للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول


كان يا ما كان
(٤)
بعد ما صَعَدت السيارةُ الثالثة إلى العلاء، هبطت السيارة الرابعة من السماء؛
تريد بيع (العمر الطويل) بالثمن القليل؛ ليتمتع الناس بما اشتروه من السيارات
السالفات، من النعم السابغات، وهي الذكاء والفطانة، والعفة والاستقامة، والصحة
والعافية، وكفى بها نعمة ضافية، ولم تكن تعلم ما قوبلت به بضاعتهن من الكساد،
وماذا حلّ بهن من الطرد والإبعاد، فوقفت في مكان فسيح، ونادت بكلام فصيح: يا
أصحاب العقل والفكر! هل لكم في (طول العمر) ؟ فقد أُمرت بأن أبيعه لمن أراد
بشرط الأهلية والاستعداد، فهرع الناس إليها، وتكأكأوا عليها حتى صار يموج
بعضهم في بعض، كأنهم في يوم العرض، وطمع أحد الأغنياء باحتكار هذه
البضاعة لنفسه، والاستئثار ببيعها دون أبناء جنسه، فأرسل وكيل أشغاله، وكبير
عمّاله، يساوم السيارة بجميع التجارة، ولمّا عَلِم الناس بذلك، ضاقت بهم المسالك؛
لعلمهم بما وراء هذا الاحتكار، ومن أنواع المِحَن والمضار، وناهيك بطمع التجار؛
فوقع القيل والقال، وحمي وطيس النزاع والجدال، ولما علمت الحكومة أن الجدال
أوشك أن يفضي إلى الجلاد، وأن الاسترسال في المحادة سينتهي بالسيوف الحداد،
حكمت على مثير الفتنة بالإعدام؛ لإخلاله بالراحة والأمن العام، وأمرت بأن تباع
هذه البضاعة للناس بالسواء؛ لأنها من حقوق الدهماء كالماء والهواء، لا فرق فيها
بين الأغنياء والفقراء، ولا بين الصعاليك والأمراء، فانحسمت أسباب الضغينة،
وثابت إلى الناس السكينة، وطفقوا يساومون الفتاة، طالبين طول العمر والحياة،
وعلت الجلبة والضوضاء من الرعاع والغوغاء، فهذا يقول: أعطيني أعطيني،
وهذا يقول: أنا جئت أولاً، وأخر يقول: أنا أزيد، فقالت السيارة: قد كشفت
لكم عن الحقيقة حجاب الالتباس، حيث قلت لكم: لا يفوز بالمراد، إلا صاحب
الأهلية والاستعداد، فصاح بها الناس أجمعون: إننا أيتها الفتاة لمستعدون، فقالت:
عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، ثم أنشأت تمتحنهم فقالت السيارة: هل
اشتريتم من بضائع رفيقاتي اللاتي جئن من قبلي؟
- الناس: ما هي تلك البضائع؟ ومن هن رفيقاتك؟
- السيارة: منهن واحدة جاءت تبيع الذكاء والفطانة - الناس: هذه لم نشتر
منها شيئًا، وقد طردتها نِظَارة.
- السيارة: منهن واحدة جاءت تبيع الذكاء والفطانة.
- الناس: هذه لم نشتر منها شيئًا، وقد طردتها نِظَارة
المعارف العمومية.
- السيارة: أسامحكم بهذه، فهل اشتريتم من بضاعة الثانية، وهي العفة
والاستقامة؟
- الناس: وهذه لم نشتر منها أيضًا، وقد طردتها نِظَارة الحقانية.
- السيارة: والثالثة جاءت لتبيع الصحة والعافية.
- الناس: قد أتينا لنشتري من هذه، فجاء التُّرَبيّة وخطفوا صندوقها، ثم احتال
عليها الأطباء فأخذو ما إلى المستشفى ولا ندري ماذا فعلوا بها.
السيارة: الحق أقول لكم: إنني غير مأذونة بأن أبيعكم شيئًا من بضاعتي،
وما أردت بالاستعداد والأهلية، إلا هذه الصفات المُرضية، ثم ما هي لذة طول
العمر بدون الذكاء والفطنة، ومع فَقْدِ العفة والاستقامة، والصحة والعافية، ألا إن
الموت خير من الحياة التعيسة بفقد هذه الصفات النفيسة، على أن طول العمر
مع عدم الصحة والعافية مُحال، كما أن الصحة مع فقد العفة غاية لا تُنال.
((يتبع بمقال تالٍ))