للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المقال العاشر
من مقالاتنا في الرد على مجلة مشيخة الأزهر
(تابع لما نشر في المجلد الثاني والثلاثين)

البُهَيْتَة الرابعة من بهائت مجلة الأزهر:
رد أحاديث البخاري في آية رجم الشيخ والشيخة
تقدم في الكلام على البُهَيْتَة الثالثة ذكر ما عزاه محرر مجلة مشيخة الأزهر
إلينا في هذه المسألة بما علم به أنه افتراء منه يوهم قراءها أنه نقله من المنار بنصه،
وإننا نعيده هنا لأجل أن نتكلم في المسألة ببعض التفصيل، وهذا نص عبارته:
عبارة الدجوي في نسخ آية الشيخ والشيخة المفتراة على صاحب المنار:
قال في مناره الصادر في آخر رمضان سنة ١٣٢٧ صفحة ٦٩٧ من مجلد
السنة المذكورة ما نعرض عليك محصله لتحكم فيه، وليتضح به الموضوع الذي
نحن فيه، فإنه كالمقدمة له: رد الأحاديث التي في البخاري وغيره الناطقة بأن آية:
(الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما ألبتة) كانت قرأنًا يُتْلَى، وإن عمر قال ذلك
بمجمع من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، وهو معروف لا مِرَاء فيه، ويستند
حضرته في ذلك الرد على ما تعرف منه مقدار علم الشيخ وتفكيره. يقول: (إن
ذلك لو تَمَّ لكان يتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء
منه. ولم يفرق الشيخ بين النسخ الذي يكون من قبل الشارع ولا يعرف إلا من جهته
ولا يكون إلا في زمنه بإرشاده وتبيينه، وبين التفريط في القرآن وضياع شيء منه)
انتهى قول الدجوي بحروفه.
أقول: إن من قرءوا هذه العبارة في مجلة مشيخة الأزهر يظنون أن محرريها
إذا جاز أن يخطئوا في فهم بعض ما ينقلون فإنه لا يعقل أن يفتروا (أي يتعمدوا
الكذب) فيما ينقلونه عن غيرهم، ولا سيما إذا عينوا المكان الذي نقلوه عنه من
كتاب أو مجلة بعدد مجلداته وصفحاته، وإذًا يكون ما نقله هذا المحرر، وهو من
هيئة كبار العلماء المدرسين في الأزهر عن ص ٦٩٧ من مجلد المنار الذي صدر
في سنة ١٣٢٧ هو كما نقله لا ريب فيه. وهو أن صاحب المنار صرح في تلك
الصفحة برد ما رواه البخاري في المسألة باللفظ الذي ذكره الناقل، وأنه استدل على
رده بما ذكره عنه بقوله: يقول: إن ذلك لو تم لكان كذا وكذا إلخ ما تقدم آنفًا.
لا أقول هذا من باب الاستنباط العقلي فقط، بل أخبرني الثقة أنه وقع بالفعل
قال قائل: إن الشيخ يوسف الدجوي قد افترى الكذب فيما عزاه إلى السيد رشيد،
وزعم أنه نقله من كلامه. فقال له أحد المشايخ - وكانوا بجوار الأزهر -: إنه ليس
من المعقول أن يكون مثل الشيخ يوسف الدجوي في مكانه من كبار علماء الأزهر
ومدرسيه مفتريًا فيما نقله في مجلة المشيخة وعزاه إلى موضعه من مجلة المنار
بالصفحة المعينة من المجلد المعين؟
ولكن غير المعقول عند أكثر الناس ممن يتحرون الصدق، هو واقع بالفعل
ممن يتحرى الكذب، فإن الصفحة ٦٩٧ من مجلد المنار المذكور ليس فيها ما عزاه
إليها هذا المدرس في الأزهر والمحرر في مجلة مشيخته من مسألة الشيخ والشيخة،
وإنما فيها إشارة إلى ما أنكره الدكتور محمد توفيق صدقي وغيره من نسخ التلاوة
لبعض آيات القرآن في مناظرته مع الأستاذ الشيخ صالح اليافعي، ذكرتها في سياق
الحكم في تلك المناظرة.
ذلك بأنني أشرت إلى بعض ما رده جمهور العلماء من روايات الصحيحين
لمخالفته للعمل أو لرواية أخرى أصح منها ثم قلت: فأولى وأظهر أن يجوز رد
الروايات التي تتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء
منه، ومثلت لذلك بكلمة وضعتها بين هلالين وهي (كالروايات في نسخ التلاوة)
وقلت بعدها: ولا سيما لمن لم يجد لها تخريجًا يدفع الشبهة كالدكتور محمد توفيق
صدقي وأمثاله كثيرون اهـ فقولي هذا حكاية لاشتباه ترتب عليه إنكار وقع، لا
رد للحديث لاشتباه يتوقع، وهو مطلق في نسخ التلاوة، لا خاص بنسخ آية الرجم
باللفظ الذي ذكره ولا بغيره.
ومعلوم عند أهل النقل أنه ورد في نسخ التلاوة عدة روايات حتى قيل: إن
سورة الأحزاب كانت تعادل سورة البقرة أو أطول، ومنها هذه الآية، وزعم غلاة
الروافض أن مما حذفه الصحابة رضي الله عنهم منها وادعوا أنه نسخت تلاوته
آيات كثيرة في ولاية علي أمير المؤمنين عليه السلام إلخ؛ بل أقول: إن حديث
عمر الذي رواه البخاري في مسألة رجم الزاني المحصن قد ذكر فيه شيء آخر مما
نسخت تلاوته ولكن لم يذكر فيه الشيخ والشيخة إلخ.
فأنا لم أزد في التمثيل لنسخ التلاوة الذي كان أهم موضوع المناظرة المذكورة
بأكثر من كلمة (كالروايات في نسخ التلاوة) ولم أقل روايات البخاري ولا
الصحيحين ولا غيرهما. وهذه الروايات من أعظم الشبهات حتى الرواية التي
خصها محرر مجلة مشيخة الأزهر بالذكر، وزعم أنها في البخاري وليست فيه،
والشبهات فيها متعدِّدة بعضها في سندها، وبعضها في موضوعها، فمنها اختلاف
ألفاظها، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن الأذن لعمر بكتابتها، ومنها
أن عمر أنكر على أبي بن كعب إرادة كتابتها بإذن النبي صلى الله عليه وسلم -
ومنها أن عمر يخاف قول الناس في إظهار شيء يعتقده، ولا سيما كلام الله تعالى؟
وبعضها في حكمها وهو رجم الشيخ والشيخة إذا زنيا مطلقا، وإنما الرجم على
المحصن شيخًا أو شابًا. فهذا الإطلاق يخالف ما عليه العمل بالإجماع، وفي حديث
عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الزاني غير المحصن
الذي زنى بالمحصنة: إنه يحكم بينهما بكتاب الله تعالى، ثم حكم عليه بجلد مائة
وتغريب عام وعليها بالرجم، والتغريب ليس في كتاب الله عز وجل، فكل هذا من
مشكلات الرواية، وتأول بعضهم الإشكال الأخير بأن المراد به حكمه تعالى فيما
أوحاه إلى نبيه غير القرآن، وروي عن ابن عباس أن آية الرجم في القرآن لا
يغوص عليها إلا غواص. وإنني أذكر أهم ما قاله الحفاظ في زيادة (الشيخ
والشيخة) في حديث عمر.
إن البخاري لما روى حديث عمر في الرجم من طريق سفيان بن عيينة عن
الزهري ذكر أن سفيان قال: (كذا حفظت) وذكر الحافظ ابن حجر في شرح هذه
الكلمة: أن الإسماعيلي أخرج هذا الحديث من رواية جعفر الفريابي عن علي بن
عبد الله شيخ البخاري، وزاد فيه أن عمر قال عند ذكر آية الرجم: (وقد قرأناها:
(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة) وقد رجم رسول الله صلى الله عليه
وسلم ورجمنا بعده. فسقط من وراية البخاري هذه الزيادة.
(ثم قال الحافظ ما نصه) : ولعل البخاري هو الذي حذف ذلك عمدًا فقد
أخرجه النسائي عن محمد بن منصور عن سفيان كرواية جعفر ثم قال: لا أعلم
أحدًا ذكر في هذا الحديث (الشيخ والشيخة) غير سفيان وينبغي أن يكون وَهِمَ في
ذلك. (قلت) : وقد أخرج الأئمة هذه الحديث من رواية مالك ويونس ومعمر
وصالح بن كيسان وعقيل وغيرهم من الحفاظ عن الزهري فلم يذكروها اهـ.
المراد من كلام الحافظ.
وأقول: إن قول البخاري: (قال سفيان كذا حفظت) يدل على أن رواية
جعفر الفريابي عنه هذه الزيادة (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة) غير
صحيحة؛ إذ لو كان سمعها من الزهري لما قال: كذا حفظت - ولهذا قال الحافظ
لعل البخاري هو الذي حذف ذلك عمدًا. وأما النسائي فإنه لما ذكر رواية جعفر
الفريابي عن سفيان أنكر هذه الزيادة التي انفرد بها قال: وينبغي أن يكون وهم في
ذلك - فالبخاري ينفيها عن سفيان، والنسائي يخطئه بها، وسفيان من أئمة رواة
الحديث والفقه فيه، ولكنه تغير في آخر عمره، وكان يدلس أيضًا.
وإنني لأعجب أن أرى محرر مجلة المشيخة من هيئة كبار علماء الأزهر
يتصدى للطعن علينا برد شيء من أحاديث البخاري من غير أن يكلف نفسه مراجعة
البخاري فيما يعزوه إليه منها، على علمه بضعف إلمامه بالسنة وقلة اطلاعه على
ما في الصحيحين منها فضلا عما دونهما، فيا ليت شعري ألا يشعر بضعفه؟ أم
يظن أن النقل عن صحيح البخاري كالنقل عن المنار؟ إذا قلنا للناس في الجرائد:
إن هذا النقل غير صحيح يقل فيهم من يملك مجلدات المنار القديمة ليراجع
الصفحات التي يعزو إليها ما ليس فيها فيعلم كذبه في النقل عنها؟ ولكن صحيح
البخاري يوجد في كل مكتبة إسلامية عامة أو خاصة إلا ما ندر فمن شاء، فليراجع
الحديث في كتاب الحدود منه، وشرح الحافظ ابن حجر له في الجزء الثاني عشر
منه؛ ليعلموا جهل الدجوي وكذبه فيما عزاه إليه.
* * *
استطراد في فضحية مجلة الأزهر لعلمائه
في الجهل بعلوم الحديث
ونصيحة المنار لها
إنني نصحت لمجلة مشيخة الأزهر في تقريظي لها عقب ظهورها بأن تعنى
بما قصر فيه الأزهريون في هذا العصر من علم الحديث؛ إذ رأيت فيها إنكارًا
لوجود حديث نبوي بمعنى تأييد الله لهذا الدين بمن ليس من أهله، وذكرت لها
حديث الصحيحين وغيرهما في ذلك، واقترحت عليها أن لا تذكر حديثًا إلا مقرونًا
بتخريجه ودرجته، وهي على قبولها للنصيحة في الجملة سمحت للشيخ يوسف
الدجوي بأن يخبط فيما يكتبه خبط عشواء بل عمياء، فيكذب في النقل حتى العزو
إلى صحيح البخاري، ويصحح الموضوعات والواهيات، ولما أنكرت عليه بعض
هذا الخبط انتقم مني بما علمه القراء.
وكان سبب هذا أن أحد طلاب العلم النجديين آلمه إسراف هذا الشيخ في
الطعن على قومه وأهل مذهبه بالباطل في مجلة المشيخة فألف كتابًا في الرد عليه
سماه (البروق النجدية، في اكتساح الظلمات الدجوية) وكان مما أنكره عليه أنه
أورد في باب تجهيله إياه في علم الحديث أنه استشهد بحديث توسل آدم أو سؤاله
ربه بحق محمد صلى الله عليه وسلم أن يغفر له، وزعم أن الحافظ الذهبي أقر
الحاكم راويه على تصحيحه، والحال أن الحافظ الذهبي أنكر تصحيحه بل قال:
إنه موضوع، ففضحه المجاور النجدي في زعمه هذا، بل هدم بكتابه ما كان له من
صيت في الأزهر انتقل إلى غير الأزهر.
كبر على الشيخ الدجوي أن يرد عليه ويجهله طالب نجدي (وهابي) وكبر
ذلك على الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر أيضًا فقطع رزق الطالب النجدي من الأزهر
وأمر بقطع انتسابه فيه، وحاول الدجوي الرد على النجدي من غير ذكر اسمه في
مجلة الأزهر حتى في مسألة وضع هذا الحديث، فأخذ يماري فيه بما اعتاده في
دروسه، بل ادعى أنه صحيح. وأفضى ذلك إلى سؤال بعض مجاوري الأزهر
إياي عن ذلك فبينت له خطأ الدجوي في مرائه هذا من بضعة وجوه بالإجمال ثم
فصلتها ونشرتها في الجزء الرابع من مجلد المنار (٣٢) واعتذرت عن ذلك بقولي:
(أصر الأستاذ الدجوي على القول بتصحيح هذا الحديث والتفصي من قول
الحافظ الذهبي: إنه موضوع بالمغالطة والتأويل، وقد سألني بعض مجاوري
الأزهر عن رأيي في رده فقرأته على تحامي قراءة هذا المجلة لئلا أراني مضطرًّا
إلى ما لا أحبه من الرد على ما أنكره فيها، فبينت للسائل خطأه فيه إجمالاً وإنني
أذكره هنا استطرادًا) .
ثم بينت خطأه في عدة صفحات فكان هذا هو الذي هاجه عليَّ هذه الهيجة
الشؤمى عليه؛ لأنها أظهرت من حقيقته للناس ما لم يظهره كتاب الطالب النجدي،
بل جرأه هذا على الطعن في الحافظ الذهبي وجماعته من أهل الحديث في رسالته
البذيئة، ووضعهم مع شيخ الإسلام ابن تيمية، واتهمهم فيها كما اتهمني بعداوة
رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاء في حاشية صفحة ٢٣ منها أنه يعجبه قول
بعض الأفاضل: لو كان قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: ١٠٧) حديثًا لقال الذهبي وجماعته: إنه موضوع (!) فمن هذا الفاضل
الذي يقول في أعلم حفاظ السنة في عصره بنقد الحديث وتمحيص أسانيده هذا القول؟
إلا أنه ينبغي أن يكون الشيخ الدجوي هو القائل لتلميذه ناشر الرسالة ذلك التقول
أو يكون تلميذه هو القائل له، وهل يتجرأ على هذا الجهل إلا مثلهما؟
فإن كان شمس الإسلام الذهبي حافظ الأمة وفخرها قد بلغ من عداوته وبغضه
لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخون علم سنته ويكذب كل بيان لمناقبه
وفضائله من الأحاديث فيجعله موضوعًا، وإن كان سنده صحيحًا كما يزعم هذا
المغرور باسم الأزهر - أفلا يكون لي سلوى عما افتراه عليَّ من هذا القبيل؟ كلا
بل لي الشرف بأن أكون معهم فإنهم ممن أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم من
أعداء السنة وحملتها ولا الضالين الجاهلين بها.
على أنه لم يطعن في ابن تيمية والحافظ الذهبي وحدها بل ضم إلى الثاني
جماعته وقال: إن لابن السبكي كلامًا كثيرًا عنهما. وإنما ابن السبكي تلميذ الذهبي
يفتخر به ويقول في ترجمته من طبقاته: إن حفاظ عصره أربعة المزي والبرزالي
والذهبي ووالده (تقي الدين السبكي) ثم يقول: وأما أستاذنا أبو عبد الله (الذهبي)
فنظير لا نظير له، وكبير هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، إمام الوجود في كل سبيل،
كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها، ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها،
وكان محط رحال المعنت، ومنتهى رغبات من تعنت، تعمل المطي إلى رحاله،
وتضرب اليزل المهارى أكبادها فلا تبرح أو تقبل نحو داره، وهو الذي خرجنا في
هذه الصناعة، وأدخلنا في عداد الجماعة، جزاه الله عنا أفضل الجزاء إلخ.
فالتاج السبكي هذا يفتخر بأنه من جماعة الحافظ الذهبي، فهو من أعداء
رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الدجوي وتلاميذه أعداء السنة وأنصار البدعة؟
وحسبي هذا الذي كتبته في الموضوع؛ إذ لا فائدة للأمة في تمحيص هذه
الروايات وبسطها في الجرائد التي يقرؤها العوام والخواص، وفيها ما فيها من
الشبهات والمشكلات، وحسبي من الرد على محرر مجلة الأزهر أن يعلم الناس أنه
بهتني بما افتره عليَّ على علم، وما كذبه على صحيح البخاري بغير علم.
فإن عاد إلى القيل والقال في أمثال هذه المسائل التي لا يفقهها فإنني أتحدى
مشيخة الأزهر من دونه تحديًا ثانيًا في علم الحديث والقرآن وخاصة هذه المسألة.
* * *
المقال الحادي عشر
(البهيتة الخامسة ما سماه سحر النبي صلى الله عليه وسلم)
قال محرر مجلة مشيخة الأزهر بعد ما تقدم في مسألة الشيخ والشيخة:
(ثم رد الحديث الذي رواه البخاري في سحر النبي صلى الله عليه وسلم رد
ذلك بتمويهات وخيالات لا نطيل بها) اهـ لفظه، وفي إضافة السحر إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ما فيها من سوء التعبير وسوء الأدب.
وأما عبارة المنار فهذا نصها: ومثل الرواية في سحر بعض اليهود للنبي
صلى الله عليه وسلم ردها الأستاذ الإمام ولم يعجبه شيء مما قالوه في تأويلها، فإن
نفس النبي صلى الله عليه وسلم أعلى وأقوى من أن يكون لمن دونه تأثير فيها؛
ولأنها مؤيدة لقول الكفار: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: ٨) هو ما كذبهم الله تعالى فيه بقوله بعده: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الفرقان: ٩) ا. هـ.
فعلم من هذا أنني ناقل لهذه المسألة عن الأستاذ الإمام: ولست أنا الذي رددت
الحديث فإسناد الرد إليَّ بَهْتٌ لِيَ وافتراء عليَّ، ولما قلت في مقال سابق: إنني
ناقل لهذه المسألة ومسألة الملائكة عن الأستاذ الإمام طفق المفتري يهجوني في
رسالته ومقالاته بأنه لا يليق بي أن أتنصل من ذلك وألقي تبعته على أستاذي، بل
يجب أن أترك الأستاذ الإمام بمعزل من موجبات الطعن والتكفير الموجهين إليَّ،
وأحمل تبعة ذلك بنفسي) كأن الحق وأمانة النقل والصدق في القول من المنكرات
المذمومة عند الأستاذ الدجوي، أو مما يبيح فن المناظرة عنده أن تحل محلها
أضدادها وهي اتباع الباطل والخيانة في النقل والكذب في القول، وقد بلغ به
الهرب والهزيمة من توجيه الطعن إلى الأستاذ الإمام لاتفاق الأمة على إجلاله أن
جعل نقلي عنه التفسير في حياته موضع التهمة! ! !
لعله يندر أن يوجد في الدنيا خيال كخيال الدجوي سابح في دُجَى الأوهام
يتصور أن ينقل صاحب المنار عن الأستاذ الإمام في حياته أنه قال في درسه في
الأزهر كذا، وأن بعض الناس اشتبهوا في هذا القول فرد عليهم بكذا، أو أن يقول:
إنني أنقل من خطه كذا، ويكون نقله هذا غير صحيح، مع العلم بأن المنقول عنه
كان يقرأ ذلك كما يقرؤه كثير ممن حضروا دروسه في الأزهر، بل مع العلم بما
كان من قوة الصلة والثقة بين صاحب المنار والأستاذ الإمام حتى إن أمير البلاد بذل
جهده في التفريق بينهما فلم يستطع إلى ذلك سبيلا مع أحد منهما. ولا يزال في
الأحياء من يعلم دخائل هذه المسألة كفضيلة الأستاذ الشيخ محمد شاكر الذي كلفه
الخديو أن يكلم الأستاذ الإمام بأن يترك صحبة صاحب المنار ليرضى عنه سموه
ويساعده على ما يشاء من إصلاح الأزهر، فقال رحمه الله للشيخ شاكر: وكيف
أترك صحبة السيد رشيد رضا وهو ترجمان أفكاري؟ وتفصيل هذه المسألة وأمثالها
في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام - بيد أن الشيخ الدجوي يريد أن يقنع قراء
كلامه أن نقل صاحب المنار عن الشيخ محمد عبده قد يكون غير صحيح ليحصر
طعنه فيه ويسلم من سخط الجمهور. ولكن القراء قد علموا أن نقل الدجوي عن
المنار غير صحيح، بل كذب صريح، وكذا نقله عن البخاري. فكيف يعبئون
بتشكيكه فيما ينقله عن أستاذه حتى في حياته؟ ثم ماذا يقولون في مسألة السحر
وهي مدونة في تفسيره رحمه الله لجزء عم الذي طبعته الجمعية الخيرية في أيام
حياته بعد وفاته؟
قد علم القراء أنني ذكرت هذه المسألة وغيرها في مقالة المنار المشار إليها من
باب التمثل لما أنكره العلماء الباحثون من الروايات حتى التي صحَّحها الشيخان أو
أحدهما لا من باب ما أنكره أنا من ذلك. وإنني أذكر لهم هنا نص ما كتبه الأستاذ
في المسألة من تفسيره لسورة الفلق من ذلك الجزء لا من المنار ولا من تفسيره:
عبارة الأستاذ الإمام في مسألة السحر:
(وقد رووا ههنا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وسلم سحره لبيد
بن الأعصم وأثر سحره فيه حتى كان يخيل له أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله، أو
يأتي شيئًا وهو لا يأتيه، وأن الله أنبأه بذلك وأخرجت مواد السحر من بئر وعوفي
صلى الله عليه وسلم مما كان نزل به من ذلك ونزلت هذه السورة) .
(ولا يخفى أن تأثير السحر في نفسه عليه السلام حتى يصل به الأمر إلى
أن يظن أنه فعل شيئًا وهو لا يفعله، ليس من قبيل تأثير الأمراض في الأبدان،
ولا من قبيل عروض السهو والنسيان في بعض الأمور العادية، بل هو ماس بالعقل،
آخِذٌ بالروح، وهو مما يصدق قول المشركين فيه: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً
مَّسْحُوراً} (الإسراء: ٤٧) وليس المسحور عندهم إلا من خُولِطَ في عقله،
وخُيِّلَ له أن شيئًا يقع وهو لا يقع، فيخيل إليه أنه يوحى إليه ولا يوحى إليه. وقد
قال كثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هي النبوة ولا ما يجب لها: إن الخبر بتأثير
السحر في النفس الشريفة قد صح، فيلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق به من بدع
المبتدعين؛ لأنه ضرب من إنكار السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر. فانظر
كيف ينقلب الدين الصحيح والحق الصريح في نظر المقلد بدعة؟ نعوذ بالله، يحتج
بالقرآن على ثبوت السحر ويعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه صلى الله عليه
وسلم وعده من افتراء المشركين عليه، ويؤول في هذه ولا يؤول في تلك! ! مع
أن الذي قصده المشركون ظاهر؛ لأنهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه عليه
السلام، وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضرب من ضروبه، وهو بعينه
أثر السحر الذي نسب إلى لبيد، فإنه قد خالط عقله وإدراكه في زعمهم.
والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن
المعصوم صلى الله عليه وسلم فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته وعدم الاعتقاد بما
ينفيه، وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام حيث نسب القول بإثبات حصول
السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا، فإذن هو ليس بمسحور
قطعًا، وأما الحديث فعلى فرض صحته هو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها في باب
العقائد وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد لا يؤخذ في نفيها
عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون، على أن الحديث الذي
يصل إليها من طريق الآحاد إنما يحصل الظن عند من صح عنده، أما من قامت له
الأدلة على أنه غير صحيح فلا تقوم به عليه حجة، وعلى أي حال فلنا بل علينا أن
نفوض الأمر في الحديث ولا نحكمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل،
فإنه إذا خولط النبي في عقله كما زعموا جاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئًا وهو لم
يبلغه، أو أن شيئًا نزل عليه وهو لم ينزل عليه، والأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
ثم إن نفي السحر عنه لا يستلزم نفي السحر مطلقًا فربما جاز أن يصيب
السحر غيره بالجنون نفسه، ولكن من المحال أن يصيبه؛ لأن الله عصمه منه، ما
أضر المحب الجاهل، وما أشد خطره على من يظن أنه يحبه، نعوذ بالله من
الخذلان.
على أن نافي السحر بالمرة لا يجوز أن يُعَدَّ مبتدعًا؛ لأن الله تعالى ذكر ما
يعتقد به المؤمنون في قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} (البقرة: ٢٨٥) الآية، وفي غيرها من الآيات، ووردت الأوامر بما يجب على
المسلم أن يؤمن به حتى يكون مسلمًا، ولم يأت في شيء من ذلك ذكر السحر على
أنه مما يجب الإيمان بثبوته أو وقعه على الوجه الذي يعتقد به الوثنيون في كل ملة،
بل الذي ورد في الصحيح هو أن تعلم السحر كفر، فقد طلب منا أن لا ننظر
بالمرة فيما يعرف عن الناس بالسحر ويسمى باسمه، وجاء ذكر السحر في القرآن
في مواضع مختلفة، وليس من الواجب أن نفهم منه ما يفهم هؤلاء العُمْيَان، فإن
السحر في اللغة معناه صرف الشيء عن حقيقته. قال الفراء في قوله تعالى:
{فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: ٨٩) أي أنى تؤفكون وتصرفون، سحره وإفكه
بمعنًى واحد.
وماذا علينا لو فهمنا من السحر الذي يُفَرِّقُ بين المرء وزوجه تلك الطرق
الخبيثة الدقيقة التي تصرف الزوج عن زوجته، والزوجة عن زوجها؟ وهل يبعد
أن يكون مثل هذه الطرق مما يتعلم وتطلب له الأساتذة، ونحن نرى أن كتبًا ألفت
ودروسا تلقى لتعليم أساليب التفريق بين الناس لمن يريد أن يكون من عمال السياسة
في بعض الحكومات؟ وقد يكون ذكر المرء وزوجه من قبيل التمثيل وإظهار الأمر
في أقبح صورة، أي بلغ من أمر ما يتعلمونه من ضروب الحيل وطرق الإفساد أن
يتمكنوا به من التفريق بين المرء وزوجه؟ وسياق الآية لا يأباه.
(وذكر الشياطين لا يمنعنا من ذلك بعد أن سمى الله خبثاء الإنس المنافقين
بالشياطين قال: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} (البقرة: ١٤) وقال: {شَيَاطِينَ
الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} (الأنعام: ١١٢) وسحر سحرة فرعون
كان ضربًا من الحيلة، ولذلك قال: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه:
٦٦) وما قال: إنها تسعى بسحرهم. قال يونس: تقول العرب ما سحرك عن
وجه كذا أي ما صرفك عنه.
ولو كان هؤلاء يقدرون الكتاب قدره ويعرفون من اللغة ما يكفي لعاقل أن
يتكلم، ما هذروا هذا الهذر، ولا وصموا الإسلام بهذه الوصمة، وكيف يصح أن
تكون هذه السورة نزلت في سحر النبي صلى الله عليه وسلم مع أنها مكية في قول
عطاء والحسن وجابر، وفي رواية ابن كريب عن ابن عباس، وما يزعمون من
السحر إنما وقع في المدينة؟ لكن من تعود القول بالمُحَال، لا يمكن الكلام معه
بحال، نعوذ بالله من الخبال) اهـ بحروفه.
هذه حجة الأستاذ الإمام على إنكاره لوقوع السحر على تلك النفس القدسية
العليا التي كانت تتصل بروح الله الأمين، وتتلقى منه كلام رب العالمين، فهو
يُجِلُّهَا أن يؤثر فيها سحر ذلك اليهودي الرجيم، الذي كان يستعين كغيره على سحره
بأرواح الشياطين، ولم يقبل في ذلك رواية الراوين، وإننا لم نر من علماء الملة
متقدميهم ومتأخريهم من بيَّن لنا من فضل تلك النفس الزكية العلوية، والشخصية
الشريفة المحمدية ما بيَّنه لنا هذا الإمام الجليل في رسالة التوحيد، وفي دروسه
ومجالسه العلمية كما شرحناه في الجزء الأول من تاريخه.
* * *
بحث في أقوال من أنكر
حديث السحر ومن أثبته
هذا وإن علماء المعقول وجهابذة الأصول قد أنكروا وقوع السحر عليه صلى
الله عليه وسلم من قبل الأستاذ الإمام، وأنكره من علماء التفسير والفقه مثل أبي بكر
الجصاص من أئمة الحنفية، وقد قال العلامة ابن القيم بعد الجزم بصحة سند
الحديث ما نصه: وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغيرهم وأنكروه أشد
الإنكار وقابلوه بالتكذيب وصنَّف بعضهم فيه مصنفًا مفردًا حمل فيه على هشام (أي
راويه عن أبيه عروة بن الزبير عن عائشة) وكان غاية ما أحسن القول فيه أن قال:
غلط واشتبه عليه الأمر، ولم يكن من هذا شيء - قال: لأن النبي صلى الله عليه
وسلم لا يجوز أن يسحر.... إلخ.
أقول: أما علماء الروايات فليسوا ممن يطلب منهم معرفة هذه الحقائق في نقد
المتون، وأما علماء المناقشات اللفظية التي غلبت على الأزهر في القرون الأخيرة
فقد أجاب بعضهم عن استدلال المنكرين بقوله تعالى: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ
إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: ٨) وتفنيده تعالى لقولهم بالآية التي بعدها بما
خلاصته أن المراد بالمسحور فيها ذا السَّحَر (بفتح السين) أي الرئة، والمعنى ما
تتبعون إلا بشرًا له رئة قال ابن القيم: (وهذا الجواب غير مرضي، وهو في
غاية البعد، فإن الكفار لم يكونوا يعبرون عن البشر بمسحور، ولا يُعْرَف هذا في
لغة من اللغات) وأطال في بيان هذا، واستدل عليه بقول فرعون لموسى: {إِنِّي
لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} (الإسراء: ١٠١) قال: أفتراه ما علم أن له سَحَرًا
وأنه بشر؟ (أي إلا في تلك الساعة) ثم كيف يقول له موسى: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا
فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} (الإسراء: ١٠٢) ولو أراد بالمسحور أنه بشر لصَدَّقَه موسى،
وقال: نعم أنا بشر، ولكن الله أرسلني إليك كما قالت الرسل لأقوامهم.
(ثم قال) : وأجابت طائفة منهم ابن جرير وغيره بأن المسحور هنا هو
معلم السحر الذي قد علمه إياه غيره، فالمسحور عنده بمعنى ساحر أي عالم بالسحر
. وهذا جيد إن ساعدت عليه اللغة، وهو أن من علم السحر يقال له مسحور، ولا
يكاد يُعْرَف هذا في الاستعمال ولا في اللغة، وإنما المسحور من سحره غيره
كالمطبوب والمضروب والمقتول.
(ثم قال) : فالصواب هو الجواب الثالث، وهو جواب صاحب الكشاف
وغيره أن المسحور على بابه وهو من سحر حتى فقالوا مسحور مثل مجنون، زائل
العقل لا يعقل ما يقول، فإن المسحور الذي لا يُتَّبَعُ هو الذي فسد عقله بحيث لا
يدري ما يقول إلخ.
وأقول: إنه لولا إرادة قبول رواية السحر، والجمع بينها وبين براءة النبي
صلى الله عليه وسلم مما لا يليق به من كونه مسحورًا بشهادة الله وشهادة العقل وعلم
النفس، لما تكلف الزمخشري عَلاَّمة اللغة أن يحمل معنى السحر هنا على غاية
درجاته التي قلَّمَا تقع وهي الجنون، ولما قبل ذلك ابن القيم علاَّمة المنقول
والمعقول - فإن رمي الكفار للرسول صلى الله عليه وسلم بلقب مجنون، هو غير
نبزه بلقب مسحور، وقد ذكر في مواضع من القرآن، فدل ذلك على أنهم يعنون
بالمسحور ما دون المجنون من المخبولين، بل نقل البخاري عن سفيان بن عيينة
أحد رواة هذا الحديث أنه قال في وصف عائشة لذلك السحر بما سنذكره: وهذا أشد
ما يكون من السحر.
ونرى أكثر العلماء قد استقر جوابهم على أن السحر الذي وقع هو عبارة عن
التأثير في جسمه صلى الله عليه وسلم دون نفسه الشريفة الزكية العلوية، فهو
كجرحه يوم أحد، وقالوا كلهم كغيرهم: إن الأنبياء تجوز عليهم جميع الأمراض
البدنية، وقد قتل بعضهم. وهذا صحيح ولكن الروايات كلها مصرِّحَة بأن تأثير
السحر المزعوم كان في نفسه وإدراكه وتصوره صلوات الله وسلامه عليه لا في
جسده - من وجع رأس أو بطن أو يد أو رجل - بل فيها أنه كان يخيل إليه أن يفعل
الشيء ولم يكن فعله حتى إتيان أهله الذي يترتب عليه أحكام شرعية - فهل هذا من
الأمراض الجسمية؟
وليعلم القراء أن أمثال هذه المشكلات في الروايات لا يهتدي إلى تحقيق الحق
فيها إلا الذي يعطي لعقله حرية الاستقلال فيما قاله أصناف العلماء. فعلماء الرواية
هم أعلم من علماء الأصول الاعتقادية والفقهية بنقد رجال الأحاديث، وهؤلاء أعلم
من المحدثين بنقد المتون، وما يوافق المعقول وأصول العقائد منها وما لا يوافقها،
وقد اتفق الفريقان على أن ليس كل ما صح سنده من الأحاديث المرفوعة يصح متنه
؛ لجواز أن يكون في بعض الرواة من أخطأ في الرواية عمدًا أو سهوًا، وما كل ما
لم يصح سنده يكون متنه باطلاً، بل قالوا: إن الموضوع من حيث الرواية قد يكون
صحيحًا في الواقع، وإن الصحيح السند قد يكون موضوعًا في الواقع. وإنما علينا
أن نأخذ بالظواهر مع مُرَاعاة القواعد، فما صح سنده قبلنا روايته وحكمنا قواعد
الاعتقاد ودلائل العقل والعلم في متنه إن كان مشكلاً، وما كان غير صحيح السند لا
يجوز لنا أن نسميه حديثًا نبويًّا، وإن كان معناه صحيحًا.
ونحن قد اتبعنا في المنار هذه القواعد كلها في حل مشكلات الأحاديث كما
صرحنا به في مواضع من المنار والتفسير، ولعلنا نكتب فيه مقالاً خاصًّا.
وإن لنا في هذا الحديث كلمتين: (إحداهما) في سنده، وهي أن الذين أَعَلُّوا
الحديث بهشام بن عروة ورد عليهم العلامة ابن القيم باتفاق الجماعة على تعديله -
لهم وجه وجيه، ومستند من أقوال أئمة الجرح والتعديل، فقد قال بعضهم: إن
هشامًا كان في العراق يرسل عن أبيه عروة ما سمعه من غيره، وقال ابن خراش:
كان مالك لا يرضاه وقد نقم منه حديثه لأهل العراق، وقال ابن القطان: تغير قبل
موته ا. هـ فالقول بوقوع خطأ منه أهون من قبول روايته هذه، وهو أوثق مَن
روى هذا الحديث.
(الثانية) في متنه، وهو أن الروايات عن عائشة تدور على أمر واحد وهو
ما يتعلق بالنساء فقولها كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لم يفعله، كناية عن
ذلك الأمر، حياء من التصريح به على أنها صرحت في رواية أخرى فظن بعض
الرواة أنه عام في كل فعل فعَظُمَتِ الشبهة فيه على علماء الأصول والعقائد، ويؤيد
حصر التأثير فيما ذكر في طبقات ابن سعد عن ابن عباس: مرض النبي صلى الله
عليه وسلم وأُخِذَ عن النساء والطعام والشراب، وفي مرسل يحيى بن يعمر عن عبد
الرزاق: سحر النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة حتى أنكر بصره. فجملة
القول أنه مرض مرضًا أثر في الجهاز الهضمي والجهاز التناسلي فقط، وما زالت
الناس تعد هذا من أنواع السحر، ويعبر عنه العوام في زماننا بالعقد، ويسمون
الواقع عليه (معقودًا) وكانت العرب تسميه مَطْبُوبًا، وهو من نوع تأثير الأنفس
بعضها في بعض كالتنويم المغناطيسي أو الاستهواء في عصرنا، وقد بيَّنا هذا النوع
وسائر أنواع السحر في تفسير سورة الأعراف.
وكان قد سبق لي في عهد اشتغالي بالروحانيات أن كنت أكتب نشرة للمصابين
بهذا السحر فتنفعهم، وربما كان جُلُّ هذا النفع من تأثير الاعتقاد الحسن، وكان هذا
الاعتقاد وحسن الظن فينا عامًّا في بلادنا حتى في النصارى الذين يعرفوننا.
ومن المقرَّر عند العلماء المتقدمين والمتأخرين أن هذا التأثير لا يكون إلا من
نفس ذات إرادة قوية في نفس ذات إرادة ضعيفة، وأن الأنفس الخبيثة الضارة لا
يمكن أن تؤثر في الأنفس الزكية العالية، وهذا ما اعتمد عليه شيخنا في إنكار سحر
اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم من الوجهة العقلية مهما يكن نوع السحر.
وقد كان العلامة ابن القيم يعلم هذا، وقد بيَّنه في مواضع من الكلام في
الأمراض البدنية والنفسية وعلاج كل منهما في كتابه (زاد المعاد، في هدي خير
العباد) فننقل عنه الفصل الآتي بنصه، قال:
(فصل)
ومن أنفع علاجات السحر الأدوية الإلهية، بل هي أدويته النافعة
بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية ودفع تأثيرها يكون بما يعارضها
ويقاومها من الأذكار والآيات والدعوات التي تبطل فعلها وتأثيرها، وكلما كانت
أقوى وأشد كانت أبلغ في النشرة، وذلك بمنزلة التقاء جيشين مع كل واحد منهما
عدته وسلاحه، فأيهما غلب الآخر قهره، وكان الحكم له، فالقلب إذا كان ممتلئًا من
الله مغمورًا بذكره، وله من التوجهات والدعوات والأذكار والتعوذات وِرْدٌ لا يُخِلُّ
به يطابق فيه قلبُه لسانَه، كان هذا من أعظم الأسباب التي تمنع إصابة السحر له،
ومن أعظم العلاجات له بعد ما يصيبه، وعند السحرة أن سحرهم إنما يتم تأثيره في
القلوب الضعيفة المنفعلة، والنفوس الشهوانية التي هي معلقة بالسفليات، ولهذا
غالب ما يؤثر في النساء والصبيان والجهال وأهل البوادي، ومَن ضعف حظه من
الدين والتوكل والتوحيد، ومن لا نصيب له من الأوراد الإلهية، والدعوات
والتعوذات النبوية، وبالجملة فسلطان تأثيره في القلوب الضعيفة المنفعلة التي يكون
ميلها إلى السفليات. قالوا والمسحور هو الذي يعين على نفسه، فإنا نجد قلبه متعلقًا
بشيء كثير الالتفات إليه، فيتسلط على قلبه بما فيه من الميل والالتفات، والأرواح
الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لتسلطها عليها بميلها إلى ما يناسب تلك
الأرواح الخبيثة وبفراغها من القوة الإلهية، وعدم أخذها للعُدَّةِ التي تحاربها بها،
فتجدها فارغة لا عُدَّةَ معها وفيها ميل إلى ما يناسبها فتتسلط عليها، ويتمكن تأثيرها
فيها بالسحر وغيره والله أعلم اهـ.
وقد لخص الحافظ ابن حجر هذا الفصل في الكلام على حديث السحر من
الفتح، وتعقبه بقوله: ويعكر عليه حديث الباب وجواز السحر على النبي صلى الله
عليه وسلم مع عظيم مقامه وصدق توجهه وملازمته ورده، ولكن يمكن الانفصال
عن ذلك بأن الذي ذكره محمول على الغالب، وإنما وقع به صلى الله عليه وسلم
لبيان تجويز ذلك، والله أعلم اهـ. أقول: فأنت ترى أن الحافظ يرى أن القاعدة
التي بَيَّنَهَا ابن القيم صحيحة في نفسها وأن الأنفس الشيطانية لا سلطان لها على
الأنفس العالية القدسية، ويُنْقَضُ اطرادُها بإثبات الرواية لتأثير السحر في أشرف
النفوس وأعلاها فيجعلها أغلبية، وإنما يتصور نقض القاعدة فيما دون هذه النفس
العليا من الأنفس الشريفة، ولكن الحافظ عفا الله عنه من الرجال التي انحصرت
قوة تحقيقهم في الروايات وحفظ ما قاله أهل الجرح والتعديل في أسانيدها وسائر
العلماء في متونها، والترجيح بينها بمقتضى قواعدهم التي هي آراء لهم. فبضاعته
ضعيفة في تحقيق مسائل المتون، وبنائها على قواعد المنقول والمعقول، حتى إنه
رجح أن لرواية الغرانيق أصلاً بما حفظه من تعدُّد طرقها، وبقاعدتهم في تقوية
الروايات الضعيفة والمُنْكَرَة بتعدد الطرق مع تصريحه بأن جميع تلك الطرق
ضعيفة، وغير متصلة، فإذا كان لا يحتج بشيء منها في أحكام النجاسة والطهارة،
أفيعتد بها في أصل أصول العقيدة؟ ورواية الغرانيق أفظع ما رواه الرواة في
الطعن على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وبرأه مما قالوا في تبليغ الرسالة الذي
أجمعوا على عصمته فيه، فترى فيما اعتمده الجلال المحلي منها واقتصر عليه في
تفسيره أن الشيطان ألقى على لسان النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكر اللات
والعزى ومناة الثالثة الأخرى من أصنام العرب في قراءته لسورة النجم جملة:
(تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى) وهو عين ما يعتقده المشركون والعياذ
بالله تعالى، وقد فنَّد هذه الرواية المحققون من ناحيتي الرواية والدراية، وبيَّن ذلك
شيخنا الأستاذ الإمام أحسن بيان، بما نشرناه في المنار، ونعيد طبعه كل مرة مع
تفسير سورة الفاتحة.
ومن عجائب جهل المتأخرين المقلدين لأمثالهم من المقلدين لأنهم أوسع منهم
اطلاعًا أو جدلاً أن القاعدة عندهم تقديم ما اعتمده المتأخرون على غيره، وإن
خالف كلام الأئمة المتقدمين، وتقليد الميتين، وإن كان مخالفًا لأصول الدين،
وماسًّا بكرامة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم كما أنهم يقبلون في باب مناقبه
صلى الله عليه وسلم ومناقب من دونه من الصالحين ما يخل بتنزيه رب العالمين،
ويخالف المُجْمَع عليه من توحيده عز وجل ودعائه والاستغاثة به عند الشدائد،
يبيحون هذه العبادة لغير الله تعالى، ويتأولون لها آيات القرآن الصريحة، فخرافات
العوام، ولا سيما القبوريين عندهم مقبولة، وبدع المؤلفين المقلدين حجج متبعة،
وكلام المحققين في عصمة الرسول وتنزيهه عن الروايات المنافية لعصمته وغير
اللائقة بكماله أوهام مردودة، وآيات القرآن المحكمة في صفات الله وعالم الغيب
حتى آيات التوحيد مؤولة، وهذا ما جرت عليه مجلة مشيخة الأزهر التي سمتها
(نور الإسلام) والذي تولى كبره من علمائها ومحرريها هو الشيخ يوسف الدجوي
الذي يصحح بدع العوام، ويتأول لتصحيحها نصوص القرآن، كما سنبينه بعدُ، إن
شاء الله تعالى.
وجملة القول في مسألة السحر أن هذه المحرر الثقة عند المشيخة رغم أن
صاحب المنار رد حديث السحر المذكور بتمويهات وخيالات لا يطيل هو بها،
وإنما بهته لنا إيهامه قراء كلامه أن صاحب المنار قد انفرد بهذه الجرأة على رد
حديث البخاري! وقد علم القراء أن كثيرًا من العلماء المتقدمين قد ردوه قبل الأستاذ
الإمام، ولكن بدون أدلته - وأنه يعني بالتمويهات والخيالات ما أشرنا إليه من
الحقائق العالية التي عزوناها إلى الأستاذ الإمام، في إعظام شأن المصطفى عليه
أفضل الصلاة والسلام.
وإننا على هذا قد مَحَّصْنَا أقوال علماء المعقول والمنقول في الرواية متنًا
وسندًا بما يهون فيها أمر منكري الرواية بما قيل في هشام، وبما يرجع أجوبة
مثبتيها إلى كون التأثير الذي وقع على قولهم هو خاص بمباشرة الراوية له (عائشة)
على أن أستاذنا (رحمه الله تعالى) فوض الأمر في تأويل الحديث لأهله، ولم
يرد روايته كغيره.
* * *
المقال الثاني عشر
البُهَيْتَة السادسة ما سماه إفتاء التلاميذ المسلمين بالصلاة مع النصارى
في الكنائس
وتعليله بقوله: (ليغرس في قلوبهم النقية تلك الطقوس النصرانية وينقش في
نفوسهم الساذجة ما يسمعونه من القسوس والمبشرين هناك) اهـ. بحروفه.
كل بُهَيْتَة من المفتريات التي بهتنا به الشيخ يوسف الدجوي في مجلة الأزهر
كان لها شبهة منتزعة من المنار أو تفسيره بضرب من التحريف بالزيادة أو
النقصان، وجعل المنقول مقولا للناقل ومذهبًا له، وتفسيره بغير معناه، وإضافة
شيء من الكذب أو اللوازم الباطلة إليه. وأما هذه البهيتة فهي الفرية المفضوحة
التي لا تستند إلى أدنى شبهة، بل هي قذف لنا بضد ما كنا عليه في موضوعها،
وخلاف ما قررناه وما كررناه فيه وفي وقائعه.
ومن غرائب الجرأة على الكذب الصريح، والبهتان المفضوح أن يعزوه إلى
منار شعبان من المجلد ١٢ (سنة ١٣٢٧) ليصدقه قراء مجلة الأزهر كما تقدم،
وإنني أنقل من ذلك المجلد بعض ما نشرته فيه خاصًّا بهذا الموضوع بعد مقدمة
وجيزة.
إنني زرت سورية في سنة ١٣٢٦ هـ (الموافقة سنة ١٩٠٨م) بعد إقامة
١٢ سنة في مصر لم أزرها فيها، وكان ذلك عقب إعلان الدستور في البلاد
العثمانية الذي نفخ شيئًا من روح الحرية فيها فحمل طلاب العلم من المسلمين في
المدرسة الكلية الأميركانية ببيروت على الثورة على نظام المدرسة الذي يُكْرِههم
على دخول كنيسة المدرسة وسماع المواعظ النصرانية فيها وحضور صلاتهم فيها،
وهي عبارة عن أدعية مأثورة عندهم، وكنت وقتئذ في بيروت فدافعت عن هؤلاء
الطلبة وقويت عزائمهم على الامتناع من حضور صلاة النصارى، والاعتصام
بعروة الإسلام الوثقى، فمن ذلك أنني جمعت هؤلاء الطلبة في مسجد رأس بيروت
وخطبت فيهم خطابًا نشرته في الجزء الأول من المجلد الذي صدر في المحرم سنة
١٣٢٧ قلت في آخره ما نصه:
(إنكم لم تقصدوا بما كان منكم إلا إرضاء ضمائركم، والمطابقة بين عقائدكم
وأعمالكم، فحسبكم أن يتم لكم ذلك بالهدوء والسكينة والأدب، وإني أُجِلُّكم عن قصد
العناد لرؤسائكم وأساتذتكم أو الجنوح للاستعلاء بالظفر لذاته) .
(وأوصيكم بالمحافظة على الصلوات الخمس ولو منفردين في حجراتكم
وبالحرص على صلاة الجماعة كلما تيسر لكم ذلك ولو على أرض حديقة المدرسة
فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (جعلت ليَ الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا) [١]
(إنكم قمتم بواجب ديني سلبي وهو الامتناع من دخول الكنيسة لسماع تعاليم دين
غير دينكم، فعليكم بهذا العمل الإيجابي الذي هو عماد الدين: {اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ
وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: ١٥٣) اهـ.
ثم أنشأت في هذا مقالة عنوانها: (المسلمون في مدارس الجمعيات النصرانية)
بينت فيها آراء المسلمين في تعليم أولادهم فيها، فقلت ما ملخصه:
(وإن عامة المسلمين يشعرون بشدة الحاجة إلى هذه المدارس التي أسست
على دعوة النصرانية لما فيها من العلم، ويعلمون بما فيها من الضرر لأولادهم في
الدين، فالعلم يقتضي الإقبال عليها، والخوف على عقائد النشء الجديد يمنع من
الثقة بها، والجمهور مختلفون في الترجيح بين المانع والمقتضي) وبينت رأي
المرجحين للمقتضي وحجتهم عليه أن المسلم لا يخشى عليه أن يصير نصرانيًّا.
ثم قلت: هذا ما يراه بعض الذين يعلمون أبناءهم وبناتهم في هذه
المدارس الدينية (ومنهم من يرجح المانع على المتقضي كما هو المعتمد في المسألة
عند أهل الأصول كما أشار إلى ذلك الشاعر بقوله:
قالوا فلان عالم فاضل ... فأكرموه مثل ما يرتضي
فقلت: لما لم يكن عاملا ... تعارض المانع والمقتضي
(ومبلغ حجة هؤلاء أن مذاهب الفقهاء المتبعة تحظر على المسلم المتمكن في
دينه أن يدخل مع النصارى وغيرهم من المخالفين لنا في أصل الدين معابدهم
بهيئتهم الدينية التي يدخلون فيها وصرحوا بأنه إذا تشبه بهم في ذلك بحيث يُظَنُّ أنه
منهم صار مرتدًّا، وإن بقي متميزًا عنهم بحيث لا يشتبه بهم لا يكون مرتدًّا إلا إذا
قال أو فعل أو اعتقد ما يخالف ما هو مُجْمَع عليه معلوم من الدين بالضرورة.
ويقولون: إن من الخطر على دين غير المتمكنين في دينهم كالأولاد الذين يوضعون
في هذه المدارس أن يُسمح لهم بهذه الأعمال التي يغلب أن تكون عندنا كفرًا وردة،
وأهونها أن تكون معصية، فإذا علق النوع الأول في ذهن التلميذ منا، ومات قبل
أن يصحح اعتقاده بمعاشرة المسلمين العارفين، أو مراجعة العلماء الراسخين، مات
مرتدًّا لا نرثه ولا نعامله معاملة موتانا إذا كنا عالمين بحاله، وإذا مات أبوه أو أمه
أو غيرهما من الأقربين في حياته لا يرث هو منهم شيئًا. ويقولون أيضًا: إن
بعض فقهائنا صرح بأن الرضى بالكفر كفر فإذا رضينا بشيء من ذلك نكون نحن
مرتدين أيضًا) اهـ. ص ٢٠ منه.
ثم ذكرت في هذه المقالة حديثًا دار بيني وبين أحد أساتذة هذه المدرسة قال فيه:
(إن المدرسة لا تعلم التلاميذ التقاليد والأعمال الدينية التي يقررها بعض مذاهب
النصرانية ولا تطعن في أديانهم ولا مذاهبهم، وإنما تلقي عليهم مواعظ عامة تتفق
مع كل دين وإن كانت من الكتاب المقدس؛ لأجل أن تغرس في قلوبهم تقوى الله
وحب الفضيلة وتبعدهم من الإلحاد والتعطيل) وذكر أن المكان الذي تلقى فيه ليس
كنيسة بل مكانًا لأجل الخطب، وسألني: (هل يحرم الدين الإسلامي على المسلمين
دخول هذا المكان ويوجب عليهم مخالفة نظام المدرسة؟) هذا نص سؤاله فأجبته
بما نصه:
(قلت: إن المسلمين فريقان: منهم من يأخذ بالدليل ومنهم من يتبع فقهاء
مذهبه، والمشهور عن فقهاء المذاهب التي عليها هؤلاء التلاميذ أن الدخول إلى
معابد المخالفين لنا في الدين ومشاركتهم فيما هو خاص بهم في أمور الدين فيها وكذا
في خارجها إما محرم وإما كفر في تفصيل لهم في ذلك، فلعل تلاميذكم يعتقدون أن
دخول المكان الذي ذكرته من هذا القبيل، وحينئذ يجب احترام اعتقادهم، وإن كان
لا يقوم دليل في الإسلام على تحريم دخول مكان مثل الذي ذكرت ليس معبدًا دينيًّا
ولا يلقى فيه شيء مخالف للإسلام) ا. هـ صفحة ٢٢ منه.
ثم شرحت له هذا القول بالتفصيل، وذكرت له أيضًا في المحافظة على النظام
قولاً معقولاً، وكان مدار كلامي على أن إكراه التلاميذ على نظام يخالف عقائدهم
ووجدانهم هو تربية لهم على النفاق الذي يُفْسِد كل دين وأطلت في ذلك وبينت له
سوء عاقبة هذه الخطة) .
هذا بعض ما قلته في ذلك الوقت وكتبته في منار سنة ١٣٢٧، وأنا أتحدى
الشيخ يوسف الدجوي الذي افترى عليَّ بأنني أفتيت التلاميذ المسلمين بالصلاة مع
النصارى في كنيستهم ليتربوا على دين النصارى بأن يدلني على عالم مسلم كتب
مثل هذا التشديد في الصد عن تلك المدارس أو مثله! ! !
وفي إثر هذا أعفت المدرسة الأميركانية التلاميذ المسلمين من حضور الكنيسة
في تلك السنة، ثم جاءني من أحد وجهاء بيروت الكتاب الآتي في الموضوع:
كتاب في مسألة إكراه التلاميذ المسلمين على دخول الكنيسة في الكلية
الأميركانية
سيدي رجل الإسلام والمسلمين السيد رشيد أفندي رضا حفظه الله:
عرفتم بالتفصيل ما صار إليه أمر الاعتصاب الإسلامي في الكلية، وكيف أن
العمدة تلافت الخطر المحدق بها بإعفائها التلامذة من حضور الكنيسة مؤقتًا، والآن
وقد أوشكت السنة المدرسية أن تنتهي لم نشعر إلا والرئيس يستقدم التلامذة من
مسلمين ويهود لغرفته، طالبًا منهم التوقيع على صَكٍّ؛ تعهدًا منهم بالقيام بالواجبات
الدينية في السنة المقبلة: من دخول كنيسة ودرس توراة وإنجيل حسب الشروح
والتعاليق البروتستانتية التي ينفر منها المسلم، ويشك في صحتها كل من له مسكة
من العقل، وإذا آنس من أحدهم رفضًا أو ترددًا ينبئه بعدم قبوله في السنة الثانية،
حتى ولو لم يبق له إلا سنة أو سنتان لنيل الشهادة، وقد وقع هذا فعلا مع أحد
العثمانيين الإسرائيليين.
فيا ركن الإسلام المتين، أطلب منك أن تحمل بقلمك وعملك وفتاويك الحملة
الشعواء على خطة الكلية، وتظهر للملأ سوء نيتها، وتعدد لهم الأضرار الناتجة
عن تساهل المسلمين في أمور دنيهم حتى لا يبقى عذر للآباء، ولا حجة للأبناء،
وإن الكلية لفي خوف من المسلمين، ولا سيما إذا وجد من يحركهم تحريكًا لا تعمله
القوة الكهربائية؛ ليفسد ما بنوه من الأوهام منذ اثنتين وأربعين سنة.
عرفتك فيما مضى تَحُضُّ المسلمين على إيجاد مدرسة للاستعاضة عن الكلية
قبل مناقشتها الحساب، أو قبل الرغبة إليها بإصلاح نظاماتها، فنعم الرأي رأيك،
والنصيحة نصيحتك، وقد عرف كل مسلم ما لك من القدم الراسخة، وبُعْد النظر
في الأمور العقلية والنقلية، ولكن يا سيدي ما عسانا نفعل وقد دفع المسلمون إلى
الاعتصاب بتأثير من القوى الطبيعية وقوانينها التي سنها الله، وأهم تلك القواعد
هي أن كثرة الضغط توجب الانفجار.
فيا من اتخذك الكبير أخًا، والصغير أبًا، مُدَّ يد المساعدة إلى مسلمي الكلية
وحَرِّضِ المصريين بجرائدهم اليومية ومجلاتهم للاعتراض على الكلية، فلقد عرفنا
أن ليس للمدرسة من حجة تستند عليها، ولقد أقر كاتب العمدة أمامي بأن المدرسة
عثمانية تتبع كل أمر مصدره الآستانة، وذَكِّرْهم أن ما علينا إلا أن نصب الشكوى
من جميع الجهات، واعلم أن كل ما تفعله الكلية لتأكيد مركزها هو من باب السياسة،
وليس له ظل من الحقيقة، واعلم أن ليس كل كلام يصدر عن كاتب له تأثير
ككلامك.
فكأني بالأسد الآن وقد ثار من مربضه مدافعًا عن الأشبال، خيفة أن يصيبهم
أذًى من الأغرار، فيظهر أن للإسلام صوًى و (منارًا) يُسْتَضَاء بنوره إذا اشتد
حالك الظلام، فلا زلت للإسلام عضدًا، وللمسلمين مرشدًا.
... ... ... ... ... ... ... ... مُقِرّ بفضلك
بيروت ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر الغندور
أقول: لولا تلك العناية التي عرفها أهل بيروت مني في هذه المسألة بالقول
والفعل والسعي لَمَّا كنت بينهم لما لجئوا إِلَيَّ دون غيري من علماء الأزهر أو
غيرهم بمثل هذا الكتاب، وقد أجبت صاحب الكتاب يومئذ بما يأتي:
(المنار) هذا الذي عملته المدرسة الآن هو الذي كنا نحسبه فإن هؤلاء
الإفرنج أشد خلق الله تعصبًا للدين، وهم الذين نفخوا روح التعصب الذميم في
الشرق كما بيَّنا ذلك مرارًا، ولكنهم هم ومن ربوه على تعصبهم يشيعون في بلادنا
أن الشرق هو مهد التعصب (رمتْنِي بدائها وانْسَلَّتْ) حتى راج تزييفهم هذا على
الجمهور زمنًا. ولا يبعد أن يعدوا كراهتنا لإكراههم إيانا على دينهم تعصبًا منا
وتساهلاً منهم! ! !
إنهم علموا أن الحكومة العثمانية الآن تمنعهم من إكراه غير النصارى على
التعاليم والأعمال النصرانية، ولا يمكنهم أن يعبثوا بها كما كانوا يعبثون في زمن
عبد الحميد، فلجئوا إلى هذه الحيلة التي ليس أمامهم سواها ولا يرجعون عنها بحملة
الجرائد عليهم؛ لأن بث دينهم هو الغرض الأول لهم من مدارسهم لا سيما في
الشرق، فلا يثنيهم عنه شيء إلا أن يكون قوة الحكومة، والحكومة لا تمنع إلا
الإكراه. فالرأي إما ترك التلاميذ المسلمين لهذه المدرسة إن كانوا يستغنون عنها
بغيرها، وإما البقاء فيها مع تلافي ضرر التعاليم المخالفة لدينهم وجعل ذلك ذريعة
إلى منافع أخرى دينية ودنيوية.
أما الاستغناء عن المدرسة بمثلها أو خير منها فلا سبيل إليه؛ إذ لا يوجد في
بلادنا مثلها في تعليمها وتربيتها، وأما الثاني فهو ميسور والذي ننبه إليه منه أمور:
(١) مطالعة الكتب الإسلامية التي تبين حقيقة الإسلام ككتب الأستاذ الإمام
وأقواله في التوحيد والتفسير والنسبة بين الإسلام والنصرانية وكتاب روح الإسلام
للقاضي أمير علي.
(٢) مطالعة الكتب التي تعارض كتبهم التعليمية الدينية ككتاب أضرار تعليم
التوراة والإنجيل لأحد علماء الإنكليز وهو يوجد بالعربية والإنكليزية وغيره من
الكتب الإنكليزية التي يمكن أن يرشدهم إليها سليم أفندي.
(٣) المواظبة على الصلوات الخمس لا سيما مع الجماعة إذا أمكن وغير
ذلك من الأعمال الإسلامية كالصيام في هذه الأيام.
(٤) ما أمر الله به من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ومنه التواصي
بإعداد النفوس لمسابقة القوم إلى مثل عملهم في الجمع بين العلم والدين، وإنشاء
مثل هذه المدرسة في بيروت وغيرها من البلاد فإن عملهم هذا مما يُحْمَد.
قد بيَّنا فيما كتبناه عن مسألة هذه المدرسة في (هذا العام وفي العام الماضي)
أن المسلم لا يكون نصرانيًّا كما قال السيد جمال الدين وغيره من العارفين، وقلنا
هناك أيضًا: إن هذا التعصب من هؤلاء الإفرنج لا سيما القائمين بأمر هذه المدرسة
هو الذي يحيي الشعور الديني في نفوس غير النصارى من التلاميذ في هذه المدرسة،
فعمل رجال المدرسة يأتي بنقيض ما يريدون منه ويصدق فيه على المسلمين قوله
تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: ٢١٦) .
إن المسلم البصير بدينه لا يمنع من النظر في كتب أي دين من الأديان ولا
من سماعها، ولكن علماء الإسلام متفقون على أنه لا يجوز للمسلم أن يتلبس بعبادة
أهل دين آخر، ويعدون تلبُّسَه بها الذي يكون به كأهلها لا يميزه الرائي عنهم من
الردة. فإذا ثبت عند القاضي ذلك في دعوى إرث مثلا فإنه يحكم بأن من هذا شأنه
لا يرث من أبيه المسلم. وما أظن أن تعصب عمدة المدرسة يصل إلى هذا الحد،
فإن هم وصلوا إليه ورفع الأمر إلى الحكومة فإنها تمنعهم منه بلا شك، سواء تعهد
التلميذ به أم لا، نعم ما كل ما يُحْكَم به في الظاهر يوافق الباطن، وما كل ما يسميه
النصارى صلاة دعاء ممنوع عندنا، ولكن التشبه بهم فيما هو خاص بهم من أمر
الدين ممنوع قطعًا. اهـ. من آخر جزء شعبان من منار سنة ١٣٢٧.
وملخص هذا الجواب أن مسألة دخول الكنيسة تمنع الحكومة العثمانية المدرسة
منه، وإن أخذت من الطلبة عهودًا به فيجب أن يرفعوا أمرهم إليها إن عادت إليه
المدرسة، وإن ما يخص الأهالي من هذه المعاملة فهو أن يتحروا مقاومة ما تريد
المدرسة منها بضده أعني شدة الاعتصام بالدين والنفور من المخالفين إلخ.
فهذا ما عبَّر عنه الدجوي بافتائنا التلاميذ المسلمين بحِلِّ الصلاة مع النصارى
في كنائسهم مع علمه بكل الجهاد الذي جاهدناه في صدهم عنه، وإرشادهم إلى
الاعتصام بالإسلام بأنفع العلم والعمل.
ومنه أنني سعيت في بيروت لإقناع المسلمين بإخراج أولادهم من المدرسة
الكلية الأميركانية وغيرها من مدارس النصارى، وجمع المال لإنشاء مدرسة كلية
إسلامية تغنيهم عنها أو مساعدة المرحوم الشيخ أحمد عباس بما يتمكن به من إيجاد
جميع العلوم والفنون في مدرسته؛ فعجزوا عن ذلك وعلمت منهم أنه لا يمكنهم
الاستغناء عن تعليم أولادهم في تلك المدراس، وكان منتهى ما أنذرتهم إياه الخوف
على أولادهم من الردة، وأما الجزم بها فغير جائز ويترتب عليه فساد كبير.
فلتخبرنا مشيخة الأزهر هل كان يمكن يومئذ أن نكتب في الموضوع خيرًا مما
كتبناه، أو يمكن اليوم تخويف المسلمين وصدهم عن هذه المدارس بأشد مما كتبناه
في ذلك المنار التي عزا إليه محرر مجلتها فريته، أو في الجزء الثالث من منار
هذه السنة (١٣٥١) في فتوى طويلة، وقد ذكرت للشيخ الدجوي فقال: إن هذا
من تخبط صاحب المنار وتناقضه فيما يكتبه (! ! !) ولا خلاف ولا تناقض إلا في
مزاعمه وبهائته المفتريات، وقد فضحه الله تعالى بها حتى عرفت حقيقته عند من
كانوا يظنون أنه على شيء من العلم والفهم، أو الصدق في النقل والعزو.
وليس العجب أن يشتهر مدرس أزهري كالدجوي بالعلم والفهم ويظن فيه
الصدق وتحري الحق، ثم تظهر الحوادث للناس فيه خلاف ما كانوا يظنون فيه،
وإنما عجب العجب أن يُقِرَّ شيخ الأزهر هذا الرجل -بعد ظهور أمره- على
التدريس في الأزهر والتحرير في مجلته ويأتمنه على العلم والدين، والواجب عليه
أن يكلفه تبرئة نفسه مما أثبتناه من افترائه وجهله بما يقنع الناس الذين يقرءون
مقالاتنا وهم يعدون بمئات الألوف أو يعاقبه بمنعه من التدريس والتحرير، وأنَّى
يفعل هذا من يُخْرِج من الأزهر أفضل المدرسين وأنفعهم بحجة الاستغناء عنهم،
ومنهم خير من نعلم من مدرسي الأزهر عناية بعلم السنة التي كادت تنسخ وتزول
من الأزهر، ولعل هذا أكبر ذنبهم، والله أعلم، وله الأمر وهو العلي الكبير.
* * *
المقال الثالث عشر
البهيتة السابعة ما سماه تطبيق القرآن على مذهب داروين
قال بعد مسألة الجن: (ومثل ذلك ما قاله في مذهب داروين في أول تفسيره
لسورة النساء: وأنه يجوز تطبيق القرآن عليه، وما أدري كيف يفعل في قوله
تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} (آل عمران: ٥٩)
إلى آخر ما جاء في الكتاب والسنة، مع أن كثيرًا من الأوربيين يأبون هذا المذهب
كل الإباء، وهل يبقى مع مثل تلك التأويلات وثوق بكتاب الله الذي أصبح قابلاً لكل
تأويل، وأصبح المراد منه غير معروف حتى في أصول الدين كالإيمان بملائكة الله
تعالى.
هذا نص عبارته في البهت، ويليه عبارة أخرى في التهكم والسَّبّ، ومن
عجائب جرأة هؤلاء الجامدين المقلدين لأمثالهم من الخلف، والمعادين لمذهب
السلف، أنهم يؤولون أكثر صفات الله تعالى وأفعاله بزعمهم أن نص كتاب الله
تعالى ونصوص الأحاديث النبوية فيها تستلزم الجسمية أو الجهة في عقولهم، وهي
مُحَال ويجهلون متبعي مذهب السلف الذين يوجبون وصف الله تعالى بما وصف به
نفسه من غير تعطيل ولا تأويل ولا تمثيل، حتى إن الرجل يقول: إنه لا يؤمن
بإله في السماء؛ لأن قوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} (الملك: ١٦) يجب
تأويله بأنه ليس في السماء ولا على العرش، وأنه لا يجوز إطلاقه كما أطلقه الله
تعالى، بل ابتدع هذا الدجوي في مجلة الأزهر تأويل أحكم المحكمات من آيات
توحيد الله وعبادته لأجل أن يصحح بدع العوام والجاهلين ويبيح لهم دعاء غير الله
من الموتى والاستغاثة بهم في الشدائد، وهو ما لم يبلغه شرك العرب في جاهليتها،
فإن الله تعالى قال فيهم: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان:
٣٢) فهو يستبيح لنفسه تأويل أصول عقيدة الإسلام لتصحيح البدع الوثنية، ثم
يزعم أننا إذا أولنا النفس الواحدة بغير آدم فماذا يبقى لنا من القرآن؟ وإنما هذا
تفسير بظاهر اللفظ لا تأويل، والمراد منه تنزيه القرآن عن نقض شيء فيه، وكان
قد بسط هذا الاعتراض من قبل في جريدة الأفكار كما بيَّناه من قبل في المقالين
الأول والرابع من هذا الرد، وقلنا في الرابع: إن الشيخ الدجوي قد اعتذر عنه
عقب نشره في جريدة الأفكار سنة ١٣٣٥ إذ خاف أن نقاضيه إلى محكمة العقوبات،
فيضطر إلى الاعتذار فيها كما اعتذر زميله في ذلك العام، وكان مما بَهَتَ به
صاحب المنار افتراؤه عليه أنه قال: إن آدم عليه السلام من سلالة القرود، وأنه
ليس أبًا الجميع البشر، وكانت حجته في اعتذاره أن الذي قرأ له غَشَّه وهو أعمى
لا يُبْصِر، ولكنه عاد في هذه السنة إلى الطعن علينا بما كتبه واعتذر عنه.
وكان الذي أثار هذه الفرية في نفسه وحمله عليها ما نقلته عن الأستاذ الإمام
في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: ١) من أن كلمة النفس
الواحدة ليست نصًّا أصوليًّا ولا ظاهرًا في آدم عليه السلام، وأنها مع ذلك لا يمكن
أن يعترض عليها أحد لا الذين يقولون: إن آدم هو الأب لجميع البشر ولا غيرهم
حتى الذين يقولون: إن للبشر عدة أصول، وبيَّن ذلك بما يراجع في أول تفسير
سورة النساء من جزء التفسير الرابع أو مجلد المنار الثاني عشر.
وقد وضحت كلامه (رحمه الله تعالى) فيما علقته عليه بأن المفسرين كالإمام
الرازي وغيره ذكروا في تفسير هذه الجملة {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (الأعراف:
١٨٩) من آية سورة الأعراف: ثلاثة أقوال: أحدها قول القفال إن هذه القصة
وردت على سبيل ضرب المثل، والمراد خلق كل واحد منكم من نفس واحدة،
وجعل من جنسها زوجها إنسانًا يساويه في الإنسانية، والثاني أن الخطاب لقريش،
والمراد بالنفس الواحدة جدهم قُصَيّ، والثالث أن النفس الواحدة آدم، وتأول ما يرد
عليه من الإشكال في قوله تعالى: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} (الأعراف:
١٩٠) مع عصمة آدم من البشر بما تراه فيه. فلو كان لفظ {نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: ١) نصًّا في آدم عليه السلام لما كان هناك وجه للقولين الآخرين. وكيف
يكون نصًّا أو ظاهرًا فيه ولفظ (نفس) اسم جنس نكرة، وآدم علم شخص معرفة؟
فتفسير هذه النفس بآدم تفسير بالمراد لا بمعنى اللفظ.
وذكرت أيضًا ما نقله المفسرون وغيرهم عن الإمامية والصوفية من أنه كان
في الأرض قبل آدم المشهور عند أهل الكتاب وعندنا آدمون كثيرون، فراجع ذلك
في روح المعاني للآلوسي وراجع ما قالوه أيضًا في تفسير: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: ٣٠) من قول بعضهم: إنه كان فيها بشر قبل آدم هم
الذين أشار إليهم الملائكة بقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (البقرة: ٣٠) ثم قلت بعد بيان استدلال شيخنا وما وضحته به ما نصه (صفحة
٣٢٦ من جزء التفسير الرابع) .
(ثم إن ما ذهب إليه الأستاذ الإمام يرد الشبهات التي ترد في هذا المقام،
ولكنه لا يمنع المعتقدين أن آدم هو أبو البشر كلهم من اعتقادهم هذا؛ لأنه لا يقول:
إن القرآن ينفي هذا الاعتقاد، وإنما يقول: إنه لا يثبته إثباتًا قطعيًّا لا يحتمل
التأويل. وقد صرحنا بهذا لأن بعض الناس كان فهم من درسه أنه يقول: إن
القرآن ينافي هذا الاعتقاد أي اعتقاد أن آدم أبو البشر كلهم، وهو لم يقل هذا
تصريحًا ولا تلويحًا، وإنما بيَّن أن ثبوت ما يقوله الباحثون في العلوم وآثار البشر
وعادياتهم والحيوانات من أن للبشر عدة أصول، ومن كون آدم ليس أبًا لهم كلهم
في جميع الأرض قديمًا وحديثًا - كل هذا لا ينافي القرآن ولا يناقضه ويمكن لمن
ثبت عنده أن يكون مسلمًا مؤمنًا بالقرآن، بل له حينئذ أن يقول: لو كان القرآن من
عند محمد صلى الله عليه وسلم لما خلا من نص قاطع يؤيد الاعتقاد الشائع عن أهل
الكتاب في ذلك بما لم تستطع اليهود أن تعارضه من قبل بدعوى مخالفته لكتبهم،
ولم يستطع الباحثون أن يعارضوه من بعد لمخالفته ما ثبت عندهم، وليت شعري
ماذا يقول الذين يذهبون إلى أن المسألة قطعية بنص القرآن فيمن يوقن بدلائل قامت
عنده بأن البشر من عدة أصول؟ هل يقولون: إذا أراد أن يكون مسلمًا وتعذر عليه
ترك يقينه في المسألة أنه لا يصح إيمانه، ولا يقبل إسلامه، وإن أيقن بأن القرآن
كلام الله، وأنه لا نص فيه يعارض يقينه؟ ؟ اهـ.
وإنما بيَّن الأستاذ الإمام في تنزيه القرآن ما ذكر ووضحته بما ذكرت؛ لأننا
نعلم أن كثيرًا من المسلمين يعتقدون صحة نظرية داروين في جملتها، وطالما
حاججناهم فيها كما سيأتي، ولكن لا نقول بكفر مَن يؤمن بالله وكتابه ورسوله منهم،
ولا أن هذا الرأي مانع من صحة إسلام من يهديه الله إلى الإسلام ممن يرون
صحة هذه النظرية أو نظرية تعدد أصول البشر، ولكننا لم نؤول نصًّا من القرآن
ولا ظاهرًا من ظواهره؛ لأجل تطبيقه على هذه النظرية التي لا نعتقد صحتها من
كل وجه.
وقد ذكرت في المقال الأول أن عالمًا من علماء تونس الأذكياء لا يبلغ الدجوي
مُدَّهُ في العلم ولا نصيفه قد انتقد عبارة الأستاذ الإمام وإقرارنا لها، وكتب إلينا بذلك
ما نشرناه له ورددنا عليه من بضعة عشر وجهًا فاقتنع بما كتبناه.
وخلاصة الكلام في المسألة أن مراد الأستاذ الإمام مما قرره أن من معجزات
القرآن في تعبيره عن أمور الخلق أن يذكر المسائل بما لا تستنكره معلومات العرب
الأميين في عصر التنزيل ولا معلومات غيرهم ممن خوطبوا به في العصر الأول،
ثم ترتقي معارف البشر في هذه المخلوقات ارتقاء عظيمًا حتى تصل إلى ما نعلم
ونسمع ونبصر في هذا العصر، ويبقى تعبير القرآن فوق كل علم وكل ارتقاء لا
يمكن أن ينهار، ولا أن ينقض من بنائه العظيم جدار، ولا أن يسقط منه حجر من
الأحجار، مع أننا نرى فحول علماء كل عصر كلما ألفوا كتابًا فيما وصلت إليه
معارفهم الواسعة من أمور العالم يجدون من الباحثين من ينقض كثيرًا من مسائله،
بل نرى العالم الواحد منهم إذا أعاد طبع كتابه بعد سنين قليلة من تأليفه يصحح
كثيرًا من مباحثه. فهل يعقل أن يكون في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم أن
يأتي بمثل هذه التعبيرات التي يستفيد البشر منها العبرة المرادة في كل زمن بما
يناسب معارف أهله من غير أن يمسها ما ينقض شيئًا منها، أو يصدّ الناس عن
الاهتداء بها؟
ولكن أمثال الشيخ يوسف الدجوي من علماء المناقشات في عبارات الأشموني
والصبان وحواشي مختصر السعد التفتازاني وجمع الجوامع، وإيراد الاحتمالات
الكثيرة فيها لا يعقلون مثل هذا الإعجاز في القرآن، ولا يفقهون فيها مراد عليم
كبير كالأستاذ الإمام، كما أنهم لا يفقهون كلامه في عظمة نفس المصطفى عليه
أفضل الصلاة والسلام، وأنه لا يمكن أن يؤثر فيها سحر السحرة أولي الأوهام، بل
ينكرون تحقيقاته التي لا تصل إليها أفهامهم المحصورة في مناقشات كتب المتأخرين،
ويجبنون عن توجيه الاعتراض عليها؛ لئلا تلعنهم الأمة بعد إجماعها على أن
مصر لم تنجب عالمًا ربانيًّا وحكيمًا تفتخر به مثله، فيوجه أجرؤهم على التحريف
وقول الزور كالشيخ يوسف الدجوي اعتراضه على ناقل علمه وحكمته وناشر فضله
ومزاياه وما هو إلا صاحب المنار، ويظاهره على ذلك ضريبه في علمه واعتقاده
الشيخ الأحمدى الظواهري فيما يظهر؛ إذ يستعمله في نشره في مجلة الأزهر، ولا
يأذن بأن ينكر عليه فيها منكر.
أما قول الشيخ يوسف الدجوي: وما أدري كيف يفعل في قوله تعالى: {إِنَّ
مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} (آل عمران: ٥٩) إلخ، فجوابه
أولا: أنه لا يعقل أنه لا يدري ذلك؛ إذ لا بد أن يكون راجع تفسيرنا لهذه الآية
وأمثالها لأجل تأييد طعنه علينا أن وجد فيها ما يؤيد رأيه، وثانيا أنه إن كان صادقًا
في قوله: إنه لا يدري، فهو أنه لا يحب أن يدري؛ لأنه لو كان يحب أن يدري
لراجع تفسيرنا لهذه الآية ولغيرها في معناها، ولا سيما الآيات التي انفردنا
بتفسيرها بعد وفاة شيخنا رحمه الله كقوله تعالى في سورة الأنعام: {هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُم مِّن طِينٍ} (الأنعام: ٢) الآية، فقد قلت في تفسيرها من صفحة ٢٩٦ من
جزء التفسير السابع ما نصه:
هذا كلام مستأنف جاء على الالتفات عن وصف الخالق تعالى بما دل على
حمده وتوحيده إلى خطاب المشركين الذين عدلوا به غيره في العبادة، يذكرهم به
بما هو ألصق بهم من دلائل التوحيد والبعث، وهو خلقهم من الطين وهو التراب
الذي يخالطه الماء فيكون كالعجين، وقد خلق الله آدم أبا البشر من الطين كما خلق
أصول سائر الأحياء في هذه الأرض؛ إذ كانت حالتها مناسبة لحدوث التولد الذاتي،
بل خلق كل فرد من أفراد البشر من سلالة من طين، فبنية الإنسان مكونة من
الغذاء ومنه ما في رحم الأنثى من جراثيم النسل وما يلقحه من ماء الذكر، فهو
متولد من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من نبات الأرض أو من لحوم الحيوان
المتولد من الأرض، فمرجع كل إلى النبات، وإنما النبات من الطين، ومن تفكر
في هذه ظهر له ظهورًا جليًّا أن القادر عليه لا يعجزه أن يعيد الخلق كما بدأه إذا هو
أمات هذه الأحياء بعد انقضاء آجالها التي قضاها لها في أجل آخر يضربه لهذه
الإعادة بحسب علمه وحكمته اهـ.
وفي معناه ما كتبته في تفسير قوله تعالى من سورة الأعراف {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ
ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} (الأعراف: ١١) الآية وهذا نصه من (ص٣٢٨ من جزء
التفسير الثامن) :
(الخطاب لبني آدم، والمعنى خلقنا جنسكم أي مادته من الصلصال والحمأ
المسنون، وهو الماء والطين اللازب المتغير الذي خلق منه الإنسان الأول، ثم
صورناكم بأن جعلنا من تلك المادة صورة بشر سَوِي قابل للحياة، أو قدرنا إيجادكم
تقديرًا ثم صورنا مادتكم تصويرًا إلخ؛ ثم ذكرت الأقوال المروية عن ابن عباس
وغيره من مفسري السلف وقلت في آخرها: والتقدير الذي ذكرناه أولا هو الموافق
لما عليه الجمهور، والإنسان الأول آدم) اهـ. فهذان نصان صريحان في
اعتقادنا أن آدم هو الإنسان الأول، وأنه أبو البشر ناقضًا لما افتراه علينا الشيخ
الدجوي ومُكَذِّبًا له.
وأما آية خلق عيسى كخلق آدم فقد كتبت في تفسيرها (ص ٣١٩ ج٣) ما
نصه:
(أقول بعد أن بيَّن سبحانه خلق عيسى ومجيئه بالآيات، وما كان من أمر
قومه في الإيمان والكفر به، كشف شبهة المفتونين بخلقه على غير السنة المعتادة
والمُحَّاجين فيه بغير علم، وردَّ على المنكرين لذلك فقال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ
اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} (آل عمران: ٥٩) أي أن شبه عيسى وصفته في خلق الله إياه
على غير مثال سبق كشأن آدم في ذلك ثم فسر هذا المثل بقوله: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ
} (آل عمران: ٥٩) أي قدَّر أوضاعه وكوَّن جسمه من تراب ميت أصابه الماء
فكان طينًا لازبًا ذا لُزُوجَةٍ: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: ٥٩) أي ثم
كوَّنه تكوينًا آخر بنفح الروح فيه اهـ.
مذهب داروين والإسلام:
وجملة القول: أن ما بهتنا به الشيخ يوسف الدجوي في مجلة الأزهر من أننا
نقول بتطبيق القرآن على مذهب داروين فهو كذب مفترى كغيره من مفترياته، وإن
في مجلد المنار الثاني عشر الذي استنبط منه سائر هذه المفتريات رسالة لشيخ
الصحافة في سورية عبد القادر أفندي القباني جعل فيها مذهب داروين دينًا مناقضًا
للأديان المعروفة في البلاد العثمانية وناقضًا لها وقد نشرتُها له وعلَّقْتُ عليها تعليقًا
قلت فيه (ص٦٣٥ منه) : (أؤكد لصديقي الكاتب أن مذهب داروين لا ينقض -
إن صح وصار يقينًا - قاعدة من قواعد الإسلام، وأعرف من الأطباء وغيرهم من
يقول بقول داروين وهم مؤمنون إيمانًا صحيحًا، ومسلمون إسلامًا صادقًا، يحافظون
على صلواتهم وسائر فرائضهم، ويتركون الفواحش والإثم والبغي التي حرم الله على
عِبَادِهِ عملا بدينهم، على أن هذا المذهب علمي ليس من موضوع الدين في
شيء) .
فقولي: (إن صح وصار يقينًا) صريح في أنه لم يصح وأنه لا يرجح أن
يصح، وكان هذا هو المستقر في رأيي مما بسطه أستاذنا الشيخ حسين الجسر
العلامة الشهير في كتاب (الرسالة الحميدية) وأقره عليه علماء سورية وعلماء
الترك وغيرهم من العلماء كما صرَّحت به في المقال الأول من هذه الردود.
وأما رأيي التفصيلي في مذهب داروين الذي كنت أرد به على القائلين به قولاً
وكتابة ففيه أجوبة على أشهر أدلتهم عليه وقد ابتليت بدفع شبهاتهم كغيرها من
الشبهات على الدين. وأوسع هذه المباحث ما نشر في الجزء الثامن من مجلد المنار
الثلاثين (ص ٥٩٣) وهي شبهات ألقاها إليَّ بعض الشبان كتابة في أثناء
محاضرة لي على منبر جمعية الشبان المسلمين فيعلم منها مبلغ بهتان الشيخ يوسف
الدجوي عليَّ، وقلبه للحقائق وإسناده إليَّ ضد ما هو ثابت عني في مواضع من
مجلة المنار وتفسيره، وذلك برهان قاطع على تعمده افتراء الكذب وسوء نيته فيه.
وهذه البُهْيَتة آخر البهائت التي نشرتها له مجلة الأزهر في الجزء الخامس من
هذه السنة (١٣٥١) ووعدت بتفنيدها وسأنشر بعدها مقالة الرد على احتجاجه
لبدعة الزيادة في الأذان أو عليه إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))