للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة كتاب المنار والأزهر

بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ
الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا
وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: ١٣٥) .
أحمد الله تعالى أن أنفقت ٣٥ عامًا من عمري هي سن الشباب والكهولة في
الإصلاح الإسلامي العام وإصلاح الأزهر خاصة مع التزام الأدب والتواضع مع
أهله، واجتناب الدعوى، وإنني أوذيت في هذه السبيل بكل ما أوذي به طلاب
الإصلاح من قبلي فصبرت، وكان أغرب ما لقيته من الأذى بعد أن قامت الحجة
على صحة كل ما طالبت به الأزهر من الإصلاح، فتقرر فيه رسميًّا (إلا شيئًا
واحدًا وهو العناية بعلوم السنة) أن كوفئت من جمود مشيخة الأزهر الظواهرية،
وكنودها في مجلتها الخرافية، بما اضطرني إلى مكاشفة الأمة بفضيحة جهلها في
المنار وفي الجرائد اليومية، وأن أجمع مقالات ردي عليها في هذا الكتاب، وأن
أضع له مقدمة في خلاصة ماضي الأزهر وحاضره ودلائل مستقبله وخاتمة في
خلاصة جهادي في سبيل إصلاحه.
المقدمة
دخل الجامع الأزهر منذ سنتين في عهد جديد لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى،
فإدارته تبث له دعاية سياسية في الجرائد التي تؤيد السياسة المصرية الحديثة، يُرَادُ
بها إقناع العالم الإسلامي بأن الأزهر الحديث أحق من الأزهر القديم في بث علوم
الإسلام والزعامة الدينية للمسلمين كافة، وإن لم يصرحوا بتفضيل الجديد على
القديم إلا بالثناء على ما استُحْدِثَ فيه، وجعله مناط الآمال، والجدارة بشد الرِّحَال،
ويعارض هذه الدعاية شكوى شديدة من سوء إدارة الأزهر الجديدة، وذبذبة التعليم
والتربية الخلقية والمادية فيه، وإفساد السياسة له، والخشية على مستقبل الدين
بتفرنجه.
أما تلك الدعاية فمصدرها سياسي محض، لا يؤيدها أحد من أهل الرأي
المعروفين من المسلمين، وأما هذه الشكوى التي تعارضها وتنقضها فأكثرها بأقلام
جماعة من علماء الأزهر الأحرار ومن غيرهم من الأدباء والشعراء، وتؤيدها
جميع صحف الأحزاب المصرية التي يثق بها السواد الأعظم من الشعب المصري،
فهي لا تخلو من السياسة أيضًا، وإنما هي سياسة وطنية تعارض سياسة تأييد
الحكومة الحاضرة باسم الأزهر أو من قِبَل شيخ الأزهر. ولهؤلاء العلماء والكتاب
وأصحاب الجرائد مطاعن بينة صريحة في فساد إدارة الأزهر لم نر أحدًا من قبل
مشيخته فَنَّدَهَا أو كذَّب أخبارها، بل بلغنا من ثقات الأزهريين أن الرأي العام أو
الغالب في الأزهر مخالف لسياسة شيخه، ولكنهم يخشون مغبة معارضته، وقد
سمعت رجلاً من كبار المسلمين أولي المكانة الدينية والعامة من غير المصرية يقول:
إن الأزهر لم يكن في عهد ولا في عصر من العصور أدنى مما هو الآن.
مدار الدعاية السياسية الجديدة للأزهر على جعله جامعة عصرية بمقتضى
قانونه الجديد ونظامه الجديد، وإنشاء الكليات فيه على نظام المدارس المدنية،
وتقرر إرسال بعثة من طلابه إلى أوربة لدراسة بعض علومها ولغاتها، وما حدث
بذلك للذين سيتخرجون فيها من الآمال في الرقي العصري - والتفصي من عقال
ذلك النظام القديم الذي انتهى بأهله إلى احتقار الأمة للأزهريين، وهضمها لحقوقهم
الدينية والأدبية، ونُبُوّ الأنظار عن زيهم، ونفور الطباع من أدبهم، حتى صار
بعضهم يفضلون الزي الإفرنجي والطربوش على زيهم المعروف، ويخشى أن
يفعلوا كما فعل جميع طلاب دار العلوم، بل ظهرت بوادر هذا من أناس منهم.
ومن رأي المعارضين أن هذا الأمل والرجاء الجديد، هو أخوف ما نخافه
على هذا المعهد الإسلامي القديم، الذي نفتخر بقدمه، وما كان له من خدمة العلوم
الدينية، والفنون العربية منذ القرون الوسطى، وأنهم يخشون على خريجي كلياته
أن يضيعوا القديم، ولا يتقنوا الجديد، فيكونوا في تجديدهم كالنساء: أسرف دعاة
التجديد بذم ما كان من تشددهن في الحجاب ووصف مساويه من ضعف الصحة
والجهل بفن التربية والتدبير المنزلي والاقتصاد، والحرمان من مجامع العلم،
والأدب والسياسة، وفي دعوتهن إلى السفور والاختلاط بالرجال في المحافل العلمية
والأدبية.
فكانت عاقبة تحقير القديم وتزيين الجديد لهن أن زدن على السفور الذي هو
كشف الوجه ما نراه من هتك الستور، والخروج إلى الأسواق والمتنزهات كاسيات
عاريات، والرقص مع الرجال، والسباحة معهم في البحار والأنهار، فأضعن
جميع فضائل الحجاب القديم، واستبدلن بها جميع رذائل التفرنج الجديد، ولم
يستفدن شيئًا من المنافع الاجتماعية والاقتصادية، كان يتعذر عليهن استفادته مع
المحافظة على الحياء والصيانة الإسلامية.
هذا ما يخشاه أكثر المسلمين على الأزهر من نظامه الحديث حتى دعاة التجديد
العصري، وقد نشر بعضهم هذا الرأي في الصحف، وعبر عنه الشاعر الأديب
محمد أفندي الهراوي في قصيدة أنشدها في الحفلة السنوية لجمعية الشبان المسلمين
بقوله فيها مخاطبًا جلالة الملك:
والأزهر المعمور أين مكانه؟ ... سل عنه أين؟ وأنت فوق مكانه
فرحوا وهم يبنون كلياته ... فليفرحوا بالطوب تحت دهانه
من يوم أن نقلوه من جدرانه ... قد طار سر الله عن جدرانه
فاسأل عن الأخيار من علمائه ... واسْأَلْ عن الأطهار من شبانه
المتقين الله حق تقاته ... الحافظين لدينهم وكيانه
العالمين بشرعه وكتابه ... العاملين بروحه وبيانه
والزي! حتى الزي لم يبقوا له ... ظلا لجبته ولا قفطانه [١]
مولاي يا ملك البلاد. وذخرها ... وملاذ هذا الدين عند هوانه
مصر بأزهرها القديم كما بدا ... بالطابع الموروث منذ زمانه
فأعد إليه عهده واستبقه ... تدفع به الإلحاد في عدوانه
ليس هذا الشاعر ومن على رأيه بمخطئين في خوفهم على الأزهر في هذا
الطور من الانقلاب السريع، ولكنهم لم يحيطوا بحال الأزهر علمًا؛ إذ ظنوا أن في
شيوخه وطلابه في هذا القرن من يشبهون علماء القرون الخالية في الانقطاع للعلم
لوجه الله تعالى، مع الزهد في حطام الدنيا ومناصبها، وعزة النفس، وعلو
الأخلاق، الذي كان به علماء الدين موضع ثقة الشعب واحترام الحكام، بحيث
يرجى أن تجد الأمة منهم مثل الشيخ عز الدين بن عبد السلام الذي كان يصرح بأن
أمراء مصر الترك هم من الرقيق الذين لا تجوز معاملتهم معاملة الأحرار في زواج
ولا بيع ولا شراء، فضلا عن عد أحكامهم شرعية تجب طاعتها، فتعطلت
بتصريحه مصالحهم، فلما هدده السلطان وأنذره العقاب شرع في الهجرة إلى الشام
بأسرته، وهى وطنه الأصلي، وشرع أهل مصر في اتباعه، حتى اضطر
السلطان إلى الركوب خلفه بنفسه واسترضائه، ولم يرض ويرجع عن فتواه ببطلان
إمارتهم إلا بعقد مجلس من التجار باعهم هو فيه بالمزاد، وأعتقهم الذين اشتروهم
في الحال، كما حكاه السبكي في طبقات الشافعية.
أو بحيث يوجد فيهم مثل الشيخ القويسني من المتأخرين الذي لم يفرح محمد
علي باشا الكبير بموافقته له على عمل من أعماله إلا مرة واحدة فافتخر بذلك،
وصرح بأن هذه أول مرة قال له الشيخ القويسني شيخ الأزهر: أحسنت وأصبت،
وكيف لا يُسَرُّ محمد علي بذلك وهو مَدِينٌ بإمارته للأزهر وزعماء رجال الدين وهم
الذين اختاروه لحكم البلاد ونصبوه واليًا عليها، وألزموا الدولة العثمانية صاحبة
السيادة الرسمية إقراره عليها، وفي عهد دولته بدأ ينحط نفوذهم وتزول زعامتهم،
حتى وصلت إلى ما يعلمه كل أحد في هذا العهد الذي يُرْشَق فيها شيخ الأزهر في
الجرائد يومًا في إثر يوم بأرجال من سهام النقد والتجريح، والتثريب والتفنيد، لا
في سوء إدارة الأزهر وكونه صار في عهده بيئة تجسس ومحاباة فقط، بل في
التقصير في المصالح الإسلامية العامة وفي مقاومة البدع الخرافية، وفي الدفاع عن
العقائد الدينية، وعن شعوب المسلمين الذين تحاول بعض دول الاستعمار ردهم عن
دينهم بالتنصير التعليمي والإجباري وإخراجهم من جنسيته وجامعة شريعته وإدخالهم
في جنسيتهم وجامعة دولتهم، بل تجرأ دعاة النصرانية (المبشرون) في هاتين
السنتين على ما لم يكونوا يتجرءون عليه في مصر من إهانة الإسلام بالقول والفعل،
وفتنة تلاميذ مدارسهم ولا سيما البنات عن دينهم، وإدخالهم في النصرانية بضروب
من الحِيَل والأذى، حتى هاج ذلك عامة الأمة وخاصتها، ونقمت من مشيخة الأزهر
تقصيرها، وإنه ليعز علينا ما وصلت إليه مشيخة الأزهر في هذا العهد من احتقار
الأمة لها، وكثر طعنهم في الصحف عليها، وما يقوله الناس في مجالسهم الخاصة،
وأنديتهم وسمارهم العامة، لهو شر مما يكتبونه في الصحف؛ لأن الحرية القانونية في
الكلام أوسع وأسلم عاقبة من الكتاب، وعقاب القانون على النشر، ويلخص رأي
الأكثرين بكلمة وجيزة هي آخر ما سمعته في هذا الموضوع من عالم أديب من أبناء
كبار الشيوخ الذين كانوا يحضرون دروس الأستاذ الإمام في الأزهر، قال: إن حال
الأزهر الآن شر مما كان في كل زمان، وإن حاله غدا لشر مما هو الآن، ولا يرجى
صلاحه ألبتة. وهذا عين رأي المرحوم سعد باشا زغلول كما نقلته عنه في المنار
وعقب وفاته.
وبلغ من مقت الأمة لشيخ الأزهر الظواهري أن تصدَّى بعضهم لاغتياله،
حتى صار في وجل دائم على حياته، إذا خرج لزيارة بعض مشاهد الصالحين
للتبرك والتوسل الذي نشأ عليه تربية ووراثة، يعود من غير الطريق الذي ذهب
منه.
وأما رأيي الخاص في ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله فهو مخالف لكل
الآراء التي يتحدث بها الناس من بعض الوجوه إن لم يكن من جميعها، وهاك
خلاصته:
ماضي الأزهر وأطواره فيه:
الأزهر لم يُؤَسَّس على التقوى من أول يوم كما يدعون. وإنما كان كمسجد
الضرار، أسسه الباطنية سنة ٣٦٠ هـ لبثِّ دعوتهم الإلحادية التي بيَّنها العلامة
المقريزي في خططه، ومنها يُعْلم صدق قول حجة الإسلام أبي حامد الغزالي فيهم:
ظاهرهم الرفض , وباطنهم الكفر المحض. ومن أعلم بكنه حالهم من أبي حامد
صاحب الحجج البالغة في مناظرة دعاتهم، والمصنفات القيمة في الرد على نحلتهم
(كفضائح الباطنية، والمستظهري، والقسطاس المستقيم) ؟ ويليه تلميذه القاضي
أبو بكر بن العربي الذي وقف على دخائلهم في أثناء رحلته إلى المشرق وناظرهم
كما ترى في كتابه العواصم والقواصم، ولا يزال يجهل هذه الحقائق أكثر المسلمين،
ويظن بعضهم أن الطعن في الفاطميين كان من دعاية العباسيين، لا فرق بين
الطعن في نسبهم والطعن في دينهم.
وبعد أن ثُلَّ عرشهم، وقضى على دعوتهم سلطان الإسلام المجاهد صلاح
الدين يوسف الأيوبي، سنة ٥٦٧ دخل الأزهر كغيره من المساجد والمعاهد
المصرية في حوزة أهل السنة، ولكن ظل مدة مائة سنة لا تقام فيه الجمعة إذ
حصرت إقامتها في مسجد الحاكم لسعته، أعيدت إليه سنة ٦٦٥ وقد خرب الأزهر
كغيره بزلزال سنة ٧٠٢ ثم جدده بعض أمراء دولة المماليك البحرية وأنشئوا
بالقرب منه عدة مدارس، ووقف على طلاب العلم فيه كثير من الأوقاف. وقد تخرج
فيه كثير من العلماء الذين كانوا يقومون بمناصب القضاء العام والحسبة
والإفتاء والتدريس، ولبعضهم مصنفات مفيدة في علوم اللغة والشرع والتاريخ.
وكان ازدهار العلم فيه وفي غيره من مدارس مصر من أوائل القرن الثامن
إلى آخر القرن العاشر، وطفق بعده يرجع القهقرى بسرعة كان من أهم أسبابها
تفضيل مصنفات المتأخرين على كتب الأئمة الأولين، حتى صار أهل كل جيل
يدرسون كتب شيوخهم من الحواشي التي وضعوها على كتب من قبلهم من
المتأخرين، ثم صاروا يضعون لبعض هذه الحواشي تقارير يوضحون بها
غوامضها، وابتدعوا في التعليم المناقشة في عبارات المؤلفين في درجاتها الأربع:
المتن، الشرح، الحاشية، التقرير. فانحصر الغرض من التدريس والتأليف في
عبارات هذه الكتب التي صنفت كلها بعد ذهاب دولة العلم، حتى صار عبارة عن
التعبد بهذه المناقشة التي عبر عنها شيخنا الأستاذ الإمام بقوله: إنهم يتعلمون كتبًا لا
علمًا، وبقوله في رسالة التوحيد في وصف هذه الكتب: اختارها العجز وفضلها
القصور.
ولكن الأوقاف على الأزهر وأروقته ظلت تتوالى من الأمراء والأغنياء وهي
التي حفظته وجعلته مثابة إلى الآن أتى على الأزهر ثلاثة قرون لم يَنْبُغْ فيها عالم
مستقل في علم من العلوم كعلماء القرون الأولى أو الوسطى إلى القرن العاشر كابن
عبد السلام وابن دقيق العيد من الجامعين، والحافظ العراقي والحافظ العسقلاني من
المحدثين، وكذا السخاوي والسيوطي من بعدهما، وكابن هشام من علماء العربية،
ومن الغريب الذي كان مجهولاً في مصر أنه نشأ في القرون الثلاثة الأخيرة أفراد
من علماء الشرع المستقلين والإحصائيين في سائر الأقطار الإسلامية كالمقبلي
والشوكاني وابن الوزير والمرتضى الزبيدي في اليمن، والشهاب الآلوسي في
العراق، وابن عابدين في الشام، والسيد جمال الدين في الأفغان، والسيد حسن
صديق خان في الهند، وناهيك بنهضة علوم الحديث في الهند من عهد ولي الله
الدهلوي إلى الآن، وفي هذه القرون ضعفت علوم الحديث في الأزهر حتى ذابت
وزالت، ولم يبق لها مدرس مفيد، ولا طالب مستفيد.
وما زال العلم في الأزهر يهبط ويتدلى، ويتقلص كالظل ويتولى، والشعب لا
يشعر بما يصيبه لغلبة الجهل عليه، حتى جاءت الدولة العلوية بالنهضة المدنية
العصرية وصارت تبعث البعوث إلى أوربة لتلقي العلوم والفنون فيها، فكان هذا
العصر عصر القضاء المبرم الأخير على دولة الأزهر وعزه ومكانته في الأمة،
وخدمته للملة، وإن كان الإقبال على المجاورة فيه قد زاد ولم ينقص، فأبناء
الفلاحين قد كثروا فيه بعد وضع نظام الجندية وإعفاء طلبة العلم من خدمتها
بالشخص أو المال، والمجاورون من الأقطار كثروا لقلة العلم في بلادهم ووجود
جراية الوقف التي يستعينون بها، كذلك ظل عدد طلاب العلم يكثر والعلم نفسه يقل،
وهاك بيان سبب ذلك مجملاً:
دخلت البلاد المصرية في طور جديد بتجدد الدولة ما كان يمكن أن يبقى علم
الأزهر فيه على ضعفه كافيًا للأمة في تقرير عقائدها والدفاع عنها، ولا في طريقة
تدريس الشريعة والتأليف فيها، ولا في الأدب النفسي واللغوي، ولهذا آل الأمر في
هذه الدولة إلى ترك أحكام الشريعة المدنية والجزائية (العقوبات) والسياسية
والعسكرية والمالية، ونسخها بالقوانين الأوربية، وكثرت المدارس الإفرنجية
والأميرية المقلدة لها من عهد إسماعيل باشا، ثم جاء الاحتلال الإنكليزي فكانت له
السيطرة على مدارس الحكومة، وكادت تلغى المحاكم الشرعية لشدة شكوى الأمة
منها، لولا ما تصدى له الأستاذ الإمام من إصلاحها وتولى جميع أعمال الدولة حتى
التعليم في مدارسها من يتعلمون فيها أو في مدارس أوربة، فصار المتخرجون في
الأزهر كالعالة على الأمة يعتقد حكامها وزعماؤها أنهم لا يصلحون لعمل ما فيها،
واشتد التفرنج من عهد إسماعيل باشا وما فيه من حرية الإلحاد والفسق والسرف
والبذخ حتى كاد يقضي على الأمة والدولة، ولم يرتفع من الأزهر صوت في إنكار
شيء من ذلك، ولم يتخرج فيه أو يخرج منه عالم يدعو إلى الإصلاح والتجديد،
ولا كتاب مؤلف فيه علم جديد، من دفاع عن الإسلام أو دعوة إليه - إلي أن ظهر
الموقظ المجدد الأفغاني وتلاه المصلح المصري. فكان الثاني أول أزهري دعا إلى
إصلاح الأزهر بعد عودته من النفي، وكانت مجلتنا (المنار) لسان حاله، وأقوى
مُظَاهِر له في إصلاحه.
تجديد الحكيم الأفغاني والمصلح المصري للأزهر وغيره:
وفد السيد جمال الدين الأفغاني على مصر في أواخر القرن الثالث عشر
للهجرة (سنة ١٢٨٦) في عهد الخديو إسماعيل باشا، وحال البلاد وأزهرها على
ما نعلم، فكان أول من أيقظ الأفكار إلى وجوب التجديد والإصلاح الديني والمدني،
فاستفاد منه بعض شبان الأزهر دون شيوخهم، وكان الذي تولى السعي لإصلاح
الأزهر مريده الأكبر وخليفته الوحيد الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده كما يعلمه جميع
المتعلمين في هذه البلاد في الجملة، وإنما تفصيله الأتم الأوفى في مجلدات المنار
وفي التاريخ المفصل الذي دَوَّنَاه في سيرته وسيرة السيد جمال الدين، وقد علم منه
أن الأزهر كان كالمحتضر؛ لأن الحكومة سائرة بالأمة إلى غاية لا تشعر فيها بأن
لها أدنى مصلحة في الأزهر، فكان لا بد له من إصلاح يقنع الأمة والحكومة بأنه لا
بد لهما منه، وهذا بعض ما كان يقصده الأستاذ الإمام.
وأما غرضه الأسمى من إصلاحه فهو تخريج نشء جديد من جميع الشعوب
الإسلامية جامع بين التقوى والأخلاق الفضلى وبين العلم الاستقلالي المثمر لترقية
اللغة وإحياء علوم الدين، والتمكن من الدفاع عن الإسلام والدعوة إليه.
قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى: إنني بذرت في الأزهر بذرًا إما أن ينبت
ويثمر فيصلح به الأزهر ويقوم بما يجب عليه للإسلام، وإما يسقط الأزهر ويزول.
وإننا نرى أن ذلك البذر قد نبت نباتًا حسنًا وطفق يثمر أطيب الثمرات، ولو
أتيح له بعده من يتعاهده بسقيه وتنقيته من الأعشاب والحشرات لأثمر وأينع وأتى
أكله مضاعفًا، وهاك الإشارة إلى فوائد ذلك الإصلاح سالبًا وموجبًا:
(١) وضع النظام لإدارة الأزهر والمعاهد التابعة له، وقضى عشر سنين
في تنفيذه قاسى فيها ما قاسى من المعارضة والمناهضة، حتى صار النظام مألوفًا
متفقًا عليه، وإنما يعوزه التنقيح، والحرية في حسن التنفيذ.
(٢) كان من تأثير قراءته لأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز فيه ثمرة ظاهرة
في اللغة وآدابها، فكثر الكتاب المجيدون، والخطباء المرتجلون.
(٣) كان من تأثير قراءته للبصائر النصيرية في المنطق ومن أسلوبه في
سائر دروسه أن ضعفت جهالة التقليد الأعمى لعبارات الكتب، وقويت مكانها فكرة
الاستقلال في الفهم، والاستدلال الصحيح في العلم، ولكن هذا خاص ببعض
الأذكياء من تلاميذه وتلاميذهم، ولا سيما أساتذة مدرسة دار العلوم منهم.
(٤) كان من تأثير قراءته لرسالة التوحيد وتفسير القرآن الحكيم أن عرف
الكثيرون عقائد الإسلام معرفة استقلالية برهانية لا كلامية تقليدية، واهتدوا إلى ما
في القرآن من الحكم والفضائل والآداب، ووجوب الاهتداء به في الوعظ والإرشاد
والأخلاق الدينية، وعرف قليلون ما فيه من الإصلاح السياسي والحكمة الاجتماعية.
(٥) تبع ما ذكر من إصلاح اللغة والفكر والدين التصدي لمقاومة ما أفسد
المسلمين من البدع والخرافات والتقاليد والعادات، فصار أنصارها يقلون بالتدريج
البطيء، وعاقبتهم الانقراض والزوال، وإن راجت سوقهم في هذه الأيام، فظهر
في كل من جاوه والجزائر شيخ أزهري من أنصار البدع القبوريين، كل منهما
يخذل السنة وعلماءها، وينصر البدع ودعاتها، معتزًّا بالنسبة إلى الأزهر، وَوُجِدَ
من وعاظ الأزهر في الأرياف من نهى المسلمين عن الصلاة خلف أمام سلفي العقيدة
يقول: إن الله تعالى مُسْتَوٍ على عرشه فوق السموات من غير تمثيل ولا تأويل.
ولكن أكثر الوعاظ الظاهرين سلفيون أو غير خرافيين.
(٦) تبع ذلك اقتناع كثير من النابتة الجديدة بضرر الأسلوب الأزهري
السابق في التعليم وهو قراءة الكتب التي يسمونها المخدومة أي المركبة من المتون
والشروح والحواشي والتقارير ومناقشة كل منها لعبارات التي قبلها، حتى
تقرر أخيرًا تحضير بعض الدروس بعبارات جديدة.
(٧) الاقتناع بالحاجة إلى العلوم الرياضية والاجتماعية والصحية والتاريخ
الطبيعي والسياسي وتقويم البلدان وغير ذلك - بعد أن قامت قيامة الشيوخ لمقاومة
تعليم الحساب العلمي وتقويم البلدان، وقد وقع الاتفاق أخيرًا على الزيادة على هذه
العلوم.
(٨) الاقتناع بوجوب (التخصص) لإتقان بعض الطلاب لبعض العلوم
والاكتفاء بقدر الحاجة من غيرها، وكان الأستاذ الإمام قد وضع الأساس للتعليم
القضائي والنظام لمدرسته، فكان لمدرسة القضاء الشرعي -بتولي أنجب تلاميذه
للتدريس فيها - أفضل أثر علمي ظاهر في أكثر ما ذكرنا من أنواع الإصلاح
واحتاج الأزهر إلى خريجيها وخريجي دار العلوم في تنفيد نظامه الجديد.
كل هذه الأنواع من الإصلاح وجدت في الأزهر، وكان للمنار من النصيب
فيه مع الأستاذ الإمام وبعده ما نبينه في خاتمة هذا الكتاب، ولا يمكن نزعها منه،
ولكن الترقي فيها وإتقانها يتوقف على حسن الإدارة، ووجود الرجال أولي الكفاية
والكفاءة العلمية والخلقية والإخلاص مع الاستقلال في العمل وأنى له بهم؟
حاضر الأزهر ومستقبله، وما يمكن أن يصلح به:
إن الأزهر لم يستطع الرجوع إلى عهد القرن الماضي؛ وما كان فيه من بقايا
الصلاح والقناعة، ولم يستطع السير على النظام الجديد في أنواع ترقيه،
واضطربت أحواله فتدخلت الحكومة في أمره، ووضعت له قانونًا جديدًا نُقِّحَ فيه
النظام الذي كان قبله، ولكنه وُضِعَ فيه تحت سيطرة الحكومة (خلافًا لخطة الأستاذ
الإمام الذي كان واقيًا له من ذلك كما بيَّناه في المنار وفي تاريخه) فوقع في مأزق
جديد وهو التجاذب والتدافع بين البلاط والوزارة، واحتيج إلى تنقيح آخر ووضع
له قانون جديد أدخله في طور عصري مدني هو باعث الخوف عليه كما تقدم.
والتحقيق أن الأزهر لن يصلح ويصير أهلاً لخدمة الإسلام، والدفاع عنه،
والدعوة إليه بما تقتضيه علوم هذا العصر وحضارته، إلا بعد أن يصير مستقلا
بنفسه في إدارة التعليم والتربية بدون سيطرة عليه فيهما. وبعد أن تكون نفقته من
الأوقاف وخزينة المالية رهن تصرفه بنص الدستور لا سيطرة عليه فيها، وبعد أن
يكون رئيسه وأعضاء إدارته منتخبين من أهله انتخابًا حرًّا بنظام، وبعد أن تكون
رتب العلم فيه من نفسه لا من الحكومة ولا من ملك البلاد، ولا يرجى أن يرتقي
الأزهر إلى هذه الحرية بالتربية الحاضرة فيه ولا بمثل التربية القديمة، وإنما كان
يُرْجَى أن يبلغها ويرتقي إليها بإدارة الأستاذ الإمام لو تم له الأمر فيها.
في هذه الأثناء ولي أمر المشيخة ورياسة المعاهد الدينية الأستاذ الجليل الشيخ
محمد مصطفى المراغي وكان رئيس المحكمة الشرعية العليا من بعد أن كان قاضي
القضاة في السودان، وهو ممتاز بعزة النفس والعزيمة واستقلال الفكر ومتانة
الأخلاق ومعرفة حال الزمان، ومتمرسًا بدقة النظام، فَسُرَّ به مُحِبُّو الإصلاح
والتجديد من علماء الأزهر وطلابهم وسائر فضلاء الأمة وابتأس الجامدون
والخرافيون منهم، خوفًا منه على جاههم ورزقهم، ولكنه أمنهم من خوفهم، وأقرهم
على أعمالهم ورواتبهم، وحاول تنفيذ التجديد بالقادرين عليه من غيرهم، والبحث
عنهم أينما كانوا من أرض الله تعالى.
وضع القانون الجديد للأزهر برأيه، وعرضه على أهل الحل والعقد من
رجال الوزارة ومندوبي البلاط الملكي وتولى الدفاع عنه بنفسه، حتى إذا ما وقع
الخلاف بينه وبينهم في بعض مواده الأساسية وتعذر عليه الإقناع بوجهة نظره،
استقال من منصب المشيخة ورياسة المعاهد غير آسف على جاهها، ولا مُبَالٍ بكبر
راتبها، فساءت استقالته جميع محبي الإصلاح من الأزهريين وغيرهم، وعدوه
مليمًا في فعلته، مع الإعجاب بعزة نفسه وعلو سجيته؛ لأنه كان خير رُبَّان لهذه
السفينة في هذا الطور الانتقالي الخطر، يرجى أن يبلغها ساحل المستقبل
الاستقلالي آمنة من الغرق في لُجَج الحياة المادية والتفرنج، ولقد كان بعض
المعجبين بالأستاذ من أهل الرأي يخشون أن يعجز عن تحقيق هذا الرجاء فيه، ولو
كان القانون موافقًا لرأيه، فكيف وقد زال رجاؤه هو فيه فاستقال. وخلفه من علمنا،
ورأينا من سوء إدارته ما رأينا.
ولي المشيخة والرياسة بعده الأستاذ الشيخ محمد أحمد الظواهري، ففرح به
الجامدون والبدعيون، ووجم المستقلون المجددون، وخابت آمال المصلحين، ولا
سيما الإدارة لاعتقاده استحالة الإصلاح به، ثم كان من سيرة الظواهري ما أسخط
الفريقين إلا أفرادًا منهم، ولكنه قذف في قلوبهم الرعب من أول عهده؛ إذ عزل من
مدرسي الأزهر سبعين أو أكثر ممن يعتقد أنهم مخالفون له في رأيه، وقد أوتوا من
الشجاعة ما يربأ بهم أن يتملقوا له، فعلموا أنه مستبد في الأزهر (دكتاتور)
ومعاهده بقوة الحكومة، وأنه أقنعها بأنها لا تجد أحدًا غيره يرضيها بكل ما تريد
فيحل محله، وكان هذا سبب الشكوى العامة من سيرته، والتشهير بأعماله وإدارته
في الصحف، وعدم وجود أحد من الأزهريين ولا من غيرهم يدافع عن شيء من
مساوي إدارته، ولو جمعت المطاعن التي سددت سهامها إليه وإلى الأزهر في عهده
لبلغت سفرًا كبيرًا، وهي لا تزال تزداد وتتكرر على الأيام، ومن أسبابها تحريه
الجمع بين إرضاء الخرافيين والمتفرنجين، وأكثرها يرجع إلى السياسة الحزبية
والأهواء الحكومية، التي ما دخلت في عمل إلا أفسدته وفاقًا للمثل المأثور عن
الأستاذ الإمام.
وخلاصة القول في الأزهر: أن رياسة الظواهري له قد دهورته في أسفل
المهاوي بموقفه بين الإسلاس لتقحم التفرنج المادي فيه ازدلافًا للحكومة، وتأييد
الخرافات والبدع إرضاء للعامة، ولكل من الطرفين المتقابلين فئة تنصره في
الأزهر، وسيكون النصر لفئة التفرنج، فيكون بيدها أمر مستقبله الاستقلالي وإزالة
سلطة الحكومة منه بعد اعتزازها بها الآن. ككل انقلاب سياسي واجتماعي حدث
في الشرق، وهو خطر على الدين إلا أن ينتصر حزب التجديد والإصلاح المعتدل
الجامع بين مصالح الدنيا والدين، والمشيخة الظواهرية خصم لهذا الحزب فهي
تمهد سبيل الانقلاب المادي للأزهر بضعفها أمام فئته، وسوء إدارتها الإسلامية
وإننا نلخص انتقاد الأمة عليها في الجرائد بما يلي:
(١) مقاومة مشيخة الأزهر للمؤتمر الإسلامي العام وإظهارها العداوة له
والصد عنه، وهو أفضل عمل اجتماعي عمل لمصلحة المسلمين في هذا العهد.
(٢) البيان السخيف الضعيف الذي أصدرته المشيخة لتأييد الوزارة على
الأمة فيما تشكو منها، وكان من الممكن أن يكون بيانًا شرعيًّا عادلاً لا يستطيع أحد
نقضه.
(٣) عزل سبعين عالمًا من مدرسي الأزهر باتهام خيارهم بالميل إلى الوفد
المصري وبعضهم بالميل إلى الحزب الحر الدستوري، وذنبهم الحقيقي ما قررناه
آنفًا.
(٤) محاباة بعض الأساتذة والموظفين والتحامل الجائر على بعض. ومن
ذلك أن أحد مفتشي الأزهر المنتمين إلى حزب الاتحاد ركب في الدرجة الثانية من
السكة الحديدية، وقد أخذ أجرة الدرجة الأولى فكان سارقًا للفرق في أجرتي الدرجتين
وقد أكثرت الجرائد من سؤال شيخ الأزهر عن هذه المسألة وما فعله فيها فلم يرجع
إليها جوابًا.
(٥) عناية مشيخة الأزهر بالاحتفال بزيارة ملك إيطالية الرسمية لمصر مع
العلم بما فعلته دولته في طرابلس وبرقة من التقتيل والتنكيل بمسلمي طرابلس وبرقة
ولا سيما السادة السنوسية، وما نشرته الصحف من إهانتهم لمساجدهم وزواياهم
وللمصاحف الشريفة أيضًا، وناهيك بأنشودة الجيش الطلياني هنالك التي كانت من
أقبح أناشيد أجدادهم في الحرب الصليبية الكبرى إهانة للمسلمين ولخاتم النبيين وسيد
ولد آدم أجمعين، عليه الصلاة والسلام، ولقد أهان المسلمون طلبة الأزهر الذين
أخرجتهم المشيخة للوقوف في طريق ملك إيطالية حفاوة به.
(٦) امتناع علماء الأزهر وخطبائه في الأزهر وغيره من المساجد من
إجابة الدعوة التي وجهها المؤتمر الإسلامي العام إلى مسلمي الآفاق بصلاة الغائب
على المرحوم السيد أحمد الشريف السنوسي المجاهد في سبيل الله، المهاجر
المُخْرَج من وطنه كجده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدوان إيطالية، بل كان
منهم من صدَّ الناس عن هذه الصلاة فصلوها بالرغم منهم، وأنا أعلم أن بعض
الخطباء لم يكتف بالامتناع عن هذه الصلاة وقد طولب بها حتى أرسل بعض خدم
المسجد يطلب شرذمة من البوليس لمنع المسلمين منها، فما جاء البوليس إلا وقد
قضيت الصلاة وانفضَّ المصلون، ولكن هذا من سخفه لا بإغراء أحد.
(٧) موافقة شيخ الأزهر في مجلس الشيوخ الرسمي للحكومة على جميع
مشروعاتها حتى المخالفة للشرع.
(٨) امتناع شيخ الأزهر وهيئة كبار علمائه من الاحتجاج على الدولة
الفرنسية فيما قررته وشرعت فيه من إخراج شعب البربر في المغرب الإسلامي من
الدين الإسلامي وإدخاله في النصرانية، وقد اضطرب له العالم الإسلامي كله،
وطولب الشيخ الظواهري بذلك مرارًا فلم يستجب، حتى إذا ما زار مصر عالم
مغربي اشتهر بأنه من أنصار سياسة فرنسة في بلاده وطعنت فيه الجرائد الإسلامية
أشد الطعن احتفى به الشيخ وكرَّمَه تكريمًا.
(٩) امتناع شيخ الأزهر وهيئة كبار علمائه من الاحتجاج على ما فعلته
فرنسة من منع علماء المسلمين في الجزائر عن وعظ المسلمين وتعليمهم دينهم في
المساجد، ثم من محاولتهم تجنيس مسلمي تونس بالجنسية الفرنسية وإخراجهم من
حظيرة الجنسية الإسلامية بجعل أنكحتهم ومواريثهم تجري بمقتضى القانون
الفرنسي.
(١٠) امتناع شيخ الأزهر وهيئة كبار علمائه أن يكونوا قادة الأمة في
مقاومة الحملة الأخيرة الفظيعة التي حملها دعاة النصرانية على الإسلام في مصر
بإهانته في مدارسهم والطعن فيه وإخراج تلميذات مدارسهم منه بالتوريط
وبالإكراه وتنصيرهن وتزويجهن من النصارى إلخ ما هو شغل الجرائد الإسلامية
الشاغل في هذه الأيام.
(١١) مطالبته الحكومة بمصادرة كتاب تاريخ بغداد الشهير لأحد حفاظ
الأمة الأعلام الإمام أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى سنة ٤٦٣ قبل
إتمام طبعه؛ لأن فيه طعنًا على الإمام أبي حنيفة في ترجمته له منه على طريقة
المحدثين في نقل الروايات التي يرونها في كل من يترجمونه من جرح وتعديل.
(١٢) مجلة المشيخة المسماة نور الإسلام يمنعها الشيخ الظواهري من
الدفاع عن الإسلام بالرد على الطعانين فيه والمعتدين عليه وعلى أهله، وكنا قد
اقترحناه عليها من أول ظهورها، فكان مبدأ سخطها علينا، ويغريها بالطعن على
الوهابية؛ لأن الدولة المصرية ساخطة على دولتهم السعودية فيما هو مثار العداوة
بين الشعوب الإسلامية. ثم إنها بسيطرته تدافع عن الخرافات والبدع الفاشية في
البلاد، والمُفْسِدة للعقائد والأخلاق والآداب، وتأولها للمفتونين بها بضروب السخف
والاحتمالات التي يتأولون بها أغلاط المؤلفين فيما يدعون أن فائدته على بطلانه
تشحيذ الأذهان، حتى إذا ما أنكرنا عليها بعض هذه الجهالات تجرأت على الطعن
علينا بما كان سببًا لفضيحة جهلها في العالم الإسلامي كله في مقالاتنا التي نشرناها
في المنار وفي أشهر الجرائد المصرية وجمعناها في هذا الكتاب.
كان من خذلان المشيخة في الطعن في المنار داعية السنة، أن انتدبت له
شيخًا من أنصار البدعة، فكان سببًا لإظهار عدة فضائح لها ولمجلتها، وإظهار
صاحب المنار عليهم بالعلم والعمل والأخلاق، وكان شر فضائحها في العلم الجهل
الأعمى بعلوم السنة كلها، وشر فضائحها في الأخلاق افتراء الكذب والبهتان الذي
لا شبهة عليه من سوء فهم المفتري، ولا من استنباط الاحتمالات السخيفة المألوفة،
كما يرى القراء بيانه مفصلا في مقالاتنا، والكذب شر الرذائل كلها على الإطلاق
ولا أستثني الكفر بالله فإنه كله كذب، وقد غفل عن هذا جماعة الكتاب الذين
يطعنون على هذه المشيخة بإفساد أخلاق رجال الدين، وأي فساد شر من الكذب
وقول الزور في العلم والدين؟
ومن خير ما نحمد الله تعالى عليه من إظهارنا عليهم، ولا سيما الشيخ
الظواهري، ومن اختصه للطعن علينا منهم، أن علم جماهير الناس أن الرد على
المنار كان من أمانيهم التي يرتقبون سنوح الفرصة لها، ويستعدون لها بمراجعة
مجلدات المنار السابقة، حتى إذا ما سنحت الفرصة وصار الأول رئيسًا للأزهر
والثاني محررًا في مجلته، ونشرا ما نشرا فيها من الطعن على المنار، ظهر أنه
كله جهل وكذب وسباب، وتأييد للبدع.
ولو أن الشيخ الظواهري وفَّى لنا بما وعدنا به من نشر ردنا على مجلة
الأزهر فيها ببيان حججنا عليها في مسائل الطعن من غير تعرض منا للطاعن ولا
لغيره لاكتفى أمر ظهور هذه الفضائح كلها أو جلها، وأمر تحدينا له ولهيئة كبار
العلماء في علوم الحديث، ولأدى واجبًا شرعيًّا لقراء المجلة بإيقافهم على الحقيقة
في تلك المطاعن وحكم الشرع فيها، ولكنه وعد ولم يف فنال جزاءه.
أفرأيتم من كانت هذه سيرته العلمية والدينية هل يمكن أن يكون وسطًا بين
حزب الجمود الخرافي القديم، وحزب التفرنج الجديد، فيوجه الأزهر إلى الجمع
بين علوم الدنيا وهداية الدين؟ أم المنتظر منه أن يكون هو الهادم الأخير لخير
القديم بنصره لشره، والممهد به لشر الجديد الذي بَيَّنا تشاؤم أذكياء الأمة المخلصين
منه؟
وإنه ليؤلمني ألذع الألم أن تضطر الأمة الإسلامية وصحفها إلى هذا التشهير
بسيرة الرئيس لأكبر مصلحة إسلامية في مصر، ونحن نرى إجلال جميع الطوائف
لرؤسائها الدينيين، وسأبين رأيي في المَخْرَج منه، وفيما يجب أن تكون عليه
الرئاسة الإسلامية من النظام، وما يجب لها من الاحترام، وهو ما أوجه إليه
الأنظار، وأدعو للسعي له حزب التجديد والإصلاح، والعاقبة للمتقين. اهـ
(كتبت هذه المقدمة في أول ربيع الأول سنة ١٣٥٢)