للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خطاب آخر لمشتركي المنار من الطبقات الثلاث

تعلمون أيها الإخوان أننا كنا أشد أصحاب الصحف تساهلاً في اقتضاء قيمة
الاشتراك فلا وكلاء للتحصيل يُلِحُّون في الطلب، ولا دعوى ترفع إلى المحاكم على
أحد، ولا تشهير بذم مماطل في المجلة ولا في غيرها، ولا منع لإرسال المنار إليه
لزوال الثقة بذمته ودينه.
ولكن اشتداد العسرة اضطرنا في العام الماضي إلى ما لم يكن من عادتنا
فمنعناه عن بعض الماطلين في كثير من الأقطار؛ إذ ضاعفت الحكومة المصرية
أجرة البريد الصادر حتى أجرة الصحف، ولنحن في هذه العام أعجز عن
الاستمرار على إرساله إلى المُصِرِّينَ على مطلهم، وإن أكثر أهل وطننا على قربهم
منا لأشد مطلاً من غيرهم، فكيف يحكمون؟ وكيف نعمل لإمكان الثبات على هذه
الخدمة الواجبة؟
إن الرأي المعقول السهل هو أن يرسل المشترك المعسر ما عليه للمنار أقساطًا
ولو شهرية، وأن يتفضل علينا المدينون لنا بإخبارهم إيانا كتابة عما عزموا عليه،
وإن الكتابة إلينا بالاعتراف بالحق، وبحسن النية في الوفاء الذي يتيسر لهم، لهي
آية طهارة الذمة واتصال المودة الأخوية، وحب التعاون المستطاع على خدمة الملة،
وسيروننا إن شاء الله تعالى كما يحبون من قبول عذر، وصبر وشكر، وإنظار
مُعْسِر يطلب النَّظِرَة، وصلح مقلّ يطلب إسقاط بعض الحق المتأخر، ونقبل منهم
شهادتهم لأنفسهم.
وليتدبروا قوله تعالى في طبقات أهل دينه ودرجاتهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} (فاطر: ٣٢) .
هذه الدرجات الثلاث تظهر في جميع الأعمال: فالظالم لنفسه في المعاملات
المالية مع أصحاب الصحف وغيرهم هو الذي يؤخر إيتاء ما عليه إلى ما بعد
الاستحقاق، ويمطل في الوفاء كما ثبت في الحديث الصحيح - والمقتصد من يؤدي
ما عليه في أثناء السنة. وأما السابق بالخيرات فهو من يعطي قيمة الاشتراك سلفًا،
وأسبق منه من يزيد على الواجب نفلاً، ومن هذا القسم الأعلى من قراء المنار من
رأى ما كتبناه في شأن المشتركين في الجزء الماضي فأرسل إلينا حوالة بستة
جنيهات منها جنيه قيمة اشتراكه في المجلد الثالث والثلاثين سلفًا، وخمسة جنيهات
تبرع بها لخمسة من فقراء القراء الذي يجري انتفاعهم ونفعهم بما يقرءون، ولم
يسمح لنا بذكر اسمه، وهو ممن يعيشون عيشة الكفاف، وحسبه علم الله عز وجل،
وما أعد للسابقين بالخيرات من مضاعفة الثواب. وأما من يستحل أكل الحق الذي
عليه كله، فلا يعد من الوارثين لكتاب الله ولا من أهله، برأ الله جميع مشتركي
المنار من ذلك بتوفيقه وفضله.