للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المقال الثاني
في السعي للصلح والمرحلة الأولى له في دار المفتي
(نُشر في الجرائد في ٢٨ و٢٩ جمادى الآخرة)

بيَّنت في المقال الأول ما كان من التنازع بين المنار ومجلة مشيخة الأزهر
(نور الإسلام) وأبيِّن في هذا كيف كان الصلح بدءًا وختامًا.
قد راع صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية، وشق
عليه أن يرى في مجلة مشيخة الأزهر مثل تلك المقالة التي نشرتها في الجزء
الخامس بعنوان (صاحب المنار والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم
بعد الأذان) وإمضاء يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء بالأزهر، وهو هو
الغيور على شرف علماء الدين وعلى مجلة الأزهر، واستغرب ما فيها من التهم
التي رشقت بها مجلة المنار وصاحبها وهو من أعلم العلماء بقيمة المنار وما خدم به
الإسلام مدة ٣٥ سنة، ويقتني جميع مجلداته، ويعرف شخص صاحبه معرفة علم
وأخلاق، وقد عرف مثار الشبهات لبعض التهم، وما فيها من تحريف الكلم، لعلمه
بما كان قرره الأستاذ الإمام أو كتبه فيها كمسألة الملائكة ومسألة سحر اليهودي
للمصطفى أعزه الله عز وجل وأجله وصلى عليه وسلم، وبما نشره المنار في
بعضها أو فيها كلها.
وكان أروع ما راع فضيلته وأغربه وأبعده عن الشبهات أن يرمى صاحب
المنار بإفتاء طلاب العلم في المدارس الأجنبية بأن يصلوا مع طلبة النصارى
صلاتهم في كنائسهم لأجل أن يكونوا نصارى! ! فلم يملك نفسه أن سألني بالمسرة
(التلفون) [١] عنها، وهل يوجد في شيء من مجلدات المنار عبارة يمكن أن تتخذ
شبهة عليها؟ فقلت: بل يوجد حجج كثيرة على ضدها آخرها فتوى طويلة في
الجزء الثالث من منار هذه السنة.
ثم إن الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر أخبر الأستاذ المفتي بأنني أرسلت إلى
مجلة (نور الإسلام) مقالة في استنكار جريمتها والرد عليها، وأن مقدمة الرد
شديدة اللهجة، خلافًا لما قاله كل من رآها في دار المنار إذ وصفوها بأنه في منتهى
اللين واللطف، ونيط السعي له بالمفتي للإجماع على إخلاصه وإنصافه، فأرسل
إلي رسولاً يكاشفني به ويعلم ما عندي تجاه هذا البهتان المبين، فسمع الرسول مني
ما لم يكن يحتسب من آيات الحلم وسعة الصدر، وهو أنني لا أشترط للصلح إلا أن
تنشر لي المجلة كل ما أرد به على التهم التي قذفتني بها ردًّا علميًّا لا طعن فيه ولا
سباب، ولا نبز بالألقاب، وأن الغرض منه أن يعلم الذين قرأوا تلك التهم الباطلة
ما عندي من الأدلة العلمية على افتراء بعضها وبطلان بعض وتحقيق الحق في
مسائلها، وهي مسائل اعتقادية وعملية شرعية يجب لهم على المجلة وعليَّ تمحيص
الحق فيها، وأنه ليس لي حظ نفسي في تحقير كاتبها بمثل ما قاله فيَّ، فبلَّغ المفتي
شيخَ الأزهر هذا الجواب، فاتفقا على أن هذا حق.
ثم دار الحديث بيني وبين المفتي في الموضوع بالمسرة، ثم بالمشافهة في دار
المنار إذ تلطف بزيارتي فيها في أول هذا الشهر (جمادى الآخرة - أكتوبر) وكان
مما قاله إنه متفق مع الأستاذ الأكبر على أن لي الحق في الدفاع عن نفسي وفي
كتابة كل ما أعتقد أنه حق وخدمة للإسلام والمسلمين؛ فإن هذا مما ليس لأحد أن
يطالبني بتركه، وأن على مجلة نور الإسلام أن تنشر لي ما أكتبه من الرد العلمي
الذي طلبته؛ وإنما المراد من الصلح عدم العود إلى طعن أحد في شخص الآخر
بتجهيل ولا غيره، وإنهما يرغبان إليَّ ترك الرد إلى أن نجتمع به ونبرم الصلح،
فوعدته بذلك.
ثم جاءني في ضحوة اليوم الرابع من الشهر الأستاذ الشيخ محمد حامد الفقي
رسول المفتي الأول وقال إن فضيلة الأستاذ المفتي يقرئك السلام ويخبرك بأنه كلم
الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي فيما اتفقتما عليه من أمر الصلح وشرطه فرضي به،
ووعد بأن يكتب هو في مجلة نور الإسلام عبارة يعترف فيها بخدمة المنار للإسلام
ومواقفك المحمودة فيها، وإن الاجتماع لعقد الصلح سيكون بدار فضيلته بعد عيد
الجلوس الملكي؛ لأنهم سيسافرون كلهم إلى الإسكندرية لأجله.
ثم بلَّغني المفتي في يوم الثلاثاء الحادي عشر من الشهر دعوته إيانا إلى الغداء
في داره، لأجل الصلح في يوم الخميس الثالث عشر منه فأجبت، ثم أرسل إليَّ
سيارته بعد الظهر من ذلك اليوم فوجدت عنده أصحاب الفضيلة الأساتذة الشيخ فتح
الله سليمان نائب المحكمة الشرعية العليا، والشيخ أحمد حسين مفتي وزارة الأوقاف،
والشيخ محمد الخضر رئيس تحرير مجلة نور الإسلام، والشيخ طه حبيب المدرس
بالأزهر والمحرر في مجلة نور الإسلام، والشيخ محمد حامد الفقي من علماء الأزهر
وخطباء المساجد، وكان معي ابن عمي السيد عبد الرحمن عاصم، وبعد وصولنا
بقليل جاء الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي فقمت له مع القائمين وصافحته،
واعتذر الأستاذ الأكبر عن الحضور بالتياث صحته، ولم نلبث أن قمنا إلى المائدة
النفيسة الدالة على سخاء صاحبها وحسن ذوقه.
وبعد الطعام خرجنا إلى حجرة القهوة والحديث، فافتتح فضيلة المفتي الكلام
بالشكر لنا على قبول دعوته إلى طعامه، وإلى ما هو خير منه وهو الصلح بين
المجلتين الإسلاميتين والمحررين لهما، وقال إن مجلة المنار تخدم الإسلام خدمة
جليلة منذ خمس وثلاثين سنة ولصاحبها فلان من البلاء والجهاد في هذه السبيل ما
عُرف له فضله فيه جميع العالم الإسلامي، وأصبح لمجلته مركز عظيم في نفوس
المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ومجلة نور الإسلام قد أنشئت أيضًا لأجل
هذه الخدمة للإسلام بعينها وتتولى إصدارها ونشرها أكبر هيئة دينية إسلامية،
فالموضوع واحد والقصد واحد، والحاجة إلى التعاون بينهما شديدة، وخصوم
الإسلام من الملاحدة ودعاة النصرانية (المبشرين) والفاتنين للعامة بإباحة الفسوق
والشهوات كثيرون، فالمصلحة الإسلامية قاضية بتوحيد عملهما، وفضيلة الأستاذ
الشيخ يوسف الدجوي يخدم الإسلام بعلمه وبالتحرير في مجلة نور الإسلام، فأجدر
بالشيخين وبالمجلتين أن يتحدا ويكونا إلبًا واحدًا على العدو المشترك، وقد شجر
بينهما من الخلاف ما أسف له الجميع، وغرضنا من هذا الاجتماع أن يتصافحا
ويتصافيا ويتناسيا الماضي المؤسف، فهذا ما يهمنا ويهم كل مخلص للدين وأهله.
هذه خلاصة ما فاه به الأستاذ المفتي، وتلاه الأستاذ الدجوي فقال إنه لا بد من
ذكر سبب الخلاف والشقاق وما يبنى عليه الصلح، وهو أن يكف الشيخ رشيد
إخوانه أو جماعته الوهابيين عن تكفير المسلمين وحملهم على عقائدهم أو مذهبهم
بالقوة واستباحة دمائهم، ويكف أتباعه - أو قال أذنابه - عن الكتابة في الصحف
وغيرها، وطفق يفيض في هذا الموضوع فعارضه المفتي قائلاً نحن لا نريد نبش
الماضي وبعثه من قبره بل نريد دفنه وتناسيه، ولا شأن لنا الآن بالوهابية ولا
بغيرهم؛ لأننا لا نحاول الصلح والاتفاق لمصلحة جماعة دون جماعة ولا هيئة دون
هيئة، بل نريد مصلحة المسلمين جميعًا، على أن يخدم كل منكما الإسلام بما يعتقده
من غير أن يمس كرامة الآخر.
حينئذ قلت: أما وقد قال الأستاذ الدجوي ما سمعتم فلا مندوحة لي عن جوابه
لأن الاتفاق والتعاون يتعذر مع سوء ظن كل منا بالآخر.
قد سمعتم ما يقول في الوهابية وما يرميهم به وأنه يعدني منهم مع سوء اعتقاده
أو ظنه بهم، وقد كتب كثيرًا في الطعن عليهم، وكان يذكرني في أثناء مطاعنه
بدون أدنى مناسبة ويلقبني بمفتيهم وبزعيمهم، فلهم في خياله أقبح صورة تتمثل في
شخصي.
القول الحق في الوهابية وسبب الطعن عليهم:
إنني أعلم حق العلم أنه ليس في الدنيا مذهب يصح أن يسمى مذهب الوهابية،
وأن أهل نجد الذين يلقبهم غيرهم بالوهابية لايلقبون أنفسهم بهذا اللقب، وهم حنابلة
ليس لهم مذهب غير مذهب الإمام أحمد بن حنبل أحد الأئمة الذي يعترف له جميع
أهل السنة بالإمامة، بل انتهت إليه إمامة السنة في عصره بغير منازع؛ وإنما
ينسبون أنفسهم إلى السلف في العقائد وما كان أحمد إلا إمام السلف في عصره وما
زال أهل الحديث كلهم ينتمون إليه، وقد صرَّح الإمام أبو الحسن الأشعري باتباعه
له.
أما سبب اتهامهم بابتداع مذهب جديد في الإسلام فهو أن الدولة العثمانية قد
رأتهم قاموا بنهضة دينية في جزيرة العرب أيدتها إمارة آل سعود، فخافت أن
يؤسسوا دولة عربية تنزع منها سيادتها على الأمة العربية فحاربتهم بالسلاح،
وبنبزهم بالابتداع في الإسلام، وجعلت قتالهم لها - وهي المعتدية - دليلاً على
تكفيرهم المسلمين واستباحة دماء من لا يتبعهم في مذهبهم، وأغرت بعض العلماء
الذين يخضعون للسلاطين والحكام ويخدمونهم بكل ما يهوون أن يردوا عليهم،
فألَّفوا الرسائل في الطعن عليهم في دينهم، لتنفير عرب الجزيرة وغيرهم وصدهم
عنهم، كما أغرت الإمارة المصرية العلوية بقتالهم بعد أن استولوا على الحجاز
وعجزت عن إخراجهم منه.
وأما صاحب المنار فيعلم السادة الحاضرون وكل من يقرأ المنار أنه لا يقلد في
عقيدته أحدًا من الأئمة، فكيف يُعقل أن يقلد الشيخ محمد بن عبد الوهاب على
فرض أن له مذهبًا خاصًّا غير مذهب الإمام أحمد وسلف الأمة؟ فمن لا يقلد الإمام
الأشعري وقد نشأ على مذهب الأشعرية فأجدر به أن لا يقلد الشيخ محمد ابن
عبد الوهاب.
الأستاذ الدجوي وجه عنايته في مجلة مشيخة الأزهر وغيرها إلى الطعن في
الوهابية وجعلهم شر خلق الله، وإلى تأويل البدع والخرافات الفاشية عند غيرهم
ونرى رزاياها ومفاسدها في بلادنا من توجه الألوف، بل الملايين من الجاهلين في
قضاء حاجتهم وشفاء مرضاهم والانتقام من أعدائهم إلى أضرحة الميتين حتى من لا
يعرف لهم في الإسلام ذكر ولا قدم صدق، وربما كانت أضرحتهم مزورة، فيشدون
إليها الرحال ويحملون إليها النذور ويقربون لها القرابين، ويفتيهم بجواز ما يفعلون
من استغاثة الموتى ودعائهم ويتأول لهم ذلك بالمجاز العقلي والمجاز اللغوي بقرينة
كونهم مسلمين موحدين، وكلنا نعلم أن السواد الأعظم منهم لم يتلق عقيدة الإسلام
من عالم ولا من كتاب من كتب الإسلام الصحيحة؛ وإنما يتلقونه عن أمهاتهم
وجداتهم وأقرانهم وَلِدَاتِهِمْ.
ثم إنه يعلم بما عليه الألوف من أهل البلاد من ترك الصلاة ومنع الزكاة، وكذا
الصيام، ومن استباحة السُّكر والزنا والقمار وغيرها من الموبقات، وأعني بهذا
عدم الإذعان النفسي العملي للأمر والنهي وهو حقيقة الإسلام، ثم إنه لا يكتب شيئًا
في مجلة مشيخة الأزهر في النصح لهؤلاء ولا لأولئك؛ وإنما يوجه همه إلى
الوهابية فيطعن عليهم ليردهم عما يتهمهم به من تكفير المسلمين واستباحة دمائهم،
وهو يعلم أنه يندر فيهم من يقرأ كلامه، وأن من عسى أن يقرأه منهم لا يعتد بعلمه
ولا بإخلاصه، وهم يعلمون من أنفسهم - كما يعلم كل من اختبرهم - أنه لا يكاد
يوجد في بلادهم كلها من يترك صلاة الجماعة، ولا من يجهر بفاحشة مبينة،
والسرائر علمها عند الله، وعلماء الوهابية لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة إلا بما
أجمع فقهاء أهل السنة على أنه كفر وردة عن الإسلام، فهم يخالفون مذهب الإمام
أحمد في هذه المسألة، وفي مسألة أخرى لا أعلم لهم غيرهما، وأعني بالمسألة
الأخرى أنهم يقدمون العمل بالحديث الصحيح المخالف لرواية المذهب عليها؛ ولكن
اتفاق الأئمة الأربعة على ترك العمل بحديث آحادي يعدونه دليلاً على وجود مانع
من العمل به، كعلة في سنده أو معارض لمتنه من نسخ أو غيره، وما يذكرونه في
كتبهم من أحكام الردة فيقال فيه ما يقال في سائر أحكام الردة عند غيرهم من علماء
سائر المذاهب: إنها بيان للحكم منوط بالدليل قوة وضعفًا، ونحن نرى فقهاء المذاهب
كلها يختلفون في المسائل الاجتهادية من هذه الأحكام حتى أن ما يعد كفرًا وردة عند
الحنفية مثلاً قد يكون حرامًا أو مكروهًا عند الشافعية، فمثل هذا البيان لا يُسمى تكفيرًا
للمسلمين بالفعل لكثرة من تنطبق عليهم هذه الأحكام، ولا يترتب عليه سفك الحاكم
المسلم لدمائهم وإجراء أحكام الردة عليهم؛ فإن تكفير الشخص المعين لا يصح إلا
بحكم يبنى على ثبوت الردة مع مراعاة درء الحدود بالشبهات، كالتأول والجهل فيما
يعذر به الجاهل ونحو ذلك، ولهذا يحتاط جميع العلماء فيه ويشددون في النهي عن
تكفير الشخص المعين.
مثال ذلك أن الإمام أحمد يقول بكفر تارك الصلاة، فعلى قاعدة الأستاذ الدجوي
يصح أن يقال: إن هذا الإمام الجليل يستبيح دماء هؤلاء الألوف الذين نراهم في
وقت صلاة الجمعة تغص بهم أسواق القاهرة وشوارعها، وتكتظ بهم ملاهيها
وحاناتها، دع سائر الصلوات التي يمكن التماس العذر لمن يترك جماعتها بأنه قد
يصليها في بيته، فإن صح هذا القول عند الأستاذ في إمام الأئمة أحمد بن حنبل،
فكيف يعاب به أتباعه الملقبون بالوهابية؟
إن النجديين يخالفون إمامهم في مسألة التكفير بترك الصلاة لأنها ليست
إجماعية في غير المستحل للترك، الذي لا يذعن للأمر والنهي، كما قلت آنفًا.
ها نحن أولاء نرى حكومتهم في مكة المكرمة تقيم حدود الشرع كلها، فتقطع
يد السارق، وتقتل القاتل، وتقيم الحد على السكران، إذا ثبت عليهم ذلك شرعًا،
ولم نرها ولا سمعنا عنها، أنها أقامت حد الكفر على أحد ممن على غير مذهبها
الحقيقي وهو مذهب أحمد بن حنبل، ولا مذهبها المزعوم الذي يقول الأستاذ
الدجوي إنها تجبر الناس عليه بالقوة، مع علم الملايين من الناس أن أهل الحجاز لا
يزالون على مذاهبهم.
ولا أنكر مع هذا البيان أنه يوجد في النجديين غلاة في الدين، ولا سيما قريبي
العهد بالبداوة وجفوتها وجهالتها، وهؤلاء الغلاة الجاهلون يجتهد ملكهم بتحضيرهم
وتعليمهم، وقد قاتل في العامين الماضيين طائفة منهم كما هو مشهور، ولا تجد
مثل هذا الغلو في الحضر منهم، وأكثرهم أو كلهم يعرفون أمور دينهم، وأنا أرى
وكيل حكومتهم في مصر الشيخ فوزان السابق يصلي الجمعة في المساجد المتعددة،
فلو كان يعتقد أن أئمتها والمصلين فيها كفار لما كان يصلي معهم.
وإذا كان حال بدو زماننا على ما نعلم، فماذا نقول فيهم قبل بث النجديين للدين
فيهم؟ كانوا يجهلون جل عقائد الإسلام ويتركون أركانه، ويستحلون قتل الحجاج
وغيرهم، لتوهم ريال واحد يوجد عند أحدهم، وقد بطل هذا من نجد، ثم من
الحجاز بإرشاد هؤلاء الوهابيين وتنفيذ حكومتهم للشرع.
هذا ما قلته في مجلس الصلح ردًّا على الأستاذ الدجوي بإيضاح ما في العبارة
المكتوبة دون زيادة في أصل الموضوع.
وقلت أيضًا: إنني أنصح لهم - بل لملكهم نفسه - في كل المسائل التي تشرع
فيها النصيحة بمكتوبات خاصة لا بالتشهير في المنار أو الصحف؛ فإن هذا هو الذي
يرجى نفعه ويعد امتثالاً للأمر بالتواصي بالحق والصبر والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، وقد أبلغ في النصيحة والموعظة ما يستكبره ويستنكره بطانة الملك
السعودي؛ لأنني أسلك فيه طريقة السلف الصالح في موعظة الخلفاء والأمراء وهو
يحب هذه الطريقة، وقد ألفها من علماء قومه.
ثم إن الأستاذ الدجوي ادعى أنني أنا المتعدي عليه بالرد والتحقير، وإنه ليس
إلا مدافعًا عن نفسه فأخرجت من جيبي كتابًا كان أرسله إلى منذ ١٣ شهرًا هو
نموذج من رسالته التي أشرت إليها في الهجو والتكفير، فامتقع وقبع، وثنى صدره
ليستخفي منه، وشخصت إليه أبصار القوم حتى تمنى السيد عاصم لو كان بصيرًا
فيراهم؛ ولكنه قال: إنني اعترضت عليه قبل هذا فقلت عند دخول مجلة نور
الإسلام في سنتها الثانية إنها كانت جديرة بالتهنئة لولا ما ينشر فيها للشيخ الدجوي.
فقلت له: وهل تعد هذا كله عملاً بقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ
عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى: ٤٠) .
ثم قال الأستاذ المفتي: حسبنا ما ذكر عن الماضي، ويجب أن ننظر الآن في
أمر الحاضر والمستقبل، ونعقد الصلح على عدم إثارة شيء مما تقدم، قال الدجوي:
لا بد أن يكف الشيخ رشيد أذنابه عما يكتبون في الجرائد انتصارًا له، فقلت أنا:
إنه ليس لي أذناب ولا أتباع، وهؤلاء الذين يردون على الأستاذ الدجوي وعلى
مجلة الأزهر في الجرائد ليسوا من أتباعي ولا من تلاميذي؛ وإنما هم من علماء
الأزهر، والمعروف منهم من أصدقائي وإخواني مستقلون في آرائهم وعلمهم، وأنا
من أشد الناس احترامًا لاستقلال الرأي وحرية العلم والمناظرة لأهلهما حتى تلاميذي
منهم.
ووافقني بعض الأشياخ الحاضرين على قولي، وقال أحدهم إن هؤلاء الذين
يكتبون في جريدتي السياسة والجهاد في الرد على مجلة المشيخة هم من علماء
الأزهر الذين فصلتهم المشيخة منه في العام الماضي، والسيد رشيد غير مسئول
عنهم لأن لهم مرمى آخر ووجهة أخرى، وما أظن أنهم يرجعون عن الكتابة مهما
يكن من أمر الصلح والنهي، فلا يصح أن نجعل كفهم شرطًا للصلح، وهذا لا يمنع
أن يرجوهم فضيلة السيد رشيد وغيره أن يخففوا من حدة أقلامهم ويقصروا كلامهم
على المناقشة العلمية الهادئة.
ثم دار البحث في الطريقة التي يمحى بها ما كان لما كتبه الأستاذ الدجوي في
مجلة نور الإسلام من أثر، فاتفق الجميع على أن يجاب السيد رشيد إلى ما طلبه
من الرد على المسائل التي اتهم بها كتابة علمية لا يعرض فيها لفضيلة الشيخ
الدجوي ولا لغيره بما يسوء من طعن شخصي، بأن يذكر التهم واحدة واحدة ويرد
عليها بما عنده من الأدلة والشواهد من مجلته وتفسيره، ويرسلها إلى رئيس تحرير
المجلة فينشرها فيها، ولأصحاب الفضيلة المفتي ونائب المحكمة الشرعية العليا
ومفتي الأوقاف الحاضرين الحكم الفاصل في موافقة ما يكتبه السيد لهذا الشرط أو
عدم موافقته، فرضي الفريقان بهذا.
وسأل الأستاذ الشيخ فتح الله سليمان: من المسئول بالتزام النشر في مجلة نور
الإسلام؟ فقال الأستاذ: رئيس التحرير الشيخ محمد الخضر والأستاذ الشيخ طه
حبيب المحرر فيها بموافقة الشيخ الدجوي إننا ننشر.
ثم ذكر الأستاذ المفتي ما كان سبق اقتراحه في مقدمات الصلح من كتابة الأستاذ
الدجوي في المجلة ثناء على الأستاذ صاحب المنار لأجل تحديده، فأبى الدجوي
البحث في تحديد ذلك، وقال إنه هو سيكتب ما يرجى أن يمحو أثر المقالتين وينشره.
واتفق الجميع على أنه يحسن في اتقاء تجدد النزاع أن يتشاور الفريقان فيما
يعرض للكتابة من المسائل الخلافية ويتفقا على الطريقة التي يكتبان فيها، كما
يحسن أن يتزاور الشيخ الدجوي والسيد رشيد لتأكيد المودة وتوطيدها، وتمنوا لو
يكون هذا الاتفاق تمهيدًا لعقد مؤتمر علمي لتمحيص المسائل وحل عقد المشاكل بين
العلماء وإصلاح حال المسلمين.
ثم نهضوا إلى صلاة العصر مسرورين مغتبطين شاكرين لفضيلة صاحب
الدار ومفتي الديار سعيه، وقدَّم هو السيد رشيدًا للصلاة بهم إمامًا، فسروا باقتداء
الشيخ الدجوي به في الصلاة إذ ظهر به أن ما كتبه في تكفيره نصًّا أو اقتضاء فهو
عقوبة لا عقيدة، وبعد أداء الصلاة بالجماعة قاموا لشرب الشاي والتحاور الأخوي
في شجون الكلام، ثم انصرف الجميع مسرورين.
ولم نكد نصل إلى دار المنار حتى علمنا منها أن مطبعة الأستاذ الدجوي التي
يتولى إدارتها ابنه فهمي أفندي بدأت توزع في القاهرة أثناء عقد الصلح رسالة
اسمها (صواعق من نار في الرد على صاحب المنار) فعلمنا أنه حضر مجلس
الصلح من جهة ونقضه في وقت عقده من جهة أخرى.
فهذه خلاصة خبر المرحلة الأولى لعقد الصلح، وسأبيِّن في المقال التالي ما
كان من دعوة فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر إلى استئناف الصلح،
واجتماعنا له في إدارة المعاهد الدينية، وفشل هذه المرحلة الثانية أيضًا، ويتلو ذلك
الرد على البهتان الذي ذكرت أمهات مسائله في المقال الأول من غير ذكر اسم
الشيخ الدجوي؛ لأني لا أرضى أن أكون مناظرًا له ولا خصمًا، وأعلم أن العاقبة
للمتقين.
((يتبع بمقال تالٍ))