للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

أسئلة من عالم راخو فتسا برزرين
في يوغوسلافية - أوربة
(تأخرت سهوًا وقد سبق لنا بيان أكثرها)
(س١ - ١٠) من الفقير العاجز يحيى سلامي ألاييكي إلى السيد الجليل
ملجأ الباحثين، وملاذ الناقدين، مفتي الأنام، شيخ مشايخ الإسلام، الشيخ محمد
رشيد رضا صاحب مجلة المنار الأغر الأعلى الإسلامي بمصر.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد أتيح لي أن أسأل حضرتكم عن
حقيقة المسائل الآتي ذكرها، وأسترشد بدلالتكم وإرشادكم إلى صحيح الجواب الذي
هو هدي القرآن والسنة النبوية.
١- ما معنى قول الله عز وجل في حق إدريس عليه السلام: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً
عَلِياًّ} (مريم: ٥٧) الآية؟ هل إدريس في قيد الحياة أم لا؟
٢- أكان معراج نبينا صلى الله عليه وسلم إلى السموات وإلى ما شاء الله
جسمانيًّا أم لا؟ وما معنى {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ} (الإسراء: ٦٠) ؟
٣- هل كان الطوفان على قوم نوح عليه السلام فقط أو لجميع العالم؟ وما
معنى قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ} (هود: ٤٤) ؟
٤- ما هي حقيقة طير الأبابيل الواردة في سورة الفيل؟
٥- هل جملة (من زار قبري وجبت له شفاعتي) حديث صحيح أم لا؟
٦- (القناعة كنز لا يفنى) هل هي من الأحاديث الصحيحة الواردة، وما
معنى القناعة، أيمكن أن يكون مفهومها الاقتصاد بتعبير هذا العصر؟
٧- أتأكل الأرض أجساد الأنبياء والأولياء وحفاظ القرآن الكريم، أم لا كما
هو مشهور عند العامة بعدم أكلها، وقد روى الفقيه أبو الليث السمرقندي في كتابه
(تنبيه الغافلين) في باب فضل الجمعة حديثًا مسندًا بهذا الشأن؟
٨- كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة، والخلفاء الراشدون
بعده، والأصحاب والتابعون رضوان الله عليهم؟
٩- رجل رضع ثدي امرأته ما حكمه في الشرع هل تحل له أم لا؟
١٠- (الجعة) ما حكمها في الشريعة السمحة؟
... ... ... ... ... ... ... ... ... راخو فتسا
... ... ... ... ... ... ... ... ... (يوغوسلافيا)
أجوبة المنار
(١) رفع إدريس عليه السلام:
قال الحافظ البغوي في تفسير: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِياًّ} (مريم: ٥٧) قيل:
هي الجنة، وقيل: هي الرفعة بعلو الرتبة في الدنيا، وقيل: إنه رُفع إلى السماء
الرابعة، وروى أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه رأى إدريس في السماء الرابعة ليلة المعراج اهـ. وذكر بعد هذا عن
كعب الأحبار قصة إسرائيلية في رفعه وسببه، وهي من قصصه الخرافية، وممن
رواها عنه ابن عباس رضي الله عنهما، فلا يعتد بها. قال العماد ابن كثير بعد
إيرادها في تفسيره: (هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات، وفي بعضه نكارة،
والله أعلم، وعزاه إليه الحافظ ابن حجر في الفتح أيضًا.
والقول الأول، وهو تفسير المكان العلي بالجنة، مروي عن الحسن البصري،
وهو لا يعارض بحديث المعراج فإن الأنبياء الذين رآهم النبي صلى الله عليه وسلم
في ليلة المعراج قد ماتوا في أزمنتهم ودفنوا، إلا ما ورد في عيسى عليهم السلام،
وقد ورد أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى في تلك الليلة في قبره
بالكثيب الأحمر من فلسطين، فهذه أمور روحانية غيبية لا نعلم كنهها، وقد قال الله
تعالى في الرسل عليهم السلام: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: ٢٥٣)
والظاهر أن إدريس مات في الدنيا كغيره، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وكون
إدريس رفع وهو حي لم يثبت من طريق مرفوعة قوية.

(٢) المعراج جسماني أم روحاني:
الخلاف في هذه المسألة مشهور يذكرونه في القصة التي يقرءونها في الاحتفال
الذي يجتمع له الناس في ليلة ٢٧ رجب من كل عام، والروايات فيه متعارضة
متناقضة، والجمهور على أنه بالروح والجسد؛ لأن الإنسان روح في جسد، وفي
اليقظة لأن جمهور المحدثين حكموا بغلط رواية شريك في كتاب التوحيد من صحيح
البخاري في كونه رؤيا منامية، وهي في أمر من أمور عالم الغيب فلا تقاس على
عالم الشهادة، والمعقول في فهمها أن تكون الروحانية هي الغالبة على الجسمانية
فيها، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيها كالملَك حين يتمثل في صورة جسدية
كما تمثل جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم مرارًا، وكما تمثل للسيدة مريم عليها
السلام، وكما تمثل غيره من الملائكة لإبراهيم صلى الله عليه وسلم، وبهذا التقريب
يزول كل إشكال في فهمها؛ فإن الروح إذا غلب سلطانها على الجسد تلطفه فيخف
ويكون كالأثير الذي يفرضه علماء الكون في نفوذه من الكثائف، وتقطع به المسافات
الشاسعة بسرعة النور أو أسرع من الأثير، نقول هذا على طريقة التقريب للفهم،
وعالم الغيب لا تُعرف أسراره وتتجلى أنواره، إلا لمن زُجّ فيه.
وأما قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء:
٦٠) فمعناه: وما جعلنا الرؤيا المنامية التي أريناكها في المنام إلا بلاءً واختبارًا
للناس في دينهم، ظهر بها تمرد المشركين الكافرين، وزلزال الضعفاء ويقين
المؤمنين، وليس في القرآن بيان لهذه الرؤيا أوضح من قوله تعالى من سورة الفتح:
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (الفتح: ٢٧) الآية، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل -
ومعه أصحابه - المسجد آمنين فطافوا بالبيت وحلقوا وقصروا، وكانت هذه
الرؤيا سبب عمرة الحديبية المشهورة فصدَّهم المشركون عن دخول مكة وعقدوا
معهم ذلك الصلح الذي ساء جمهور المسلمين، وكادوا يعصون الرسول صلى الله
عليه وسلم إذ أمرهم بالتحلل من عمرتهم بالحلق أو التقصير، لولا أن ثبتهم الله
تعالى وأنزل عليهم السكينة، وهذا التفسير للرؤيا رواه ابن مردويه عن ابن عباس
رضي الله عنه.
ولكن هذه الواقعة كانت سنة ست من الهجرة، والآية في سورة الإسراء وهي
مكية، فقيل: إن الله تعالى أراه ذلك وأخبره به في مكة ثم كان تأويله بعد الهجرة،
وكثيرًا ما يقولون في مثل هذا: إن الآية مدنية ووضعت في هذه السورة لمناسبتها
لها، وهو على الوجهين خلاف الظاهر.
وفسرها بعضهم بالرؤيا التي ذُكرت في سورة الأنفال: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي
مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} (الأنفال:
٤٣) وما ورد في سياقها في الحديث من أن الله أرى نبيه صلى الله عليه وسلم
مصارع رؤسائهم في الكفر، وهذه كانت بعد الهجرة أيضًا ولكن ورد أنه صلى الله
عليه وسلم ذكرها في مكة قبل الهجرة فهزئ به كفار قريش، وفي الصحيح أن سعد
ابن معاذ أتى مكة عقب الهجرة وقبل وقعة بدر فنزل على صديقه في الجاهلية أمية
ابن خلف وكان مما أخبره به قوله: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إنهم قاتلوك - يعني المسلمين - قال: بمكة؟ قال: لا أدري، ففزع أمية لذلك
فزعًا شديدًا، وفي رواية أنه قال له: إنه قاتلك - يعني النبي صلى الله عليه وسلم -
وإن أمية قال: فوالله ما يكذب محمد. ولما دعاهم أبو سفيان للخروج إلى بدر
امتنع أمية من الخروج خوفًا من القتل لاعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم
لا يكذب وإن أخبر عن المستقبل، فما زال به أبو جهل حتى خرج وقُتل.
وفسَّرها الجمهور بما جاء في حديث الإسراء من افتتان بعض الناس به
بارتداد بعض ضعفاء الإيمان وخوض المشركين في إخباره صلى الله عليه وسلم بما
هو غير معقول خلافًا لعادته، واحتج به من قالوا: إن ذلك كان رؤيا منام. ورواه
ابن إسحاق عن معاوية بن أبي سفيان، وهو صريح رواية شريك في البخاري،
والجمهور على خلافه، وقد حكموا بغلط شريك لشذوذه عما رواه الكثيرون كما تقدم،
وقالوا: إن لفظ الرؤيا قد يُطلق على ما يُرى في اليقظة ليلاً، وقيل: مطلقًا، ولا
يعرف له نقل، إلا ما روى البخاري عن عكرمة عن ابن عباس في تفسيرها: أنها
رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، واللفظ صريح في
أن المراد بها شيء أراه الله تعالى إياه في تلك الليلة لا نفس الإسراء، ولهذا قال
الحافظ في شرحها: إنه لم يصرح بالمرئي، وذكر عن سعيد بن منصور عن
طريق أبي مالك: هو ما أُري في طريقه إلى بيت المقدس، أي ومنه أنه رأى عيرًا
لهم قد ضلت وجمعها فلان، فالإشكال في هذه الرواية محصور في إضافة الرؤيا
إلى العين، وهو خلاف استعمال القرآن والأحاديث الكثيرة وما نقل رواة اللغة،
والآية صريحة في أن هذه الرؤيا كانت فتنة للناس لا بعض ما شاهده صلى الله
عليه وسلم في ليلتها، وهذا المكان لا يتسع لتحرير هذا البحث.
وفسَّرها بعضهم بما روي من رؤيته صلى الله عليه وسلم كأن بني أمية
يتعاورون على منبره، وقد كان ملك بني أمية مثار أكبر الفتن في الإسلام، وقد
عرفت رأي الجمهور.
(٣) طوفان نوح:
ظاهر القرآن أنه كان على قوم نوح فقط لأنه عقاب لهم، وهل كان يوجد
على الأرض غيرهم من البشر حتى يكون لهذا السؤال وجه من النظر؟ قد يقال:
إنه لم يكن يوجد غيرهم بدليل قوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ
مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا} (نوح: ٢٦) وهذه الدلالة غير قطعية، فإن كل قوم يطلقون
لفظ الأرض على أرض وطنهم كقوله تعالى: {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ
لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} (الإسراء: ٧٦) فالمراد بالأرض هنا أرض مكة، ولهذا
أمثال.
والتحقيق في المسألة أنه ليس في القرآن نص قطعي على أن الطوفان عمَّ
الأرض كلها؛ ولكنه هو الذي جرى عليه المفسرون وغيرهم بناء على أنه ظاهر
الآيات في القصة كان عليه جميع أهل الكتاب، ولا يوجد دليل قطعي ينقض هذا
الظاهر الظني فنحتاج إلى تأويله، وما يقوله علماء الجيولوجية قد يرد على
نصوص التوراة التي تحدد تاريخ نوح والطوفان بحد قريب، إذ يجزمون بأن
الأرض كانت فيه على ما هي عليه اليوم بالتقريب، والقرآن لم يحدد تاريخ التكوين
والبشر ببضعة آلاف من السنين كسفر التكوين، بل قال الله تعالى فيه: {مَّا
أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} (الكهف: ٥١) فعلى هذا
يحتمل أن يكون الطوفان قد وقع منذ مئات الألوف أو ألوف الألوف من السنين، إذ
كانت اليابسة التي نتأت في الكرة المائية صغيرة، والجبال فيها قليلة غير شامخة،
فطبيعتها كانت قابلة لمثل هذا الطوفان، وجاء في المواقف عن الإمام الرازي أن
هذه الأرض كانت مغمورة بالمياه بدليل ما يُرى في رؤوس الجبال من الأصداف
البحرية، وكذا الأسماك المتحجرة، وهذا متفق عليه عند علماء الكون في هذا
العصر. والجودي المكان أو الجبل الذي استوت عليه السفينة، وليس في الكتاب
ولا في الأحاديث المرفوعة تعيين مكانه؛ لأن العبرة لا تتوقف عليه.
وللأستاذ الإمام فتوى في أن عموم الطوفان هو ظاهر النصوص لا مدلولها
القطعي، وإننا لا نعدل عن القول بالظاهر إلا إذا قام دليل قطعي على خلافه، ولما
يقم هذا الدليل عندنا وهذه الفتوى منشورة في المنار في تاريخ الأستاذ الإمام.

(٤) حقيقة الطير الأبابيل:
ليس عندنا دليل نقلي عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم نعرف به
حقيقة تلك الطير؛ ولكن جاء في الأخبار التاريخية التي كانت العرب تتناقلها أن
أصحاب الفيل الذين جاءوا لهدم بيت الله تعالى في مكة أصابهم وباء الجدري
والحصبة فأهلكهم.
فالظاهر أن تلك الطير الأبابيل أي الجماعات هي التي حملت إليهم جراثيم
هذا المرض بصفة وبائية، إذ رمتهم بحجارة من سجيل وهو الطين المتحجر، وقد
روي أنها جاءت من البحر، فيظهر أنها كانت ملوثة بسم المرض من مستنقع في
شاطئه فأصاب أبدانهم من جروح أحدثتها بها أو كانت فيهم، واختلطت بطعامهم
وشرابهم، وجوَّز شيخنا في تفسير السورة أن تكون تلك الطير من الأحياء الصغيرة
التي تسمى في عرف أطباء هذا العصر بالميكروبات، فراجعوا عبارته في تفسير
جزء عم.
(٥) حديث (من زار قبري وجبت له شفاعتي) :
رواه ابن عدي في الكامل، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر، وكذا ابن
خزيمة وفي سنده عبد الله بن عمر العمري، قال أبو حاتم: مجهول، وموسى بن
هلال البصري، قال العقيلي: لا يصح حديثه، ولهذا قال ابن القطان: فيه
ضعيفان، وقال النووي: ضعيف جدًّا.
(٦) (القناعة كنز لا يفنى) :
يُروى بلفظ (القناعة مال لا ينفد وكنز لا يفنى) رواه الطبراني في معجمه
الأوسط، وقال الحافظ الذهبي: سنده ضعيف، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله
ابن عمرو: (قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنعه الله بما أعطاه) وفي معناه عند
الترمذي والنسائي في الكبير من حديث فضالة بن عبيد (طوبى لمن هدي إلى
الإسلام وكان عيشه كفافًا وقنع به) صححه الترمذي. والقناعة ضد الطمع فهي
عبارة عن رضاء الإنسان بما يصيبه من الرزق قلَّ أو كثر، وعدم طمعه فيما ليس
له واستشرافه لما في أيدي الناس، هذا هو التحقيق، واقتصر بعض العلماء في
تفسيره على الاجتزاء باليسير من أعراض الدنيا؛ لأن من رضي بالقليل كان
بالكثير أرضى، وقد يكون الاقتصاد في المعيشة سببًا للقناعة، بل قال أبو حامد
الغزالي في الإحياء: الاقتصاد في المعيشة هو الأصل في القناعة، ونعني به الرفق
في الإنفاق، وترك الخرق فيه اهـ.
(٧) أجساد الأنبياء والصالحين بعد موتهم:
إن سنة الله تعالى في أجساد البشر واحدة في حياتهم وموتهم؛ وإنما يمتاز
الأنبياء على غيرهم بما هو خاص بمعنى النبوة وما يتعلق بها لقوله تعالى لرسوله:
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف: ١١٠) الآية، وقوله له تلقينًا
لجواب طلاب الآية منه: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} (الإسراء:
٩٣) ومن ثم يذكر العلماء في كتب العقائد أنه يجوز على الأنبياء طروء
الأعراض البشرية عليهم من المرض والتعب والجوع والعطش والنوم والموت
والقتل؛ لأن ذلك لا يخل بوظيفة الوحي ولا بالتبليغ له، ومثلها الجسد، ولكن ورد
في غير الصحاح أحاديث آحادية في أن أجساد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا
تأكلها الأرض، أمثلها حديث أوس بن أوس في فضل يوم الجمعة الذي فيه أن
الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم تُعرض عليه، قال أوس: قالوا: يا رسول الله،
كيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ - يعني بليت - قال: (إن الله عز وجل
حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) رواه أحمد في مسنده وأبو داود
والنسائي والبيهقي في الشعب، وفي رسالته (حياة الأنبياء) وغيرهم، وقد صححه
بعضهم وحسنه آخرون منهم المنذري، لكن قال الحافظ السخاوي بعد أن أورد
تصحيحهم وتحسينهم ما نصه: قلت: ولهذا الحديث علة خفية، وهي أن حسينًا
الجعفي راويه أخطأ في اسم جد شيخه عبد الرحمن بن بديد حيث سماه جابرًا وإنما
هو تميم، كما جزم به أبو حاتم وغيره، وعلى هذا فابن تميم منكر الحديث، ولهذا
قال أبو حاتم: إن الحديث منكر وقال ابن العربي: إنه لم يثبت؛ لكن رد هذه العلة
الدارقطني وقال: إن سماع حسين من جابر ثابت، وإلى هذا جنح الخطيب، والعلم
عند الله تعالى.
وهنالك أحاديث أخرى ثلاثة منها بمعنى هذا الحديث ولكنها دونه في السند،
ومنها ما هو في تبليغ الملائكة إياه صلى الله عليه وسلم من يصلي عليه، وقد
تكلمنا عليها في أواخر المجلد الثامن من المنار صفحة (٩٠٣ - ٩٠٩) وقد قلت
فيها: إنها في مجموعها تدل على أن الأنبياء أحياء في البرزخ؛ ولكن هذه الحياة
غيبية لا نعرف حقيقتها، وليست هي كالحياة في هذه الدنيا، كما حققه ابن القيم في
كتاب الروح، وغيره من المحققين ... إلخ.
وجملة القول: إن هذه المسألة ينظر فيها من وجهين:
(أحدهما) : أنها من مسائل الإيمان بعالم الغيب فهي اعتقادية، وما يجب
اعتقاده والإيمان به لا يثبت إلا بالنصوص القطعية الرواية والدلالة، وليس فيها
نص ظني راجح فضلاً عن القاطع.
(وثانيهما) : أنها من مسائل المناقب والفضائل التي يقبلون فيها الروايات
الظنية ولا يأبون إثباتها بما دونها من الضعاف، وبهذا النظر قبل بعض العلماء ما
روي فيها وإن كان معلولاً، وحينئذ يقال في كون معناها مخالفًا لسنن الله تعالى في
الأجساد: إنها تنظم في سلك خوارق العادات، وإذ كانت ليست بعقيدة واجبة ولا
يترتب عليها عمل فلا حرج على من صدَّقها ولا على من أنكرها؛ ولكن بعض
العلماء أدخلوا فيها القياس وهي مما لا يُقاس عليه ولو ثبت، فقالوا: إن جميع
الأولياء والشهداء كالأنبياء في هذه المنقبة، وزاد آخرون: العلماء والمؤذنين
والمحتسبين، ويتساهل في كتابة هذا المؤلفون المقلدون السطحيون والخرافيون
كأبي الليث السمرقندي، وينقلون فيها حكايات سبقهم إلى مثلها النصارى في
شهدائهم وقديسيهم. وإن التسليم بهذه الخرافات وعدم إنكار العلماء لها قد كان فتنة
للعقلاء المستقلين، منفرًا لهم عن الدين، وقد نبش بعض رجال الحكومة التركية
اللادينية الحاضرة بعض قبور الأولياء المعتقدين عند العامة أمام الجماهير منهم
فأروهم بأعينهم أنه ليس فيها إلا عظام نخرة، واستدلوا بهذا على أن الدين كله
خرافات باطلة، فما يتساهل فيه الخرافيون لتقوية إيمان العوام، قد يفضي إلى هدم
إيمان الخواص والعوام.
(٨) صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة:
كان الصحابة يسعون إلى المسجد يوم الجمعة متنافسين في التبكير ما
استطاعوا، فيصلي كلٌّ ما تيسر له، فإذا جاء وقت الصلاة خرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم من بيته إلى المسجد وابتدر المنبر، وحينئذ يؤذن المؤذن بين يديه،
فإذا فرغ من أذانه قام صلى الله عليه وسلم وخطب الناس خطبتين يفصل بينهما
بجلسة خفيفة، ثم ينزل فيصلي بالناس الجمعة، فإذا فرغ انصرف إلى بيته فصلى
فيه ركعتين، وخرج المسلمون كذلك فانتشروا في الأرض يبتغون من فضل الله كما
أمر الله تعالى، وقد بيَّنا الروايات في هذا مرارًا، وهكذا كان الخلفاء يصلونها، إلا
أن عثمان رضي الله عنه زاد أذانًا خارج المسجد لإعلام الناس بالوقت؛ لأنهم
كثروا وكثرت شواغلهم.
(٩) حكم من رضع ثدي امرأته:
رضاع الرجل الكبير لا تثبت به البنوة؛ فإن جماهير السلف والخلف على أن
الرضاعة المُحرِّمة ما كانت في الصغر، إذ يكون مدار نمو البدن على الرضاع
الذي أشير إليه في الأحاديث بأنه ما كان من المجاعة، وقبل الفطام والفصال، وما
فتق الأمعاء في الثدي، أي في أيام الثدي، وهي سنتان عند الجمهور، وسنتان
ونصف عند أبي حنيفة وهنالك أقوال أخرى متقاربة، ولا معارض لذلك إلا حديث
عائشة في مسألة سالم مولى أبي حذيفة، فإنه كان يدخل على امرأته وهو صغير،
وكان عبدًا له فأعتقه، فلما بلغ الحُلم صار يشق على أبي حذيفة دخوله على أهله
فذكرت زوجه سهلة بنت سهيل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها:
(أرضعيه تحرمي عليه) ففعلت، فزال ما في نفس أبي حذيفة، وقد تأول الجمهور
من السلف والخلف هذا الحديث بأنه فتوى خاصة في حال ضرورة، إذ كان أبو
حذيفة وأهله في حاجة شديدة إلى خدمة هذا الغلام الذي رباه هو وامرأته صغيرًا،
وقال بعض فقهاء الحديث: إنه يقصر على مثل هذه الحال من الضرورة، وما كان
كذلك في مراعاة المصلحة لا يدخل فيه هدم أكبر المصالح الزوجية وهو تحريم
المرأة على زوجها إذا مص ثديها عن شهوة ومداعبة، فيحكم عليه بأنه صار ولدًا
لها كأولاده منها، على أنه ينبغي اتقاء ذلك احتياطًا.
(١٠) شرب الجعة المسماة بالبيرا:
المشهور عن الجعة أنه يسكر الكثير منها دون القليل في الغالب، فهي محرَّمة
لما حققناه في التفسير وغيره أن ما أسكر كثيره فقليله حرام.