للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المنار ومجلة مشيخة الأزهر
المقال الخامس
البُهيتة الأولى: إنكار الملائكة

زعمت مجلة مشيخة الأزهر أن صاحب المنار (قرر أن الملائكة عبارة عن
القوى الطبيعية) واحتجت عليه (بالحوار بينها وبين الله تعالى) وبقوله تعالى:
{وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} (النساء: ١٣٦) .
فهل يريد محرر هذه المقالة بما بهتنا به أن يعتقد قراؤها الذين أنشئت
لإرشادهم بلسان هذا المعهد الإسلامي العظيم أن صاحب المنار لا يؤمن بالملائكة،
وهو الذي أنشأ مجلته منذ خمس وثلاثين سنة لدعاية الإسلام والدفاع عنه وتبرئته
من البدع والخرافات التي تصد عقلاء البشر عنه وتفتح لهم أبواب الطعن فيه وهو
المفسِّر للقرآن بالجمع بين المعقول والمنقول وتنزيهه عن الخرافات الإسرائيلية
وغيرها، وهو المتصدي للإفتاء العام في أصول الدين وفروعه حتى لقَّبه العلامة
الشهير الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي بمفتي الآفاق، على رغم أنف كل
ذي حسد ونفاق، هل يريد أن يقول في هذا الرجل إنه ينكر أن لله ملائكة منهم
الروح الأمين مبلغ وحي الله لرسله، ومنهم حملة العرش، ومنهم ملك الموت
وأعوانه، ومنهم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب والمدبرات لأمور الخلق بإذن الله.
من كان لا يؤمن بالملائكة فهو لا يؤمن بوحي الله إلى رسله، ولا يكون مسلمًا
ولا يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا مليًّا وثنيًّا، فإن كان صاحب المنار من هذا الصنف
فلماذا سكت له على كفره هذا علماء الأزهر الأعلام وغيرهم من علماء الإسلام مدة
٣٥ سنة، وهو يطالبهم في كل مجلد من مجلته كما يطالب جميع من يطلع عليها
بأن يكتبوا إليه بما يرونه باطلاً أو منتقدًا فيها مع بيان دليله لينشره لهم فيطلع عليه
سائر قرائه كيلا يضلوا بما ضل هو به؟ حتى إذا سخط عليه أحد محرري مجلة
المشيخة بانتقاده لبعض ما نشره فيها من تأييد البدع والخرافات، بتحريف الآيات
وتصحيح الموضوعات - أظهر للناس هذا الطعن انتقامًا لنفسه ولها، لا خدمة للدين،
ولا نصيحة للمسلمين، فهل كانوا عاجزين أو جاهلين، أم لا يهمهم أمر الدين؟
هذا ما نقوله من ناحية الالتزام العقلي، ونقفي عليه ببعض الشواهد الناطقة
بعقيدة الإيمان بالملائكة واتباعنا عقيدة السلف الصالح فيها، ويجب أن تكون هذه
الشواهد بعضها من كلامنا في التفسير وفي مجلة المنار، وبعضها من كلام الأستاذ
الإمام في تفسير المنار نفسه وفي تفسيره هو لجزء عم.
ذلك بأن شبهة المفتري في هذه المسألة هي عبارة للأستاذ الإمام قالها في درس
التفسير بالأزهر ونقلناها عنه في المجلد الخامس من المنار سنة ١٣٢٠ فاستشكلها
بعض من سمعها منه وبلغوه ذلك فوضح مراده في درس آخر، لا يزال في علماء
الأزهر الذين حضروه من يذكره، وقد صرح به في مجلس الصلح أحد محرري
مجلة المشيخة، ثم كتب بيده إيضاحًا له نشرته في تفسير الجزء الأول معزوًّا إليه
رحمه الله مطبوعًا بحرف أكبر من الحرف الذي نطبع به التفسير.
فهذه مسألة فرغ منها منذ ٣١ سنة، ومن مقاصدها إثارتها الطعن في دين
الأستاذ الإمام وعلمه من وراء حجاب الطعن في صاحب المنار، مع العلم بأن
صاحب المنار إذا كتب فيها فلا بد له أن يعزوها إلى الأستاذ الإمام، فيرميه الطاعن
بأنه هو الذي أظهر كفر أستاذه للناس، وكان من حق الوفاء له عليه أن يقبل الطعن
على نفسه وحده؛ ولكنه قليل الوفاء، وقد كتب الطاعن مثل هذا في مسألة الطعن
علينا بإنكار وقوع السحر على النبي صلى الله عليه وسلم والمنكر له هو الأستاذ
الإمام في تفسيره لجزء عم لا في المنار وله سلف فيه من أئمة العلماء، وسيأتي
بيان ذلك في محله، وهاك الشواهد:
الشاهد الأول
إن أول موضع ذكرت فيه الملائكة من تفسير المنار لسورة البقرة هو قولي في
الإيمان بالغيب من تفسير الآية الثالثة ما نصه:
(الناس قسمان: مادي لا يؤمن إلا بالحسيات، وغير مادي يؤمن بما لا
يدركه الحس، أي بما غاب عن المشاعر متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم،
ولا شك أن الإيمان بالله وملائكته - وهي جنود غائبة لها مزايا وخواص يعلمها الله
سبحانه وتعالى - وباليوم الآخر، إيمان بالغيب. اهـ من صفحة ١٢٧ من جزء
التفسير الأول) .
فهل هذا النص على أن الملائكة جنود لله تعالى من عالم الغيب لها مزايا
خاصة بها، يتفق هو والقول بأنهم عبارة عن القوى الطبيعية.

الشاهد الثاني
ذكرت في الكلام على الوحي من سياق إعجاز القرآن من تفسير سورة البقرة
أيضًا أن ملك الوحي يتمثل للأنبياء عليهم السلام واستشهدت عليه بآيات، ثم قلت:
(وأما تمثل الملك فكانوا يكتفون في إثباته بقولهم إنه ممكن في نفسه، وقد
أخبر به الصادق فوجب تصديقه، ونقول اليوم إن العلوم الكونية لم تُبق شيئًا من
أخبار الغيب غريبًا إلا وقربته إلى العقل، بل إلى الحس تقريبًا، بل ظهر من
الاختراعات المادية المشاهدة في هذا العصر ما كان يُعد عند الجماهير محالاً في
نظر العقل - لا غريبًا فقط - فإذا كان الإنسان الكيميائي يحلل الأجسام الكثيفة حتى
تصير غازات لا ترى من شدة لطفها، ويكثف العناصر اللطيفة فتكون كالجامدة
بطبعها، فكيف يستغرب تكثيف الملك لنفسه، وهو من الأرواح ذات المِرَّة والقوة
العظيمة، بأخذه من مواد العالم المنبثة فيه هيكلاً على صورة إنسان مثلاً؟ دع
مخترعات الكهرباء العجيبة التي لا يوجد شيء مما أخبر به الرسل من عالم الغيب
إلا وفيها نظير له يقربه من الحس لا من العقل وحده، وهل الكهرباء إلا قوة
مسخرة للملائكة اهـ. ويليه كلام في أرواح البشر وقول الإمام مالك فيها (راجع
ص٢٢٠ من جزء التفسير الأول أيضًا) فهل معنى هذا أن الملائكة من القوى
الطبيعية؟
الشاهد الثالث
قلت في الكلام على الملائكة من تفسير آية البر ما نصه: إن الإيمان بالملائكة
أصل الإيمان بالوحي؛ لأن ملك الوحي روح عاقل عالم يفيض العلم بإذن الله على
روح النبي صلى الله عليه وسلم بما هو موضوع الدين، ولذلك قدَّم ذكر الملائكة
على ذكر الكتاب والنبيين، فهم الذين يؤتون النبيين الكتاب {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ
وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: ٤) {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: ١٩٣-١٩٥)
فيلزم من إنكار الملائكة إنكار الوحي والنبوة، إلى أن قلت: والملائكة خلق
روحاني عاقل قائم بنفسه، وهم من عالم الغيب فلا نبحث عن حقيقتهم كما تقدم غير
مرة اهـ (صفحة ١٢٣ و ١٢٤ من جزء التفسير الثاني) فهل معنى هذا أن
الملائكة قوى طبيعية؟
الشاهد الرابع
قلت في تفسير آية النساء {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (النساء:
١٣٦) الآية التي أوردها عليّ ما نصه (فالإيمان بالله هو الركن الأول، والإيمان
بجنس الملائكة الذين يحملون الوحي إلى الرسل هو الركن الثاني، والإيمان
بجنس الكتب التي نزل بها الملائكة على الرسل هو الركن الثالث، والإيمان
بجنس الرسل الذين بلغتهم الملائكة تلك الكتب فبلَّغوها للناس هو الركن الرابع ...
إلخ (راجع ص ٤٥٩ ج ٥ تفسير) فهل يمكن أن يكون المراد بالملائكة الذين
يحملون الوحي إلى الرسل عليهم السلام القوى الطبيعية.
الشاهد الخامس
كتبت في الصفحة ٣١٦ وما بعدها من جزء التفسير السابع في الكلام على
اقتراح المشركين إنزال ملك على النبي صلى الله عليه وسلم والرد عليهم في تفسير
الآيتين الثامنة والتاسعة من سورة الأنعام بحثًا طويلاً في عدم استعداد البشر لرؤية
الملائكة في صورهم الأصلية لقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا
عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} (الأنعام: ٩) أذكر من هذا البحث ما نصه:
(والمختار عندنا أن البشر في حالتهم العادية غير مستعدين لرؤية الملائكة
والجن في حالتهم التي خُلقوا عليها، كما قال تعالى في الشيطان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ
وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: ٢٧) لا لأنهم لا يطيقونها لهولها، بل
لأن أبصار البشر لا تدرك كل الموجودات بل تدرك في عالمها هذا بعض الأجسام
كالماء، وما هو أكثف منه من الأجرام الملونة دون ما هو ألطف منه كالهواء، وما
هو ألطف منه كالعناصر البسيطة التي يتألف منها الماء والهواء، والملائكة والجن
من عالم آخر غيبي ألطف مما ذكر، وهذا العالم مما يعده المتكلمون في الفلسفة
وراء عالم المادة، وليس عند المتكلمين عالم غير مادي ولذلك يعدون الملائكة
والجن من الأجسام اللطيفة، ويقولون إنهم قادرون على التشكل في صور الأجسام
الكثيفة، فمثل تشكلهم كمثل تشكل الماء في صورة البخار اللطيف والبخار الكثيف
(كالسحاب) وصورة المائع السيَّال وصورة الثلج الجليد؛ ولكن الماء يتشكل بما
يطرأ عليه من حر وبرد بغير اختيار منه، وذانك يتشكلان باختيارهما إذ جعل الله
لهما سلطانًا على العناصر التي تتركب منها مادة العالم أقوى من سلطان البشر الذين
يتصرفون فيها بأيديهم لا بأنفسهم وماهياتهم، فهم لا يقدرون على تحليل أبدانهم
وتركيبها مع غيرها من المواد، فإذا تمثل الملك أو الجان في صورة كثيفة كصورة
البشر أو غيرهم أمكن للبشر أن يروه؛ ولكنهم لا يرونه على صورته وخلقته
الأصلية بحسب العادة وسنة الله في خلق عالمه وعالمهما، فإذا وقع ذلك كرؤية
النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل مرتين كان من خوارق العادات، والخوارق لا
تثبت إلا بنص؛ لأنها خلاف الأصل، على أن رؤيته بصورته لا ينافي التشكل،
إذ يجوز أن تكون مادة صورته اللطيفة التي لا ترى قد ظهرت بمادة كثيفة، فيكون
التشكل في هذه الحالة بمادة جديدة مع حفظ الصورة الأصلية، والتشكيل في غيرها
بالمادة والصورة معًا، وعلى أن لأرواح الأنبياء من التناسب مع أرواح الملائكة ما
ليس لغيرها، ففي الحال التي تغلب بها روحانيتهم على جثمانيتهم يكونون كالملائكة،
فيجوز أن يروهم بأي صورة وشكل تَجَلَّوا لهم فيه) اهـ.
الشاهد السادس
كتبت في ص ١٦٢ وما بعدها من جزء التفسير السابع بحثًا آخر في تشكل
الملائكة والجن في الصورة ورؤيتهم في هذه الحالة، وفيه إثبات رؤية النبي صلى
الله عليه وسلم لغير جبريل من الملائكة ورؤية بعض الشياطين.
الشاهد السابع
قلت في تفسير {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ
يَسْجُدُونَ} (الأعراف: ٢٠٦) وهي آخر آية من سورة الأعراف ما نصه: أي
أن ملائكة الله المقربين الذين هم عنده كحملة عرشه والحافّين من حوله ومن شاء
تقدس وتعالى بهذه العندية الشريفة التي لا يعلمها سواه وهم أعلى مقامًا من الملائكة
الموكلين بالمخلوقات وتدبير نظامها لا يستكبرون عن عبادته ... إلخ، فراجعه في
(ص ٥٥٨ من جزء التفسير التاسع) .
ولو شئت أن أذكر جميع الشواهد من تفسير المنار على أن الملائكة خلق
روحاني مستقل قائم بنفسه، وأنهم أنواع أولو عبادات مختلفة وأعمال كثيرة لا
يحيط بها إلا خالقها، وأن الإيمان بها واجب، وإنكارها كفر لازب لمل القارئ لها.
وهذه الشواهد نصوص قاطعة في ذلك بدحض المفتري لهذه البهيتة التي أراد
بهتنا بها من إبهام المطلع على كلامه أننا ننكر حقيقة الملائكة ونجعلهم أعراضًا
لغيرهم، ونقفي عليها بدحض شبهات علينا من كلام الأستاذ الإمام يشتمل على
شواهد أخرى من كلامه وكلامنا أخرناها لمناسبتها لها.
((يتبع بمقال تالٍ))