للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


السنة والشيعة
الاتفاق بينهما والوسيلة إليه
ورأينا ورأي علامة الشيعة فيه

قد علم قراء المنار ما سبق لي من السعي الحثيث منذ ثلث قرن ونيف للاتفاق
والوحدة بين المسلمين بالقول والعمل والكتابة والتصنيف، وإنني أُلجئت في هذه
الآونة الأخيرة إلى الرد على عالمين من علماء الشيعة لكتابين لهما كانا من أكبر
أسباب التفريق والتعادي، وإن أحدهما طعن في كتابه على ديني وعقيدتي وأخلاقي
... إلخ، والثاني طلب مناظرتي مدعيًا استحالة الاتفاق والتعاون بين أهل السنة
والشيعة إلا أن ترجع إحدى الفرقتين إلى مذهب الأخرى في مسائل الخلاف
الأساسية.
ويعلمون أنني لم أقبل الدخول في المناظرة على هذه القاعدة التي وضعها
الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين إلا أن يقره عليها جمهور علماء الشيعة،
وطالبتهم ببيان رأيهم في زعمه هذا، فلم يرد عليه أحد منهم، وإنني افترصت لقاء
مجتهد علمائهم الأشهر في هذا العصر الأستاذ الكبير الشيخ محمد آل كاشف الغطاء
في القدس أثناء عقد المؤتمر الإسلامي العام، فأطلعته على ما كتبه الأستاذ السيد
عبد الحسين نور الدين وسألته رأيه فيه فأنكره أشد الإنكار، ووعد بإجابتي إلى
استنكاره والرد عليه كتابة كما اقترحت، ليعلم ذلك من قرءوا تلك الدعوى في المنار
ويقنعوا بأن أكبر علماء الشيعة يخالفونه فيه، واشترط هو أن أسأله ذلك كتابة
ففعلت.
وذكرت في الجزء الماضي أن الجواب قد جاء من حضرته، وأنني سأنشره
في هذا الجزء؛ إذ كان ردي على الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين في الجزء
الماضي في موضوع طعنه في علم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قد طال حتى انتهى بي إلى آخر الجزء، وكان له بقية استغنيت عنها، وقد قلت: إن
هذا الرد ليس ردًّا على الشيعة؛ وإنما هو رد على منكر علم عمر، ولم يكن لي بد
منه بعد نشر تلك النظريات الباطلة، والروايات التي لا يعرف ناقلها درجتها من
الضعف، وقد حمَّلها ما تتبرأ من حمله من سوء الفهم، وإنني أنشر الآن جواب
الأستاذ كاشف الغطاء، وأقفي عليه بما يزيد الحقيقة كشفًا.

جواب العلامة آل كاشف الغطاء
عقيدة الشيعة في الاتفاق
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد في السموات والأرض
لما جمعني المؤتمر الإسلامي العام المنعقد ليلة الإسراء في القدس الشريف
بالعلامة الشهير، إمام السنة والحديث، الأستاذ الهمام، صاحب منار الإسلام،
السيد محمد رشيد رضا نفع الله المسلمين بمنار علومه - دفع إليَّ كتابًا بخطه
يتضمن السؤال عن عقيدة الشيعة في إخوانهم من أهل السنة، وأنه هل صحيح ما
ربما يقال من أنه لا يمكن اتفاق الشيعة الإمامية معهم على شيء ولو كان لصالح
الفريقين، إلا إذا رجعوا إلى رأي الشيعة فيما يخالفونه فيه؟ إلى أن قال دام تأييده:
فأنت أيها الأستاذ أكبر مجتهدي الإمامية فيما قد اشتهر في بلادنا، وعلى قولك
نعتمد ... إلخ ما كتب.
ونحن نرغب إليه أن ينشر عنا في الجواب على صفحات مناره الأغر ما يلي:
إن إجماع الشيعة الإمامية من سلف إلى خلف - ولعله من ضروريات مذهبهم
لا يخالف فيه أحد من فضلائهم فضلاً عن علمائهم - أن من دان بشهادة أن لا إله
إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولم ينصب العداوة والبغضاء لأهل بيت النبوة سلام
الله عليهم - فهو مسلم وسبيله سبيل المؤمنين، يحرم دمه وماله وعرضه، وتحل
مسادرته [*] ، ومصاهرته، ولا تحل غيبته ولا أذيته، وتلزم أخوته ومودته، أخوة
جعلها الله في محكم كتابه، وعقدها في أعناق المسلمة من عباده، فأصبحتم بنعمته
إخوانًا والمؤمنون بعضهم أولياء بعض، وقد استفاض في السنة النبوية من طرق
الفريقين أن المسلم أخو المسلم شاء أو أبى، والمسلم من المسلم كالعضو من الجسد
إلى كثير من أمثال هذا.
وما سُعد الإسلام وصعد إلى أعلى ذروات العز والمجد إلا يوم كان محافظًا
على تلك الأخوة، وما انحط إلى أسفل دركات السقوط والذلة إلا بعد أن أضاع تلك
القوة، ويشهد الله سبحانه أن ما ذكرته من عقيدة الشيعة الإمامية في إخوانهم
المسلمين هو الحقيقة الراهنة التي لا محاباة فيها ولا تقية، وإن ظهر من كلام بعض
العلماء خلافها فلعله من قصور التعبير وعدم وفاء البيان، ومن شاء الزيادة في
اليقين فدونه الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين سلام الله عليه وهي زبور آل
محمد صلى الله عليه وسلم، فلينظر في دعائه لأهل الثغور الذي يقول في أوله:
اللهم صل على محمد وآل محمد، وحَصّن ثغور المسلمين بعزتك، وأيد حماتها
بقوتك، وأسبغ عطاياهم من جدتك ... إلخ الدعاء على طوله، وهل يشك أحد أن
حماة الثغور في عصر الإمام زين العابدين عليه السلام - أعني عصر بني أمية -
كانوا من جمهور المسلمين وأكثرهم بل كلهم من السنة، والصحيفة السجادية تالية
القرآن عند الإمامية في الاعتبار وصحة السند.
والقصارى أني أعلن عني وعن جميع مجتهدي الشيعة الإمامية في النجف
الأشرف وغيرها، أن اتفاق المسلمين واشتراكهم في السعي لصالح الإسلام
والمحافظة عليه من كيد الأغيار، لم يزل ولا يزال من أهم أركان الإسلام وأعظم
فرائضه وأهم وظائفه، أما النزاعات المذهبية، والنزعات الجدلية فهي عقيمة
الفائدة في الدين، عظيمة الضرر على الإسلام والمسلمين، وهي أكبر آلات
المستعمرين.
فرجائي إلى الأستاذ صاحب المنار أن لا يعود إلى ما فرط منه كثيرًا من
التحريش بالشيعة، ونشر الأبحاث والمجادلات مع بعض علماء الإمامية، والطعن
المر على مذهبهم الذي لا يثمر سوى تأجيج نار الشحناء والبغضاء بين الأخوين،
ولا يعود إلا ببلاء الضعف والتفرقة بين الفريقين، ونحن في أمس الحاجة اليوم إلى
جمع الكلمة، وتوحيد إرادة الأمة، وإصلاح ذات البين.
والأستاذ الرشيد - أرشد الله أمره - ممن يعد في طليعة المصلحين، وكبار
رجال الدين، فبالحري أن يقصر (مناره الإسلامي) على الدعوة إلى الوفاق
والوئام، وجمع كلمة الإسلام، ويتجافى في كل مؤلفاته - سيما في تفسيره الخطير-
عن كل ما يمس كرامة، أو يثير عصبية أو حمية، أو يهيج عاطفة، وأن يدعو
إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فإن ذلك أنجع وأنفع، وأعلى درجة عند الله
وأرفع، وعلى هذه خطاي وخطتي، وهي ديني وديدني، عليه أحيا وعليه أموت
إن شاء الله.
وإليه تعالى أرغب وأبتهل في أن يجمع كلمتنا على الحق والهدى حتى نكون
يدًا واحدة في نصرة هذا الدين الحنيف، إنه أرحم الراحمين.
حرره في زاوية النجف الأشرف المقدسة يوم النصف من شهر رمضان
المبارك سنة ١٣٥٠ ... ... ... ... ... ... محمد الحسين آل كاشف الغطاء
(المنار)
هذا نص الجواب الموعود من سماحة العلامة الواسع الصدر، الجليل القدر،
وهو على حسنه ولطفه دون ما سمعت منه بالمشافهة، ودون ما كنت أتوقع من
الصراحة، جاء مجملاً ليس حزًّا في المفاصل، لم يذكر فيه كلمة الخصم الشنعاء؛
وإنما أشار إليها (بربما يقال) وحصر كلامه في رأي الشيعة الإمامية في (إخوانهم
المسلمين) وقال إنها مجمع عليها بالشرط الذي ذكره، وإنه إن ظهر من كلام بعض
العلماء خلافها فلعله من قصور التعبير وعدم وفاء البيان، فتضمن قوله هذا الاعتذار
عن الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين بأنه ليس فيه إلا قصور التعبير عن
مذهبهم وعدم وفاء البيان به، وهذا السيد ليس ضعيف البيان بل هو فصيح العبارة
قلما يوجد في معاصريه مثله في حسن بيانه وصراحته، وهو يرى أن أكثر
الصحابة والسواد الأعظم من المسلمين من بعدهم قد نصبوا العداوة والبغضاء
لأهل بيت النبوة سلام الله عليهم، من عهد أبيهم علي كرم الله وجهه إلى الآن،
وكذلك الأمة العربية في جملتها كما يُعلم من كلمته الأولى من كلماته الثلاث، وحجته
الكبرى على ذلك تقديم غيره عليه بالخلافة ويليها من الحجج مخالفة أهل السنة لما
يفهمه هو بوجدانه من الروايات الصحيحة في مناقبه ولما يذكره من الروايات
الباطلة فيها، ويطعن في حفاظ السنة حتى البخاري ومسلم لعدم روايتها، فهو يعدهم
كلهم من النواصب المتبعين لغير سبيل المؤمنين - فهو يسلم ما قاله العلامة
كاشف الغطاء من أن عدم نصب العداء لأهل البيت شرط لصحة الإسلام وولاية
أهله - ولا يراه ردًّا عليه أو تخطئة له، وكذلك السيد محسن العاملي لا يعده ردًّا على
كتابه الذي يعدني فيه مع الوهابية غير متبعين لسبيل المؤمنين؛ لأننا ننكر الحج إلى
المشاهد وعبادة قبور أهل البيت أو عبادتهم بالدعاء والطواف بقبورهم؛ ولكننا نعبد
الله تعالى بالصلاة على نبيه وعلى آل بيته في الصلاة وغيرها، ونتقرب إليهم
بحبهم وولايتهم، وبالحكم على من ينصب لهم العداوة والبغضاء بأنه عدو الله
ورسوله، وبهذا القول يقول جميع أهل السنة من الوهابية وغيرهم، ولا يرون
القول بصحة خلافة الراشدين كما وقعت ووجوب حبهم وحب سائر الصحابة منافيًا
لذلك، فما قاله الأستاذ في ناحية الشيعة مجمل غير كافٍ ولا شافٍ.
بيد أنه عندما توجه إلى ناحية السنة وأهلها تفضل على صاحب المنار
بالنصيحة إلى (ما فرط منه كثيرًا من التحريش بالشيعة) ... إلخ إلخ، وهو يعلم
أن صاحب المنار كان مبدوءًا لا بادئًا، ومدافعًا لا مهاجمًا، ولم يكن محرشًا ولا
متحرشًا.
ولم يكن يخفى على ذكاء الأستاذ ما يكون لهذا الجواب عندنا من كلتي ناحيتيه،
وما ضمه بين قطريه، وهو ما رأينا من حسن الذوق الاكتفاء بالإشارة إليه،
فشفعه بكتاب شخصي، يتضمن الاعتذار عما توقعه من تأثير الجواب السلبي، قال
فيه بعد الاعتذار عن تأخيره بما هو مقبول:
ما قاله العلامة في كتابه الشخصي:
نأمل من ألطافه تعالى أنكم لا تزالون متمتعين بالصحة والعافية، والعز
والكرامة، مستمرين على منهاجكم الدائب في خدمة العلم والدين، وكونوا على ثقة
من أننا لا نزال ندعو لكم بالتأييد والتسديد، وأن يجعل الحق مناركم عاليًا، ونور
معارفكم لظلمات الجهل ماحيًا، ولا تزال ذكرى أخلاقكم الطيبة وعوارفكم الذكية
ماثلة في نفوسنا، شاخصة أمامنا.
وتجدون مع هذا الكتاب جواب الرقيم الذي تفضلتم به وأرجو أن تجدوه كافيًا
شافيًا، وتنشروه على صفحات مناركم الزاهر ليعم النفع به، ويكون إحدى همزات
الوصل بين المسلمين وتمزيق ما نسجته عناكب الأوهام على ذلك الصرح المشيد،
وهي الغاية التي نتوخاها في جميع جهودنا ومساعينا، ولعلكم أحرص عليها منا،
وما التوفيق إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وقد تجافيت عن ذكر القائل بتلك المقالة الغريبة والتي لا يوافقه عليها أحد
نظرًا لبعد الملاحظات التي لا تخفى عليكم (إن تجد عيبًا فسد الخللا) اهـ المراد
منه.
(المنار)
إن عبارة هذا الكتاب، تكشف لنا الغطاء عما خفي في ذلك الجواب، مما
تنطوي عليه جوانح كاتبهما من أريحية إسلامية، تأتلف بها معارفه العقلية وعوارفه
القلبية، وعما رأى أنه مضطر إليه في مقامه من الرياسة في علماء المذهب من
مداراة المدارك المتفاوتة، والوجدانات الموروثة، واكتفائه من صدق لقبه (كاشف
الغطاء) أن يبلغ غاياته في الدروس الفقهية، والفنون العقلية واللغوية، ويقف دونها
من مهاب الأهواء الطائفية والمذهبية، التي تختلف فيها الأفهام وتتزاحم الأوهام،
موقف مراعاة الجامدين ومداراة المتعصبين، اهتداء بما روي في الصحيح عن أمير
المؤمنين علي عليه السلام: (حدِّثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكذَّب الله
ورسوله) وروي عنه أنه كان يقول: (إن هنا لعلمًا جمًّا لا أجد له حملة) وأشار
إلى صدره، نقله صاحب نهج البلاغة، فهذا ما أشرحه من عذر صديقي في
إجماله في الجواب على ما فيه من موضع النظر، ووصفه إياي بالتحريش والطعن
المر بالشيعة، ومطالبتي بالكف عن العودة إلى ذلك معبرًا عنه بلفظ الرجاء واجتنابه
الإنكار على هؤلاء المهاجمين، وما هو بالعذر الذي يرضاه منه جميع القارئين.
سيجدني صديقي العلامة المصلح عند رجائه إن شاء الله تعالى، بيد أنني أرى
أن ما نسعى إليه من جمع الكلمة، ووحدة الأمة، لا يرجى نجاحه من طريق الدين
إلا بسعي علماء الطائفتين له على القاعدتين اللتين رفعنا بنيانهما في المنار (الأولى)
(نتعاون على ما نتفق عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) (والثانية) من
اقترف سيئة من التفريق والعداء أو غير ذلك من إحدى الطائفتين بقول أو كتابة
فالواجب أن يتولى الرد عليه العلماء والكتاب من طائفته، وإذا لم يكن صديقنا
الأستاذ الكبير آل كاشف الغطاء هو الإمام القدوة لمن ينهضون بهذا الإصلاح وهو
هو في رياسته العلمية وثقة الطائفة بإخلاصه ونصحه، فمن ذا الذي يتصدى له من
دونه؟ إن المبالغة في مداراة القاصرين، تقف بصاحبها دون ما هو أهل له من
زعامة المصلحين، كان أستاذنا العلامة الشيخ حسين الجسر نسيج وحده في علماء
سورية الجامعين بين علوم الشرع والوقوف على حالة هذا العصر، ولولا مبالغته
في مداراة الجامدين من المعممين وكذا العوام أيضًا لكان ثالث السيد جمال الدين
الأفغاني والشيخ محمد عبده في زعامة الإصلاح، وإنني قد صارحته باستنكار هذه
المبالغة في المداراة مشافهة له وهو ما انتقدته على كتاب الرسالة الحميدية له من
إيراد المسائل العلمية التي لا شك فيها بعبارات تدل على الشك فيها واحتمال صحتها
بالفرض والتسليم الجدلي، ثم قلت له وقد اعتذر بمداراة الجامدين: إذا لم يكن مثل
مولاي الأستاذ في مكانته من سعة العلم والصلاح يجرئ المسلمين على الجزم
بالمسائل العلمية التي يستنكرها أو يجهلها الجمهور، فمن ذا الذي يجرئهم على هذا
ولا يخشى اعتراض الجاهلين؟
فأرجو من الأستاذ الكبير كاشف الغطاء أن يتأمل ما ذكرته من توقف التوفيق
والتأليف على بنائه على القاعدتين المناريتين عسى أن يجد عنده قبولاً، ولا يخفى
عليه أن علماء الدين إذا لم يجمعوا كلمة المسلمين بهدايته على القيام بمصالحهم
المشتركة فقد يغلبهم الملاحدة المتفرنجون على أكثرهم، ويقنعونهم بأن الدين أكبر
المصائب عليهم!