للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


شبهات حول الرسول والقرآن

سؤال
(ما الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بعد الأربعين وما الذي فعله)
ولم يكن لشيء من ذلك ما يدل عليه قبل هذه السن [١] من قول ولا فعل ولا علم ولا
عمل.
الجواب
جاء بدين معقول موافق للفطرة عام دائم، وشرع عادل مساوٍ بين الناس،
وجمع شمل أمة متفرقة متعادية لم يعرف تاريخها لها وحدة، وكون أمة متحدة مدنية
مؤلفة من جميع الشعوب والقبائل، وأسس دولة عزيزة قوية عادلة، وأصلح جميع
ما كان قد أفسده البشر من الأديان والآداب والحضارات، بالظلم والعصبيات
والخرافات [٢] .
(الدعوة المحمدية موضوعها وكتابها)
(أ) ادَّعَى أن الله تعالى بعثه في قومه الأميين الجاهلين المشركين المفسدين
في الأرض؛ ليزكيهم ويُرَبِّيَهُمْ في الكبر ويعلمهم الكتاب والحكمة، فيبلغوا دعوته
للأمم فيكونوا من الأئمة المصلحين، ومن خلفاء الأرض الوارثين، وكذلك كان
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً
يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا} (النور: ٥٥) .
(ب) ادَّعى أن جميع شعوب البشر على اختلاف مللها ونحلها ضالون
مضلون، وأن أتباع النبيين منهم قد فسقوا عن هدايتهم، أشركوا بعبادة ربهم،
وابتدعوا في الدين ما لم يشرعه الله لهم، وأنهم أضاعوا بعض كتبهم وحرَّفوا
بعضها، وأنه جاء من عند الله تعالى لهدايتهم كلهم أجمعين، وأن دينه سيظهر على
أديانهم بالحجة والبرهان، والعقل والوجدان، والسيادة والسلطان، وكذلك كان،
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
المُشْرِكُونَ} (التوبة: ٣٣) .
(ج) جاء بكتاب ادَّعى أنه كلام الله تعالى أوحاه إليه، وأنه ليس له منه إلا
تبليغه كما تَلَقَّاه، وقد ظهر أن هذا الكتاب لم يكن بينه وبين كلام محمد قبله ولا بعده
شبه في نظمه ولا أسلوبه ولا معانيه ولا بلاغته ولا تأثيره، ولا أخباره وعقائده،
ولا تشريعه وأحكامه، ولا معلوماته الكونية والاجتماعية ولا حكمه وآدابه.
(د) قد علم من هذا الكتاب ما يضاد كونه من علم محمد وهو أنه هو الذي
يربيه ويعلمه كما قال: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ
وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء: ١١٣) ويصحح له خطأ اجتهاده في
التبليغ أو التنفيذ تارة باللين واللطف، كقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة: ٤٣) وتارة بالموعظة والشدة
كقوله تعالى: {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ
ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء: ٧٤-٧٥)
وقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: ٦٧-٦٨) وقوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ
وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (الأحزاب: ٣٧) قالت عائشة: لو كان
للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكتم شيئًا من القرآن لكتم هذه الآية.
وقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ
يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى *
وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلاَّ} (عبس: ١-١١)
وقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ
تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: ٢٨) الآية، وقوله تعالى في
معناها: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ
حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: ٥٢) نزلت هذه الآيات الأخيرة في إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى
العناية بفقراء المؤمنين وعدم المبالاة بأغنياء قريش وكبرائهم الذين كانوا يحتقرونهم،
وكان من اجتهاده صلى الله عليه وسلم أن يستميلهم لظنه أنهم إذا آمنوا لا يلبث
جمهور العرب أن يقتدي بهم.
(هـ) عُلِمَ من هذا القرآن أيضًا أنه كان حين يأتيه الوحي يخاف أن يتفلت
منه شيء فلا يحفظه فيعجل بتلاوته ليحفظه فخوطب حين عرض له هذا في أثناء
نزول سورة القيامة بقوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ
وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: ١٦-١٩) فكفل
له ربه جمعه له بالحفظ، وأن يقرأه كما ألقي إليه لا يفوته منه شيء، كما ضمن له
عدم نسيان شيء منه بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ
وَمَا يَخْفَى *} (الأعلى: ٦-٨) أي أنا قد عصمناك من نسيان شيء مما نُقْرِئك
إياه بتلقين الملك، لكن إن شاء الله أن تنسى شيئًا فإنك إنما تنساه؛ لأنه تعالى هو
الذي شاء ذلك لحكمة له فيه، لا لضعفك عن الحفظ وعروض النسيان الذي تخشاه،
وقد عصمك الله منه، وهذا الاستثناء المنقطع لا يدل على أنه تعالى شاء أن ينسى
شيئًا منه بل هو كقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه: {وَلاَ
أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} (الأنعام: ٨٠) وقيل: إن
الاستثناء لتوكيد النفي، وقيل: إنه لما أراد نسخه.
(و) إنه صلى الله عليه وسلم كان يبلغ ما يُلْقَى إليه من القرآن بنصه
وعبارته كما أمر فيه لا بمعناه كوحي الإلهام وما يلقيه الملك في روعه، فيجمع بين
الأمر بالقول ومقوله المراد منه مثل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: ١) ولكنه
عندما كان صلى الله عليه وسلم يريد تبليغ المعنى في أثناء كلامه الذي لم يقصد به
تلاوة القرآن يذكر مقول القول كالذي تراه في كتابه إلى هرقل قيصر الروم وغيره
وهو (ويا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ
شَيْئاً) إلخ، ونص الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا} (آل عمران: ٦٤) إلخ.
(ز) ليتأمل القارئ قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ
لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ
نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُل
لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (يونس: ١٥-١٦) .
(ح) قد اشتمل هذا الكتاب على تحدي العرب وغيرهم به وصرَّح فيه بأن
جميع الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله في جملته، وبسورة من مثله، واستدل
النبي بذلك على كونه من عند الله تعالى لا من عنده، فظهر عجز العرب ثم عجز
غيرهم عن ذلك كما بيناه في الكلام على إعجازه بلغته وأسلوبه ونظمه [٣] وأعجازه
بتأثيره، وما أحدثه من الثورة العربية والانقلاب العالمي [٤] ولم يكن شيء من هذا
في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذاتية، ولا من استعداده الذي تدل عليه
سيرته في شبابه.
(ط) إنه قد نقل عنه صلى الله عليه وسلم بأصح الروايات التي تواتر خبر
بعضها أنه كان يبطئ عليه الوحي أحيانًا، فيضيق صدره ويشق عليه حتى قال
المشركون مرة: إن ربه (وقالت امرأة منهم: إن شيطانه) ودعه أي تركه وقلاه أي
أبغضه، فأنزل الله تعالى عليه: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: ٣)
وحتى كان يرجئ جواب السائلين والمستفتين انتظارًا له، وكان أكبر العبر وأوضح
الدلائل على ما نريد هنا من هذه المسألة ما كان في قصة الإفك؛ إذ أذاع زعيم
المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول قذف السيدة عائشة أم المؤمنين، وأحظى
الأزواج المطهرات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاحشة، وصدق خبره
بعض المؤمنين وتحدثوا به، وقد كان كل ما ابتلي به من إفك المنافقين والكافرين
دون هذه الحادثة إيلامًا له، حتى استشار من استشار في فراقها على علو مكانة
أبيها عنده، وسأل جاريتها بريرة هل رأت منها ما يريبها فحلفت إنها ما رأت ولا
علمت قط ما يريبها فيها، وكانت عائشة تبكي ليلاً ونهارًا ما يرقأ لها دمع وهي
موقنة أن الله سيبرئها قالت: ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله في شأني وحيًا
يُتَْلَى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ كلامًا يُتْلَى. ومكث صلى
الله عليه وسلم شهرًا لا يوحى إليه حكمة منه تعالى، ثم نزلت آيات براءتها
المعروفة في سورة النور، فلو كان لاستعداده الشخصي صلى الله عليه وسلم تأثير
في نزول الوحي عليه، أو لو كان الوحي نابعًا من نفسه من اعتقاد أنه من الله
تعالى كما زعم الزاعمون لما أبطأ عليه في هذه الحادثة، بل الكارثة العظمى.
(ي) تقدم أصح الأحاديث المرفوعة في نزول الوحي عليه صلى الله عليه
وسلم ورعبه منه في أول الأمر وأنه كانت تتغير حاله حتى يتفصد عرقًا في اليوم
الشديد البرد، وأن وزنه كان يزيد في تلك الحال، وقد بيَّنا أن ذلك من تأثير غلبة
الروحانية عليه باتصاله بجبريل الروح الأمين. وكان أصحابه يعرفون حين ينزل
عليه الوحي وهو معهم. قال عبادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه
الوحي كرب لذلك وتربد وجهه. رواه مسلم. وفي حديث الصحيحين والنسائي أن
يعلى بن أمية كان يقول لعمر: ليتني أرى النبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل
عليه الوحي فلما كان بالجعرانة وعليه ثوب قد أُظِلَّ به عليه جاءه الوحي فأشار
عمر إلى يعلى أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا هو صلى الله عليه وسلم
مُحْمَر الوجه يغط لذلك ساعة (أي مدة قليلة) ثم سُرِّيَ عنه ا. هـ باختصار.
تأول هذا أعداؤه صلى الله عليه وسلم من الإفرنج وتلاميذهم بأنه كان يعرض
له نوبات عصبية وتشنجات (هستيرية) وما أبعد الفرق بين حاله تلك، وحالة
أولي الأمراض العصبية في المزاج فقد كان مزاجه صلى الله عليه وسلم معتدلاً
ولعله إلى الدموي العضلي أقرب، وفي أعراضها وآثارها ونتائجها، فذو النوبة
العصبية يعرض له في أثرها من الضعف والإعياء البدني والعقلي ما يرثي له العدو
الشامت، وأما صاحب تلك الحالة الروحانية العليا، فكان يتلو عقب فصمها
وتسريها عنه آيات أو سورة كاملة من القرآن الذي بيَّنا في هذا البحث بعض وجوه
إعجازه اللفظي والمعنوي، وما فيه من علم الغيب والحكمة والتشريع الذي لم
يعرف البشر له مثلا عن حكمائهم ولا عن أنبيائهم، ولا يُرْجَى أن يعرفوا له نظيرًا
في سائر أجيالهم؛ لأنه هو الذي ختم الله تعالى به النبوة وتعليم الوحي الأعلى،
ونحن لا نزال نتحدى به بقية البشر أن يأتوا بمثله، كما تحداهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم في عصره، وإنما المجنون بغروره وتعصبه يُسَمِّي هذا الكمال
العلمي الإصلاحي جنونًا، إلا أن يجعل الجنون من أسماء الأضداد، أو يجعل اسمًا
لما فوق الإنسانية ودون الربوبية من الكمال.
(ك) قد عُلِمَ مما ذكرنا من علوم القرآن، ومقاصده في ترقية نوع الإنسان،
أنه لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم يدري شيئًا من مباديها، ولا من حاجة البشر
إليها، فضلا عن وسائلها وفروعها في العبادات الروحية الصحية الاجتماعية
والسياسية والإدارة، فمسألة الطهارة الإسلامية وحدها تدمغ أوربة في وثنيتها
ونصرانيتها وفلسفتها.
فنتيجة هذه المقدمات الإحدى عشرة أن القرآن وحيٌ من الله تعالى ليس
لاستعداد محمد النفسي ولا التاريخي ولا اللغوي فيه شيء ما، وما كان إلا مُبَلِّغًا له
كما تَلَقَّاه وليس معنى كونه كلام الله أن لله فمًا ولسانًا نطق به، ولا أنه تمثل رجلا
فتكلم كما في التوراة وإنما معناه عندنا أنه تعليم من الله بصفة خاصة كما قال:
{الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ} (الرحمن: ١-٢) وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: ١٩٣-١٩٥)
فكلام الله عندنا صفة من صفات كماله كعلمه إلا أن وظيفة العلم انكشاف المعلومات
للعالم ووظيفة الكلام كشفها لمن شاء بما شاء، فالبشر يبلغون كلامهم النفسي بنطق
اللسان وبالقلم وبالإشارات وبالآلات، والله تعالى يبلغه بالوحي الذي لا يعرفه إلا
الملائكة والأنبياء.