للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد بهجت البيطار


نداء للجنس اللطيف
يوم ذكرى المولد المحمدي الشريف من سنة ١٣٥١
في حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام
تابع لما نشر في الجزء الماضي وما قبله

الطلاق وما في معناه من فسخ وخلع وإيلاء وظهار
ومراعاة حقوق النساء في ذلك
٤٨- مقدمة في أسبابه وحكمه عند أهل الكتاب
وإسراف الإفرنج فيه والأسباب المقتضية للفراق
إن من مصلحة الزوجين التي تقتضيها الفطرة ويوجبها الشرع ويؤيدها العقل
أن يبذل كل منهما جهده لإقامة حقوق الزوجية المشتركة بينهما بالتحاب والتواد
والتعاون والتسامح مع الإخلاص في ذلك كله؛ فإن سعادة كل منهما رهينة بسعادة
الآخر، وخدمتهما للإنسانية لا تتم إلا به، وما أطلق على كل منهما اسم (زوج)
الذي مدلوله (اثنان) إلا لأن إنسانية كل منهما تتم بالآخر فهو به يكون زوجًا ويكون
إنسانًا ينتج أناسي مثله، وكل تقصير يعرض لهما في ذلك فوباله عليهما معًا سواء
وقع من كل منهما أو من أحدهما، فمن ثم وجب عليهما تلافيه بالحسنى والصبر
والمغفرة والعفو، وأقل درجات المعاملة بينهما أن تكون بالتناصف والعدل، فإن
عجزوا عن أداء الحقوق وإقامة حدود الله فيها، وعز عليهما الصبر، كان علاجهما
الأخير هو الفراق، تفاديًا من الشقاء الدائم بالشقاق.
ومن ثم كان مشروعًا في التوراة معللاً ببعض الشرور التي تقتضيه، والذي
دُوِّن في الشريعة عند اليهود وجرى عليه العمل أن الطلاق يباح بغير عذر كرغبة
الرجل بالتزوج بأجمل من امرأته؛ ولكنه لا يحسن بدون عذر، والأعذار عندهم
قسمان: عيوب الخلقة ومنها العمش والحول والبخر والحدب والعرج والعقم وعيوب
الأخلاق وذكروا منها الوقاحة والثرثرة والوساخة والشكاسة والعناد، والإسراف
والنهمة والبطنة والتأنق في المطاعم والفخفخة، وأي امرأة تخلو من ذلك كله؟
والزنا أقوى الأعذار عندهم فيكفي فيه الإشاعة وإن لم تثبت، إلا أن المسيح عليه
السلام لم يقر منها إلا علة الزنا، وأما المرأة فليس لها أن تطلب الطلاق مهما تكن
عيوب زوجها ولو ثبت عليه الزنا ثبوتًا.
وكان الطلاق معروفًا عند غير أهل الكتاب من الوثنيين ومنهم العرب، وكان
يقع على النساء منه ظلم كثير عند الجميع، فجاء الإسلام فيه بالإصلاح الذي لم
يسبقه إليه سابق ولم يلحقه لاحق كسائر ما جاء به من الإصلاح.
ولكن خصوم الإسلام من الإفرنج ومقلديهم كانوا يعدون الطلاق من أقبح
مساوي الشريعة الإسلامية على إصلاحها فيه حتى اضطروا إلى تقريره والإسراف
فيه بما لا يبيحه الإسلام وجعله حقًّا مشتركًا بين الرجال والنساء.
وأما الإسلام فقد جعل الطلاق من حق الرجل وحده؛ لأنه أحرص على بقاء
الزوجية التي أنفق في سبيلها من المال ما يحتاج إلى إنفاق مثله أو أكثر منه إذا
طلق وأراد عقد زواج آخر، وعليه أن يعطي المطلقة ما يؤخر عادة من المهر،
ومتعة الطلاق، وأن ينفق عليها في مدة العدة وقد تطول على رأي بعض الفقهاء؛
ولأنه بذلك وبمقتضى عقله ومزاجه يكون أصبر على ما يكره من المرأة فلا يسارع
إلى الطلاق لكل غضبة يغضبها، أو سيئة منها يشق عليه احتمالها، والمرأة أسرع
منه غضبًا وأقل احتمالاً، وليس عليها من تبعات الطلاق ونفقاته مثل ما عليه،
فهي أجدر بالمبادرة إلى حل عقدة الزوجية لأدنى الأسباب أو لما لا يعد سببًا
صحيحًا إن أعطي لها هذا الحق.
والدليل على صحة هذا التعليل الأخير أن الإفرنج لما جعلوا طلب الطلاق حقًّا
للرجال والنساء على السواء كثر الطلاق عندهم فصار أضعاف ما عند المسلمين،
وقد جاء في الإحصاءات التي نشرتها الصحف في هذا العهد أن نسبة الطلاق إلى
عقود الزواج في أمريكا بلغت ٢٠ في المائة كما تقدم في مناسبة أخرى [*] ، ولن
تبلغ هذه النسبة في البلاد الإسلامية واحدًا في المائة ولا في الألف أيضًا إلا أن
يكون في مصر.
ومما قرأناه في الصحف من أخبار طلب نساء الإنكليز للطلاق الذي قبل وحكم
به أن إحداهن طلبت الطلاق لأن زوجها كان بغير لحية عندما تزوج بها، ثم أطلق
لحيته فسأله القاضي عن السبب، فقال إنه يرى اللحية جمالاً وكمالاً للرجل فلم يقبل
عذره وحكم بالطلاق.
وأن امرأة أخرى طلبت الطلاق لأن زوجها لا يلتزم تغيير لباسه بحسب التقاليد
بأن يلبس للمائدة لبوسها وللسهرة لبوسها، فكان هذا ذنبًا مقبولاً موجبًا لإجابة طلبها.
ومن أحكام الطلاق عند اليهود أن من لم يرزق من زوجته بذرية مدة ١٠ سنين
وجب عليه أن يفارقها ويتزوج بغيرها، والإسلام لا يوجب طلاقها عليه إذا لم يهبها
الله تعالى ولدًا ولا التزوج عليها؛ ولكن يستحب له أو يندب أن يتزوج طلبًا للنسل،
وأن يمسك المرأة المحرومة منه ويعدل بينها وبين المرأة التي يهبه الله منها النسل،
إلا أن تطلب هي الطلاق وترى أنه خير لها، فيستحب له إجابة طلبها إذا لم يكن
عنده مانع ديني يرجِّح به إمساكها عنده كاعتقاده أن طلاقها يكون مفسدة لها.
ومن أحكامه عند اليهود أن الرجل متى نوى طلاق امرأته حُرِّمت عليه
معاشرتها بمجرد نيته ووجب عليه تنفيذ عزمه على الطلاق حالاً.
٤٩- عوائق الطلاق في الإسلام
ومراعاة حقوق النساء فيه
الطلاق مكروه في الإسلام؛ ولذلك وضع أمام الرجل موانع وعوائق تصد عنه:
منها: الترغيب في الصبر على ما يكره الرجال من النساء من خُلق وخَلق
وعمل، بما للصبر من الفوائد والثواب عند الله تعالى، وبما يرجى أن يكون للمرأة
المكروهة من ولد صالح يكون سعادة لأهل بيته ولأمته، قال تعالى: {فَإِن
كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: ١٩)
وفي معناها حديث تقدم في الوصايا بالنساء.
ومنها: ما تقدم بيانه من تأديب المرأة الناشز بما يرجى به صلاحها.
ومنها: ما تقدم من بعث حكم من أهله وحكم من أهلها يبذلان جهدهما في
إصلاح ذات البين.
ومنها: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذم الطلاق وبغض الله له
للترغيب عنه كقوله: (ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق) وقوله: (أبغض
الحلال إلى الله الطلاق) رواهما أبو داود من حديث ابن عمر وكقوله: (أيما امرأة
سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) رواه أصحاب
السنن إلا النسائي وابن حبان والبيهقي من حديث ثوبان وكقوله صلى الله عليه
وسلم من حديث آخر: (وإن المختلعات هن المنافقات) .
وقد أبطل الله في كتابه كل ما كان عليه العرب من مضارة للنساء في الطلاق،
ونذكر بعض الآيات في ذلك من غير تطويل في تفسيرها:
فمما أبطل الإسلام به ظلم العرب للنساء في أحكام الطلاق (١) تحديده العدد
الذي يملك الرجل الرجعة فيه بمرتين ولم يكن عندهم محدودًا (٢) تحريمه أخذ
المطلق ما كان أعطاه للمطلقة عند الزواج من مهر أو غيره كله أو بعضه (٣)
تحريمه إمساك المرأة المطلقة في عدة بعد عدة مضارة لها (٤) تحريمه عضل
أولياء المرأة لها، أي منعها بعد انقضاء العدة من الزواج مطلقًا أو الرجوع إلى
زوجها بعقد جديد إذا تراضيا على ذلك بالمعروف، وقد جعل الله زوجها الأول أحق
بردها إذا أراد إصلاح ما كان فسد من أمر معاشرتها بالمعروف.
قال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ
لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: ٢٢٩) .
وقد كتبنا في تفسير هذه الآية من تفسير المنار (ج ٢) ما نصه:
كان للعرب في الجاهلية طلاق ومراجعة في العدة، ولم يكن للطلاق حد ولا
عدد، فإن كان لمغاضبة عارضة عاد الزوج فراجع واستقامت عشرته، وإن كان
لمضارة المرأة راجع قبل انقضاء العدة واستأنف طلاقًا، ثم يعود إلى ذلك المرة بعد
المرة، أو يفيء ويسكن غضبه، فكانت المرأة ألعوبة بيد الرجل يضارها بالطلاق
ما شاء أن يضارها، فكان ذلك مما أصلحه الإسلام من أمور الاجتماع، وكان سبب
نزول الآية ما أخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما عن عائشة وأورده السيوطي في
أسباب النزول قالت: (كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا
ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة وأكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله
لا أطلقك فتبيني ولا آويك أبدًا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت
عدتك أن تنقضي راجعتك. فذهبت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فسكت
حتى نزل القرآن: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة:
٢٢٩)) اهـ. ثم قال تعالى:
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ
هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: ٢٣١) .
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا
تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ
أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: ٢٣٢) .
نهى الله تعالى أولياء المرأة أن يعضلوها، أي يمنعوها أن تعود إلى زوجها
الأول إذا رضي كل منهما بذلك؛ وإنما يكون هذا بعد انقضاء العدة بعقد جديد ومهر
جديد، وقال في الآية التي قبل هاتين الآيتين: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ
أَرَادُوا إِصْلاحاً} (البقرة: ٢٢٨) وهي في ردها إلى عصمته قبل انقضاء العدة،
والأفضل للمرأة ألا تعرف إلا زوجًا واحدًا.
٥٠- منع مضارة النساء بالإيلاء والظهار
أما مضارة الإيلاء فهو أن يغضب الرجل على امرأته فيحلف ألا يقربها، وهو
الإيلاء منها، فالشرع ضرب له أجلاً أربعة أشهر فإن فاء، أي رجع عن يمينه إلى
أداء حق الزوجية الذي حلف على تركه غفر له ما كان فعله أو قصده من ضررها،
فإن لم يفعل وجب منع الضرر بالطلاق، فبعض الأئمة يقول إن الطلاق يقع
بانقضاء الأربعة الأشهر، ويكون بائنًا لا رجعة له فيه، وبعضهم يقول يلزمه
القاضي أحد الأمرين: الرجوع عن اليمين أو الطلاق، وأصل ذلك الآيتان من
سورة البقرة (٢٢٦ و٢٢٧) .
وأما الظهار فهو أن يحرم الرجل امرأته بتشبيهها بأمه، وكان أشهر ألفاظهم
في الجاهلية به قوله لها، أنت عليَّ كظهر أمي. وقد حرَّمه الإسلام وجعل كفارته
أن يعتق عبدًا قبل أن يمس امرأته، فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين، فإن
لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، وبيان ذلك في أول سورة المجادلة.
٥١- حق النساء في فسخ عقد الزوجية
ومخالعة الرجل
إن لحل رابطة الزوجية ثلاثة طرق: فسخ الحاكم للعقد، والخُلع، والطلاق،
فأما الفسخ فيكون بأسباب مشتركة بين الرجال والنساء كالعيوب الخِلْقية المانعة من
أداء الوظيفة الزوجية والأمراض العضالة المعدية، ويكون بطلب المرأة إذا امتنع
الرجل أو عجز عن النفقة عليها أو غاب غيبة منقطعة بشرطها، والعيوب المَرَضِية
التي كان يثبت بها الخيار في الزواج، ولكل من الزوجين فسخه بها من عهد
الصحابة رضي الله عنهم هي الجنون والجذام والبرص وزاد بعضهم السل لمَّا
عرفوه - وفي معناه كل داء مُعدٍ بالتجربة الثابتة عند الأطباء - وقد صرح ابن رشد
بتعليل بعضهم للمرض المبيح للخيار والفسخ بسرايته إلى النسل، وأما عيوب
الخلقة فالمنصوص عليه منها ما يمنع أداء وظيفة الزوجية وهي العِنة والجب
والخصاء في الرجل، والرتق والعفل والقرن في المرأة، وللفقهاء خلاف في هذه
العيوب وأحكامها؛ وإنما غرضنا هنا أن نبين أن الإسلام يحكم في أمثال هذه
المسائل بالعدل والمساواة بين الرجل والمرأة في العيوب؛ لأنها مشتركة قد يوجد
في كل منهما ما يُعدُّ من الظلم قبول الآخر به بالإكراه، ومن قواعد الإسلام: (لا
ضرر ولا ضرار) [١] ثم إنه يعطي للمرأة حق طلب الفسخ في حالة امتناع الزوج
أو عجزه عن أداء حقه؛ لأن له في مقابله حق الطلاق.
وأما الخلع: فقد جُعل مخرجًا للمرأة من الزوجية إذا كرهت الزوج لسبب غير
الأسباب التي يثبت لها بها حق طلب الفسخ، وهو أن تفتدي بما تبذله له من
العوض عما بذله لها من مهر وغيره وما أنفقه عليها ليرضى بحل عقدة الزوجية،
ويكون غير مغبون ولا مظلوم، وحكم هذا الخُلع حكم الطلاق البائن الذي ليس
للرجل فيه حق الرجعة بدون قبول المرأة.
٥٢- عدة الطلاق ومتعته ونفقته
من رحمة الإسلام بالنساء وحفظه لحقوقهن ودفعه الضرر عنهن ما شرعه من
أحكام عدة الطلاق والوفاة، وهي المدة التي ليس للمرأة أن تتزوج إلا بعد انقضائها،
وفي حال الطلاق الرجعي وهو مرتان يجوز للرجل أن يراجعها بدون عقد جديد
ولا مهر، وسبب العدة الأصلي أن يعلم براءة رحم المرأة من الحمل؛ ولذلك كانت
المطلقة قبل الدخول بها لا عدة عليها، ولعدة الوفاة حكمة أخرى هي الوفاء للزوج.
ومما شرعه الله من مراعاة حقوقهن في ذلك أن يطلِّق الرجل امرأته في طهر
لم يقربها فيه لئلا يطول عليها زمن العدة إذا كانت تعتد بالقروء وهي ثلاثة أطهار،
وأن يكون لها حق السكنى والنفقة مدة العدة للطلاق الرجعي، وأن يمتعها عند
الفراق بما يليق بثروته من نقد وغيره قال تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ
وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقاًّ عَلَى المُحْسِنِينَ} (البقرة: ٢٣٦) .
الموسع: الغني، والمقتر: الفقير، وهو بمعنى قوله في سورة الطلاق:
{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: ٧) .
هو في النفقة على المطلقات، واختلف العلماء في متعة النساء فقال بعضهم
واجبة، وقال بعضهم مندوبة، والتحقيق أنها واجبة غير محددة، وأنها من تمام ما
وصف الله به الطلاق المشروع أنه تسريح بإحسان؛ ولذلك جعلها على قدر الثروة
فالغني لا يكون محسنًا ما لم يوسع في هذه المتعة باللائق بثروته.
وحكمة المتعة تطييب قلب المرأة وإزالة توهم احتقار الرجل لها أو ارتيابه فيها،
وقد كان كرام السلف يبالغون في هذا التكريم، روي عن سيدنا الحسن بن علي
عليه السلام أنه متَّع مطلقة له بعشرين ألف درهم وزقاق من عسل، ومتَّع أخرى
بعشرة آلاف واعتذر بقوله: متاع قليل من حبيب مفارق، وقد فصَّلنا هذا البحث
في تفسير آية البقرة من جزء التفسير الثاني المذكورة آنفًا.
٥٣- الحداد على الزوج وغيره
النساء أرق من الرجال شعورًا باللذائذ والآلام، واستجابة لدواعي المسرات
والأحزان، ومن دأبهن النواح على موتاهن، ومن عادتهن الحداد عليهم، وكان
النساء في الجاهلية يسرفن في هذا وذاك، فيخمشن الوجوه، ويلبسن الشعر ويحلقن
الشعور، ويدعون بالويل والثبور، وقد يقضين أعمارهن في ذلك، وقد عُدَّ لبيد
الشاعر الشهير رحيمًا معتدلاً في توصيته بنتيه قبل الإسلام بالبكاء عليه وتعداد
مناقبه عامًا كاملاً، مع نهيه إياهما عن خمش الوجه وحلق الشعر.
وكانت المرأة العربية التي يموت زوجها تعتزل الناس في شر مكان من البيت
لابسة أدنى أخلاق ثيابها، فتظل كذلك حولاً كاملاً لا تغير ثوبها ولا تغتسل ولا
تمتشط ولا تقلم أظافرها، حتى إذا انقضى الحول ألقت من مكانها بعرة تنبئ بها
أهلها بانتهاء الحول، فإذا خرجت تمسحت بأول حيوان تجده من كلب أو داجن أو
حمار، وقد يموت ما تتمسح به من نتنها.
وكان مما جاء به الإسلام من الإصلاح أن حرَّم عليهن النواح وخمش الوجوه
وحلق الشعور وتمزيق الثياب والخروج مع الجنائز، وأذن لهن بالحداد على الميت
ثلاثة أيام فقط إلا الزوج فقد أذن لهن بالحداد عليه مدة عدة الوفاة التي لا يباح لهن
الزواج فيها، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام لغير الحامل، وحصر الحداد في ترك
الزينة والطيب وإظهار السرور، وحكمته ألا يظهر منهن التعرض للزواج وعدم
المبالاة بالوفاء للزوج المتوفى، فإن هذا يعد نقصًا وشينًا لهن، يعقب احتقار
الرجال لهن ورغبتهم عنهن.
ونذكر هنا بعض الأحاديث في موضوع الحداد:
جاء في الصحيحين والسنن الأربع، وغيرها عن أمهات المؤمنين عائشة
وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء أن يحددن
على ميت فوق ثلاث إلا على الزوج أربعة أشهر وعشرًا) ومن أجمع هذه
الأحاديث عندهم ما رواه الستة عن حميد بن نافع قال: أخبرتني زينب بنت أبي
سلمة بهذه الأحاديث الثلاثة قالت:
دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سفيان بن
حرب (والدها) فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة وخلوق أو غيره فدهنت به
جارية، ثم مست بعارضيها ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن
تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا) قالت زينب: ثم
دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت
أما والله ما لي بالطيب حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) الحديث أو ذكرت نحوه، وقالت
(الراوية) سمعت أمي أم سلمة تقول جاءت امراة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقالت إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال صلى الله عليه
وسلم (لا) مرتين أو ثلاثًا، ثم قال: (إنما هي أربعة أشهر وعشرًا، وقد كانت
إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول) قالت زينب: (كانت المرأة
في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشًا ولبست شر ثيابها حتى تمر عليها
سنة، ثم تؤتى بحيوان حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات،
ثم تخرج فتعطى بعرة، ثم ترمي بها، ثم تراجع بعدُ ما شاءت من طيب أو غيره)
قال مالك: تفتض: تمسح به جلدها اهـ.
ويظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم علم من قرينة الحال أن الاكتحال الذي
استئذن به يُراد به الزينة لا التداوي فلم يأذن به وذكرهن بالفرق بين ما كن عليه
في الجاهلية من الحداد وما صرن إليه في الإسلام، وفي الموطأ أنه أذن بالاكتحال
ليلاً وغسله نهارًا، وحكمته أن الرجال يحتقرون المرأة المتوفى زوجها إذا تزينت في
أثناء العدة؛ لأنه إعلام للرجال بطلبها للزواج، وكان من عنايته صلى الله عليه
وسلم بحفظ كرامة النساء أن أمر أصحابه إذا قدموا من سفر أن يبلغوا نساءهم خبر
مجيئهم ليستعددن للقائهم بالنظافة والزينة.
وكان ينهى أن يطرقوهن ليلاً بدون إعلام لئلا يروهن على صفة منفرة من
الشعاثة والتفل، وفي رواية كان ينهاهم أن يطرقوا النساء لئلا يتخونوهن ويطلبوا
عثراتهن.
آداب المرأة المسلمة وفضائلها
٥٤- عموم الأحكام وحكمة ما خُص به النساء
إن الأصل العام في أحكام العبادات والمعاملات في الإسلام من واجب ومندوب
ومحرَّم ومكروه، وفي آدابه من فضيلة ورذيلة، أن تكون موجهة إلى المكلفين من
الرجال والمكلفات من النساء على السواء وخصَّ الشرع الرجال ببعض الأحكام،
والنساء ببعض الأحكام كما تقدم في المسائل الماضية.
وعلة التخصيص وحكمته طبيعة كل من الزوجين الذكر والأنثى ووظائفه
المنوطة به التي يكون بها كل منهم متممًا ومكملاً للآخر في تناسل النوع وترقية
شؤونه، فيكون الرجل رجلاً قائمًا بشؤون الرجال، والمرأة مرأة قائمة بشؤون
النساء بالتعاون الذي يشعر به كل منهما أنهما يكونان حقيقة واحدة يعمل كل منهما
لحفظها كالأعضاء من جسد كل منهما كما تقدم أيضًا.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن تشبه الرجال بالنساء والنساء
بالرجال ويلعن فاعله فقد قال: (لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين
من الرجال بالنساء) [٢] وقال: (لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من
النساء) [٣] وقال: (لعن الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة
الرجل) [٤] .
ومن الأحكام والآداب الخاصة بالنساء ما شرع لسد ذريعة الفساد وحفظ شرف
المرأة وكرامتها من تعدي سفهاء الرجال عليها، ومحاولتهم إفسادها كدأب الفاسقين
في كل زمان، فقلما يوجد امرأة خبيثة في العالم إلا وقد كان المفسد لها رجل خبيث
أو امرأة أفسدها الرجال من قبل، وصارت تتقرب إليهم بإفساد أمثالها، إلا الفساد
الأكبر الذي اتخذ صناعة وتجارة يشترك يها الخبيثون والخبيثات لأجل جمع المال
لا لأجل الخبث نفسه.
٥٥- أمر النساء بالمبالغة بالستر وسببه
من هذا النوع من الآداب النسوية عنايتهن بالستر الدال على الحشمة والصيانة
والمانع من الريبة والظنة، وقد تقدم أن ما أمر الله به من ضرب الحجاب على
أزواج النبي الطاهرات هو من هذا القبيل، ويرى القارئ بعد آية الحجاب من
سورة الأحزاب أن الله تعالى ذكر المؤمنين بعلمه بما يبدون وما يخفون، وذكر
الأزواج الطاهرات برفع الجناح عنهن في محارمهن، وأمر بالصلاة والسلام على
نبيه، وأنذر الذين يؤذون الله ورسوله لعنته لهم في الدنيا والآخرة وعذابه المهين،
وحكم على الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات باحتمال البهتان والإثم المبين، ثم قال:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ
ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} (الأحزاب: ٥٩) .
علل الله تعالى هذا الأمر بالستر بأن تعرف به المرأة المؤمنة أنها مؤمنة حرة،
فيمتنع المنافقون والفساق من إيذائها، فالعلة الخوف عليها من أشرار الرجال لا
الخوف منها، فهي كعلة آية الحجاب ومن جنسها، وما زال الرجال يسيئون الظن
بالمرأة التي تظهر محاسنها وزينتها، وما زالوا يؤذونها وما زالوا يطمعون فيها،
وما زال أهل الدين والعفة يتجنبونها، وناهيك بما يلقاه النساء المتبرجات في زماننا
في مصرنا من إيذاء سفهاء الرجال.
وسبب نزول هذه الآية أن المؤمنات الحرائر كن يلبسن كملابس الإماء الفواجر
على عادات الجاهلية، وأعمها الدرع (القميص) والخمار، وكثيرًا ما كانت المرأة
تلقي القناع على رأسها وتسدله من وراء ظهرها، فيكون جيب الدرع مفتوحًا على
نحرها وصدرها، وكن يلبسن الجلابيب في بعض الأوقات دون بعض (والجلباب
الملحفة والملاءة التي تُلبس فوق الثياب كلها) فإذا خرجن ليلاً إلى الغيطان لقضاء
الحاجة يلقين الجلابيب أو يسدلنها وراءهن، فكان بعض الفتيان يعرض في الطريق
لمن يرونها غير مبالغة في الستر لحسبانها أمة؛ لأن الأمة هي التي كانت تتعمد
إظهار محاسنها، وهي التي تبذل عرضها، فاتخذ هذه العادة بعض المنافقين ذريعة
لإيذاء المؤمنات حتى نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قيل له في ذلك عند
العلم بفعلته قال: كنت أحسبها أمة، فأمر الله أزواجه وبناته وسائر نساء المؤمنين
بأن يدنين عليهن فضل جلابيبهن فيسترن بها رؤوسهن وصدورهن، لكي يعرف
أنهن مؤمنات حرائر فلا يؤذيهن الفساق خطأ، ولا يكون للمنافق الخبيث أن يعتذر
عن إيذائهن عمدًا، وأنزل الله تعالى بعد هذه الآية قوله تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ
المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ
يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً} (الأحزاب: ٦٠) .
والإنذار فيها وفيما بعدها للمنافقين وضعفاء الإيمان ومذيعي الأراجيف بإغراء
النبي صلى الله عليه وسلم بعقابهم وبنفيهم من مدينته إن لم ينتهوا عن جرائمهم مع
عدم ذكرها يدل على العموم الذي يشمل تعرضهم لإيذاء النساء، وتجد تفصيل
موضوع الستر في آيات سورة النور وهي قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل
لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ
آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي
أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ
الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا
يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور:
٣٠-٣١) .
أمر المؤمنات بما أمر به المؤمنين من غض وحفظ، وزاد عليه نهيهن عن
إبداء زينتهن للرجال إلا ما ظهر منها لضرورة التعامل والقيام بالأعمال المشروعة
من دينية ودنيوية، وفسَّره العلماء المختلفو المذاهب بالوجه والكفين وبالملابس
الظاهرة كالقناع والجلباب.
فأما غض البصر فهو خفضه وعدم إرساله فيما تأمر به الشهوة ألبتة، كأن
يكون الإنسان مطرقًا رأسه، لا ينظر رجل إلى امرأة ولا امرأة إلى رجل قط، وهذا
مما يشق بل لا يُستطاع، ولذلك أمر بالغض منه لا بغضه، و (من) للتبعيض،
وهو يحصل بعدم استدامة النظر إلى العورات وما يحرم النظر إليه، وقاعدته: النظرة
الأولى لك والثانية عليك، وأما حفظ الفرج فهو مطلق إلا ما استثناه الله تعالى بقوله:
{إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (المؤمنون: ٦) لأن إرسال النظر بالشهوة
مبدأ كل فتنة كما قال الشاعر:
كل الحوادث مبدأها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
وقال:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدًا ... لقلبك يومًا أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وأما ضرب النساء خمرهن على جيوبهن، فالمراد أن يدرنها على جيوب
قمصهن يسترن بها نحورهن وصدورهن، لعدم الحاجة إلى إبداء غير وجوههن في
أعمالهن على مرأى من الرجال الأجانب، وكان النساء في الجاهلية يسدلن خمرهن
من ورائهن ويوسعن جيوب قمصهن لينكشف ما في نحورهن وعلى صدورهن من
العقود والقلائد يفتخرن بها.
وأما من استثنى الله تعالى مع محارم النساء من غير أولي الإربة من الرجال
فهم الذين لا حاجة لهم في النساء كالشيخ الهرم وذي العلة الطبيعية، والإربة
والأرب: الحاجة المهمة، ويطلق على الشهوة، ومنه حديث عائشة: (أيكم يملك
إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه؟ كان يُقبِّل أهله وهو صائم)
وعطف على هؤلاء الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء لاتحاد العلة، والمراد
بعدم ظهورهم على العورات عدم فطنتهم لها ورغبتهم في الإشراف عليها، وأما النهي
عن ضرب النساء بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن فهو ما كان يفعله بعض النساء
في الجاهلية لتذكير السامع بما في أرجلهن من الخلاخيل افتخارًا بها وتشويقًا إليهن،
وجمهور المفسرين والفقهاء على أن النهي للكراهة لا للتحريم إلا إذا كان يتبعه فعل
محرم.
٥٦- النهي عن خلوة المرأة بالرجل
وسفرها بدون محرم
ومما ورد في سد ذرائع الفساد النهي عن خلوة المرأة بالرجل والسفر بدون
صحبة زوجها أو ذي محرم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر
المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم) متفق عليه من
حديث ابن عباس رضي الله عنه بهذا اللفظ، ومن حديث ابن عمر بلفظ (لا تسافر
المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم) وروى أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة
مرفوعًا: (لا تسافر المرأة بريدًا إلا ومعها محرم يحرم عليها) البريد أربعة فراسخ
وهي اثنا عشر ميلاً، وهل المطلق يحمل على المقيد كما يقول بعض علماء
الأصول، أم الحكم يختلف باختلاف الأحوال والأزمنة في الأمن على النفس؟ ففي
صحيح البخاري من حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بما
سيكون من أثر انتشار الإسلام وعدله وأمنه أن الظعينة سترتحل وحدها من الحيرة
حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله تعالى.
ومن يعلم أخبار الأسفار في هذا العصر، وما يكون دائمًا من تأثير اجتماع
النساء والرجال في البواخر والفنادق الكبيرة؛ فإنه يفقه من حكمة هذا النهي أن
السفر الطويل والقصير سواء في عدم خروج المرأة فيه مع غير ذي محرم، ولا
يبيح لنا الأدب أن نذكر في هذه الرسالة شيئًا مما سمعناه في ذلك، وقد ذكر رجل
للنبي صلى الله عليه وسلم حين نهى عن ذلك أن امرأته تريد الحج، وهو يريد
الجهاد، فأمره أن يترك الجهاد ويسافر مع امرأته.
وجملة القول أن سفر المرأة واجتماعها بالرجل الأجنبي في الخلوة وستر
شعرها وما عدا الوجه والكفين عنه كله يدخل في سد ذرائع تعديه عليها، وإفساده
لها، أو إغوائها إياه، وما يحرم عليها منه يحرم عليه، وعقابهما في الآخرة سواء؛
ولكن سوء عواقب هذا الفساد في الدنيا أشد على المرأة في صحتها وفي شرفها
ومكانتها في المجتمع الإنساني.
٥٧- مسألة حجب نساء الأمصار
وتحرير القول فيها
كل ما استحدثه الناس في المدن والقرى الكبيرة من المبالغة في حجب النساء
فهو من باب سد الذريعة، لا من أصول الشريعة، فقد أجمع المسلمون على شرعية
صلاة النساء في المساجد مكشوفات الوجوه والكفين، وأجمعوا على إحرام النساء
بالحج والعمرة كذلك، نعم إنهن كن يصلين الجماعة وراء الرجال؛ ولكنهن كن
يسافرن مع الرجال محرمات ويطفن بالبيت كذلك، ويقفن في عرفات ويرمين
الجمار على مشهد من الرجال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين،
وكن يسافرن مع الرجال إلى الجهاد ويخدمن الجرحى ويسقينهم الماء ومنهن نساء
النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وقد قاتل نساء المهاجرين مع الرجال في
واقعة اليرموك. وكن يخدمن الضيوف، ويقاضين الرجال إلى الخلفاء والحكام.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الرجل الذي يريد خطبة امرأة أن ينظر
إليها ولو بدون علمها مع منع التجسس على النساء والتطلع إلى عوارتهن، وقد
اختلف العلماء فيما ينظره الخاطب فاتفقوا على الوجه والكفين، وقال الأوزاعي ينظر
إلى مواضع اللحم، وقال داود يجوز النظر إلى جميع البدن، والمتبادر من الإذن
بالنظر إليها - وإن لم تعلم - أن يراها في حالها العادية في بيتها، ويؤيده حديث جابر
عند أحمد وأبي داود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا خطب
أحدكم المرأة فقدر أن يرى منها ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل) وروى عبد الرزاق
وسعيد بن منصور أن عمر خطب إلى علي بنته أم كلثوم، فذكر لها صغرها، فقال
أبعث بها إليك فإن رضيت فهي امرأتك، فأرسل بها إليه فكشف عن ساقها فقالت:
لولا أنك أمير المؤمنين لصككت عينيك.
وأجمع المسلمون على جواز شهادة المرأة للنص عليه في كتاب الله وأمره
باستشهادهن، وعلى صحة بيعها وشرائها وسائر تصرفاتها فيما تملك، وعلى تلقيها
العلم عن الرجال وتلقيهم عنها على تفصيل في أحكام فرض العين وفرض الكفاية
والمندوب فيه، وراويات الحديث منهن كثيرات من نساء الصحابة والتابعين وخير
القرون وقليلات بعد فيما بعدها، وأسماؤهن مدونة في كتب التاريخ ونقد الرواة،
وما كان يكون شيء من ذلك من وراء حجاب إلا ما كان من أزواج النبي صلى الله
عليه وسلم بعد نزول آية الحجاب الخاصة بهن بالنص الصريح وبتعليل الحكم،
وأخطأ من قال إنه يجري فيها قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فإن
لفظها خاص لا عام، دع ما أجازه بعض الأئمة من تزويج المرأة نفسها وغيرها
وتوليها القضاء.
ومن دلائل السنة على عدم وجوب ستر الوجه حديث المرأة الخثعمية ونظرها
إلى الفضل بن العباس ونظره إليها وهو مروي عن ابن عباس في الصحيحين
والسنن وعن علي عند الترمذي وحاصله في جملة الروايات أن الفضل كان رديف
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فعرضت للنبي صلى الله عليه
وسلم امرأة من خثعم وضيئة الوجه تسأله هل تحج عن أبيها الذي أدركته الفريضة
وهو ضعيف لا يثبت على الراحلة؟ فأفتاها بالجواز، وفيه أن الفضل جعل ينظر
إلى المرأة وتنظر إليه، فجعل صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق
الآخر، وفي بعض ألفاظه فلوى صلى الله عليه وسلم عنق الفضل، فقال العباس:
يا رسول الله، لم لويت عنق ابن عمك؟ وفي لفظ: وجأت عنق ابن عمك، فقال
صلى الله عليه وسلم: (رأيت شابًّا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما) وفي رواية
(فلم آمن عليهما الفتنة) .
وقد استنبط ابن القطان وغيره من هذا الحديث جواز النظر عند أمن الفتنة،
حيث لم يأمرها بتغطية وجهها، وقالوا لو لم يفهم العباس أن النظر جائز ما سأل،
ولو لم يكن ما فهمه صحيحًا ما أقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهذا بعد نزول
آية الحجاب قطعًا؛ لأنه في حجة الوداع سنة عشر والآية نزلت سنة خمس.
والتحقيق أن النظر من كل من الرجل والمرأة إلى ما عدا العورات مباح، فإن
كان بشهوة كره تكراره، كما قلنا في تفسير: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور:
٣٠) فإن خيف منه فتنة تفضي إلى الحرام اتجه القول بتحريمه لسد الذريعة لا
لذاته كالخلوة والسفر عند من يقولون بثبوت التحريم بالدليل الظني، وقال الإمام
يحيى ومن وافقه من فقهاء العترة إنه جائز مع الشهوة، وشدد آخرون من الفقهاء،
فقالوا بتحريمه مطلقًا [٥] ، بل قال بعضهم بوجوب ستر المرأة لوجهها وجرى على
ذلك أهل الحضارة في الأمصار، حتى صار من التقاليد أن لا يرى رجل أجنبي
امرأة بالغة ولا يكلمها ولو من وراء حجاب، بل صاروا يكتمون أسماء النساء،
وبلغنا أن بعض المتنطعين من طلبة العلم في طرابلس الشام أمر امرأته بتغطية
رأسها حتى في داخل الدار حتى لا تراها الملائكة.
وأما أهل البوادي الذين يعيشون بالقيام على الأنعام وسكان الأرياف من
الفلاحين وهم أكثر المسلمين - فلا يعرف نساؤهم هذا الغلو في الحجاب، ولا هذا
التهتك والتبذل الفاشي في هذا الزمان، وهم على ذلك أقل من أهل الأمصار سقوطًا
في الفتنة.
ومن لطائف ما يروى في هذا الباب أنه عقد مؤتمر نسوي دولي في أوربة
حضره من قبل الدولة الحميدية كامل بك الحمصي كاتب السلطان الخامس، فسئل
في المؤتمر عن حجاب النساء في الإسلام، فقال ما خلاصته: إن هذه مكيدة من
النساء، رأين أن ذوات الجمال البارع منهن قليلات، وأن ظهورهن للرجال يفتنهم
بهن ويقبح نساءهم في أعين أكثرهم، فتواطأن على الاحتجاب العام ليرضى كل
رجل بامرأته، فضحك النساء في المؤتمر، وكان لكلامه عندهن وقع حسن.
وإذا لم يكن ما قاله كامل بك واقعًا فتعليله صحيح، فالمحجوب محبوب بالطبع
والمبذول مبتذل في العادة الغالبة، ولما صار الهمج الذين كانوا يعيشون عراة
يلبسون الثياب، اشتد شوق رجالهم لنسائهم ورغبتهم فيهن، وتهتك النساء في هذا
العصر هو الذي أحدث ما يسمونه أزمة الزواج في مصرنا وأمثالها.
وجملة القول: إن أصل الشرع في آداب النساء والرجال معروف، وإن سد
ذرائع الفتنة والفساد مشروع، وهو يختلف باختلاف الأعصار والأمصار؛ وإنما
الحرام ما ثبت بنص قطعي الرواية والدلالة، وما دل على طلب تركه دليل ظني
فهو مكروه، وكل رجل وامرأة أعلم بحال نفسه ونيته، وحال قومه وبيئته.
والقاعدة العامة في مثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (الحلال ما أحل الله
في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه) رواه
الترمذي وابن ماجه والحاكم من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه وقوله صلى
الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير
من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات
وقع في الحرام، كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه - وفي رواية: يواقعه -
ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد
مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)
رواه الشيخان وأصحاب السنن عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
نصيحة المؤلف للرجال والنساء
في مسألة الزواج
إنني منذ ثلث قرن ونيف أدرس مسألة النساء والحياة الزوجية وأناقش فيها
أهل العلم والرأي، وأقرأ ما صُنِّف فيها من الكتب، وأتتبع ما تنشره الصحف،
وأتدبر أخبار الإفرنج فيها، وكتبت فيها شيئًا كثيرًا أهمه تفسير آيات القرآن الكريم
في موضوعها، ومقالات الحياة الزوجية التي نشرت في مجلد المنار الثامن وآخرها
هذه الرسالة، وناظرت الدعاة إلى المساواة بين النساء والرجال في الجامعة المصرية
فحكمت لي الأكثرية الساحقة بالفلج وإصابة صميم الحق.
وإنني أعتقد بعد هذا الدرس الطويل العريض العميق، وما اقترن به من
الاختبار الدقيق، أن ما يراه الكثيرون من أهل الغرب والشرق من نوط السعادة
الزوجية بتعارف الزوجين قبل الزواج وعشق كل منهما للآخر هو رأي أفين،
أثبت الاختبار بطلانه، وأن تحاب الشبيبة لا ثبات له بعد الزواج غالبًا، بل كانت
العرب تقول: إن الزواج يفسد الحب.
وإنما القاعدة الصحيحة لهناء الزوجية ما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه لامرأة خاصمت زوجها إليه وصرحت له بأنها لا تحبه، فقال لها:
(إذا كانت إحداكن لا تحب الرجل منا فلا تخبره بذلك؛ فإن أقل البيوت ما بني
على المحبة، وإنما يتعاشر الناس بالحسب والإسلام) يعني التزام كل من الزوجين
لحفظ شرف الآخر، والعمل بما يرشد إليه الإسلام من الواجبات والآداب الزوجية
هو الذي تنتظم به الحياة الزوجية ويعيش الناس به العيشة الهنية.
وينبغي لكل من الزوجين أن يتكلف التحبب إلى الآخر بأكثر مما يجده له في
قلبه؛ فإن التطبع يصير طبعًا، ورحم الله علية بنت المهدي أخت هارون الرشيد
حيث قالت: تحبب فإن الحب داعية الحب؛ فإنه في معنى قوله صلى الله عليه
وسلم: (العلم بالتعلم والحلم بالتحلم) .
هذه نصيحتنا نزفها إلى الرجال والنساء في هذا العصر الذي يشكو فيه العقلاء
إعراض الشبان عن الزواج، فمن وفقه الله تعالى للعمل بها منهم فسيرونها أعلى
وأفضل نصيحة يستحق صاحبها منهم الدعاء والشكر، ومن الله عز وجل المثوبة
والأجر.
((يتبع بمقال تالٍ))