للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الشيخ محمد توفيق البكري الصديقي

في شهر ربيع الآخر لاثنتي عشرة ليلة منه توفي عين الأعيان، ونادرة
الزمان، المِعنّ المفن، ومُزن الأدب المرجحنّ، الذي كان له في كل جو متنفس،
ومن كل نار مقتبس، عميد أرفع بيوتات المجد الديني الدنيوي في مصرعمادًا،
وأرسخها في الحسب والنسب أوتادًا، صاحب السماحة الشيخ محمد توفيق البكري
الصديقي، بعد مرض عصبي طال عليه الأمد، وحجبه بضع عشرة سنة عن
مخادع رجال السياسة ومحافل العلم والأدب، قضى معظمها في مستشفى بيروت
المعروف بالعصفورية، وعاد منذ بضع سنين إلى القاهرة، فانقطع في مكتبه
للمطالعة والكتابة، زاهدًا في المزاورة والمحاضرة والمناظرة، على أنه وهو لم
يُبلَّ من مرضه كل الإبلال، ظل حاضر الذهن، قوي الذاكرة، صائب الرأي،
صحيح الحكم، فيما يخوض فيه من مسائل الأدب والعلم؛ وإنما كان يعثر فكره
ويأفن رأيه في أمر واحد سياسي هو الذي كان سبب مرضه ذاك، فقاتل الله السياسة
وفتنها، فهي التي أضاعت عليه وعلى الأمة الانتفاع باستعداده النادر في مركزه
الرفيع.
لقد أوتي محمد توفيق من ذكاء الفؤاد ولوذعية الذهن ما يخبو دونه تلذُّع ذُكاء
وتلظيها، ومن السبق إلى المعالي ما تكبو في غاياته جياد الهمم سابقها ومصليها،
فكان كما قال الشاعر:
وقاد ذهن إذا جالت قريحته ... يكاد يخشى عليه من تلهبه
أخذ حظًّا من التعليم العصري واللغة الفرنسية في مدرسة الأنجال الخديوية،
وأصاب ذروًا من الفنون العربية والشرعية من علم الأزهر، وقبس جذوة من
الحكمة بصحبة الأستاذ الإمام وحضور دروسه الخاصة في جامع عابدين، وتلقى
غريب اللغة وآدابها عن إمامها في هذا العصر العلامة الشيخ محمد محمود الشنقيطي
الكبير، فكتب من إملائه أراجيز العرب وشرح غريبها، ونظم الشعر، وأتقن النثر،
وصنَّف الكتب، وكانت داره (سراي الخرنفش) مثابة للوجهاء والكبراء وناديًا
للعلماء والأدباء، ونزلاً لإقامة المآدب للفضلاء والغرباء.
وكان حظيًّا عند أمير البلاد عباس حلمي باشا، ووجيهًا عند لورد كرومر
عميد الاحتلال البريطاني المسيطر على الحكومة المصرية، حتى إنه كان يزوره
بداره، وولاه الخديوِ نقابة الأشراف ورياسة مشيخة الطرق الصوفية، وسافر إلى
الآستانة، فنال من عطف السلطان عبد الحميد أن وجه إليه رتبة قاضي عسكر
الأناضول العلمية العالية، وبعض الأوسمة السامية، فماذا عسى أن يطلب من
المجد الطريف على مجده التليد فوق هذا؟
بيد أن هذا كان حملاً ثقيلاً، بل أوزارًا ثقالاً على شاب نحيف الجسم عصبي
المزاج مترف المعيشة، حريص على بلوغ الغاية من حظوظ الحياة المادية
والمعنوية؛ وإنما جنت عليه السياسة فأفكته عن كل ما كان يرجى منه من خدمة
لأدب اللغة التي كان يميل إليها بطبعه، وإصلاح لطرق الصوفية التي كان متمكنًا
منها بمنصبه، وقد اجتهدت في ترغيبه فيها منذ عرفته عقب استقراري في مصر
سنة ١٣١٥ وسألمَّ بهذا فيما أكتبه من ملخص ترجمته.
وإنما أقول هنا في خبر وفاته وتشييعه: إن مصر قد قصَّرت تقصيرًا منتقدًا في
تشييعه، فكان كتشييع رجل من الطبقة الثانية أو الثالثة من الوجهاء، قصَّرت
الحكومة فيه فلم يحضره وزراؤها، وكان في منصب وزير أو أكبر؛ وإنما
حضره سعادة محافظ القاهرة، وقصَّر علماء الأزهر فلم يشيعه أستاذهم الأكبر
رئيس المعاهد ولا مفتي الديار المصرية ولا هيئة كبار العلماء الرسمية ورؤساء
الكليات؛ وإنما شيَّعه منهم بعض أصدقاء بيتهم الأوفياء كالأستاذ العلامة الشيخ
حسين والي، وقد كان يحمل من الرتب العلمية وكسى التشريف الرسمية ما لم
يصل إليه أحد منهم، إذ كانت رتبته العلمية السلطانية (قاضي عسكر أناضول)
تلي رتبة شيخ الإسلام وطبقته، وهي رتبة قاضي عسكررومللي، وقصَّر في تأبينه
الخطباء، وفي رثائه الشعراء، وهو في مكانته من حملة الأقلام ومجيدي النظم
والنثر؛ ولكن دولة القلم دخلت في هذه السنين الذي احتجب فيها عنهم في طور
جديد صار فيه مثله على كونه من الطراز الأول مرغوبًا عنه، كما سأبيِّنه بعد،
وأبيِّن أنه ليس بعذر في تقصير طبقات مصر العليا في الحفاوة بتشييعه وتأبينه،
ومن لا قديم له يُحفظ، فليس له جديد يفتخر به.
فرحم الله الشيخ محمد توفيق البكري وأحسن عزاء خليفته وابن أخيه صاحب
الفضيلة الشيخ عبد الحميد البكري وآل البكري وبقية بيوتات المجد عنه.