للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة المجلد الثالث والثلاثين من المنار

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد ولد آدم
محمد رسول الله وخاتم النبيين * المبعوث لإصلاح البشر أجمعين * الذي امتن
عليه ربه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: ١٠٧) وآله
وصحبه ومن اتبعهم في هدي ملته والتزام سنته إلى يوم الدين.
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي *
يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه: ٢٥-٢٨) .
أما بعد، فإنني أذكر من يعقل من المسلمين في فاتحة هذا المجلد من المنار،
وهو الثالث والثلاثون الذي يصدر في السنة السادسة والثلاثين الهجرية من تاريخ
إنشائه بأهم ما يجب أن يفكروا فيه من حالهم ومآلهم على بصيرة من علم الحياة
الذي عرفه شيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى بقوله: (العلم ما يعرفك من أنت
ممن معك) فأقول:
إن الإسلام دين إيمان وعبادة، وعلم وحكمة، وسياسة ملك ودولة، وأساس
عمران وحضارة، خاطب الله تعالى به جميع البشر يدعوهم به إلى الإصلاح العام
بالمساواة بين جميع الأجناس، ونبذ التفرق بينهم بالأنساب والألوان، واللغات
والأوطان، بما شرعه في كتابه القرآن، من القواعد والأحكام والآداب.
بعث الله به نبيًّا أميًّا في أمة أمية غير مقيَّدة بسلطة روحية ولا سياسية تحول
دون فهمه، والنهوض به وتنفيذه، ففعل به هذا النبي وأصحابه في عصر واحد ما
لم يفعله نبي من الأنبياء بما أوحي إليه، ولا حكيم من الحكماء بفلسفته، ولا ملك
من الملوك بسياسته، ولا أديب من الأدباء برأيه وبلاغته، ولا جملة من ذكرنا من
رؤساء البشر وزعمائهم في جميع عصورهم.
ظهر في آسية مهد الأديان الكبرى السائدة في جميع العالم، والحكمة العليا
والحضارة الأولى اللتين استمد منهما سائر البشر حكمتهم وحضارتهم من قبله،
فاستعلى بدينه وحكمه وحكمته وسياسته وحضارته على كل ما كان لدى شعوب
البشر من ذلك كله فيهما، وتدفق سيله على أفريقية فغمرها من الرجا الشرقي إلى
الرجا الغربي منها، فأحيا الأرض بعد موتها، وفاض شؤبوب منه على أوربة،
فأنبت في الأندلس دولة راقية بالعلم والأدب والعمران اقتبست منها سائر شعوبها
العلم والحكمة والحضارة، ثم امتد فتحه إلى الجنوب منها بما أنذرها قرب الاستيلاء
عليها كلها.
ولكن الفاتحين من الصحابة والتابعين كانوا قد اختلطوا بغيرهم ممن كان
حظهم من الفتح ترجيح الغنائم والكسب، على الإصلاح والعدل، فنفخوا في
الإفرنج روح العصبية الدينية والقومية، حتى انتهى ذلك باتفاق شعوب أوربة كلها
على عداوة الإسلام فوجهت جميع قواها إلى محاربة المسلمين بقتالهم لإخراجهم من
بلادها التي فتحوها في فرنسة وأسبانية، ثم بمحاربته في غيرها من بلاد الشرق،
ثم بما هو أشد من ذلك خطرًا وأعمق أثرًا، وهو بث نفوذهم المعنوي في ملوكهم
وحكوماتهم ومدارسهم وكتبهم وصحفهم، حتى صار زعماء المسلمين من حكام
وكتاب ومعلمين ومؤلفين يخدمون أوربة ببث نفوذها المعنوي في شعوبهم وإضعاف
جميع مقوماتها ومشخصاتها الملية والقومية من حيث لا يشعرون، ولا أستثني منهم
الذين يدعون إلى مقاومة نفوذها باستقلال بلادهم وتقليص ظلها عنها إلا قليلاً منهم.
هذه قضايا أساسية في تاريخنا الحديث أثبتناها مرارًا كثيرة بأساليب مختلفة
يغنينا تفصيلها السابق عن الإطالة بها في هذا التذكير الإجمالي الوجيز الذي نرمي
فيه إلى بيان موقف العالم الإسلامي أمام أوربة في طورها الجديد، بعد الحرب
الكبرى التي كان الغبن الأكبر فيها على الشعوب الإسلامية العربية التي ساعدت
أعداءها من دول أوربة، والربح للشعوب الأعجمية التي عادتها وحاربتها وهم
الترك، والتي لزمت الحياد وهم الأفغانيون والإيرانيون، فأمامنا الآن خمس قضايا
جديدة: حالة أوربة، ودول الإسلام الأعجمية وشعوبها، وشعوبه الأعجمية
الخاضعة لغيرها، والعرب أرومة الإسلام الأولى شعوبها وحكوماتها، ومركز
الإسلام الذي يرجى تجديده فيه.
١- حالة أوربة الحاضرة:
خرجت أوربة من الحرب العامة منهوكة القوى مثقلة بالديون، منحلة الروابط
الدينية والأدبية، مرتكسة في فوضى الإباحة، مهددة بالثورة البلشفية التي أسست
لها أقوى دولة خلفت القيصرية الروسية، وهي تبث دعايتها في العالم، وبالخطر
الأصفر الياباني، وبيقظة الشعوب الشرقية كلها حيث ينابيع ثروتها، بل مهددة بما
هو أشد خطرًا عليها من ذلك كله وهو استعار نيران البغضاء وغليان مراجل العداوة
في قلوب دولها وشعوبها بعضهم لبعض بعصبية الجنس والوطن وتباريها في الأثرة
المالية، وتنافسها في الاستعداد للحرب المبيدة الآتية، فهي الآن على فقرها وكساد
تجارتها وعجز ميزانياتها تنفق جل دخلها على إعداد ما تستطيع من قوة للحرب
البرية والبحرية والجوية، واختراع الغازات السامة التي تفني ألوف الألوف من
البشر في ساعة أو ساعات قليلة، مصداقًا؛ لقوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} (المائدة: ٦٤) .
ويخشى أن تكون الحرب المرتقبة كالريح العقيم التي وصفها الله تعالى بقوله:
{مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} (الذاريات: ٤٢) فيكونون كما
قال: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا
فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ} (الأحقاف: ٢٤-
٢٥) فلا يطفئها الله تعالى حتى يهلك بها جميع الظالمين.
إن شعوب أوربة لفي أشد الخوف والرعب من عاقبة هذا الشقاق والعداء بين
دولها أن يُفْضِيَ إلى هذه الحرب وقد كثرت أسبابها، وهي في حَيْرَة من أمرها،
ودهاقين سياستها يعقدون المؤتمرات تلو المؤتمرات، ويحررون المعاهدات
وينقحون القديم منها لتلافي الخطر، ودرء الخطب المنتظر، ولكنهم فيها مضرب
المثل في قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ
أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (النحل: ٩٢) ، وكل فريق
منهم يضمر ويُسِرّ للآخر خلاف ما يُعْلِن، ويُظهِر للعالم غير ما يُبْطِن، وهذا عين
الدَّخَل الذي يُفسد المعاهدات، ويُلجئهم إلى نقضها نقض الأنكاث، الذي يضطرهم
إلى إعادة إبرامها لفسادها، فأنَّى يوفقون إلى الإصلاح وهم المفسدون؟
ألا إنه لا إصلاح بلا إخلاص، ولا إخلاص بلا إيمان، ولا يمكن الجمع بين
الإيمان والعلم والعمران، إلا بدين القرآن، وهم عنه معرضون، ولأهله مُحَادون:
] وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ [١ {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى
عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ
بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأحقاف: ٢٦) . فذرهم في طغيانهم يعمهون،
وفي ريبهم يترددون، بل هم أعداء أنفسهم فيما بينهم، لا يكادون يتفقون إلا على
الكيد للإسلام والعدوان عليه. وانظر في حاله في أهله، ومكانهم من هدايته، هل
هم حجة له على أعدائه وأعدائهم، أم هم فتنة لهم عنه وعون لهم على أنفسهم؟ هل
هم دعاة إليه بأخلاقهم وأحكامهم وعلومهم وأعمالهم وقوتهم وعمرانهم، أم هم
صادُّون عنه؟ وكيف يكون مستقبلهم معهم إذا وقعت الواقعة؟
(٢) دول الإسلام الأعجمية وشعوبها:
إن دول بلاد الإسلام كلها ضعيفة تجاه دول أوربة، ولكنَّ في شعوبه شيئًا من
اليقظة والتوجيه للاستقلال السياسي ولتقليد الإفرنج في الحضارة المادية والنظام
المالي والقوة العسكرية لحفظ هذا الاستقلال، وكل ذلك من الضروريات التي
يوجبها الإسلام وطالما دعونا المسلمين إليها، وصرفنا لهم الآيات فيها والحجج
عليها، ولكن هذا التقليد فيما ينفع مشوب بما يضر من الإسراف في الشهوات
ونزغات الإلحاد وفوضى الآداب وقد فازت الشعوب الأعجمية الثلاثة بهذا
الاستقلال، أعني الترك والفرس (الإيرانيين) والأفغان.
فأما الترك فقد كونوا من أنقاض الدولة العثمانية التي قوضتها الحرب العظمى
دولة جمهورية مستقلة تعنى أشد العناية بالقوة العسكرية وبالعمران المادي، ولكنها
إلحادية (لا دينية) تزهق روح الشعب الديني، ولا يحيا شعب بغير دين، وروح
الإسلام كامنة في الشعب التركي ستظهر بقوة عظيمة يفجرها الضغط عند انتهاء
حده.
وأما الأفغان فقد شرعوا في عهد الملك السابق أمان الله خان يقلدون الجمهورية
التركية في الإلحاد، وفي تقليد الإفرنج في الحضارة المادية وفوضى الآداب،
فكفاهم الله شره، وأدال لهم منه الملك نادر خان الجامع بين قوتي الحضارة والإسلام.
وأما الفرس (أو الإيرانيون) فهم وسط في هذه الأمر بين الأفغان والترك،
فالشاه الجديد عسكري بالطبع والتربية فهو خير منظم للقوة العسكرية من برية
وبحرية وجوية، وموجه كل همته معها إلى التنظيم المالي وتفجير ينابيع الثروة.
وجملة القول أن هذه الدول الثلاث قد استفادت من ضعف دول أوربة الذي
أشرنا إليه، وتم لها استقلالها بعد الحرب العظمى التي قلبت نظام العالم، وإنها
تعنى بالإصلاح العسكري والمالي الذي لا تحيا الدول بدونه عناية شديدة على
الطرق الغربية، وإن البلاد التركية وهي أقواهن ليهددها من الخطر المعنوي
ووقوعها بين أوربة الرأسمالية والروسية البلشفية ما لا يهدد أختيها، ولو عقل
زعماء سياستها وقادة قوتها ما عقله نابليون بونابرت الكبير من قوة الإسلام المعنوية
أو ما يعقله منها قيصر الألمان الأخير لأمكنهم في هذه الفترة التي شغلت دول أوربة
بأحقادها القومية والدولية ومشاكلها المالية وفوضى شعوبها الأدبية أن يؤسسوا
بالاتحاد مع العرب وإيران والأفغان قوة جديدة في الشرق الأدنى تسوده فتكون فيه
أعظم من اليابان في الشرق الأقصى، ثم تكون هي المنقذة لأوربة مما ينذرها من
خطر الفوضى التي أشرنا إليها، لا للإسلام والشرق فقط [٢] .
ولو ظهر في الأفغان أو إيران مصلح حكيم آخر كالسيد جمال الدين لأمكنه في
هذه الفترة تنفيذ ما توجهت إليه همة السيد جمال الدين المصلح الأول من تأسيس
دولة عزيزة للإسلام تحيا بقوتها وعزتها الأمة الإسلامية كلها، وتستقل بها شعوب
الشرق الأدنى والأوسط كلها أيضًا، فتتجدد الإنسانية بأصول الإسلام تجديدًا تزول
به العصبيات الجنسية والقومية، وامتياز الألوان والطبقات في الإنسانية، ويكون
تأويلا لرؤيا بعض الحكماء المتقدمين ومحققًا لأمانيهم في الأخوة الإنسانية عامة،
التي أشار إليها السيد قدس الله روحه في آخر رسالته (الرد على الدهريين) .
وجملة القول في الدول الإسلامية الأعجمية أن الأفغان أرجاها لتجديد الإسلام
إن ظهر من يقوم به في هذه العصر، ولكن علماءهم أشد جمودًا على تقليد فقهاء
مذهبهم الحنفي، وإنما الفقه أحكامٌ للعبادات ونُظُمُ الحكومة، فليس من موضوعه
إحداث انقلاب إصلاحي ولا تجديد سياسي ولا اجتماعي ولا أدبي ولا روحي، وإنما
روح الإصلاح والتجديد تفيض من القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم
وسيرته وتاريخ النهضة الإسلامية الأولى، وكانت الشعوب الإسلامية كلها غافلة
عن هذا فنبهها له سيد أفغاني.
(٣) شعوب الإسلام الأعجمية الخاضعة لغيرها:
وأما شعوب المسلمين الأعجمية الكبرى التي ليس لها دول إسلامية ففيها يقظة
ونهضة علمية ومدنية أقواها في الهند ومسلموها زهاء ثمانين مليونًا، ولكن الوثنيين
في جملتهم أكثر منهم عددًا وثروة وعلمًا، وأوسطها في جاوه وما حولها من الجزائر
الإندونيسية، والمسلمون فيهم هم الأكثرية الساحقة (كما يقال في عُرف العصر)
ويبلغون ستين مليونًا، ولكنهم أقل من أهل الهند الإنكليزية حرية وعلمًا وثروة
بضغط هولندة عليهم، وأدناها في الصين ومسلموها يزيدون على مسلمي جاوه عددًا،
ويفضلونهم حرية وثروة وأدبًا، ولكنهم قليل في الوثنيين الذين يزيدون على
أربعمائة مليون، بيد أنهم متفقون معهم على خلاف ما عليه مسلمو الهند مع الوثنيين،
والعلم الديني والدنيوي فيهم أضعف؛ لضعف اتصالهم بالعالم الإسلامي والعالم
المدني معًا، وبُعْدِ لغتهم عن علومهما، على أن الوثنيين سبقوهم إلى العلوم والفنون
الأوربية؛ لأن الدولة بيدهم، ولو ظهر فيهم مصلحون لما كانت دولتهم عائقة لهم
عن التجديد الإسلامي، بل لأمكنهم حينئذ أن ينشروا الإسلام في بلادهم بسرعة
عظيمة ولأوشك أن تكون لهم فيها دولة ولكن زعامته العامة لا تكون فيها وهي
خاضعة لسلطان غيرها، وبعيدة عن مهد الإسلام وعن الاتصال بأقرب شعوبه
منها، لبعد المسافات وفقد أسباب المواصلات بينها.
(٤) العرب أرومة الإسلام الأولى:
(أعني بالعرب: الناطقين بالضاد من عاربة ومستعربة على قاعدة الحديث
النبوي الشريف: (كل من تكلم بالعربية فهو عربي) [٣] وهم يملكون شطر قارة
إفريقية الشمالي كله من مراكش إلى مصر، وشطر آسية الغربي ما بين المحيط
الهندى وخليج فارس والبحر الأبيض المتوسط، ويبلغون زهاء مائة مليون) .
لقد كان هؤلاء العرب كلهم أشد شعوب الأرض خضوعًا وبذلا للملايين من
الرجال والأموال في سبيل الدفاع عن الدولتين الظالمتين الباغيتين القاهرتين
الكنودين الكفورين اللتين ربحتا الحرب، واستأثرتا بجُلِّ مغانمها، وليس من
موضوعنا هنا أن نبين ما جازتا به هذه الشعوب التي جاهدت معها بأنفسها وأموالها
من الخسف والقهر والضغط الاستعماري، فإنما كلامنا في المسلمين أنفسهم وجنايتهم
عليها التي مكنت الطامعين فيهم من مقاتلهم.
احتلت جيوش إنكلترة وفرنسة بلاد العرب الخصبة التي ذاقت وبال الحرب
ونكالها، ولو أمكنها أن تحتل الحجاز ونجدًا واليمن وعسيرًا لما عفَّت عنها،
ولكنها باحتلالها للعراق وسورية الجنوبية (فلسطين وشرق الأردن) والشمالية
(سورية ولبنان) قد أحاطت بجزيرة العرب وجعلتها تحت نفوذها، وتمكنت من
حرمان الأمة والملة من تنظيم القوى الكامنة فيها وتوحيدها وتجديد مجد العرب بها.
وأما عرب البلاد الأفريقية الذين بذلوا الملايين من أموالهم ورجالهم في
مساعدة إنكلترة وفرنسة فقد جزتاهم بشدة الضغط والحرمان من حرية الدين والدنيا
بقدر جهل شعوبهم واستكانتها، فأيقظها الضغط في كل قطر بقدره، بما يتوقع
انفجاره حيث يكون على أشده، وسبقت مصر بالثورة لرفض الحماية التي ضربت
عليها فاضطرت إنكلترة للاعتراف باستقلالها، ولكنها قيدته بتحفظات اقتضت بقاء
الاحتلال العسكري فيها، والضغط السياسي عليها، وإيقاع الشقاق بين زعمائها،
ومكنهم من ذلك فساد الأخلاق، وانفصام عروة الدين والإسراف في الشهوات، ولا
غرو فهي قد بدأت بعلوم الدنيا منذ قرن ونَيِّف فقضى عليها التفرنج والتقليد أن
تكون أكلة سائغة للإفرنج، وعلى العلم الديني وأهله فيها بالانحطاط، حتى زال
التشريع الإسلامي العام منها بذلك، وما تجدد فيها من الجمعيات الإسلامية، فكلها
فقيرة ضعيفة لا تساوي قوتها كلها عشر قوة جمعية نصرانية، وأما المجلات
الإصلاحية فلا يبلغ جميع قرائها عشر قراء مجلة واحدة من مجلات المجون
والفجور، ومجلة مشيخة الأزهر تفسد وحدها أضعاف ما يصلح غيرها من
المجلات، بتأييدها وتأويلها للبدع والخرافات، حتى كان هذا سبب ما علم القراء
من حملتنا على مشيخة الأزهر الحاضرة التي لم يُصَب الأزهر بمثلها من قبل،
وعسى أن تكون آخر محنه فينتهي بها ما مُنِيَ به من الفتون والصهر! ومدافعة
الإصلاح من أول هذا العصر، فهو في طور انقلاب يتنازعه فيه جمود التقاليد
الخرافية السابق، وجمود التقاليد المادية اللاحق، فهو إما أن يحل به ما حل
بمدرسة دار العلوم من التفرنج، وإما أن يقتحم العقبتين، وينهض بالإصلاح
الإسلامي من الناحيتين، فيقف على سَواء الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله
عليهم من سلف الإسلام الصالحين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين (وسنبسط
هذه المسائل في هذا العام إن شاء الله تعالى) .
وقد اقترح المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد في بيت المقدس في العام الماضي
إنشاء جامعة إسلامية هنالك، ورأينا المجلس الإسلامي الأعلى فيه قد خصص لهذه
الجامعة مبلغًا صالحًا من ريع الأوقاف الإسلامية وفندقًا عظيمًا من مبانيه الجديدة
تقدر قيمته بمبلغ مائة ألف جنيه، فإن وفق كل قطر إسلامي لمساعدته كان مبدأ
رجاء عظيم في النهضة الإسلامية العلمية تفوق ما في سائر الأقطار، ولكن فلسطين
لا تصلح مركزًا للنهضة الإسلامية العامة في العلم والعمل والتشريع والسياسة.

المركز الطبيعي لتجديد الإسلام:
قد علم مما تقدم أن الإسلام الذي عرفته لكم في أول هذه الذكرى لا يوجد له
في هذا العصر دولة تقيمه وتكلفه وتجدد قوته وعدله، ولا شعب يهتدي به وينشره
وينهض بحضارته، ولا مدرسة تربي النشء عليه وتعلمه وتناضل عنه، وجمعيات
غنية تجدده وتظهر للأمم الحية علويته، وما فيه العلاج لأدواء البشر في حضارتهم
المادية الحاضرة من دينية واجتماعية ومالية وحربية بحيث تقوم حجته ناهضة ماثلة
للأبصار.
وأما المركز الطبيعي الحقيق بالتجديد الإسلامي من جميع أنحائه فهو هو
المركز الذي أشرق منه نور الإسلام، فكان من تأثير نوره في العالم ما أشرنا إليه
في أول هذه الفاتحة، وهو الحجاز وسياجه من جزيرة العرب، هذا المركز الأول
للإسلام هو المركز الأخير له، الذي حَرَّمَهُ الرسول صلى الله عليه وسلم على غير
أهله، وأوصى بذلك قبيل موته، ليكون هو المأرز والمعقل لهم عندما تتداعى عليهم
الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها كما أنبأنا النبي صلى الله عليه وسلم وبيَّنا ذلك
بالتفصيل مرارًا، ولكن هذا الاستعداد المركزي لتجديد الإسلام في جزيرة العرب
يجهله أهلها كما يجهلون ما في باطن أرضها من المعادن، بل هم يجهلون استعدادهم
أنفسهم ومبلغ قوتهم وما يجب عليهم وما يمكنهم فعله كما يجهلون وسائل استخراج
معادنهم والانتفاع بها.
في جزيرة العرب مئات الألوف من المسلحين المستعدين للحرب بنفقة قليلة لا
يزال يقاتل بعضهم بعضًا، أفلا يمكن وضع نظام عسكري لهم يحفظون به استقلالهم
ويكونون به إلبًا واحدًا على العدو المعتدي على جزيرتهم عند الحاجة؟
إن بلاد اليمن ونجد وداخل عمان يمكنها الاستغناء عن جلب القوت من
الخارج في أثناء الحرب العامة أو الخاصة، ويمكن الاستعداد لتموين الحجاز منها
ومن سورية والعراق، وإغناؤه عن البحر في تلك الأثناء، ولكن الخطر على
سائر البلاد العربية من قِبَل الحرب المتوقعة أشد؛ لتغلغل النفوذ الأجنبي فيها
وخلوها من قوة الدفاع عن نفسها، بيد أن أكثر أهلها غافلون عن أنفسهم، وآخرون
مشغولون بشهواتهم وتنازعهم الداخلي عن التفكر في مستقبلهم الخاص، فأنَّى
يستعدون لحفظ معقلهم ومأرزهم، ومستقبل دينهم وملتهم، الذي يجب على جميع
مسلمي الأرض مساعدة العرب على تجديد روح الإسلام وتشريعه وملكه فيه.
ألا إنه ليوجد في أهل البصيرة وعلم الحياة وحالة العصر من المسلمين مَنْ
يعرف كُنْه هذا الاستعداد كما يعرفه ساسة الإفرنج، ولا سيما الطامعين منهم الذين
يتخذون الوسائل لقطع الطريق عليهم دون الانتفاع، فعلى هؤلاء العارفين أن
يتعاونوا على وضع مشروع له بالمفاوضات السرية يتضمن بيان مسائله وإقناع
أولي الأمر بتنفيذه أو إلزامهم إياه بما لا يجدون عنه محيصًا، عليهم أن يعملوا بذلك
قبل أن يتعذر عليهم بتمكن خصومهم مما يحاولونه من تطويق قوة العرب في
جزيرتهم بالالتفاف عليها كما تلتف أفعى (البواء) على بطن الأسد فتزهق روحه
ثم تبتلعه.
هذا هو العلاج الوحيد القريب للخطر على الإسلام، الذي لا تستطيع دول
أوربة الآن أن تمنعه بقوة السلاح، لما هي عليه من الاشتغال بنفسها، وما هي
مستهدَفة له من الخطر الأكبر، والبلاء الأصفر، والموت الأحمر.
هذا ما أراه أهم الذكرى لعقلاء المسلمين في فاتحة المنار {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ
الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الكُبْرَى * ثُمَّ
لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى} (الأعلى: ٩-١٣) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ
خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال: ٢٤-٢٥)
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا