للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقريظ المطبوعات الجديدة

إننا لكثرة أعمالنا، ومنها انفرادنا بالتحرير والتصحيح للمجلة ولكثير من
مطبوعات دار المنار لا نجد فرصة نطلع فيها على ما يهدى إلينا من المطبوعات
لنقضي حق أصحابها وحق الأمة علينا بتقريظها ونقدها فكنا نرجئه من سنة إلى
أخرى رجاء اقتناص الفرص ولا تزال تفر منا، فنحاول ذكرها على سبيل التعريف
الوجيز كما تفعل بعض المجلات فيعز علينا ذلك فيما نراه كبير الفائدة فنقرظ في
العام قليلاً منها، وإننا نفتتح هذه السنة بالتنويه بأهمها مبتدئين بكتاب جليل في خاتم
النبيين وهو:
(محمد صلى الله عليه وسلم المثل الكامل)
مؤلفه الكاتب الإسلامي الاجتماعي العالم الديني العصري الأستاذ محمد أحمد
جاد المولى المفتش بوزارة المعارف، وقد طبع في مطبعة دار الكتب المصرية
بالقاهرة سنة ١٣٤٩ على ورق جيد بحروفها الجميلة، وأعيد طبعه في هذه السنة
١٣٥١ فيها أيضًا. صفحاته ٢٧١ صفحة.
تدخل (محتويات الكتاب) بعد المقدمة في عشرة أبواب:
(١) عنوانه: إلى محمد صلى الله عليه وسلم ترد الفضائل جميعها.
(٢) محمد صلى الله عليه وسلم بين الرسل.
(٣) الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي اقتضت بعثته.
(٤) مراحل حصول النبوة واستقرارها.
(٥) الأدلة القاطعة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم.
(٦) محمد صلى الله عليه وسلم أكبر المصلحين نجاحًا.
(٧) محمد صلى الله عليه وسلم أوفى الأنبياء دينًا.
(٨) محمد صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق.
(٩) محمد صلى الله عليه وسلم أجدر الناس بالإيمان به ومحبته واتباعه
وطاعته.
(١٠) موجز السيرة النبوية.
وفي كل باب من هذه الأبواب مسائل مهمة مفصلة أحسن التفصيل بأسلوب
فصيح لا تجدها مستوفاة في كتب السيرة المطولات، وما يوجد فيها منها يعسر
استخراجه على أكثر القراء في هذا الزمان، فهو قد استخرج الزبد من تلك الألبان
الروحانية التي لا يتغير طعمها، والعسل المُصَفَّى من تلك الثمار النبوية الشهية
البالغة، ببيان تلذ قراءته جميع الناس، وتفيد جميع القارئين، ولكنه قد عَدَّ في
الأدلة العقلية على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم ما هو من الفضائل الأدبية
والمزايا الاجتماعية؛ لأنها تؤيد الدليل العقلي في جملتها، كما عد ما ذكره من مزايا
القرآن في إعجازه معجزة في جملتها لا في كل فرد منها، وقال مثل ذلك الأحاديث
النبوية جميعها.
وأورد كثيرًا من الأحاديث في أبوابه غير مُخَرَّجَة لنقله إياها من كتب
المتأخرين فكانت مختلفة الدرجات، ومنها رفع ما ليس بمرفوع، ولا تخلو ضعافها
من الموضوع، ومن ذلك أثر مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سقط منه
متعلق الخبر المقصود وهو: (الناس بزمانهم أشبه) هكذا أورده في الشواهد على
إيجاز النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مرفوع ولفظ الأثر (أشبه منهم بآبائهم)
ومثل هذا الكتاب في نفاسته وعظم فائدته، وجدارته بالتدريس في المدارس الثانوية
أو العالية يجب ألا يُذْكَر فيه غير الأحاديث الصحيحة أو الحسنة المَعْزُوَّة إلى
مُخَرِّجِيهَا من حُفَّاظ السنة. وقد علمت أنه عازم على ذلك عند إعادة طبع الكتاب
مرة ثالثة، كما أنه عازم على إعادة النظر فيما كتبه من سوء حال الأمة العربية وما
كان من مساويها قبل البعثة المحمدية، وأن يزيد على ما ينقحه منها ذكر بعض
فضائلها التي أشرنا إليها في خلاصة السيرة المحمدية؛ وهي من مراجع هذا الكتاب
النفيس كما أن من مراجعه كتاب رسالة التوحيد للأستاذ الإمام ولعله نسي أن يذكرها
معها.
ومن حسن ذوق المؤلف وفهمه أنه سمى كتابه (محمد المثل الكامل) ولم يقل
(المثل الأعلى) لأن الله عز وجل قال في كتابه العزيز {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} (النحل: ٦٠) وهو يفيد الاختصاص، فهل يعتبر بهذا هؤلاء الكتاب المجازفون
المقلدون الذين ابتذلوا هذا الوصف الأعلى فصاروا يبذلونه لكل من يمدحونه وإن
كان لا يستحق المدح بما دون هذا.
وإنني أنصح لوزارة المعارف ولمديري المدارس الأهلية الإسلامية بتدريس
هذا الكتاب في مدارسهم، ولسائر المسلمين بمطالعته.
وثمن النسخة منه ١٠ قروش صاغ، وهو يطلب من مكتبة دار المنار بمصر.
***
(كتاب الجنايات المتحدة في القانون والشريعة)
كتاب حديث في وضعه وموضوعه، ألفه وطبعه منذ سنتين الأستاذ الفاضل
(الشيخ رضوان شافعي المتعافي) خريج قسم التخصص في الشريعة الإسلامية
ومدرسة دار العلوم العليا (حاول فيه بيان مقدار المماثلة الإسلامية بين قانون العقوبات
الأهلية وشروحه وبين الشريعة الإسلامية) ويعني بالشريعة الإسلامية ما تقرر في
كتب الفقه المشهورة. والغرض من هذا أنه قلما يوجد في قانون العقوبات حكم لا
يوجد له نظير في كتب الفقه مثله أو خير منه فلا عذر إذًا لحكومة إسلامية كحكومة
مصر أن تستمد قانونها من كتب الإفرنج دون كتب الفقه الإسلامي، وهي تجد كل
ما يُحتاج إليه لحفظ الأمن وتأديب المعتدين في كتب الشرع الديني الذي تنسب إليه
دولتها، وتدين الله به أمتها. وهذا غرض صحيح طالما أَثْبَتُّهُ في المنار، وبينتُ
فوائده الدينية والاجتماعية والسياسية، واقترحت على العلماء الواقفين على الفقه
الإسلامي والقوانين الوضعية أن يؤلفوا فيه كتابًا أو كتبًا بأسلوب القوانين ويحملوا
الأمة على مطالبة حكومتهم بتنفيذه.
وقد فتح هذا الكتاب الجديد لهم باب العلم، وأورد لهم النماذج منه، فمهما
يكن من آرائهم في مسائله فما أرى أنهم يختلفون في صحة الغرض الذي ذكرناه،
وأنه قد آن وضع المشروع التفصيلي الذي اقترحناه من قبل لتنفيذه.
هذا وإن أكثر بضاعة المؤلف التي يعرضها في أمثال هذه المسائل يأخذها من
كتب الفقه الحنفي، وهي من مباحث الإسلام العامة وحكمته في التشريع لا من
المباحث المذهبية، ولذلك نراها قاصرة، ونراه عرضة للعثار إذا عرض لدلائل
الكتاب والسنة وما استنبط منها كعثرته فيما انتقده على تفسير المنار في مسألة الربا.
ومنه زعمه أن الربا حُرِّمَ في أول الإسلام بمكة بنص قوله تعالى في سورة: {وَمَا
آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ
تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ} (الروم: ٣٩) والآية لا تدل على
تحريم الربا ولا على فرضية الزكاة دلالة قطعية، لا على قاعدة مذهب الحنفية في
الفرضية والتحريم، ولا ظنية أيضًا، ولذلك لم يقل بدلالتها على الأمرين أحد من
علماء الصحابة والتابعين ولا أئمة الفقه، وإنما هي من قبيل قوله تعالى في سورة
سبأ: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (سبأ: ٣٧) .
نقل هذا المؤلف جملة مما كتبناه في التفسير من التفرقة بين الربا المحرم
بنص القرآن القطعي، وما ثبت منه بروايات الآحاد الظنية وأقيسة العلماء، وهو
يتضمن ما أجمع عليه العلماء من أن الربا حرم بعد الهجرة بآية آل عمران وآيات
البقرة ورد علينا بزعمه أنه حرم في مكة بآية سورة الروم، وقرَّر الاستدلال بقوله:
(وقد تقرر في علم الأصول أن لفظ (ما) من صيغ العموم ولا شك في أن
الربا ذكر في آية الروم بلفظ منكر مبينًا للفظ ما يشمل كل نوع يسمى ربًا) .
ثم ذكر أن السنة الصحيحة لم تبين أنواع الربا، ولكن الأئمة استنبطوا من
الأحاديث التي صحت عندهم جميع الأنواع، فإذا كان القرآن بيَّنَها كلها فأيُّ حاجة
بعدُ لاستنباط الأئمة لها من الأحاديث؟
الحق الواضح أن آية سورة الروم لا تدل على تحريم الربا مطلقًا، فعموم
لفظها وعدمه سواء. وقد نقل المفسرون أنها نزلت في الهدايا والعطايا التي يرجو
باذلوها أن يعطوا من المقابلة عليها أكثر منها، رووا هذا عن ابن عباس ومجاهد
وسعيد بن جبير والضحاك ولفظ الأخير في تفسير الآية: هو الربا الحلال أن
تهدي تريد أكثر منه، وليس له أجر ولا وزر، ونهي عنه النبي صلى الله عليه
وسلم خاصة فقال: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر: ٦) قال في الدر المنثور بعد
إيراده: وروى البيهقي في سننه عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن
محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه في الآية قال: الرجل يعطي الشيء ليكافئه
به ويزاد عليه فلا يربو عند الله، والآخر الذي يعطي الشيء لوجه الله ولا يريد من
صاحبه جزاء ولا مكافأة فذلك الذي يضعف عند الله تعالى. اهـ.
فعلى الأستاذ الشيخ رضوان أن يدقق في البحث ويطلع على الروايات ومسائل
الإجماع ومدارك الخلاف، قبل أن يتصدى للحكم الاستقلالي الاستدلالي في
الشرع.
***
(الإسلام دين عام خالد)
كتاب جديد للكاتب الاجتماعي المشهور الأستاذ محمد فريد أفندي وجدي
مؤلف من مقالات نشرها في جريدة الجهاد السياسية اليومية ثم جمعها في سِفْر بلغت
صفحاته ١٩٠ صفحة من القطع الصغير، وصفه بقوله عنه (تحليل دقيق لأصول
الدين الإسلامي تحت ضوء العلم والفلسفة) وقد جاءنا نسخة منه في البريد والعهد
بصحابه أنه غضب علينا لانتقادنا بعض كتبه منذ ربع قرن أو أكثر، فما عاد يهدي
إلينا شيئًا من مصنفاته على ما كان بيننا من تعارف وتآلف منذ السنة الأولى من
هجرتنا إلى مصر (سنة ١٣١٥) بل كتب مقالات شديدة في الطعن علينا: ونحن
قد أمسكنا عن الرد على ما نراه أحيانًا من الخطأ في كتبه، وفيما ينشره في الجرائد
لئلا يتخذ انتقادنا وسيلة للجدل المذموم أو لما هو شر منه، وإن أدري أهو الذي
أهداني هذا الكتاب الجديد لثقته بأنه قد حرَّره واجتنب فيه الآراء الشاذة المنتقدة عند
أمثالنا من المشتغلين بالإصلاح الديني والتجديد الإسلامي وهو الأرجح، أم أرسله
إلينا غيره ممن يحبون الوقوف على رأينا فيه، وأَيًّا ما كان المُرْسِل والباعث على
الإرسال فقد صار من الواجب عليَّ أن أقرظ الكتاب وأبيِّن لقراء المنار خلاصة
رأيي فيه وفي صاحبه، على أنني لم أقرأ الكتاب بعدُ، وإنما أبني كلمتي المجملة
فيه على ما قرأته منه في جريدة الجهاد، وقد أراجع ذلك فيه للتثبت، وربما كان
هذا الإجمال هو الذي يضطرني إلى مطالعته، والتفصيل في نقده عند سنوح
الفرصة.
إن الأستاذ فريد أفندي وجدي كاتب سيال القلم في المباحث الاجتماعية
والمدنية الإسلامية، شديد التأثر والإعجاب بالفلسفة العصرية ومذهب استحضار
الأرواح، ولكنه مضطرب متناقض في كل ما كتبه عن الإسلام لقلة علمه بأصوله
وفروعه وكتابه وسنته وتشريعه، ومن أظهر هذا العلم الناقض المضطرب أنه يأخذ
رواية شاذة ظنية رجع عنها صاحبها في فرع خاص من الفروع العملية الظنية
كالرواية عن أبي حنيفة في صحة الصلاة بقراءة ما يجب فيها من القرآن مترجمًا
بغير العربية فيجعلها حجة على رفض إجماع الأمة وقاعدة كلية إسلامية يستدل بها
على شرعية ما فعلته حكومة الجمهورية التركية من ترجمة القرآن كله بالتركية
وإكراه شعبها على التعبد به - وإن اعتقدوا أن ذلك معصية لله أو كفر بدينه - ومِن
مَنْعِ الشعب من قراءة القرآن المنزل من عند الله باللغة العربية وعِقَاب من يقرؤه
ومن يطبعه، زيادة على استحسانه منها رَفْضَ جميع كتب السنة والشريعة العربية.
ومن المقرَّر في علم الأصول أن رأي المجتهد ليس حجة في الشرع، وأن
الاجتهاد لا يصادم الإجماع ولا النص، وأن القول الذي يرجع عنه المجتهد لا يُعَدُّ
مذهبًا له.
وأما هذا الكتاب فأرجو أن يكون أكثر ما فيه حسنًا أو نافعًا في جملته، ومن
الحسن فيه ما له قيمة غالية ووزن راجح، ومنفعة كبيرة، وهو بيان مزايا الإسلام
بالأسلوب العصري المقبول عند نابتة المدارس الدنيوية، وما ينقله عن علماء
الإفرنج من الثناء على عقائد الإسلام وتشريعه وحكمته وسيرة الرسول الأعظم في
إقامته وسيرة خلفائه وقومه العرب في فتوحهم وحضارتهم، ولكن ما فيه من الباطل
في مقصده، وما انفرد به من رأيه ومذهبه في فهم عقائد الإسلام وقواعده، قد
يجعلان إثمه أكبر من نفعه.
إن فيه كبوات ونبوات كثيرة منها ما لا يقال له عثار، ولا يقبل فيه اعتذار،
ومنها ما يحتمل التأويل، وما يتسع المجال فيه للقال والقيل، وسبب ذلك أنه لم
يدرس علوم الإسلام من تفسير كتابه وسنة رسوله وأصول عقائده وفقهه وفروعه
على أحد من العلماء ولا بنفسه دراسة علمية، إن كان من الممكن فهمها بدون التلقي،
وإنما معلوماته الدينية أمشاج علقت بذهنه من مطالعات متفرقة في الكتب
والصحف شِيبَتْ بالنظريات الفلسفية والاجتماعية الحديثة، فولدت له آراء منها
المقبول، ومنها الشاذ المردود بنصوص الكتاب والسنة، أو إجماع الأمة، ويقع له
فيها التناقض والتعارض.
ولقد عهدته في شبابه أقل شذوذًا مما قرأته له في السنين الأخيرة من مقالات
نشرها في جريدة الأخبار ثم في الأهرام وشرها في انتصاره وتأييده لما فعلته حكومة
الجمهورية التركية من المروق من الإسلام ومحاربة كتابه وسنته وتشريعه ومحاولة
محو كل ما يُذَكِّرُ الشعبَ التركيَّ الإسلامي به وبنائها ذلك كله على دعوى ارتقائها في
التجدد الإنساني ارتقاء لا يمكنها معها أن تعتصم بدين قديم بَالٍ ... ومن العجيب أن
هذا الكاتب الإسلامي وافقها على هذا المروق، وعلى تعليله كما أشرنا إليه في
كلامنا على محاولتها ترجمة القرآن بالتركية وكتابة الترجمة بالحروف اللاتينية،
ولكننا لم نصرح باسمه فيه، وكنت فهمت من مقالات هذا الكتاب، أنه نهض من
هذه السقطة وتاب، فإذا هو مُصِرٌّ عليها كما علم من رده على شيخ الإسلام السابق
صبري أفندي في صحيفة الفتح الغراء.
وأما شذوذه في هذا الكتاب فلا يصل إلى هذا الحد من الشطط الصريح، بل
هو مزمل بنظريات الفلسفة، ومزين بالمدائح المحسنة، ومسجى بالدفاع عن الملة،
وأول ما علق بذهني منه إذ قرأته في جريدة الجهاد هو أنه فسر الدين والوحي
والإسلام - وشأنه مع المنتهين من العلماء - تفسيرًا فلسفيًّا مخالفًا لما جاء به محمد
رسول الله وخاتم النبيين، وفهمه منه وتلقاه عنه أصحابه والتابعون لهم وسائر أئمة
المسلمين، ولكنه غير بالغ من الصراحة ما يفهم مراده منه كل مسلم.
ومن تناقضه وتعارضه أنه يوافقنا على ما قرَّرْنَاه مرارًا كثيرة في توحيد
الإسلام لشعوب البشر وقبائلهم في جميع الأمور الدينية لتحقيق الأخوة الإنسانية
العامة ثم تراه ينقض هذا بتأييده للجمهورية التركية في أفظع شقاق حدث في الإسلام
بحجة عصبية اللغة وضرورة اختلاف التشريع، دع مخالفته في أساس الدين
وبعض أصوله وشذوذه في فهمها.
رأيه في أساس الدين وكون الإسلام هو الطبيعة:
إن أساس الدين الذي عرفه في المقدمة الأولى من الفصل الأول من هذا
البحث هو أن لهذا الوجود الظاهر روحًا عامًّا وأرواحًا خاصة بكل نوع من
الموجودات، وهذه الأرواح كلها تستمد حياتها ونظامها من الروح العام، ومنها
الإنسان فهو يستمد حياته الجثمانية من ذلك الروح كما تستمد سائر أنواع الحيوان
وكذا النبات، ولكن له روحًا عقليًّا آخر متصلاً بالحياة الروحانية العامة، وغاية الدين
القصوى هي اتصال روح الإنسان العقلي الخاص بروح الوجود العام اتصالاً ذاتيًّا
مباشرًا واندماجه فيه. وقد أخذ هذا الأسس من فلسفة وحدة الوجود الهندية التي فتن
بها بعض صوفية المسلمين معطلة التشريع، الذي قال فيهم الإمام الغزالي: إنهم قد
طووا بساط الشريعة طيًّا فيا ليتهم لم يتصوفوا.
ثم إنه جعل الناس ثلاثة أقسام في الثقافة العقلية: علماء منتهون، وأواسط
متعلمون، وعامة مقلدون، وقرر أن كل طبقة من هذه الطبقات الثلاث تتطلب من
الدين ما يناسبها من الغذاء الروحاني، وأن الدين الذي يوفي كلا منها حاجاتها كلها
هو الدين العام الخالد، فإن لم تجده لجأت الإنسانية إلى شيء جديد. وقفَّى على
هذا ببيان ما تطلبه الطبقة العليا من الدين بقوله:
(لا يتطلب العلماء المنتهون أن يأخذوا عن الدين آدابًا وأخلاقًا، ولا أَنْ
يتعلموا منه أسلوبًا في الحياة ولا دستورًا في المعاملات يتفق وأصول العدل والإخاء
والمساواة، فإنهم وضعة المذاهب وبناة الأساليب، وصاغة الأصول، وإنما هم
يتطلبون من الدين أن يصلهم بروح الوجود إيصالاً مباشرًا يستمدون منه حياة
لأرواحهم، ونورًا لعقولهم، وسكنًا لنفوسهم، ومُطْمَأَنًّا لوجدانهم)
ثم وصف هؤلاء العلماء وصفًا خياليًّا شعريًّا في اشتغالهم بهذا الوجود وقواه
وآياته وعلله الأولية وحيرتهم في أسرار ذلك وخفاياه (وقال) : (فالتدين لديهم
صعود بالروح إلى قيومها واتصال به في عالمها) وصرَّح بأن هؤلاء العلماء
الأعلام يرون أن لا حاجة بهم إلى الأديان المعروفة، فهم يعتمدون في تدينهم على
ما غرس في الفطرة الإنسانية من الدين الحق، وقد حمل بعضهم اليأس من الأديان
الموجودة على وضع دين دعوه الدين الطبيعي) .
هذه مقدمات خلاصتها أن هؤلاء الذين سماهم العلماء الأعلام المنتهين قد
عرفوا كل الأديان الموجودة ولم يجدوا فيها حاجتهم إلى الدين الموصل لهم إلى ما
يتطلبونه من وصال روح الوجود مباشرة، وأن كل ما في هذه الأديان من أخلاق
وآداب وفضائل وتشريع ومعارف إلاهية هي دون ما يعرفونه وما وضعوه منها،
ونتيجة هذه المقدمات أن ما يسميه هو إسلامًا هو الذي يصلح لهذا العصر علماؤه
الأعلام ومن دونهم، وهو ما صرَّح به قبل الآن في جريدة الأخبار واشترط
لإظهاره والاقتناع به والتمهيد لقبوله أن يترك المسلمون هذا الإسلام الذي يعرفونه
تركًا تامًّا لأجل أن تكون الدعوة إلى الإسلام الذي يفهمه دعوة جديدة مرجوة القبول
أو مضمونة القبول.
وقد صرَّح في هذا البحث الجديد بأن هؤلاء العلماء المنتهين يجدون في دين
الإسلام القديم آية من كتابه موافقة لهم على مذهبهم الذي يذهبون إليه في تطلبهم لما
ذكر من وصال روح الوجود وقيومه مباشرة بلا وساطة وهي قوله تعالى في سورة
الروم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: ٣٠) يعني أنهم
بمقتضى هذه الآية على ما فسرَّها هو به مسلمون، وإن لم يعلموا ولم يعلم أحد من
المسلمين الذين لا يفهمون هذه الآية كما فهمها أنهم مسلمون، وبهذا دون غيره يكون
الإسلام دينًا عامًّا خالدًا على رأيه، والمعقول أن يكون الناس أشد تباينًا وتعاديًا في
دينه إن قبلوه مما هم عليه في أديانهم كلها.
وذلك بأنه فهم أن الفطرة في الآية هي الطبيعة البشرية نفسها، وأن الطبيعة هي
الإسلام المراد من الآية، ومن القرآن كله، قال في ص ٢٦ (فهذه الفطرة فطرة
المولود قبل أن يلقن دينًا من الأديان وتعليمًا من التعاليم هو الإسلام الذي جاء القرآن
بالدعوة إليه) ثم قال: (فالإسلام لا يؤخذ بالتلقين، وإنما هو الطبيعة نفسها خالصة
من جميع المذاهب البشرية، فكل مولود يولد مسلمًا بطبيعته، فهي تؤدي إلى خير
المذاهب في مدى حياته بعلمه وعقله وتفكيره ولا يحتاج لمن يرشده إليه) ! ! !
لعَمْرِي إن هذا الكاتب لم يكتب هذا تحت ضوء العلم والفلسفة، بل كتبه وهو
غريق في تخيلات من الفلسفة وأوهامها، وآراء فجة في حقيقة الدين لم يتم
نضجها، وتجارب في مخاطبة الأرواح لم تبلغ درجة الحقائق العلمية، فمثَله فيها
{كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا
فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور: ٤٠)
يرد على هذا الرأي أو المذهب أو الدين مسائل كثيرة متشابكة نذكر منهم ما
يتبادر إلى الذهن بالاختصار، فإن بسطها لا يمكن إلا بتأليف سِفْر خاص.
***
(مطبوعات دار الكتب المصرية)
أخرجت دار الكتب المصرية من مطبوعاتها الدورية في هذه الفترة ديوان
أيدمر المحيوي وديوان جران العود النميري على أدق ما يكون من الصحة وجمال
الطبع، وخدمة لنشر العلم والأدب جعلت ثمن النسخة الواحدة من كل منهما ٢٥ مليمًا
للأفراد و٢٠ مليمًا لباعة الكتب أو لمن يشتري عشر نسخ فما فوق.
ثم أنجزت طبع كتاب (ديوان نابغة بني شيبان) من فحول شعراء الدولة
الأموية، وهو كسائر مطبوعات الدار في دقة التصحيح وجمال الطبع، وثمن النسخة
الواحدة منه ٤٠ مليمًا للجمهور، و٣٠ مليمًا لأصحاب المكتبات أو لمن يشتري
عشر نسخ فأكثر. وتطلب مطبوعاتها منها ومن مكتبة المنار بمصر.
***
(جريدة الجامعة الإسلامية)
جريدة يومية سياسية ذات ٨ صحائف تصدر في ثغر يافا الفلسطيني لمنشئها
ورئيس تحريرها الأستاذ الشهير بعلمه وقلمه ووطنيته الشيخ سليمان التاجي
الفاروقي، وحسبي أن أقول في تقريظها: إن مسماها مصدق لاسمها، فهي تتحرى
في تحريرها وما تختار نقله عن صحف العالم مصالح المسلمين العامة من دينية
وسياسية، ولا تتحيز إلى حكومة من الحكومات الإسلامية دون أخرى، ولا إلى حزب
من الأحزاب الوطنية الفلسطينية أو زعيم دون آخر فيما فيه خلاف، بل تسالم الجميع
وتوادهم في دائرة المصلحة العامة، ولكن بلغت سعة الحرية منها أنها تنشر رسائل في
مدح خطة حكومة الجمهورية التركية وإطراء زعيمها فيما يخالف كاتب هذه الرسائل
فيه كل مسلم يدين الله تعالى بما جاء به محمد رسول الله وخاتم النبيين، ولعل عذرها
في هذه الحرية أنها تقبل الرد على هذه الرسائل لتمحيص الحقائق، وما ذكرت هذا إلا
ليكون استدراكًا على ثنائي عليها؛ لئلا يعد إقرارًا لهذه الرسائل، وتنبيهًا للمدافعين
عن الإسلام من قرائهم.
فأهنئ الأستاذ الفاروقي المجاهد الشجاع بجريدته، وأحث المسلمين على
تعضيده بنشرها ونشر آرائهم الإصلاحية فيها، وقيمة الاشتراك السنوي فيها في
فلسطين جنيه فلسطيني ونصف جنيه، وفي خارجها جنيهان وقيمة الجنيه
الفلسطيني والجنيه الإنكليزي واحدة، ومثلهما الدينار الحجازي والعراقي.