للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المناظرة بين أهل السنة والشيعة

تمهيد وتصحيح غلط:
نشرنا في الجزء الأول الماضي الرسالة الأولى لمقترح المناظرة الأستاذ السيد
عبد الحسين نور الدين العاملي بنصها على ما فيه وإمضائه؛ ولكن سبق القلم في
عنوانها فذكرنا أن لقبه شرف الدين، وهذا لقب لعالم آخر من العامليين يوافقه في
اسمه، وهو أشهر عندنا وعند غيرنا بالذكر والعلم والرأي، فهو لا يكتب ما كتبه
نور الدين، ومثل هذا الغلط في الأسماء من سبق القلم لذكر الرجل الأشهر ما
ذكرناه في ذلك من الجزء من تعازي كبراء المصريين وزعمائهم لنا عند وفاة والدتنا
رحمها الله تعالى فقد ذكرنا منهم حسن باشا عبد الرازق وإخوته وإنما عنينا نجله
محمود باشا وكيل حزب الأحرار الدستوريين، وكان له أخ آخر اسمه حسن باشا
كاسم والده قُتل اغتيالاً سياسيًّا رحمهما الله تعالى، وسبب هذا الغلط أن اسم حسن
باشا عبد الرازق الكبير منقوش في ذهننا من عهد والدهم الجليل وطول عشرتنا له
مع شيخنا الأستاذ الإمام، وذكر اسمه في تاريخه والمنار مرارًا.

مطالبة علماء الشيعة برأيهم في دعوى المناظرة:
نشرت رسالة مقترح المناظرة بنصها، وقلت فيما علقته عليها: إنه لم يلتزم
فيها الشرط الذي اشترطته عليه فيها، وإنني أحب أن أعلم قبل الشروع في
المناظرة هل يوافقه كبار علماء الشيعة في سورية والعراق والهند وإيران على
قوله: إنه لا يمكن الاتفاق بين أهل السنة والشيعة على شيء من المصالح
الإسلامية، إلا بالشرط الذي اشترطه وهو رجوع أحدهما إلى مذهب الآخر للسبب
الذي ذكره؟ ثم اقترحت عليه وعلى زميلي الأستاذ الفاضل صاحب مجلة العرفان
أن يأخذا لي تصريحًا من علماء الشيعة المشهورين في المسألة (راجع ص ٧٢ ج
١) .
مرت على هذا الاقتراح ثلاثة أشهر لم يصدر فيها المنار للأسباب المبينة في
أول هذا الجزء، ولم يرد لنا من حضرة مناظرنا ولا من غيره من علماء الشيعة
شيء، إلا أن زميلنا الأستاذ صاحب مجلة العرفان ذكر في كتاب تعزيته لنا عن
والدتنا إنكارًا على السيد عبد الحسين نور الدين في ذلك، وأنه سينشر هذا الإنكار
في مجلته المحجوبة الآن عند عودتها إلى الظهور. ورسالة من سائح فاضل باسم
(نظرة ... ) ننشرها في هذا الفصل.
ثم إنني لما دعيت إلى المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد في القدس وعلمت أن
ممن أجابوا الدعوة إلى حضوره الأستاذ العلامة الكبير الشيخ محمد حسين آل كاشف
الغطاء الشهير أكبر مجتهدي النجف الذي هو أزهر إخواننا الشيعة - سررت جد
السرور، ونطت أملي في مسألة الشقاق الجديد، أن يكون تلافيها بتلاقينا في هذا
المكان الشريف، وتعاوننا هذا على هذا العمل الشريف، بأن يكون من أهم مقاصدنا
فيه السعي للتأليف، وقد سبق لي لقاء هذا الأستاذ بمصر، إذ زارها بعد الحرب
الكبرى وتذاكرنا في وجوب الاتفاق، وكان معه في القدس الأستاذ الشيخ عبد
الرسول من آله الكرام ونجله الشيخ عبد الحكيم حفظهم الله تعالى، وحفظ بيتهم
العلمي موفقًا لخدمة الإسلام.
تلاقينا على ما أحب، وأطلعت الشيخ على رسالة السيد عبد الحسين نور الدين
وسألته عن رأيه فيها فأنكر عليه أشد الإنكار، فقلت: إن الإنكار بالقول لا يكفي
فهل تكتب رأيك في الرد عليه ليُنشر في المنار؟ قال: نعم.
وكان من حسن الحظ أن وجد في أعضاء المؤتمر عالمان شهيران من علماء
الشيعة السوريين، وهما من أصدقائنا قدماء قراء المنار، أحدهما الشيخ سليمان
الضاهر من علماء جبل عامل، والثاني الشيخ أحمد رضا من علماء صيدا، وقد
رأيت كلاًّ منهما منكرًا على السيد عبد الحسين نور الدين قوله: إن الشيعة بمقتضى
مذهبهم لا يمكن أن يتفقوا مع أهل السنة لاعتقادهم أنهم غير متبعين لسبيل المؤمنين.
فأما الأستاذ الأكبر الشيخ محمد حسين فقد كتبت إليه عندما تفضل بتوديعي في
القدس ساعة سفري منها كتابًا سألته فيه رأيه في المسألة، فأرسل إلي جوابه بعد
عودته إلى النجف، وسأنشره في مقال خاص في موضوع الاتفاق، وأما الأستاذان
السوريان فلم يطلبا مني كتابًا ولم يرسلا إلي شيئًا، فأرجو منهما أن يكتبا إلي في
الموضوع ما أقنع به قراء المنار بما سأجدد الدعوة إليه من الاتفاق والإيلاف،
وأرجو مثل هذا من الأستاذ الشيخ عارف الزين وإذا أمكنه أخذ كتاب أو إمضاء من
العلامة المجتهد الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين وغيره فإن الفائدة تكون أتم؛
فإن هذا الأستاذ قد لاقيته مرارًا في بيروت وحدثته في وجوب السعي للاتفاق،
فوجدت رأيه موافقًا لرأيي، وقد اتفقنا يومئذ على كلمته في الطائفتين: (فرقتهما
السياسة وستجمعهما السياسة) وسبق لي ذكر هذه الكلمة في المنار.
وقد علم هؤلاء وسائر قراء المنار أن الذي دعاني - بل دعَّنِي - إلى الرد على
الشيعة بل غلاتهم الملقبين بالرافضة، ذلك الكتاب الخبيث الذي لفقه ملفقه في تكفير
الوهابية كافة وشيخ الإسلام ابن تيمية وصاحب المنار خاصة، وما كان من تقريظ
مجلة العرفان ونشرها له وعدم سماع كلمة من علماء الشيعة في الإنكار على ملفقه،
دع فتنة العراق المشهورة، وذيولها بين الشيعة والنجديين، وكانت بدسائس
المستعمرين.
ولكن جاءتني رسالة طويلة جدًّا في مناظرة طويلة لعالم سني مع بعض الشيعة
في المحمرة لم أنشرها؛ لأنها تزيد الشقاق احتدامًا.
* * *
كتاب ورسالة من سائح شيعي أديب
في الإنكار على السيد عبد الحسين نور الدين
سيدي الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا المبجل:
بعد التحية: لا شك أن حضرتكم تعرفون ما يوجبه الدين، ويُحتِّمه الوجدان،
والحق على كل منا في مثل هذا اليوم العصيب، وقد أثر المقال الذي نشرتموه في
مجلتكم الغراء بإمضاء السيد عبد الحسين نور الدين العاملي فيَّ تأثيرًا اضطرني إلى
تحرير كلمة حول الموضوع رغم العناء ومشقات السفر، وإني لأنتظر أن يسارع
إخواني وأساتذتي إلى نشر حقيقة هذا الرجل وصده فيما بعد عن الخوض في مثل
موضوعه ذاك المتطرف، وأملي الوحيد أن تسارعوا في نشر ما تجدونه طيبًا،
وأشكركم من صميم قلبي، وأقدر أعمالكم ودعاياتكم الإصلاحية بكل عواطفي،
وتقبلوا مزيد تقدير مخلصكم واحترامه.
... ... ... ... ... ... ... ... المخلص السائح العربي
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الهادي آل الجواهري

* * *
نظرة حول مناظرة
لقد كان من الصعب عليَّ وأنا بين عوامل لا تسمح لي أن أخوض في بحث
كهذا لكثرة انشغالي وتشويش بالي من كثرة الأسفار وفراق الأوطان وتعدد المصائب
والأحزان.
تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد
نعم والله، تكاثرت وتعدد المؤثرات المحزنة المشجية، وقد كان الأجدر
والأليق بإخواني الذين أعهد فيهم الغيرة والحمية من أبناء العروبة والإسلام،
والأساتذة الذين وقفوا أقلامهم لمكافحة الحشرات التي نخرت عظامنا وأنهكت قوانا،
ومقاومة تلك الدعايات التي يقوم بها بعض أولئك المأجورين باسم الدين والمذهب،
وأن يتصدوا للطم أولئك الأوغاد الذين ينتهزون الفرص لوصمنا بوحدتنا في الصميم
وليتصيدوا بالماء العكر، أولئك الذين لم يجدوا لهم موردًا شريفًا في هذا المجتمع
يسدون به طمعهم ويملؤون به جيوبهم وعيابهم إلا إثارة العواطف المذهبية
والنزعات الطائفية يغرون بها البسطاء الجهلة ممن لم يعرفوا للدين معنى وللشريعة
قيمة.
من الأسف - وليس يجدي نفعًا - أن نجد بعض أولئك المتزعمين باسم الدين
يستغلون - ومن دون غيرهم - التهويش باسم الدين، ويحتكرون سمعته لأغراضهم
وأطماعهم، فإذا ما وجدوا مجالاً ليمثلوا دورهم على مرسح المذهبية أخذوا
يعرضون (فلم) روايتهم المشؤومة المحزنة على رؤوس بعض السذاج البسطاء
والسوقة.
باسم الدين تزعم بعضهم ويا حبذا لو قام ببعض ما تقتضيه هذه المهمة (ولو
كانت مدعاة) من عظيم الأعمال، فينتهز الفرصة ويبرهن على أهليته وكفاءته لهذا
المنصب الجليل المهم فيؤلفوا بين النزعات ويوحدوا القلوب والغايات، ويظهروا
مزايا الدين وينشروا محاسنه ليجلبوا إليه الأنظار ويحببوه في عين الأجنبي،
لا أن يجعلوه واسطة للتنافر والتعادي ويظهروه بأسوأ مظهر وأخزى منظر، كي
ينفر منه البعيد الأجنبي الذي يمسي، وهو لا يعرف منه إلا أنه دين أحزاب
وخراب، وتنافر وبغضاء وشقاء، على لسان من يدعون الزعامة الدينية في
الجرائد والمجلات؟
أليس كذلك أيها القارئ؟ أليس إن مجلاتنا وصحفنا نراها طافحة بالسباب
وشتم بعضنا بعضًا؟ وما كفانا ذلك حتى أخذنا نتحرش ونتجاسر حتى على أولئك
المقبورين المدفونين منذ ألف وثلاثمائة سنة، ألسنا وقد خصصنا أوقاتنا وأوقفنا
أقلامنا، وبذلنا دراهمنا، وأشغلنا مطابعنا، وأنهكنا أفكارنا وأدمغتنا، وسهرنا
الليالي والأيام، لنخلق لنا هذه المشاكل المذهبية ولنجعل لنا عقبة لن تذلل؟ ألسنا
ونحن أصبحنا بفضل هذه كلها في مؤخرة العالم والمجتمع وعبيدًا للأجانب يفترس
بعضنا الآخر، وكل ذلك في مصلحة الأجنبي الغربي.
أليس نظرة واحدة إلى ماضينا المجيد حين كنا تحت راية واحدة، وقد ملكنا
زمام أكثر العالم، وركزنا تلك الراية في قلب الغرب - تكفينا وتدلنا على الفرق بين
ذلك الزمن والزمن الذي ابتدأت فيه نار الفتن الطائفية والنزعات المذهبية، وما
وصلنا إليه اليوم من حالة لا يرجى لها خير؟ أليس السبب في ذاك كله هو التخاذل
والتباغض باسم السلف الصالح والإسلام، وحاشا للإسلام أن تكون هذه مبادئه، بل
حاشا للسلف الصالح أن يرضى هذه الأساليب والمبتكرات، حاشا ثم حاشا،
أوليس دين الإسلام هو دين التآخي والتآلف؟ دين الوحدة والوئام.
أباسم عمر وعلي نطعن هذا الدين في الصميم؟ أباسمهما نمزق أوصال هذا
الدين ونشتت شمله؟ ونثلم وحدته ونضيمه؟ حاشاهما أن يعذراكم يا قوم، وأن
يرضيا هذه الأفعال والأعمال، وباسمهما تتفرقون وتتشتتون؟ فاتقوا الله يا قوم
فيهما.
هلموا يا قوم وأمعنوا نظركم، وتتبعوا التواريخ؛ فإنكم تجدون السبب كله في
هذا التطاحن المذهبي هو تداخل الأجانب في أمورنا الدينية، وتشبثهم باسم الدين
في تفريقنا وتباغضنا، والعار كل العار أن نكون وفق مشيئتهم وتحت إرادتهم،
وأن نستسلم مذعنين لما يفرضونه علينا من التنابذ والتعادي.
والأسف كل الأسف أن تلعب بنا الأهواء والنزعات، وتقودنا فئة ذات أطماع
وأغراض باسم الدين والإسلام إلى المهاوي والهلكات، وهم بعيدون كل البعد - لو
تحققنا - عن الإسلام ومبادئه، مأجورون بدعايتهم هذه ومستخدَمون بمبادئهم تلك.
في هذا اليوم وقد أخذ الكل يشعر بالحاجة إلى التآلف وتوحيد الصفوف أمام
الاستعمار وسيله الجارف - في هذا اليوم الذي نئن فيه من انشقاقنا وانخذالنا - في
هذا اليوم الذي سهل على العدو أن يمص آخر قطرة من دمائنا وينخر عظامنا،
يظهر لنا حضرة السيد عبد الحسين نور الدين العاملي في النبطية بمقاله المشهور
في المنار الجزء الأول من المجلد الثاني والثلاثين سنة ١٣٥٠ مناظرًا فيه حضرة
الأستاذ صاحب المنار السيد محمد رشيد رضا يمثل الشيعة ويعبر عنهم في ذلك
المقال المزيف المملوء خطأ وركة، والذي ينكره عليه الشيعة أنفسهم، والذي
اعتبره حضرته أساسًا للصلح، وفاتحة لعقد التفاهم والمودة ما بين أهل السنة
والشيعة.
وقد كنت أنتظر من إخواني الشيعة في العراق وسورية أن يسارعوا في
احتجاجهم واستنكارهم على هذا الرجل المدعي، وأن يعجلوا في كم فمه والضرب
على يده، كي لا يعود لمثله أبدًا، ولا زلت أنتظر من الشيعة في القطرين الشقيقين
أن يعلنوا استنكارهم من هذه الفئة المتعجرفة وبراءتهم من هذا الحزب المتعصب
المأجور، الذي جرهم إلى الهلاك والتدهور، وأن لا يتماهل المصلحون الذين أعهد
فيهم الحرص على سمعة الإسلام في تدارك ما جاء على لسان هذا الرجل،
وينشروا حقيقة روح المسالمة والمودة الأكيدتين بين إخوانهم السنيين والشيعيين،
ويدعوا بعضهم البعض إلى حسم هذا الخلاف وإتمام فصول هذه الرواية المحزنة،
وليجعلونا نسير والكل منا ينشد:
ما مذهب السني إلا مذهب الز ... يدي والشيعي والوهابي
الدين يبرأ من تطاحن أهله ... والأخذ بالتهويل والإرهاب
إن الشقاء وإن تطاول عهده ... آبت به الأيام شر مآب
ألمذهبٍ يتقاتلون وحولهم ... إلب العداة تهم بالأسلاب
وأعود فأقول بالرغم من شذوذ حضرة السيد عبد الحسين نور الدين عن
الموضوع المتفق عليه في المناظرة، وخروجه عن الخطة المرسومة فقد جاء في
المقال ما لفظه (روي في كنز العمال على هامش مسند أحمد ص٤٣ أن عليًّا سئل
عن كثرة ما يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كنت إذا سألته
أنبأني وإذا سكتُّ ابتدأني) وقد راجعنا هامش الستة مجلدات من مسند أحمد فلم نجد
لذلك أثرًا.
وجاء أيضًا في المقال نفسه: روى المحدث الجليل الموثق عند إخواننا وهو
محمد بن سعد في الطبقات جزء ٣ صفحة ٢٧٣ بإسناده عن أبي هريرة قال: قدمت
على عمر رضي الله عنه من عند أبي موسى بثمانمائة ألف درهم فقال لي: ألم أقل
لك إنك يمانيٌّ أحمق، إنك قدمت بثمانين ألفًا، فقلت: يا أمير المؤمنين إنما قدمت
بثمانمائة ألف درهم، فجعل يعجب ويكررها، فقال: ويحك وكم ثمانمائة ألف درهم؟
فعددت مائة ألف ومائة ألف حتى عددت ثمانمائة، وقد راجعنا أيضًا في طبقات
ابن سعد فلم نجد لذلك أثرًا.
وهكذا قد لفَّق حضرته مقاله وادَّعى فيه أنه جاء يريد بذلك الاتفاق والتآخي،
وهو أبعد ما يكون من روح الوفاق والوئام، لما ضمنه من جمل وكلمات لا يوافقه
عليها الشيعة أنفسهم (طبعًا) وكان الأحرى بصاحب (كذا) أن ينتخب لو أراد
التفاهم وإزالة الخلاف أن يختار من أولئك المصلحين القادرين الذين لا أخال
حضرته يجهلهم من إخوانه الشيعة في العراق وسورية.
أما أن يتصدى السيد عبد الحسين نور الدين ويتزعم باسم الفرقة الشيعية،
والذي أعرفه منه أنه لا يملك حريته الشخصية فضلاً عن الملايين، وأنه مأجور
لبعض العلماء الإيرانيين في النجف، ثم يجيء حضرة الأستاذ صاحب المنار ويفتح
له مجلته للنشر، فذاك أمر يزيد الطين بلة، ويوسع شُقة الخلاف، وحينئذ يتعذر
على المصلحين الحقيقيين تلافي الخطر [١] .
وإني أعلم بصفتي أحد الشيعة، ومن بيت له مكانته الدينية عند الشيعة مطمئن
من أن كلمتي هذه سوف ينكرها علي حضرة السيد عبد الحسين وأتباعه المأجورون؛
ولكني أعتقد أيضًا أنها سوف تلاقي استحسانًا من حضرات العلماء، والأساتذة
المصلحين، ومن إخواني الشيعيين جميعًا الذين أخذوا يشعرون بحاجتهم إلى
التعاون والتفاهم مع إخوانهم، وأنهم ينفرون من أعمال هذه الفئة المتعصبة المعدودة،
التي لا زالت تشوه سمعتنا وتسيء إلينا في الخارج، وهم غير مؤيدين من عشر
الشيعة، ولم يوافقهم أحد على ما يقولون ويدعون، وأملي الأكيد أن سوف يعرف
رجال الإصلاح وزعماؤه غايات أمثال السيد عبد الحسين فلا يدعوا لهم مجالاً بعد
هذا لبث سمومهم القتالة، وأن يعرفوا العالم هويات هؤلاء ومرامهم، وأن بعد هذا
لنا عليهم حساب {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: ١٣٢) .
الحجاز ١٤ رجب سنة ١٣٥٠
... ... ... ... ... ... ... ... ... السائح العربي
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الهادي آل الجواهري

(المنار)
إننا نشكر لهذا السائح الكريم من هذا البيت العريق غيرته الإسلامية التي
لا شك في أن فوائد السياحة وعبرها تزيد في إذكاء نارها، وتألق أنوارها، وإني
لأوافقه على أن دعاة التفريق بين المسلمين بعصبية المذاهب أصحاب أهواء
وطلاب مال وجاه، وأن دسائس الأجانب والمتعصبين تعبث بهم من حيث يدرون
ومن حيث لا يدرون، وهذا مما لا يشك فيه أحد من المختبرين الواقفين على
الحقائق.
وإنني على هذا العلم لأجرأ على تبرئة السيد عبد الحسين نور الدين من سوء
النية، أو خدمة دسائس بعض الإيرانيين أو المستعمرين الذين يستفيدون من غلوه،
ولا زال على رأيي السابق فيه وهو أنه ذو وجدان خيالي ديني مستحوذ عليه فهو
يعتقد ما يقول.
* * *
الرد على السيد عبد الحسين نور الدين
لا على الشيعة في المفاضلة بين الخليفتين
لا مندوحة لي وقد نشرت هذه الرسالة على منكراتها من الرد عليها، ليرى
صاحبها قيمة حججه في مسألة التفاضل بين عمر وعلي رضوان الله عليهما، وأن
بعض ما سماه براهين قطعية، لا يعدو أن يكون شبهات خطابية، وتخيلات شعرية،
لا يصح في الشرع ولا العقل أن تُجعل من عقائد الدين، ويجعل الخلاف فيها
سببًا للشقاق بين المسلمين، وأن من أكبر الخذلان، واتباع خطوات الشيطان، أن
يجعل الخلف الطالح مسألة المفاضلة بين الخليفتين من أصول الدين، التي يُقذَف
فيها المخالف بأنه (غير متبع سبيل المؤمنين) مع العلم القطعي بأن عليًّا كان وليًّا
ونصيرًا وظهيرًا وقاضيًا ووزيرًا لعمر، وأنه فضله هو وأبو بكر على نفسه
وسائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه أحمد والبخاري وغيره
بالأسانيد الصحيحة، يقابله ما علم واشتهر من تقديم عمر له في التعظيم والشورى
والقضاء، ومن تفضيله على نفسه ما قاله عمر لابنه عبد الله حين عاتبه على
تفضيل الحسن والحسين عليهما السلام عليه في العطاء فقال له: (ألك أب كأبيهما
أو جد كجدهما؟) كما نقله الرضي في نهج البلاغة.
أليس أمير المؤمنين علي عليه السلام هو القدوة الأكبر بعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم المعصوم عند إخواننا الشيعة، فلماذا لا يتبعونه في إجلال أبي بكر
وعمر وكذا عثمان لأجل جمع كلمة المسلمين، وإعلاء كلمة الدين؟ وإن كان أحق
بالخلافة منه عندهم، أو ليس هو وعمر عند أهل السنة في درجة واحدة من الخلافة
الراشدة؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ) فما لنا في هذا العصر لا نقتدي بهما في
الولاية والتعاون على مصلحة المسلمين، ونتسلق إلى ما لا نبلغه من التفاضل بين
علميهما؟ ألا إننا سنفعل ذلك رغم أنوف المتعصبين الخياليين والمأجورين.

تفنيد ما سمَّاه البراهين القاطعة على تفضيل علي:
خلاصة براهينه أن عمر أسلم في السنة السادسة من البعثة وعمره ست
وعشرون سنة، ومكث مدة ثلاث سنين لا يرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا
نادرًا، وهي مدة حصاره في بني هاشم وبني عبد المطلب في الشِّعب.
ونتيجة هذا أنه طلب العلم في سن لم يسمع المعترض أن أحدًا طلب العلم فيها
وبرع فيه، فهذا برهان عقلي على أن عمر لم يبرع في علم الإسلام اهـ (ص
٦٦) .
وأما علي فقد ضمَّه إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربع سنوات،
ولم يفارقه في طول حياته إلا في أوقات قليلة، فقد تلقى العلوم من سن الطفولة التي
هي سن التحصيل، وفي الزمن الطويل، فهذا برهان عقلي على أنه فاق عمر
وسائر الصحابة في علوم الإسلام كلها مع ذكائه النادر اهـ (ص ٦٧ - ٦٩) .
أقول: (١) إن العلم الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فيه
شيء من الفنون الخاصة بالأطفال التي تؤخذ بحفظ العبارات أولاً، ثم تفهم بالتدريج
البطيء الذي يراعى فيه سن الطفل ونمو مداركه؛ وإنما دعا إلى علم لا يوجه إلا
إلى العقلاء المكلفين، وأوله توحيد الله تعالى والإيمان بملائكته وكتبه ورسله
وبالبعث والجزاء، ثم بأصول الفضائل وعبادة الله تعالى بالصلاة والذكر والفكر،
وينبوع هذا العلم كله القرآن وقد بلغ كله للجميع؛ وإنما كان النبي صلى الله عليه
وسلم مبينًا له بسنته العملية والقولية، وكانوا يتفاضلون في العلم بفهم القرآن، وقد
سأل أبو جحيفة عليًّا عليه السلام: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء
من العلم؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في
القرآن وما في هذه الصحيفة. يعني كرم الله وجهه صحيفة كان ربطها بسيفه فيها
أحكام عقل الدية وفكاك الأسير وتحريم المدينة كمكة وعدم قتل المؤمن بالكافر.
والحديث صحيح رواه أحمد والبخاري في مواضع متعددة من المسند والجامع
الصحيح ورواه غيرهما أيضًا، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم بلَّغ عشيرته
في الشِّعب شيئًا من التشريع ولا أن عليًّا أو غيره قال ذلك، بل من المعلوم الذي لا
خلاف فيه أن أكثر الأحكام التشريعية كانت بعد الهجرة.
(٢) الإنسان كما يقول الأطباء لا يكتمل نموه الجسدي والعقلي الطبيعي إلا
باكتمال ٢٥ سنة التي هي ربع العمر الطبيعي المعتدل، ومن المعلوم بالتجارب في
المدارس وغيرها أن ابن ٢٦ سنة أقوى فهمًا للمسائل العقلية من اعتقادية وتشريعية
من الطفل المميز واليافع الذي لم يكتمل نموه، وأن أكثر الذين يطيلون المكث في
مدارس التعليم أقلهم نبوغًا، فأشهر الحكماء والنابغين لم يمكثوا في المدارس إلا
قليلاً، وقد سمعت أستاذنا الشيخ حسينًا الجسر يقول للسيد علي الثمين نقيب
الأشراف بطرابلس في تلميذ له: إنه ساوى في السنة الأولى الأذكياء الذين سبقوه
في طلب العلم بسبع سنين.
(٣) من المعلوم عند علماء النفس، وعلماء التاريخ أن من كان قوي
الاستعداد للحفظ يزداد في الشباب قوة باستعمال استعداده، كما يُعلم من تراجم حفاظ
الحديث، ولما حفظ ابن عباس قصيدة عمر بن أبي ربيعة من سماعها مرة واحدة كان
كهلاً لا شابًّا ولا طفلاً، وعَجِب ممن عَجِبَ مِن ذلك فقال: (وهل يسمع الإنسان
شيئًا ولا يحفظه؟) وأملى الحافظ ابن حجر ألف درس من حفظه وكان كهلاً، ومن
المعلوم أيضًا أن ملكة الحفظ في العرب كانت قوية جدًّا لاعتمادهم عليها، وكذلك
كانت عند غيرهم من الأمم قبل تعلم الكتابة والاعتماد عليها في حفظ العلم، ففي
تاريخ اليونان القديم أن عقلاءهم اعترضوا على اقتباسهم فن الكتابة من المصريين
بأن الاعتماد عليها يضعف ملكة الحفظ.
(٤) ما جعل الله لرجل من قلبين، وزيادة بعض القوى يقابلها نقض غيرها
فمن كان أكثر حفظًا للنصوص الشرعية كالقرآن والحديث أو اللغة قلما يساوي في
فهمها والتفقه فيها من يعنى بفهمها دون حفظها، وقد علم بالتجربة أن قوة الاستعداد
للحفظ قلما تتفق مع قوة الاستعداد للفهم والحكم في المعاني، فأكثر حفاظ الحديث
غير فقهاء فيه، وأكثر الفقهاء غير حفاظ له، وكذا علماء المعقول فقلما تجد في
كبارهم حافظًا للحديث والآثار أو من يسمى محدثًا، وقد كان أبو حنيفة يعد أفقه أئمة
المذاهب المشهورة وهو أقلهم حفظًا، وكان أحمد بن حنبل أحفظهم، وقد قال فيه
الإمام ابن جرير: إنه محدِّث لا فقيه. بل يُروى أن الشافعي قال لأحمد على ما اشتهر
من إجلاله له: إذا صح عندكم الحديث فأخبرونا به، فأنتم أعلم بروايته ونحن أعلم
بفقهه، أو ما هذا معناه.
(٥) إن فائدة حفظ النصوص تبليغها للناس، وإننا نرى المروي عن عمر
من الحديث في البخاري، وفي مسند أحمد أكثر من المروي عن علي، وهو لم يرو
إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وأبي بن كعب، وعلي قد روى
عنه وعن أبي بكر والمقداد بن الأسود رضي الله عنهم، وكذا عن فاطمة عليها
السلام، والمروي عن أبي هريرة الذي أسلم في السنة السادسة من الهجرة أكثر مما
روي عن الخلفاء الأربعة، وعن العبادلة الذين هم أكثر رواية من الخلفاء؛ ولكنهم
يلونهم في فقه الدين وحكمه، وكان أبو هريرة دون كل واحد منهم في علوم الإسلام
الإلهية والشرعية.
فقول هذا السيد في براهينه القطعية عنده: (فكان أعلمهم أكثرهم حفظًا
وأقواهم حافظة) غير صحيح وإلا لكان أبو هريرة أعلم الصحابة على الإطلاق،
ثم إنه معارض ببرهانه القطعي الآخر أن المتأخر في الزمن في التلقي عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغ شأو المتقدم، ثم إن كون علي أكثرهم حفظًا
وأقواهم ذاكرة لا دليل عليه من عقل ولا من نقل؛ لأن مثله لا يثبت إلا بامتحان
استقرائي تام، وهو لم يقع تامًّا ولا ناقصًا، وإن كان في نفسه غير كثير عليه.
ومن غرائب براهينه القطعية الخاصة بمنطقه: استدلاله بذاكرته وذاكرة بعض
معارفه؛ إذ قال: إنه لم يكن ينسى في شبيبته شيئًا مما سمعه أو قرأه، وكان يتعجب
ممن ينسى، وبعد بلوغه الثلاثين انقلب الأمر وانعكس، وأصبح يتعجب ممن
يحفظ ولا ينسى، وأنه ما شكا هذا الداء لأحد إلا وشكا له مثله، فكأنه هو وأصحابه
الذين شكا لهم حاله حجة الله القطعية على البشرية والمعيار لنابغي العلماء والحفاظ،
ومثل عمر بن الخطاب، وأنا أقول له: إنني بعد بلوغي الستين لم أنس شيئًا مما
سمعته وقرأته، إلا الأمور التافهة التي لا ألقي لها بالاً، ولا أحب أن أحفظها، ولا
أن أعيدها إذا ذكرتها؛ ولكنني منذ الصغر قليل الحفظ لأسماء الأعلام والأرقام
واستحضار ما لم يتكرر على ذهني منها، وقوي الحفظ سريع الاستحضار للمسائل
العلمية ولا سيما المعقولة منها، ومن عادتي أنني إذا ألقيت خطبة أو محاضرة أو
سمعتها من غيري ونويت أن أعيدها أو أكتبها فإنني أعيدها بما يقرب من ألفاظها
وبتحديد معانيها، وإذا لم أنو ذلك فإنني أتذكرها بعد ذلك بالإجمال لا بالتفصيل.
مثال ذلك بعض الخطب التي ألقيتها في سورية سنة الدستور، وبعض الخطب
التي ألقيتها في الهند؛ فإنني كتبتها للمنار بعد إلقائها في مدد قصيرة أو طويلة،
ورأيت الذين سمعوها يقولون إنني لم أترك مما قلته شيئًا، ومنها الخطبة التي
ارتجلتها في مدرسة عليكرة الإسلامية الجامعة في الهند وموضوعها التربية وأنواعها
وفلسفتها، اقتُرحتْ عليَّ عند عقد الحفلة التي أقامها طلاب المدرسة لي، ثم اقتُرح
علي بعد الاحتفال أن أكتبها فلم أجد فرصة لذلك مدة مكثي في الهند؛ ولكنني كتبتها
في مسقط وأرسلتها إلى عمدة المدرسة، وكانوا قد كتبوا كل ما وعوه منها بطريقة
الاختزال فلما وصل إليهم ما كتبته وجدوه أوفى وأضبط مما كتبوا، ولقد رويت عن
شيخنا الأستاذ الإمام في تاريخي له أمورًا كثيرة سمعتها أو حضرتها بعد الثلاثين
ودونتها بعد الستين، ونشرت له خطبًا ارتجالية في عهده لم يستدرك علي منها كلمة.
(٦) لو كان التفاضل في العلم عند الصحابة بالرواية لتنافسوا فيها ولكتب
الكاتبون منهم ما سمعوه ووعوه، ولم ينقل عنهم هذا بل المنقول خلافه.
(٧) من المقرر عند العلماء أن العلوم والأعمال التي يتعدى نفعها أفضل
وأكثر ثوابًا من القاصرة على صاحبها، ومن المعلوم الذي لا خلاف فيه بين
المحدثين والمؤرخين للإسلام ودوله أن علوم عمر وأعماله كانت أنفع من علوم
سائر الخلفاء في نشر الإسلام واهتداء الشعوب به وفتوحه وما اشتهر به من العدل
والفضائل.
(٨) من المعلوم الذي لا مرية فيه بين الواقفين على تواريخ الأمم وسنن
الاجتماع البشري أن أرقى البشر عقلاً وعلمًا نفسيًّا هم أقدرهم على سياسة الشعوب
وإقامة الدول، وأن هؤلاء مفضلون على الحفَّاظ والعلماء الفنيين الذين يقومون
ببعض الأعمال الجزئية في الدولة، وهذا هو العلم الذي يرجح صاحبه على من
دونه فيه لتولي الحكم العام كالخلافة والملك، ومن دعائم هذا العلم معرفة استعداد
الأفراد الذين يصلحون للسياسة والإدارة والقضاء وقيادة الجيوش، ومن المعلوم من
التاريخ بالتواتر والعمل أن عمر رضي الله عنه كان في الذروة العليا من نابغي
البشر وأفذاذ الأمم في هذا الأمر علمًا وعملاً، يشهد له بهذا علماء هذا الشأن من
جميع الشعوب، ولبعض علماء أوربة وفلاسفتهم أقوال في ذلك مشهورة ومدونة.
فلو كان العلم الذي يفضل صاحبه على غيره في الخلافة وإدارة سياسة الأمة
هو كثرة الحفظ للأحاديث وضبط الروايات لكان أبو هريرة وأنس بن مالك أول من
ولاهم الخلفاء الراشدون ولا سيما عمر على الأمصار، ولو كان الذي يصلح لذلك
أصحاب المبالغة في الزهد والعبادة لكان أبو ذر وأبو الدرداء وأبو موسى
الأشعري مقدمين على غيرهم للولاية والسياسة وإدارة أمور الشعوب.
وجملة القول في براهين السيد عبد الحسين نور الدين العقلية: إنها ليس فيها
قياس منطقي مؤلف من مقدمات يقينية تصلح لتأليف برهان عقلي؛ وإنما جاء
بروايات نقلية لا يمكنه إثباتها كلها؛ وإنما بعضها صحيح كتقدم إسلام علي على
إسلام عمر، وهو لا يدل على ما استدل به عليه، وبعضها لا يصح، وهو على
فرض صحته لا ينتج مع غيره ما فهمه منه بطريقة القياس البرهاني لما بيناه من
الحقائق الفلسفية والتاريخية.
على أننا نقول: إن كلاًّ من عمر وعلي رضي الله عنهما من أفراد البشر
الممتازين بالعبقرية العليا، فعمر جدير بأن يفهم في الزمن القصير من القرآن
والسنة ما لم يفهمه غيره في الزمن الطويل، وهو الذي شهد له الرسول بأنه من
المحدَّثين (بفتح الدال المشددة) أي الملهمين المفهَّمين من الله تعالى، وبأن الله
جعل الحق على لسانه وقلبه، وهو هو الذي نزل القرآن مرارًا موافقًا لرأيه وقال
فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو كان بعدي نبي لكان عمر) رواه أحمد
والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وأقره الذهبي، وكان في شبابه صاحب سفارة
قريش وعمدتهم في المفاخرة والمنافرة، فلولا أنه من أحفظهم وأفصحهم وأقواهم
حجة لما ولّوه ذلك، فإذا كان قد سبقه أربعون رجلاً إلى الإسلام فلا يمكن لمن
يفضل عليًّا وأبا بكر عليه في علمهما أن يفضل عليه باقي الأربعين، والتفاضل بين
الثلاثة أنفسهم لا يسهل أن يثبت بقياس برهاني؛ وإنما الدلائل القطعية في فضائل
عمر وعلي هي ما ثبت بالتواتر من سيرتهما العملية التي لا تحتمل التأويل.

دلائل مناظرنا النقلية:
إن ما ذكره السيد عبد الحسين نور الدين من الروايات النقلية التي بنى عليها
استدلاله تدل على أنه لا يوثق بنقله وإن عين مواضعه بالأرقام، ولا بتمييزه بين ما
يصح من الروايات وما لا يصح، ولا بفهمه لما ينقله، وهاك البيان مختصرًا:
(١) ما نقله عن مختصر كنز العمال من هامش ص ٤٣ من مسند الإمام
أحمد وقد أنكره عليه السائح العربي؛ وإنما هو في ص ٤٦ منه ج ٥ وهو روايتان:
إحداهما عن علي ولم ينقلها ولفظها: (كنت إذا سألت رسول الله صلى الله عليه
وسلم أعطاني وإذا سكتُّ ابتدأني) وهذه أخرجها ابن أبي شيبة والترمذي من طريق
عبد الله بن هند وهو المرادي الجملي الكوفي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن
غريب من هذا الوجه، وأقول: إن عبد الله بن هند لم يثبت سماعه عن علي وهو
صدوق، والثانية التي نقلها وهي: عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب أنه
قيل لعلي: ما لك أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا؟ فقال:
(إني كنت إذا سألته أنبأني وإذا سكتُّ ابتدأني) رواه ابن سعد اهـ. ومحمد بن عمر
هذا لم يسمع من جده علي ولم يذكر من حدَّثه عنه، وفي روايته من جهة المتن أنه
لم يثبت أن عليًّا كرم الله وجهه كان أكثر الصحابة حديثًا أيضًا.
(٢) ما نقله عن ص٢٧٣ ج ٣ من طبقات ابن سعد وهو رواية قدوم أبي
هريرة من عند أبي موسى بثمانمائة ألف درهم، وقد أنكره عليه السائح العربي
أيضًا، وهو في ص ٦١٦ ج ٣ (طبعة أوربة) وهذا لفظه: أخبرنا يزيد بن
هارون نا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه قدم على عمر من
البحرين (قال أبو هريرة: فلقيته في صلاة العشاء الآخرة فسلمت عليه فسألني عن
الناس ثم قال لي: ماذا جئت به؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم، قال: هل
تدري ما تقول؟ قلت: جئت بخمسمائة ألف درهم، قال: ماذا تقول؟ قلت: مائة
ألف، مائة ألف، مائة ألف حتى عددت خمسًا، قال: إنك ناعس فارجع إلى أهلك
فنم فإذا أصبحت فائتني، فقال أبو هريرة: فغدوت إليه فقال: ماذا جئت به؟ قلت:
جئت بخمسمائة ألف درهم، قال عمر: أطيب؟ قلت: نعم، لا أعلم إلا ذلك،
فقال للناس: إنه قدم عليكم مال كثير، فإن شئتم أن نعد لكم عددًا وإن شئتم أن نكيله
لكم كيلاً؟ ثم ذكر مسألة إنشائه الديوان) .
أقول: أولاً: إن السيد نور الدين لعدم وقوفه على علوم الحديث ومصطلحات
أهلها، يقول إذا نقل شيئًا عن كتاب: إن صاحبه موثق عند إخواننا، كما قال في ابن
سعد، وإذا كان ابن سعد ثقة فلا يقتضي أن يكون كل ما يرويه صحيحًا، فهو
يروي غيرالصحيح كغيره من المحدثين، وعذره أنه يذكر السند الذي هو العمدة في
تمييز الصحيح من غيره، وقد قال هو نفسه في محمد بن عمرو راوي هذا الحديث:
كان كثير الحديث يستضعف، وقال فيه يحيى بن معين: ما زال الناس يتقون حديثه،
قيل له: وما علة ذلك؟ قال: كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من روايته، ثم
يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة اهـ. أي مثل هذه الرواية.
ثانيًا: إن هذه الرواية ليس فيها أدنى مطعن على علم عمر رضي الله عنه،
ولا على فهمه، بل كل ما فيها أنه استكثر هذا المال أن يجيء من البحرين، فظن
أن أبا هريرة مخطئ في بيانه لنعاس أو تعب طرأ عليه، وهو معذور في استكثاره
لما كانوا عليه من الضيق والعسر.
(٣) قوله: وروى أحمد في مسنده أن عمر لم يعرف حكم الشك في الصلاة،
وهذا من غرائب عدم فهمه إذا كان قد رواه بالمعنى، وإلا كان افتراء على المسند؛
فإنه ليس فيه أن عمر لم يعرف حكم الشك؛ وإنما فيه عن محمد بن إسحاق عن
مكحول عن كريب عن ابن عباس أنه قال له عمر: يا غلام، هل سمعت من
رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من أحد من أصحابه إذا شك الرجل في صلاته
ماذا يصنع؟ فبينما هو كذلك إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف فقال: فيم أنتما؟ فقال
عمر: سألت هذا الغلام.. . إلخ، فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أواحدة صلى أم ثنتين، وإذا
لم يدر صلى ثلاثًا أم أربعًا فليجعلها ثلاثًا ثم يسجدْ إذا فرغ من صلاته وهو جالس
قبل أن يسلم) .
وأقول أولاً: إن السؤال لا يكون دائمًا عن جهل بالمسئول عنه، بل قد
يكون امتحانًا، وقد يكون للتثبت في رواية مختلف فيها أو متهم راويها، وفي
سجود السهو عدة روايات مختلفة.
وثانيًا: إن هذا الحديث غير صحيح؛ فإنه رواية ابن إسحاق عن كريب وهو
مدلس، وقد عنعن فلا تُقبل روايته، ومكحول رواه له مرسلاً، قال ابن إسحاق:
فلقيت حسين بن عبد الله فقال لي: هل أسنده لك؟ قلت: لا؛ لكنه حدثني أن كريبًا
حدَّثه به. وحسين ضعيف جدًّا، وقال ابن أبي خيثمة: سمعت هارون بن معروف
يقول: إن مكحولاً لم يسمع من كريب اهـ. ولكن ذكر في التهذيب أنه سمع منه،
والله أعلم.
فهذه أمثلة للروايات التي يعتمد عليها هذا المناظر في الطعن في علم عمر بن
الخطاب مما ينقله عن المحدثين، فما قولك بما ينقله عن كتاب الأغاني وابن أبي
الحديد؟
وإني لأراه وأمثاله ممن يبحثون في الكتب عن شيء فيه طعن ما على من لهم
هوى في نقل الطعن فيه من غير تمييز بين صحيحه وسقيمه كدعاة النصرانية
(المبشرين) إذ ينظرون في القرآن الكريم وكتب الحديث والتفسير يتلمسون كلمة
يمكن الطعن فيها أو اتخاذها حجة على الإسلام والمسلمين ولو بالتحريف، فينقلونها
ويعتمدون عليها في تشكيك عوام المسلمين في دينهم، وإلا فما باله يختار من مسند
أحمد ما نقله كما فهمه لا كما وجده، ولم يعتبر بما رواه أحمد فيه من طرق كثيرة
عن علي أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر) ومنها أنه قال ذلك
وهو على المنبر، ومنها أنه قاله لمن سأله ومنهم أبو جحيفة من جماعته ومفضليه
على غيره.
هذا ومناظرنا يوجه هذا إلى صاحب المنار المشهور بالاشتغال بعلوم الحديث
ونقد الروايات؛ وإنما يوجهه إليه لأجل المناظرة فيه، فلولا أنه مصدق لهذه
الروايات وواثق بفهمه لها مع إقراره بضعف ذاكرته، لما جعلها من موضوع
مناظرته معه.
أكتفي بهذه المباحث في تفنيد براهين الأستاذ عبد الحسين العقلية والنقلية ليعتبر
به هو ومن يغره كلامه، ويعلم أن مثل هذا الذي جاء به لا يوصِّل إلى الغاية التي
طلب المناظرة لأجلها، لعله يحاسب نفسه، ولا يجعل شعوره الخيالي وغلوه
الوجداني حججًا علمية وبراهين عقلية يحاول بها تحويل أهل السنة كلهم عن
مذهبهم إلى مذهبه، فيجمع به كلمة المسلمين بوهمه، أما المناظرة العلمية في
مسائل الخلاف فطريقها الوحيد أن تحرر مسائل الخلاف الأساسية تحريرًا يمضيه
أشهر علماء الشيعة في سورية والنجف، وأما الاتفاق بدون مناظرة فهو ما سنبينه
في جزء آخر لعله الذي يلي هذا.
((يتبع بمقال تالٍ))