للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أحمد شوقي بك أمير الشعراء

في صبيحة ١٤ جمادى الآخرة قضى نحبه أحمد شوقي بك الذي كان يُلقَّب
شاعر الأمير فأمير الشعراء، ولعل صديقه الأمير شكيب أرسلان الملقَّب بأمير
البيان هو أول من أطلق على شوقي هذا اللقب بقوله في آخر قصيدة له ألقيت في
الحفلة التي أقامها أدباء السوريين ووجهاؤهم بمصر لمحمد حافظ إبراهيم يخاطب
حافظًا:
فأنت أمير النثر غير منازع ... وأنت أمير الشعر من بعد أحمد
مات حافظ إبراهيم شاعر النيل الاجتماعي، ورثاه في حفلة الأربعين أحمد
شوقي بك فذكر في رثائه أنه كان يتوقع أن يكون مَرْثيه لا راثيه، ولم يلبث أن
مات فجأة بعد ذلك بقليل، فقبل أن ترقأ دموع عالم الأدب العربي التي كانت
تترقرق حزنًا عليه، وقبل أن يقضي شعراؤه لبانتهم من رثائه، فجأهم فقد شوقي،
فكان المصاب بالبدء في سيادة الشعر ثانيًا للمصاب بالثنيان [١] في الزمن؛ ولكنه
صار الأول في شدة الحَزن، والمقدم في لوعة الشجن، فأكبر الأدباء به الخطب،
وتضاعف الأسف في الشرق والغرب؛ فإن شهرة شوقي أكبر، وعشاق شعره أكثر،
ذلك بأنه طرق جميع أبواب الشعر القديمة والحديثة ففتحت له أغلاقها، وكان له
السلطان الأعلى على أرواح عشاقها، بما أجاد في كل فن من فنونها، إلا الهجاء
والمجون فقد نزَّه شعره ولسانه عنهما.
فبتنا نوجس خيفة على دولة الشعراء، وندعو لكبارهم في مصر بطول البقاء،
وأن لا يكون هذا موسم الرحيل لشيوخ الأدباء، فقد تناثر من سلكهم ثلاثة متقاربون
في العمر، حافظ فالبكري فشوقي، وسبقهم في هذه السنة الشيخ عبد المطلب شاعر
البداوة في الحضارة رحمهم الله تعالى، وسنعود إلى الكلام عن شعره في جزء آخر.
كان حافظ يظن - بل يقول - منذ ثلث قرن: مكانة شوقي من أمير البلاد كانت
ترفع شعره إلى أعلى مما يستحقه؛ ولكن شعر شوقي علا بعد دولة ذلك الأمير بنفسه،
فوق ما علا به في عهده، حتى علم أن قربه من الأمير كان سببًا لوقفة في استعداده
حالت دون الوثبة التي وثبها بعد إخراج الحرب العالمية إياه من قفص قصر عابدين،
حتى أن حافظًا بايعه بإمارة الشعراء في الحفلة العامة التي أقيمت له في دار الأوبرة
الملكية.
ونقول اليوم: إن الزمان الذي كان يرتفع فيه قدر العالم والأديب والشاعر
بانتمائه إلى أمير أو ملك قد مات ودفن، وحيَّ أو بعث الزمان الذي يرتفع فيه قدر
الشاعر بشعره، وقرب الزمن الذي تعلو فيه درجة العالم بعلمه، فإن كان المتنبي
خلد من ذكر سيف الدولة ما لم يخلده حسامه وسلطانه، وكان ابن دريد قد انتاش
ابني ميكال من موت الذكر بعد موت الجسد، فوق انتياشهما إياه من ضعة الفاقة
والخمول كما قال في مقصورته الخالدة من أبيات أذكر منها قوله:
نفسي الفداء لأميري ومن ... تحت السماء لأميري الفدا
هما اللذان أثبتا لي أملاً ... قد وقف الناس به على شفا
تلافيا العيش الذي رنقه ... صرف الزمان فاستساغ وصفا
وقلداني منة لو قُرنت ... بشكر أهل الأرض عني ما وفى
بالشعر من معشارها وكان كالـ ـحسوة في آذيّ بحر قد طما
فكذلك شوقي قد يحفظ من ذكر عباس حلمي ويخلد من صيته ما لا تحفظه له
إمارته ولا ثروته اللتان تمتع شوقي في ظلهما الوارف حقبة من الزمن، إلا أن
يعمل الأمير للأمة بهذه الثروة الواسعة، وما أوتي معها من الذكاء والهمة، عملاً
علميًّا إصلاحيًّا كبيرًا، ورب مائة ألف جنيه ينفقها عباس في أثر باق تعجز أن
يمدح بها ويخلد ذكره بمثل قول شوقي له من قصيدة في ديوانه الأول:
عباس إنك للبلاد وإنه ... لم يبق غيرك من يقول بلادي
ولكن للعباس فضلاً على شوقي في شاعريته، يربو ربًا مضاعفًا على فضله
عليه في جاهه وثروته، إذ كان هو العون على تعليمه وتربيته، وتثقيف عقله
وخياله كما شرحه شوقي في مقدمة الشوقيات، وسأقفي على هذه الكلمة في تأبينه
بكلمة أخرى أرجو أن أجد فيها متردمًا يغادره الشعراء والمؤبنون الكثيرون له رحمه
الله تعالى وعزى أنجاله وسائر آله، والشعراء من رعيته.