا القياس
الفقهي؛ لأنه لا يعرفه) ومن فروع هذه القاعدة ما رفع به عقيرته في المؤتمر
الإسلامي بمكة المكرمة، وهو يقتضي أن كل ما أخذه إسماعيل باشا من أموال الأمة
المصرية بأنواع الضرائب والمغارم كان جائزًا شرعًا؛ لأنه أخذه باسم إصلاح
مصر وجعْلها مدينة أوربية!
ومما يتعلق بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وخالف فيه المسلمين -قوله
في تفسير: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) - ما نصه (ص٦٨) :
(جعل أُولي الأمر مع الرسول في الطاعة لاعتباره رئيس حكومة شورية
تنفذ قانون الله، وكل رئيس ينفذ حكم الله له هذه الطاعة) !
والمقرر عند المسلمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يطاع لرسالته لا
لرياسته، وهو مقتضى تعلق الحكم بالمشتق؛ فقد كانت طاعته واجبة منذ بعثته
وقبل أن تكون لأمته حكومة، وهي عامة فيما يتعلق بمصالح الحكومة وما لا يتعلق
بها، فلو أمر أي مؤمن أمرًا خاصًّا بشؤونه الشخصية وجب عليه امتثال أمره. وقد
قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} (الأحزاب: ٦) وليس لكل
رئيس حكومة هذه الأولوية.
وقد سبقه بعض الملاحدة إلى ادعاء أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
إنما كانت واجبة؛ لأنه رئيس الحكومة وأن هذه الطاعة قد سقطت بعده، وأنها
واجبة لكل رئيس حكومة من ملك أو أمير أو سلطان.
وكان بعض رجال النيابة المصرية ألقى محاضرة في هذا الموضوع منذ بضع
عشرة سنة - قرر فيها أن السنة النبوية كانت شريعة مؤقتة خاصة بعصر الرسول
صلى الله عليه وسلم.. إلخ ورددت عليه ردًّا مفصلاً في مجلة المنار. والمشهور
عن هذا المفسر الجديد أنه لا يحتج بالسنن القولية، وقد ظهر من تفسيره هذا أنه لا
يبالي بالسنن العملية أيضًا، وقد احتج عليه الشيخ عبد الجليل والشيخ العدوي بإقامة
النبي صلى الله عليه وسلم حد الزنا على ماعز والغامدية باعترافهما به مرة واحدة،
فلم يمنعه ذلك من إصراره على القول بأن الحد لا يقام إلا على مَن اعتاد الزنا
وأصر عليه واشتهر به!
ومما أجمع عليه المسلمون وعُلم من الدين بالضرورة - الآيات الكونية التي
أيد الله تعالى بها رسله عليهم السلام على ظواهرها من نصوص القرآن وكذلك ما
في معناها من آيات الله التي وردت في القرآن مطلقة وهو يحرف تلك الآيات كلها
بما هو جحد صريح لما أجمعوا عليه ولا يحتمل النص سواه، وشبهته في هذا كله
أن ظواهر هذه الآيات مخالفة لسنته تعالى في نظام الخلق، وهو يتأول الآيات
القطعية الدلالة في ذلك بما تتبرأ منه اللغة والتاريخ وإجماع أهل الملل كاليهود
والنصارى مع المسلمين. وهذه المسألة قد ذكرها كل مَن رد على هذا الإلحاد إجمالاً،
وذكرناها في القولة الثانية من مقالنا هذا عرَضًا، وسأذكر عبارته في عصا
موسى وإحياء عيسى للموتى وإبرائه للأكمه والأبرص بإذن الله وفي قوله تعالى:
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} (المؤمنون: ٥٠) مع أدلة بطلانها لغةً وشرعًا وعقلاً
وتاريخًا، وأبين جهله بمعنى سنن الله تعالى، وبمعنى كونها لا تبديل لها ولا
تحويل، وألزمه الحجة بما يُعرف في العالم بالمشاهدة في كل زمن من وقوع أمور
مخالفة للسنن المعهودة في نظام الخلق، ومنها ما قرأناه اليوم في بعض الصحف من
ولادة امرأة في إسبانية بضع بنات سليمات الأبدان، وغير ذلك مما يسميه الماديون
(فلتات الطبيعة) ، دَعْ جهله الذي حمله على تقييد قدرة الله ومشيئته وحكمته بما
يسميه هو أو غيره من الناس - سننًا إلهية أو طبيعية وجهله بكون واضع السنن هو
فوق السنن.
وأختم هذا المقال المجمل بأن ما انفرد به من هذه الحواشي التي سخم بها
المصحف الكريم - هو مجموعة جهالات وسخافات، يظن أن ما مهده لها من
تجهيل الأمة الإسلامية من عصر النبوة إلى هذا العصر وزعمه أنه لم يفسر القرآن
منهم أحد تفسيرًا صحيحًا، وأن هذه المنقبة قد ادُّخِرت له - سيتلقاه كثير من الناس
بالقبول، ويكون به مؤسس دين جديد بين البهائية والإسلام، وأن الوفد المصري
سيرفع به قدره بين الأنام، وقد ظن مثل هذا الظن مَن سبقه إلى إنكار حكومة
الإسلام، وهو يفوقه بشيء من أدب اللغة وخلابة الكلام، فخاب ظنه، وسيكون هو
أشد خيبة وأسوأ عاقبة منه.
فأدعوه بعد هذا البيان الوجيز إلى التوبة إلى الله تعالى والبراءة من هذا
الإلحاد، وأنبئه بأن الباطنية قد ألفوا كتبًا كثيرة، وأسسوا جمعيات قوية، وسفكوا
دماءً غزيرة، بل أسسوا خلافة ودولة في مصر وغيرها (دولة العُبَيديين التي
أسست الجامع الأزهر والمشهد الحسيني) ، كل ذلك لإقناع المسلمين بتأويلاتهم
الباطلة للقرآن؛ فخاب سعيهم، وحفظ الله كتابه من إلحادهم، وقد بقي لهم أتباع في
غير مصر التي كانت مركز خلافتهم، فهل يمكن أن تتبع مصر مثله فيما هو
أسخف من تأويلاتهم، ولا قوة له في علم ولا حكمة، ولا عصبية ولا مال؟ !
كلا، فليعتبر بتلك العاقبة، وإلا فلينتظر سوء الخاتمة، وخسران الدنيا قبل
الآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وإني له لمن الناصحين، والعاقبة للمتقين.
***
المقالة الثانية
السرقة والتزوير في دعوى التفسير
وعدت في المقال الأول الذي نشرته الأهرام بأن أبين في مقال آخر أن ما
أورده الملحد في مقدمة (هوامشه) من مزايا القرآن الصحيحة قد سرقها كلها من
تفسير المنار، ثم ادَّعاها لنفسه بالزور والبهتان، وجعلها في المقدمة لأجل الإعلان،
وإيهام الناظر فيها أنها مما فاق به جميع المفسرين من (الهداية والعرفان) ؛ إذ
زعم أنهم هدموا بتفاسيرهم جميع أصول القرآن (كما في الصفحة الثانية منها) وقد
قال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي أوجب الله اتباعه لرسالته، لا لرياسته
- كما زعم هذا الملحد المبيح لمخالفته -: (المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبَيْ زور)
متفق عليه.
وقد كان من رأيي - الذي أفضيت به إلى فضيلة شيخ الأزهر - أن لا يُنشر
عن هذه الضلالة والجهالة شيء في الجرائد يُشعر بأن لهوامشه قيمة أو تأثيرًا ولو
في الكفر؛ لئلا يكون ذلك وسيلة لإعلانها، وما يبغيه مبتدعها من الشهرة والربح
منها، ولأجل هذا وحده لم أسبق غيري إلى الرد عليها، وأرجو أن تكون مقالتي
الأولى كافية لإقناع مَن قرأها بأن هذه الهوامش التي سميت تفسيرًا للقرآن بالقرآن
- ليس فيها من حقيقة هذه التسمية شيء، فلا هي مساعدة للمسلم على فهم القرآن،
ولا قوية التأثير في تشكيكه في الإيمان، ولا هي تصلح بسخفها شبهة للملحدين
والمبشرين على الصد عن الإسلام؛ لأن ما فيها من التحريف سخيف لا يقبله
الخواص ولا العوام.
ولكنني أخشى أن يظن من يطلع على مزايا القرآن في مقدمتها أن تلك
الهوامش شرح لها، وأنها مما امتازت به على غيرها، فيرتكب جريمة اقتناء هذا
المصحف المشوه المحرف لأجلها. فأنا أبين في هذا المقال بعض المواضع التي
سرقها منها؛ ليعلم الناس بطلان ما أوهمه في مقدمته، وما صرح به لمندوب
الأهرام في حديثه الذي نشره له - من أنه لم يعتمد في فهمه القرآن على تفسير أحد
من المتقدمين ولا من المتأخرين، وإنما هو علم استفاده من نظره وسياحاته في
العالمين.
ولا أدري ما حكم هذه السرقات الكثيرة في دينه الجديد؟ ! هل تثبت بها
الجريمة العلمية الأدبية عليه لتعدد ما ارتكبه منها كما قال في حكم الزاني والسارق؟
أم هي مباحة عنده وإن كان مرتكبها كاذبًا في دعواه، ومزورًا غاشًّا للناس؟
شر آرائه الإلحادية في مقدمة تفسيره:
كل ما في مقدمته من معنى صحيح قبل ذكر المزايا وبعدها - فهو مسروق من
تفسير المنار أيضًا ولكنه مقترن ببعض آرائه الفاسدة وقواعد دينه المبتدع أو التمهيد
له، وشره وأعرقه في الافتراء وإبطال ثقة المسلمين بدينهم ما يأتي:
(أ) قوله: (وقد بلغ الدس والحشو في التفاسير أنك لا تجد أصلاً من
أصول القرآن إلا وتجد بجانبه رواية موضوعة لهدمه وتبديله) وقد فرَّع على هذه
الفِرْية الطعن بجميع المفسرين وكتبهم، وكتب اللغة التي يعتمدون عليها.
(ب) زعمه أنه قرأ في بعض المسائل خمسين تفسيرًا فرآها كلها متفقة
يرجع أصلها (إلى رواية مكذوبة أو رأي ميت لا يصح أن يكون تفسيرًا لكلام الله)
وقد أثبت قبل هذا أن من عيوب التفاسير رد بعضها على بعض، فإذا اتفق مع هذا
خمسون منها على بعض المسائل لرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أو بعض
الصحابة صحت عندهم أو رأي لبعض الأئمة قوي دليله - فكيف يقبل المسلمون
طعنه فيهم كلهم وزعمه أن الرواية مكذوبة وهو من أجهل الناس بعلم الرواية، أو
زعمه أن رأي من مات من أئمة المفسرين لا يصح أن يكون تفسيرًا للقرآن؟ وهل
كتب تفسيره هو ليعمل به الناس ما دام حيًّا فقط؟ !
(ج) زعمه أن معنى كون القرآن متشابهًا هو (تحمّله لاختلاف الآراء
والأنظار في كل زمن أي أنه من تعدد المعنى يتشابه ويختلف على الناظرين) وهذا
الإطلاق فاسد؛ لأنه يشمل العقائد وأصول الدين وحدود الله وقواعد أحكامه، وهي
كلها قطعية ومقتضى كلامه أنه ليس فيها شيء قطعي، وهو يناقض قوله في حاجة
الناس إلى الدين. وأما الذي قررناه في التفسير ولم يفهمه فهو أنه يوجد في القرآن
آيات في الخلق والتكوين والأدب والتاريخ وغير ذلك - تحتمل كل منها معاني قد
يظهر منها في كل زمان ما يدل على أنها من عند الله تعالى، وتجد بيان هذا في
الوجه السابع من وجوه إعجاز القرآن (صفحة ٢١٠، جزء أول) .
(د) زعمه أنه لا يضر الناس اختلافهم في فهم القرآن (ما داموا يرجعون
إلى المحكمات من الأصول والأمهات، أي يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون
الصالحات) ، فقد حصر أصول الدين المحكمة في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل
الصالح، ولم يجعل منها الإيمان بالرسل وما أيدهم الله به من المعجزات، وغيرها
من أصول العقائد وقواعد الأحكام. وهذا أصل من أصول دينه الجديد الذي يريد به
هدم الإسلام.
أكتفي الآن بهذه الأباطيل مجملة، وأذكر عبارته في المزايا العشرين بلفظه
على ما فيها من الضعف والإدماج والتكرار، وأبين بعض مآخذها من تفسير المنار
بالاختصار وأتحرى أن يكون أكثر الشواهد على هذه المآخذ من الجزء الأول منه. فأقول: ...
مزايا القرآن العشرين
من مقدمته مميزة بوضع خطوط فوقها
(١) بلاغة الأسلوب الذي يقوّم به الإنسان لسانه وقلمه، وبه يبلغ ما يريد
من نفس السامع. اهـ.
هذه المزيَّة مقتضبة من بحث (بلاغة القرآن) في الصفحات (٢٠١ و٢٠٢
و٢٣٠ من جزء التفسير الأول. ومنها قولنا - في آخر ص ٢٠٢ وأول ما بعدها -:
(الحد الصحيح للبلاغة في الكلام هي أن يبلغ به المتكلم ما يريد من نفس
السامع بإصابة موقع الإقناع من العقل، والوجدان من النفس) !
(٢) خطاب جماعة الأمة في الأحكام الاجتماعية بما يجعل الأمة متضامنة
في الأعمال؛ فيظهر مسئوليتها ويقرر سلطتها. اهـ.
بينا هذه القاعدة في مواضع من تفسير المنار؛ فأنت ترى في فهرس الجزء
الأول منه (الأمم) تكافلها ووحدتها، ص ٣٠٩ و٣٢٢ و٣٨٤.. إلخ ومما جاء في
ص٣٢٢ ما نصه: (وما جاء الخطاب بهذا الأسلوب إلا لبيان معنى وحدة الأمة
واعتبار أن كل ما يبلوها الله من الحسنات والسيئات، وما يجازيها به من النعم
والنقم - إنما يكون لمعنى موجود فيها يصح أن يخاطب اللاحق منها بما كان للسابق
كأنه وقع به؛ ليعلم الناس أن سنة الله تعالى في الاجتماع الإنساني أن تكون الأمم
متكافلة، يعتبر كل فرد سعادته بسعادة سائر الأفراد وشقاءه بشقائهم، ويتوقع نزول
العقوبة به إذا فشت الذنوب في الأمة وإن لم يواقعها هو {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال: ٢٥) وهذا التكافل في الأمم هو المعراج
الأعظم لرقيها؛ لأنه يحمل الأمة التي تعرفه على التعاون على الخير والمقاومة
للشر؛ فتكون من المفلحين.
(٣) تعقيب الآيات بما يناسبها من صفات الله كعليم وحكيم.. إلخ.
راجع هذه المسألة بعينها في ص ٤١٦ من الجزء الأول، ولو شئت لذكرت
نصها ونصوصًا أخرى من غيره، ولكن جميع المفسرين يبينون هذه المناسبات.
(٤) تعظيم شأن العقل وجعْله أساسًا لفهم الأحكام وسير الأمور والأعمال.
اهـ.
هذه القاعدة مبينة في مواضع كثيرة من تفسيرنا وقد قلنا في بيان الأصول
والقواعد الشرعية العامة المستنبطة من سورة البقرة من الجزء الأول ص ١٢١ ما
نصه:
(القاعدة ٣٣) بناء أصول الدين في العقائد وحكمة التشريع على إدراك
العقل لها واستبانته لما فيها من الحق والعدل ومصالح العباد، وسد ذرائع الفساد..
إلخ، وذكرت بعض آيات الشواهد. وفي ص٢٥٠ منه ما نصه: ولذلك جاء
القرآن يلح أشد الإلحاح بالنظر العقلي والتفكر والتدبر والتذكر، فلا تقرأ منه قليلاً
إلا وتراه يعرض عليك الأكوان ويأمرك بالنظر فيها.. إلخ وفيه بعض آيات
الشواهد.
(٥) إعلاء النفوس وإعزازها بتوحيد الله وعدم الذلة للمخلوق. اهـ.
هذه القاعدة مبينة في مواضع كثيرة جدًّا من أجزاء تفسيرنا، أولها في تفسير
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: ٥) من الجزء الأول قولنا (ص٦٠) :
ما أفاده الحصر من وجوب تخصيص الاستعانة بالله تعالى وحده فيما وراء
ذلك (أي ما قدمناه من استفراغ القوة في الاستقلال من طريق الأسباب) وهو روح
الدين وكمال التوحيد الخالص الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الأغيار
ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين، والشيوخ الدجالين، ويطلق عزائمهم
من قيد المهيمنين الكاذبين من الأحياء والميتين، فيكون المؤمن مع الناس حرًّا
خالصًا وسيدًا كريمًا، ومع الله عبدًا خاضعًا {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً
عَظِيماً} (الأحزاب: ٧١) .. إلخ.
(٦) تقرير حرية الاعتقاد والقضاء على الرياسة الدينية حتى يكون
الخضوع في الدين لله بوازع من النفس لا بالضغط والإكراه. اهـ.
هاتان مسألتان لا مسألة واحدة، فأما حرية الاعتقاد ومنع الإكراه في الدين فقد
بيناها في عدة مواضع وذكرناها في قواعد سورة البقرة العامة بقولنا في (ص ١١٦
من الجزء الأول) :
(القاعدة العشرون) (حرية الدين والاعتقاد ومنع الاضطهاد الديني ولو
بالقتال حتى يكون الدين كله لله، ومنع الإكراه على الدين) .. إلخ وفيه بعض آيات
الشواهد على القاعدة.
وأما مسألة القضاء على الرياسة فإنما تصح إذا أريد بها سيطرة رجال الدين
الرسميين على الناس في فهمهم للدين كما هو معهود في بعض الملل وهذه مبينة في
مواضع كثيرة من تفسير المنار ومجلة المنار ومنها ما ذكرناه آنفًا في مأخذ
المزية الخامسة مما ذكره هو. وقد بسطها الأستاذ الإمام في (كتاب الإسلام
والنصرانية مع العلم والمدنية) .
(٧) رفع شأن الإنسان بالمساواة بين جميع الطبقات وجعْل الامتياز للأتقى
. اهـ.
هذه المسألة مبيَّنة في مواضع كثيرة من تفسير المنار أيضًا أولها ما في مقدمة
التفسير (ص٢٩) من بيان أخوة المسلمين من جميع الأجناس وفيها الاستشهاد بآية
الحجرات {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: ١٣) وقول النبي صلى الله عليه وسلم
- في خطبة حجة الوداع -: (يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، لا فضل لعربي
على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على
أسود إلا بالتقوى، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: ١٣) ، ألا هل
بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فليبلِّغ الشاهد الغائب) وذكرنا بعد هذا ما
حدث من العصبية الجنسية في المسلمين وما كان من مفاسدها.
(٨) هدم التقليد الذي يقضي على استقلال الفكر ويُضعف الاستعداد الفطري
في البحث والاستنتاج:
قد حققنا هذه المسألة في مواضع كثيرة من أجزاء التفسير ومن المنار أيضًا.
وجعلتها القاعدة الثالثة عشرة من قواعد سورة البقرة (ص١١٤) ، فتجد في فهرس
الجزء الأول منه ما نصه: التقليد.. بطلانه وذمه (صفحة ٢٤ و ٣٢ و٦٨ و١٠٨
و١١٤ و١٧٣ و١٧٨ و١٨٠ و٢٠٣ و٣٠٦ و٣٩٥ و٤٢٥ و٤٢٩ و٤٤٨ و٤٨٩
و٤٩١) .
(التقليد التجرد منه لطلب اليقين بالبرهان) ٤٤١.
(كونه كفرًا بنعمة الفطرة والدين وخروجًا من نورهما) ١٨٥ و٣٩٥.
(٩) الجزاء على العمل بمقدار تأثيره في النفس لا بالفدية والشفاعة. اهـ.
هذه المسألة ما رأيت أحدًا سبقني إلى بيانها بمثل ما بسطته في مواضع كثيرة
من التفسير، منها ما ذُكر مع مسألة الشفاعة والفداء. ومنها ما ذكر مع تفسير آيات
أخرى ليست مقرونة بعدم الاتكال على الشفاعة والفداء، ومن الأول تفسير قوله
تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ
مِنْهَا عَدْلٌ} (البقرة: ٤٨) وهو في ص٣٠٥ من الجزء الأول وما في معناها
وهو آية (١٢٣) ، ومن الثاني تفسير: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} (آل
عمران: ٢٥) من الجزء الثالث ص٢٦٨ بما نصه: بأن رأت ما عملته محضرًا
موفًّى لا نقص فيه؛ فكان منشأ الجزاء، ومناط السعادة أو الشقاء، دون الانتماء
إلى دين كذا أو مذهب كذا أو الانتساب إلى فلان وفلان من النبيين والصالحين. إلا
أنهم يرون يومئذ أن الجزاء يكون بشيء في داخل نفوسهم لا من شيء خارج عنها،
يكون بما أحدثته أعمالهم فيها من الصفات الحسنة أو القبيحة ومقدَّرة بقدر ذلك..
إلخ.
(١٠) بيان السنن العامة وهي النواميس والأنظمة الطبيعية، بالبحث فيها
يفهم القدر والميزان، وينكشف العلم ويزداد الإيمان. اهـ.
هذه المسألة مما امتاز بها تفسيرنا أيضًا، وتجدها مفصلة في كل جزء منه.
ففي فهرس الجزء الأول وحده ما نصه:
سنن الله المطَّردة في الكون: ص٢٣ و٣٦ و٥٨ و٦١ و٧١ و٢٤٢ و٢٥٩
و٣٤٤ و٤١٣ و٤٢٣.
سنن الله في نظام الاجتماع البشري ١١ و٢٤٢ وما بعدها و٣٣٦ و٣٤٤.
وأما سنن الله تعالى في الكائنات التي يفهم منها معنى القدر فهي مكررة فيه،
وقد جعلتها الأصل السادس من الأصول العلمية والعملية في تلخيص سورة الأنفال،
وتجده في صفحة ٢٨٦ من الجزء الثامن، وراجع في هذا الجزء وزن الأعمال
أيضًا. (ص ٣١٩) .
(١١) هيمنته على الكتب بالحكم على الأبحاث الفلسفية وتقرير الصحيح
من المذاهب وجمع الناس كلهم على طريقة مرضية تجمع خلاصة الكتب ولا تفرق
بين أحد من الرسل. اهـ.
هيمنة القرآن على الكتب الإلهية من أعظم مزاياه وهو نص قوله تعالى في
سورة المائدة بعد ذكر التوراة والإنجيل {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة: ٤٨) ، وهو لم يتكلم عليها في مكانها
بشيء وفي تتمتها حكمة اختلاف الشرائع، وهي مسألة أخرى، وقد بينا معناهما
في تفسير الآية بما لم نَرَ ما يدانيه في التفاسير المعروفة (راجع صفحة ٤١٠-
٤٢٠ من الجزء الرابع) وعدم التفريق بين الرسل مسألة أخرى بيّنها جميع
المفسرين؛ لأنها من أصول عقائد الإسلام.
وتكلمنا على هيمنة القرآن على الكتب الإلهية في مباحث إعجازه أيضًا، ومنه
الفصل في الخلاف بيننا وبين أهل الكتاب، وتحقيق الحق في مسائل طعن ملاحدة
أوربة في كتابة التوراة وكتب الأنبياء بعد فقدها بإحراق بختنصر لهيكل سليمان ...
بما لا تجد له نظيرًا في غير المنار وتفسيره، وأول موضع ذكرت فيه هذه المسألة:
(النوع السابع) من إعجاز القرآن من صفحة ٢١٢-٢١٥ من الجزء الأول
وآخره الفصل الاستطرادي الذي عنوانه: (هيمنة القرآن على التوراة والإنجيل
وشهادته لهما وعليهما) وهو في صفحة ٣٤٢ من الجزء العاشر.
(١٢) ذكر ما فيه الفائدة والعبرة من القصص والحوادث. اهـ.
هذه عبارة مبهمة قاصرة يجد قارئ تفسيرنا أول بسط لها في صفحة ٣٢٧ من
الجزء الأول ويرى لها شواهد متعددة في مواضعها من الأجزاء الأخرى مفصلة
تفصيلاً، ومنها ما في صفحة ٢٠١ و٤٦٤ من الجزء الثاني وما في الفصل الذي
عقدناه عقب ذكر قَصَص الرسل من سورة الأعراف بعنوان: (سنن الله وحكمه في
هذه القصص وأمثالها والاعتبار بها) وهو في صفحة ١٤ من الجزء التاسع.
(١٣) هدايته العامة وأحكامه المنطبقة على مصلحة كل شعب في كل زمان
ومكان. اهـ.
هذه المَزِيَّة قد بيناها في مواضع كثيرة من أجزاء التفسير، تارة بالإيجاز
والإجمال، وتارة بالإسهاب والتفصيل، مثبتين أنه لا يمكن الاستغناء عن هدايته
وأحكامه بما هو خير منها أو يغني عنها، راجع في ذلك صفحة ٢٢١-٢٢٤ من
الجزء الأول وبحث (الرجاء في اهتداء الإفرنج بالإسلام) في ص٣٥٨-٣٦٢ من
الجزء العاشر، وفي الصفحة الأخيرة منها التصريح بمثل عبارته وقد سبقها
تصريحات كثيرة. وأما هو ففي حديثه الذي نشرته الأهرام ما يدل على أن سبب
تحريفه لآيات القرآن وحملها على غير ما عمل به الرسول الذي أنزلت عليه صلى
الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وسائر أئمة المسلمين - هو زعمه أن حال
الزمان والمكان تقتضي ذلك؛ فهو إذًا لا يقول بظاهر هذه القاعدة، بل يقول بضدها
وهو أنه لا يمكن العمل بأحكام القرآن إلا بما حرفها هو به حتى في الحدود القطعية.
(١٤) تشابُه معانيه؛ ليتسع مجال الإفهام فيه. اهـ.
قد بينا آنفًا مراده الباطل من هذه الجملة، في الكلام على مسألة حرف (ج)
وهو قد قلب بها ما كتبناه في هذه المسألة في أواخر صفحة ٤٣٥ من الجزء الأول
وهو: وهذا الضرب من البيان مما امتاز به القرآن على سائر الكلام؛ فإنك لَترى
فيه فنونًا من الاستدراك والاحتراس، قد جاءت في خلال القصص وسياق الأحكام،
تقرأ الآية في حكم من الأحكام أو عظة من المواعظ، أو واقعة تاريخية فيها عبرة
من العبر - فتراها مستقلة بالبيان، ولكنها باتصالها بما قبلها قد أزالت وهمًا، أو
تممت حكمًا، وكان ينبغي لأهل العربية أن يقتبسوا هذا الضرب من البيان،
ويتوسعوا به في أساليب الكلام؛ فإن القرآن قد أطلق لهم اللغة من عقالها، وعلَّمهم
من الأساليب الرفيعة ما كانت تستحليه أذواقهم، وتنفعل له قلوبهم، وتتحرك به
أريحيتهم، ولكنهم لم يوفقوا لاقتباس هذه الأساليب الجديدة.. إلخ.
(١٥) تكريره المسائل ومزْجه القصص بالأحكام لينفخ روح الهداية بصور
مختلفة والنفوس تتأثر بالشيء بمقدار تكريره وتجديد ذكره. اهـ.
هذه المسألة مما بسطته في مواضع كثيرة من تفسير المنار ولم أطَّلع لأحد
على كلام فيها، وأخصر عبارة لي فيها ما في صفحة ١٢١ من الجزء التاسع:
(اعلم أن وضع هذه الآيات الواردة في الترهيب والترغيب، والإنذار والتبشير، في
سياق الآيات الواردة في قصة أُحُد - هو من سنة القرآن في مزج فنون الكلام
وضروب الحِكَم والأحكام بعضها ببعض.. إلخ.
وفي صفحة ٢٠١ من الجزء العاشر في التكرار ما نصه:
والتكرار الذي يقتضيه المقام أعظم أركان البلاغة؛ لأنه أعظم أسباب إقناع
العقل والتأثير في الوجدان.
(١٦) بناؤه الحكومة على الشورى وتقريره سلطة الأمة للقضاء
على الاستبداد وحكم الفرد الذي يُضعف الإرادة ويولد النفاق والجبن. اهـ.
شرحت هذه القاعدة من قواعد التشريع الإسلامي شرحًا واسعًا في تفسير:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: ١٥٩) ومن سورة آل عمران (٣: ١٥٩)
من الجزء الثاني (ص١٩٨) وفي تفسير آية طاعة (أولي الأمر) في سورة
النساء (٤: ٥٨) وهي من صفحة ١٨٠-٢٢٢ من الجزء الخامس وفيها تفصيل
الكلام على أولي الأمر وأهل الحل والعقد الذين يمثلون سلطة الأمة، ومقارنة ذلك
بالمجالس النيابية في هذا العصر.
وأما الاستبداد وظلم الملوك وإفساده للأمة وإذلاله لها فقد بسطته في مواضع
كثيرة أولها ما في تفسير: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: ١٢٤) من
سورة البقرة (٢: ١٢٤) وهو في ص٤٥٦-٤٥٩ من الجزء الأول. ولعل آخرها
ما عبرنا عنه في فهرس الجزء العاشر بقولنا: (الملوك والرؤساء، وإفسادهم
للأخلاق بتقريبهم لأهل النفاق) ص٥٣٩.
(١٧) تخييره الإنسان بين الانتقام بالعدل من المسيء والعفو بما تدعو إليه
المصلحة، حتى تنتشر العزة في النفوس، ويذوق كل امرئ لذة فضله وجهاده.
اهـ.
هذه المسألة مبينة في مواضعها من جميع التفاسير وتجدها في تفسير:] فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا [من سورة البقرة (ص٤٢٠ من الجزء الأول) وفي تفسير: {وَأَعِدُّوا
لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: ٦٠) في سورة الأنفال (ص٦٣ ج
١٠) وفي مواضع أخرى منه كالمقابلة بين الإسلام والنصرانية.
(١٨) نظامه الاجتماعي وتأسيسه على الفضيلة وحسن المعاملة. اهـ.
هذه جملة مبهمة تدخل في قواعد كثيرة من قواعد نظام الإسلام الاجتماعي
التي بيناها في مواضع كثيرة من تفسيرنا، منها تفسير آية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً} (البقرة: ١٤٣) وآية معاملة اليتامى بما فيه إصلاحهم، وكلاهما في
الجزء الثاني. وفي آخرها ثماني قواعد اجتماعية في حكم الإسلام تدخل في ذلك
أيضًا.
ومن أهمها ما بسطناه في حكمة تحريم الربا في الجزء الثالث وهو أن الإسلام
دين عدل ورحمة وفضيلة وهو في صفحة ١٠٦-١١٧ ثم في صفحة ١٢٣-١٣١ م
الجزء الرابع. (ومنها) ما ذكرناه في شكل الحكومة الإسلامية وفي نظامها المالي
أصلاً أو استطرادًا، ومن مباحثها ما تقدم آنفًا في المزيتين ١٦ و١٧.
(١٩) كتاب يؤاخي العلم، ويسير مع الفطرة، يقنع العقل بالحجة، ويؤثر
في النفس بالموعظة الحسنة. اهـ.
هذه أربع مسائل لا مسألة واحدة، وقد تقدم ذكر المسألة الثالثة والرابعة منها
في بيان مأخذ المزية الأولى من تحديدنا لمعنى البلاغة من التفسير، وكذا في بيان
مأخذ المزية الرابعة وهي تعظيم شأن العقل، وهما مشروحتان في مواضعهما
المناسبة من أجزاء التفسير، وأما مؤاخاته للعلم فهي مشروحة في مواضع كثيرة من
التفسير والمنار، وفي كتاب الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية وكذا رسالة
التوحيد لشيخنا الأستاذ الإمام، وهو صاحب الفضل الأول في تقرير هذه الحقيقة،
وأول موضع فصلتها فيه من التفسير (الوجه السادس) من وجوه إعجاز القرآن
وهو (عجز الزمان عن إبطال شيء منه) ، وفيه الرد على مَن زعم أن فيه شيئًا
معارضًا بشيء ثبت بدليل علمي قاطع، وهو في صفحة ٢٠٧ من الجزء الأول ويليه
الوجه السابع من وجوه إعجازه وهو (اشتماله على تحقيق كثير من المسائل العلمية
الكونية والتاريخية كانت مجهولة للبشر) وترى في أول الكلام على الإسلام من
فهرس الجزء العاشر ما نصه: إظهار الله إياه على جميع الأديان بالحجة والبرهان
والهداية والعرفان، والعلم والعمران، والسيادة والسلطان (صفحة ٣٨٩) .
وأما كوْنه دين الفطرة بمعنى موافقته لها، وتقويمه إياها، وكونه للنوع
البشري كالعقل لأفراده - فهو مبين في مواضع كثيرة أيضًا سيأتي بعضها بنصه في
الكلام على المزية العشرين التالية. وتعبير هذا السارق والمزور عن ذلك بالسير
مع الفطرة مبني على زعمه الإلحادي جواز تحريفه للقرآن، وتغيير أحكامه لموافقة
المبتدعين في هذا الزمان.
وقد شرح الأستاذ الإمام معنى الفطرة البشرية وما كان عليه البشر قبل بعثة
الرسل وشرع الدين في تفسير قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (البقرة: ٢١٣) بما لم يَحُمْ حوله أحد من المحققين،
وتجده في الجزء الثاني من التفسير (من ص٢٧٦- ٣٠١) .
(٢٠) كتاب يجمع بين صلاح الروح والجسد فيضمن للناس سعادة الدنيا
والآخرة. اهـ.
وقد سبق فيما مرّ من مآخذ بعض هذه المزايا بعض الشواهد على المسألة
وهي كثيرة جدًّا جدًّا في تفسيرنا، بعضها تفسير للآيات المناسبة لها وأظهرها قوله
تعالى في سورة البقرة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة: ١٤٣) وهي في
أول الجزء الثاني كما تقدم - ومنها في الشواهد، وقد بيناها في قواعد سورة البقرة،
فجعلنا أهلها القسم الأول من المهتدين بالقرآن ثم قلنا في القواعد (القاعدة ٢٢)
إن من شأن المسلمين طلب ما هو لازم للإسلام من سعادة الدنيا والآخرة معًا كما
تقدم في القاعدة الأولى.
وإنما تتحقق الغايات ولوازم الأمور بطلبها والسعي لها. فليس من هداية
الإسلام أن يترك المسلمون الدنيا ومعايشها وسياستها ويكونوا فقراء أذلاء، تابعين
للمخالفين لهم من الأقوياء، ولا أن يكونوا كالأنعام؛ لا همّ لهم إلا في شهواتهم
البدنية، وكالوحوش التي يفترس قويها ضعيفها، وهذا الجمع بين الأمرين مقتضى
الفطرة، والإسلام دين الفطرة، ثم ذكرت بعض الشواهد.
وأنت إذا نظرت كلمة الدين من فهرس الجزء الأول تجد فيه بحث اقتضائه
السعادة في ستة عشر موضعًا مبينة بأرقام صفحاته، وتجد مع هذا في حرف السين
(سعادة الدارين تابعة لآثار اعتقاد الإنسان وعمله في تزكية نفسه) .
وقد قال هذا السارق المزور في التفسير - بعد هذه المزية (٢٠) ما نصه -:
(هذا، وإن القرآن بهذه المزايا جدير بالعناية، ولتعلم أن الله تعالى سماه
قرآنًا؛ ليُقرأ على الدوام ليكون خلقًا وملكة في النفس، لا ليكون كالقوانين تراجَع
مواده عند الطلب. وإن في دوام القراءة تجديد الأفهام الداعية إلى إحياء العلم وبث
الهداية) . اهـ.
وهذه الخاتمة مسروقة من تفسير المنار أيضًا، ولكنه أساء بجعْل سبب العناية
بالقرآن محصورًا فيها؛ لأنه لم يتيسر له سرقة غيرها من المزايا الاعتقادية
وغيرها، أو لأنها لا توافق دينه الجديد، وهذا إذا كان يعلم أن قوله: (إن القرآن
بهذه المزايا جدير بالعناية) يدل على الحصر على أنه قال في كلامه على السنة:
(إن القرآن دستور فيه كل شيء من أصول القوانين) .
وأما المواضع التي سُرقت منها هذه العبارة فهي في تفسير المنار كثيرة، بل
هي أول ما قررته في فاتحة التفسير من الجزء الأول، فقد أوردت بعد البسملة
آيات في وصف القرآن وهدايته في صفحتين ونصف صفحة وقلت بعدها ما نصه:
(أما بعد: فيا أيها المسلمون، إن الله أنزل عليكم كتابه هدى ونورًا؛
ليعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم، ويُعدّكم لما يَعِدكم به من سعادة الدنيا والآخرة،
ولم يُنزله قانونًا دنيويًّا جافًّا كقوانين الحكام، ولا كتابًا طبيًّا لمداواة الأجسام، ولا
تاريخًا بشريًّا لبيان الأحداث والوقائع، ولا سِفرًا لوجوه الكسب والمنافع؛ فإن كل
ذلك مما جعله تعالى باستطاعتكم، لا يتوقف على وحي من ربكم، وهذا بعض ما
وصف الله تعالى به كتابه في محكم آياته (إشارة إلى الآيات السابقة) ، تدبرها
سلفكم الصالح واهتدوا بها؛ فأنجز الله لهم من سعادة الدنيا قبل سعادة الآخرة ما
وعدهم ... (وههنا أوردت بعض هذه الوعود القرآنية) .
ولنا فتوى في حكمة إنزال القرآن أوردنا فيها ٢٤ آية من أمثال هذه الآيات
و١٥ حديثًا في معناها، وهي (ص٢٥٨ من مجلد المنار الثامن) .
ثم قلت - بعد زهاء صفحتين - ما نصه:
صلحت أنفس العرب بالقرآن؛ إذ كانوا يتلونه حق تلاوته في صلواتهم
المفروضة، وفي تهجدهم وسائر أوقاتهم، فرفع أنفسهم، وطهرها من خرافات
الوثنية المذلة للنفوس المستعبِدة لها، وهذب أخلاقها، وأعلى هممها، وأرشدها إلى
تسخير هذا الكون الأرضي كله لها، فطلبت ذلك فأرشدها طلبه إلى العلم بسننه
تعالى فيه من أسباب القوة والضعف، والغنى والفقر، والعز والذل، فهداها ذلك
إلى العلوم والصناعات.. إلخ.
ثم قلت: إنما يفهم القرآن ويتفقه فيه مَن كان نصب عينيه ووجهة قلبه في
تلاوته في الصلاة وغيرها ما بيّنه الله فيه من موضوع تنزيله، وفائدة ترتيله،
وحكمة تدبره، من علم ونور، وهدى ورحمة، وموعظة وعبرة، وخشوع وخشية،
وسنن في العالم مطردة، فتلك غاية إنذاره وتبشيره، ويلزمها عقلاً وفطرة تقوى
الله تعالى بترك ما نهى عنه وفعل ما أمر به بقدر الاستطاعة؛ فإنه كما قال:
{هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: ٢) .. إلخ.
(فإن قيل) : ألا يصحّ أن يكون صاحب هذه الحواشي التي سماها تفسيرًا
بما سرقه من تفسير المنار من مزايا القرآن بالحق، مع ما أورده فيها من إلحاد
الزنادقة وتأويل الباطنية الباطل - ممن خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا؟
(قلت) : لا، بل هو ممن خلطوا الكفر بالإيمان ومثله في تفسيره مثل
المنافقين الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ
المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (التوبة: ١٠٧) .
فلا يجوز لمن يَدين بالإسلام - أو باليهودية أو النصرانية أيضًا - أن يقتني
هذا المصحف المحرف لكتاب الله، الذي يجعل أصول الإيمان كفرًا؛ فإن اقتناءه
شر من اقتناء كتب الكفر والإلحاد الأخرى، ومَن وافقه على ما فيه من مخالفة
أصول الدين، واتباع غير سبيل المؤمنين - فهو مرتد عن الإسلام، وبريء من
جميع الأنبياء، لا يختلف في هذا عالِم من علماء المسلمين، ولا من علماء أهل
الكتاب؛ فإنه جحد معجزات موسى وعيسى عليهما السلام، وكون السيدة مريم
العذراء وابنها آية من آيات الله بحملها به من غير أن يمسها بشر.. إلخ. وسنزيد
ذلك بيانًا في المقال الثالث إن شاء الله تعالى.
(موضوع المقال الثالث (أصول دينه الجديد) وهي خمسة ومقدماتها التمهيدية له وهي خمسة) .
((يتبع بمقال تالٍ))