للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

تعليم أولاد المسلمين في المدارس اللادينية الحكومية وغيرها
أو مدارس النصرانية
(س ٢٨) من حضرة صاحب الإمضاء بتونس:
بسم الله الرحمن الرحيم
ما رأيكم - دام نفعكم - في من يدخل ابنه الصغير إحدى المكاتب (المدارس)
الدولية، وهي خالية من تعليم الدين الإسلامي وتدريس اللغة العربية كما يجب، بل
كل تعليمها امتهان لنفس التلميذ حتى ينشأ ذليلاً محتقرًا نفسه وأهله، واعتناء باللغة
الفرنساوية اللطيفة، والدافع إلى زج هذه الفلذة الصغيرة هو توقع ما تحقق أن الولد
يؤخذ للخدمة الجندية ثلاثة أعوام إذا لم يحرز من تلك المكاتب على شهادة يتخلص
بها من الجندية، مع أن طرق الخلاص منها كثيرة واضحة، إلا أن الشهادة
المدرسية أضمن للخلاص من حيث المآل وراحة البال.
فهل هذا يعد ضرورة حتى يرتكبه الآباء المحافظون على الدين الإسلامي،
والقومية العربية، ومما يلاحظ أن بعض البلدان فُقد منها تعليم القرآن المجيد فضلاً
عن حفظه الناشئة المولودة بعد الحرب العظمى؟ نرقب جوابكم السامي في هذه
المزلقة التي انطبعت في فكر العارف والجاهل إلا من عصمه الله، وقليل ما هم،
والفضل الأكبر لدعاية المعلمين العربيين بالمكاتب الذين هم مسوقون بأن يكونوا
كشعوذة ودعاية بين أهليهم وذويهم حتى أني رأيت التوظف بها مع القدرة على
التعيش من طريق آخر من أكبر الكبائر، فما رأيكم؟ أطال حياتكم والسلام.
... من محرره فقير ربه المخالف لكل أمته في هذه البدعة
... ... ... ... ... (م. خ)
(ج) إن تعليم الأولاد ما يجب عليهم من عقائد الإسلام وأحكامه عند ما
يبلغون سن التكليف، ومبادئ اللغة العربية التي هي لغة الإسلام - فرض على
والديهم وأولياء أمورهم، فإذا كانت المدارس الدولية المذكورة في السؤال لا تمنع
والديهم من تعليم ما ذكر من الأمور الدينية ولغتها ومن تربيتهم على هدي الإسلام
وأخلاقه ومن أهمها عزة النفس، فلا مانع من إدخالهم فيها، وإن كانت تمنعهم مما ذكر
من التعليم والتربية الواجبين فلا يجوز لهم إدخالهم فيها، وما ذكر في السؤال من
الباعث على ذلك وهو التفصي من خدمة الجندية لا يصح أن يكون ضرورة ولا عذرًا
لهم، بل ينبغي للمسلمين - أو يجب عليهم - العناية بتعليم أولادهم النظام العسكري
بقدر الإمكان.
هذا، وإن في البلاد الإسلامية مدارس أخرى شرًّا من المدارس المذكورة في
السؤال وهي مدارس دعاة النصرانية، وقد ثبت بالاختبار التام في جميع الأقطار
الإسلامية أن المدارس التي تنشئها جمعيات الدعاية النصرانية؛ إنما تنشئها لنشر
دينها وتربية التلاميذ والتلميذات فيها على عقائده وعباداته وآدابه، وأنها تتوخى مع
ذلك إبعاد المسلمين والمسلمات منهم عن دين الإسلام بأساليب شيطانية تختلف
باختلاف حال المسلمين في العلم والجهل، وأن المدارس اللادينية التي تنشئها
الجمعيات السياسية والإلحادية تتوخى بث الإلحاد، بل الكفر المطلق بالرسل وما
جاءوا به من الهدى والرشاد.
وقد ثبت بالاختبار أن الإلحاد في الدين قد فشا في المتعلمين في هذه المدارس
كلها على درجات تختلف باختلاف أحوالهم، فمنهم المعطلة الذين لا يؤمنون بالله
ولا بملائكته وكتبه ورسله، ولا بالبعث والجزاء، ومنهم الذين يؤمنون بالله ولا
يؤمنون بالوحي والرسل، ومنهم الشاكون أو اللاأدريون، ومنهم الذين يقولون:
(آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) ومنهم الذين يلتزمون الجنسية الدينية
السياسية والاجتماعية في الزواج والإرث، والأعياد والمواسم والجنائز ولا يقيمون
الصلاة ولا يؤتون الزكاة ولا يحجون البيت الحرام ولا يصومون رمضان، ومنهم
من يلتزم حرمة شهر رمضان وعاداته وقد يصومون أيامًا منه، ولا يحرِّمون ما
حرَّم الله ورسوله من الخمر والميسر والزنا والربا إلا بالقول دون الفعل.
ومنهم من يصلي ويصوم أحيانًا أو دائمًا؛ ولكنهم لا يعرفون كل ما يجب أن
يعرفه المسلم من عقائد الإسلام وأصول أحكامه وآدابه.
ومن آثار ذلك ما نراه من الفوضى في الأمور الإسلامية والجهل ببعض الأمور
المعلومة من الإسلام بالضرورة التي أجمع علماء المسلمين سلفًا وخلفًا على كفر
جاحدها، وعدم عذر جاهلها والدعوة إلى مخالفتها في المحاضرات والمناظرات
والكتابة والخطابة؛ وإنك لترى هذا في الصحف المنتشرة، والرسائل والكتب
المنكرة، التي تكتب بأسماء إسلامية في الأحكام الشرعية كحقوق النساء وترجمة
القرآن وغير ذلك.
ومن آثار ذلك ترجيح المتفرنجين وأولي العصبية الجنسية للغات الأجنبية على
لغة الإسلام العربية، بل يجهلون أن الإسلام قد جعل لغة العرب لغة لكل المسلمين
لتكون عبادتهم واحدة، وشريعتهم واحدة، وآدابهم واحدة، ويصدق عليهم قوله
تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الأنبياء: ٩٢) من كل وجه.
فتعليم أولاد المسلمين في المدارس التبشيرية والمدارس اللادينيية (لاييك) قد
جنى عليهم في دينهم ودنياهم وسياستهم وأوطانهم، وسلبهم أكثر ما نالوه بهداية دينهم؛
حتى لم يبق منه إلا القليل وهو على وشك الزوال.
إنهم أسلموا أولادهم أفلاذ أكبادهم لأعدائهم لأجل أن يجعلوهم مثلهم فيما كانت
به دولهم عزيزة قوية، فقطعوا عليهم الطريق المستقيم الذي يوصلهم إلى ذلك وهم
لا يشعرون ولا يعقلون، ثم إنهم بعد ذلك كله يمارون الذين ينبهونهم ويبينون لهم
حقيقة حالهم وسوء مآلهم.
وأكبر المصائب على المسلمين أنه ليس لهم دولة إسلامية تقيم الإسلام في
علومه وسياسته وهدايته وتشريعه وتعليمه وتربيته، فيرجعون إليها فيما يختلفون
فيه من أمورهم في بلادها وغير بلادها.
وليس لهم جمعيات علمية دينية حكيمة غنية كجمعيات النصارى واليهود تنشئ
لهم المدارس والملاجئ والمستشفيات الإسلامية فتغنيهم بها عن الالتجاء إلى أعداء
دينهم فيما صاروا يرونه ضروريًّا من التعليم الذي عليه مدار المعاش في هذا
العصر.
ترك المسلمون هذه الأمور التي هي من فروض الكفايات فكان من سوء تأثير
تركها ارتكاب الأفراد لمعصية الله تعالى في تعليم أولادهم في المدارس التي بيَّنا
ضررها وفسادها في دينهم ودنياهم.
قد يغتر الذين يعرفون الإسلام ويثقون بتربية أولادهم عليه فيظنون أنه يمكنهم
حفظ عقائد أولادهم مع تعليمهم في هذه المدارس، وقلما يصدق ظن أحد منهم.
وضع أخي السيد صالح رحمه الله بنتًا له في مدرسة البنات الأميركانية
بطرابلس الشام، وهي ناشئة في بيت قلما يوجد نظير له في بيوت المسلمين في
معرفة الإسلام والاعتصام به، وكان السيد صالح بارعًا في جدال القسوس
والمبشرين شديد العارضة قوي الحجة، وكان يكون له الفلج والظفر بهم في كل
مناظرة؛ لكنه كاد يعجز عن إقناع بنته ببطلان ما لقنتها المدرسة من الأناشيد في
ألوهية المسيح وفدائه للبشر أو انتزاع شعورها الوجداني به، فاضطر إلى إخراجها
من المدرسة قبل أن تتم مدتها، ثم كانت على تدينها ومحافظتها على الصلوات
والصيام ويقينها بتوحيد الله تعالى وكون المسيح عبده ورسوله، تحن إلى المدرسة
وتعتقد أن ناظرتها مس لاكرانج من أفضل البشر، وفي هذا عبرة لمن يعتبر.
***
إشكال في تفسير المنار في نقل العرب المناسك
وتحريم الأشهر عن إبراهيم
(س٢٩ - ٣٢) من صاحب الإمضاء في طرابلس الشام:
حضرة الأستاذ الفاضل علامة العصر، وفريد الدهر، الشيخ رشيد أفندي
رضا المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد قرأت في العدد الأول من
مجلد هذه السنة - يعني السنة الماضية - من مجلتكم الغراء ما يأتي:
بعد ما ذكرتم قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} (التوبة: ٣٧) قلتم في تفسير هذه الآية: كانت العرب ورثت من ملة إبراهيم
وإسماعيل تحريم القتال في الأشهر الحرم لتأمين الحج وطرقه كما تقدم، كما ورثوا
مناسك الحج، ولما طال عليهم الأمد غيَّروا وبدَّلوا في المناسك وفي تحريم الأشهر
الحرم ولا سيما شهر المحرم منها؛ فإنه كان يشق عليهم ترك القتال وشن الغارات
ثلاثة أشهر متوالية، فأول ما بدَّلوا في ذلك إحلال الشهر المحرم بالتأويل، وهو أن
ينسئوا تحريمه إلى صفر لتبقى الأشهر الحرم الأربعة كما كانت، وفي ذلك مخالفة
للنص ولحكمة التحريم معًا اهـ.
فنرجو من فضيلتكم أن تجيبونا على هذه الأسئلة الآتية على طريق الاستفادة؛
لأن مجلتكم ترغب بنشر المباحث ليزداد النفع وتظهر حقية هذا الدين:
أولاً: هل لدينا ما يثبت أن مناسك الحج وتحريم القتال في الأشهر الحرم هو
من شريعة سيدنا إبراهيم الخليل؟ أين الكتب الدينية أو السند المتصل الذي يثبت
ذلك ويظهره ظهور الشمس في رائعة النهار؟ فتوارث ذلك من أسلافهم إلى أن
يصل إلى إبراهيم الخليل لا يكون سندًا يُعتد به في الأمور الدينية؛ لعدم الثقة
برجال الجاهلية لكونهم عبدة أوثان؛ ولأن كل ما يفعلونه كانوا ينسبونه إلى إبراهيم
الخليل، ولا يبعد أن تكون عبادتهم للأصنام ادعاء منهم أن سيدنا إبراهيم كان يعبدها.
ثانيًا: كيف يجعل الله عبادة الوثنيين ومناسكهم عبادة في الإسلام ومناسك له،
والإسلام جاء ليجتث جذور الوثنية كما في تحريمه التشفع بالأولياء والصلحاء؛ لأنها
تماثل ما يفعله الوثنيون.
ثالثًا: إذا كانت العرب ورثت عن إبراهيم الخليل المناسك وتحريم القتال في
الأشهر الحرم يلزم أن تكون العرب قبل الإسلام أمة غير جاهلية لأنها صاحبة
شريعة، وإن اعتقدنا أنها كانت أمة جاهلية لكونها غيرت وبدلت ما شرع إبراهيم
الخليل؛ فتكون الأمة الإسرائيلية أيضًا قبل ظهور السيد المسيح أمة جاهلية؛ لأنه
كان لها أحكام فغيَّرتها، وعقائد حقة بدَّلتها.
رابعًا: ما معنى كون العرب قبل الإسلام أمة جاهلية؟ هل لكونها لم يرسل
لها نبي أو لكونها غيرت شريعة إبراهيم الخليل صلوات الله عليه؟
نرجو الجواب على صفحات مجلتكم الغراء مؤيدًا بالأدلة العقلية والنقلية، فلا
عدمت الأمة الإسلامية أمثالكم، ودمتم لها حصنًا حصينًا وسيفًا قاطعًا لأعناق
المعتدين، والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد فؤاد إشراقية

(ج) إن ما تنقله الأمم بالعمل المتواتر لا يحتاج في إثباته إلى أسانيد قولية
محفوظة ولا مكتوبة كنقل الكلام، فصفة الصلاة وعددها وعدد الركعات فيها وصفة
مناسك الحج المجمع عليها من الطواف والسعي والوقوف، كل ذلك بينه النبي صلى
الله عليه وسلم وجرى عليه المسلمون بالعمل إلى يومنا هذا، وبذلك كان قطعيًّا يرتد
جاحده عن الإسلام لا برواية المحدثين له بأسانيدهم في كتبهم، وكذلك العرب أخذت
عن إبراهيم وإسماعيل مناسك الحج التي أسندها الله تعالى إليهما في كتابه، وكذا
تحريم القتال في الأشهر الحرم وعملوا بهما قرنًا بعد قرن، إلا أنهم أحدثوا فيهما
بدعًا كالنسيء في الأشهر والعري للطواف ووضع الأصنام في البيت وغيره،
وكانت هذه البدع والأحداث معروفة عندهم هي ومن أحدثها إلا قليلاً منها، ونُقل
هذا عنهم في كتب الحديث والتاريخ الإسلامي، ولم يكونوا يسندون عبادة الأصنام
إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في سيرة ابن إسحاق أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: (رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار؛ لأنه أول من غير
دين إسماعيل فنصب الأوثان وسيب السائبة) ... إلخ، ورواه الطبراني بلفظ:
(غير دين إبراهيم) وهو الذي وضع صنمي إساف ونائلة على الصفا والمروة.
ولكن العمدة في التمييز بين ما كان من مناسك إبراهيم وما لم يكن منها إنما هو
كتاب الله وبيان النبي صلى الله عليه وسلم وهو منقول في كتب الحديث، فما أقرَّه
صلى الله عليه وسلم من تلك المناسك قد صار مشروعًا لنا بإقراره إياه لا بنقلهم له،
وقد كان الحمس من قريش يقفون بالمزدلفة دون عرفات ويفيضون منها وظنوا أن
النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك في حجة الوداع، فوقف مع الناس وأفاض
ونزل في ذلك {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ} (البقرة: ١٩٨) إلى قوله: {ثُمَّ
أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} (البقرة: ١٩٩) وصوروا إبراهيم وإسماعيل
يستقسمان بالأزلام، فكذَّبهم النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا لجعل الله ذلك من الفسق،
بل جاء شرعنا موافقًا لبعض عاداتهم فصارت مشروعة لنا، وما كل عاداتهم ولا
تقاليدهم كان قبيحًا، فهذا جواب السؤالين الأول والثاني.
وأما الجواب عن الثالث والرابع فهو أن حالة العرب قبل الإسلام سميت جاهلية
لما كان يغلب عليهم من الجهل بالدين والشرائع وغلبة الأمية والوثنية ومفاسدها
عليهم، ولا ينافي هذا تعظيمهم لإبراهيم وإسماعيل وحفظهم لأكثر مناسكهما لما كان
لهم في ذلك من العزة والفخر بالإباء والمنافع المادية في سدانة البيت وموسم الحج،
والفرق بينهم وبين اليهود عظيم، وهو غير محتاج إلى البيان لظهوره على أن هذا
الجواب ليس بمحل له.