للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

(س١٣-١٥) من صاحب الإمضاء في برلين (أوربة) بعد مقدمة طويلة.
(١) لِمَ فضَّل الله تعالى اليهود وهم أرذل الأقوام وأشنعهم ومفسدون في
الأرض، وكل الفساد الأخلاقي والاقتصادي والسياسي ناشئ منهم فقط كما قال تعالى:
{أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: ١٢) وإنهم أشد الناس
عداوة للناس ولا سيما للمسلمين. فإذن ما معنى قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ
عَلَى العَالَمِينَ} (البقرة: ٤٧)
(٢) لِمَ ورد في كلام الله القديم قصص بعض الرسل كنوح وإبراهيم
وموسى وعيسى عليهم السلام مرارًا كثيرة مثلا قصة عيسى عليه السلام أكثر من
سبع عشرة مرة وقصة موسى عليه السلام أكثر من سبع وعشرين مرة إلخ.
(٣) لماذا جمع أبو بكر وعثمان - أيْ الهيئة المخصوصة لجمع القرآن زمن
خلافتهما - على غير ترتيب نزوله؟ فإن أمكن اليوم جمعه على ترتيب نزوله؟ فإن
أمكن أيصح؟ تلميذكم الداعي المخلص:
... ... ... ... ... ... ... عالم جان إدريس
... ... ... ... ... ... ... ... في برلين
(أجوبة المنار)
١٣- معنى تفضيل بني إسرائيل على العالمين على مفاسدهم:
إن تفضيل بعض الشعوب على بعض من الأمور النسبية التي تختلف
باختلاف الأجيال والزمان والمكان؛ وباختلاف مراد المفضل من التفضيل، وإذا
أطلق التفضيل في كتاب الله يراد به الديني منه، وإلا بينه كقوله تعالى: {وَاللَّهُ
فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} (النحل: ٧١) وإنني أبين جواب السائل
بشيء من التفصيل.
يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى
العَالَمِينَ} (آل عمران: ٣٣) ويقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي
ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: ٢٦) فعلم منه
أن التفضيل خاص بالمهتدين بكتب الله تعالى للأنبياء الذين بعثوا فيهم من ذرية
إبراهيم بعد نوح عليهما السلام.
وقد كان الأنبياء في بني إسرائيل أكثر منهم في غيرهم من الشعوب
والمهتدون منهم أكثر من غيرهم لأولئك الأنبياء، وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا
دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ} (النمل: ١٥) فهذان نبيان من أعظم أنبيائهم يحمدان الله تعالى أن فضلهما على كثير
من عباده المؤمنين لا على جميعهم.
وإن من قواعد الشرع الإلهي العام أن الغُرْم على نسبة الغُنْم فمن كان ثوابه
على الإيمان والطاعة مضاعفًا كان عقابه على الكفر والمعصية مضاعفًا وقد أنذر
الله بني إسرائيل على لسان موسى ومن بعده من أنبيائهم أشد النذر إذا هم نقضوا
عهده بالكفر والمعاصي كما تراه في كتبهم المقدسة من العهدين القديم والجديد، وفي
القرآن العظيم المهيمن على جميع تلك الكتب، وفيه وصف لشدة كفرهم وبغيهم
وقتلهم الأنبياء بغير حق، وما عاقبهم به من اللعن وسلب الملك وضرب الذلة عليهم
بفقد الملك، وتسليطه عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، وأنهم لن
يعتزوا بأنفسهم، بل بسيادة غيرهم، كما قال تعالى: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ
النَّاسِ} (آل عمران: ١١٢) فحبل الله شرعه الإسلامي الذي أمنهم على أنفسهم
وأموالهم ودينهم، فرفع ظلم الرومان وغيرهم عنهم، وحبل الناس خضوعهم للدول
التي تحميهم، وكل هذا معروف في تاريخ دول الإسلام، وواقع مشاهد في بعض
بلاد أوربة الآن، وإن اعتزوا في بعض آخر وأحدثوا ما نعلم من انقلاب.
وأما ما يؤيد تفضيلهم على غيرهم من ناحية الخصائص القومية والوراثة
والتربية فيؤخذ من التاريخ الديني والمدني، وهو ما أجمله لنا القرآن على سنته في
بيان سنن الاجتماع بالإيجاز، إلى ما فصلته أسفار التوراة من معاندة موسى عليه
السلام في صحاري سيناء بعد إنقاذ الله تعالى إياهم على يديه من استعباد فرعون
وقومه وإذلالهم لهم، وتعبر عنهم أسفار التوراة بالشعب الصلب الرقبة، حتى
انقرض في مدة التيه - وهي أربعون سنة - أولئك الأذلاء الجبناء الذي تربَّوْا تحت
حجر الوثنية والعبودية، ونشأ فيه جيل جديد تربى في حجر الشريعة المؤسسة على
عقيدة التوحيد الخالص وآيات النبوة، وقشف البادية، فسلطهم الله على أولئك
الوثنيين المفسدين في بلاد فلسطين ونصرهم عليهم، وأدال لدين الله وشرعه من
عبادة الأوثان، فذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ العَذَابِ المُهِينِ *
مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ *
وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُّبِينٌ} (الدخان: ٣٠-٣٣) فالمراد بالعالمين
الذين اختارهم عليهم القبط والفلسطينيون الذين نصرهم عليهم، وأنشأ لهم ملكًا
عظيمًا من بعد ذلهم.
ثم سلبهم الله هذا الملك بما كفروا من نعمه، وأشركوا في عبادته، كما بيَّنَ
تعالى هذا في أول السورة التي سميت باسمهم؛ إذ قال: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً} (الإسراء:
٤) إلى قوله: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (الإسراء: ٨) وهو بيان لما
عوقبوا به من القتل والسبي مرة بعد أخرى، ولسنة الله فيهم بعد ذلك.
وقد انقضى كل ما كان لبني إسرائيل من التفضيل الديني على غيرهم إلى
الفرع الآخر من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهم العرب ببعثة محمد رسول
الله وخاتم النبيين الذي بشرهم الله تعالى به على لسان موسى وعيسى ومن كان
بينهما من النبيين كما بيَّناه بالشواهد الكثيرة في مواضع من تفسير المنار أوسعها
تفسير آية الأعراف: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: ١٥٧) من الجزء التاسع.
وقد بيَّن الله لهم وللناس غرورهم بما كان من تفضيل الله لسلفهم من الأنبياء
والذين اهتدوا بهم بأنه ليس اختصاصًا ومحاباة منه لهم لذاتهم أو لنسبهم بينه في
آيات منها قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ
يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} (المائدة:
١٨) الآية ومنها قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ
النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ} (الجمعة: ٦-٧) ومنها الآيات الكثيرة في لعنهم والغضب عليهم
ومقاصدهم وعقابهم. راجع في سورة المائدة (٥: ٤١ -٥١ و٥٨ -٧٠و٧٦ -
٨٢) وغير ذلك في غيرها.
وأما ما يستنكره السائل من أعمالهم الإفسادية في العالم ولا سيما روسية
وألمانية، فحكمته أن الله تعالى ينتقم بقوتهم في التدبير المالي والمكر والكيد السري
(كالماسونية) من أشد شعوب الأرض ضراوة بالحروب، واستذلال الشعوب،
واستخدام دين المسيح لنقيض ما جاء به من الزهد والتواضع والإيثار، فلولا كيد
اليهود في ثل عرش ذلك السلطان الديني الدنيوي في أوربة لمحت العصبية
الصليبية آية الإسلام من الشرق كما محتها من أكثر أوربة، ولأطفأت نوره، ولما
وجدت هذه الحضارة المؤسسة على قواعد العلوم والفنون والحرية التي نفخها روح
الإسلام في الأندلس والشرق ثم انتقلت إلى إيطالية وفرنسة فسائر بلاد الغرب.
على أن الشعوب الأوربية الحربية بالطبع الموروث قد كفرت بنعم الله تعالى
في العلم كما كفرت من قبل بنعمته في هداية الدين، فهي تستخدمها في الاستعداد
لدك معالم الحضارة والعمران وإبادة بعض شعوبها لبعض، فاليهود يكيدون لهذه
الدول وشعوبها في شرق أوربة وآسية بالبلشفية، وفي غربها بخصيمتها الرأسمالية،
والغرض من الكيدين إزالة بغي القوة النصرانية ثم القوة المادية لشعوب أوربة إلا
التي تساعدهم على غرضهم الأساسي، وهو تجديد ملك يهودي يكون له النفوذ
الأعلى في العالم.
فهم الذين ثلوا عرش السلطان البابوي بقوة العلم والمال؛ لأنه كان يضطهدهم
في كل مكان، وهم الذين أضعفوا سلطان الحكم القيصري بمجلس الدوما أولا، ثم
قوضوه بالحكومة الشيوعية آخرًا؛ لأنه كان يضطهدهم أيضًا وهم الذين ساعدوا
جمعية الاتحاد والترقي على تقويض سلطان الخلافة التركية تمهيدًا لتمكينهم من
امتلاك فلسطين لا لاضطهاد الترك لهم، فإنهم لم يضطهدوهم وهم الذي قوَّضوا
صرح القوة الألمانية في الحرب الأخيرة بما نفثوه من سموم الثورة في أسطولها
وفي جيشها وبما جاهدوا بأموالهم وكيدهم في حمل الولايات المتحدة على مساعدة
أعدائها الحلفاء عليها، ثم سعوا لنشر الشيوعية فيها حتى لا تقوم لها قائمة مسيحية
ولا قومية، وما كان هذا إلا خدمة لإنكلترة وجزاء على عهدها بلسان لورد بلفور
على تأسيس وطن قومي وملك يهودي في فلسطين، فكيدهم لألمانية كان ككيدهم
الدولة العثمانية، لا ككيدهم لدول اللاتين وللقيصرية الروسية، ومن الناس من يرى
أن إضعاف ألمانية وانتصار الحلفاء عليها كان خيرًا للإنسانية وأنا أرى عكسه.
فأنت ترى أن هذا الشعب أفضل من جميع شعوب الأرض عزيمة ووحدة
وأثرة وذكاء، وإقدامًا وثباتًا، واعتزازًا بنفسه، وأما ضرره لغيره فهو يجري فيه
على ما تعلمه من شعوب أوربة لبعض، وشره ما كان من دفع الفاسد بالفاسد
ويجري على سنة الاجتماع البشري والطبيعي المسماة برد الفعل، وقاعدة إذا جاوز
الشيء حده، جاور ضده أو انقلب إلى ضده، ووفاقًا للحديث المشتهر على ألسنة
العامة: (الظالم سيف الله ينتقم به ثم ينتقم منه) . رواه الديلمي في مسند الفردوس
بلفظ (عدل الله) ولكن بغير سند، وقال الحافظ ابن حجر: إنه لا يعرف له رواية
غيره.
ولا يمكن أن يغلب على أمره إلا بقوة الحق والعدل والهدى التي كفل الله نصر
أهلها على من يقاومها، وهذه القوة لا توجد إلا في دين الإسلام دين القرآن وسنة
محمد عليه الصلاة والسلام، التي فتح بها خلفاؤه العالم وطهروا ما ظهروا عليه منه
من الوثنية والظلم والمنكرات وعبادة البشر من الكهنة والملوك، وقد بينا هذا
بالتفصيل في كتابنا (الوحي المحمدي) الجديد.
وقد تنبهت الشعوب اللاتينية والجرمانية للانتقام منهم، ولا يزال
الأنكلوسكسون ينتصرون لهم بسبب نفوذهم المالي، ولكن الدولة الإنكليزية هي التي
ستقضي عليهم القضاء الأخير، بمساعدتهم على تأسيس الملك اليهودي في فلسطين،
بظلم للعرب شديد وبغي فظيع، بالرغم من وعيد الله لهم على لسان رسله، ولا
سيما المسيح الحق ومحمد خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليهما، وسيكون هذا
الجمع بين الظلم والبغي الإنكليزي والطمع اليهودي قاضيًا على نفوذ إنكلترة في
الشرق خلافًا لما يظنان، معجلاً لحياة الأمة العربية خلافًا لما يبغيان، بمقتضى سنة
رد الفعل في الاجتماع، بل عجل الله للإنكليز الانتقام بزوال نفوذهم المعنوي
وصيتهم الأدبي بفضيحتهم في فلسطين وسيتبعه النفوذ المادي ولو بعد حين، وأما
اليهود فهم على ما ذكرنا من مزاياهم قد سُلِبُوا الاستعدادَ للملك بفقدهم لملكة الحرب
إذ قال فيهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة: ٩٦) وبشدة
أثرتهم المالية وعصبيتهم النسبية والدينية، التي بَغَّضَتْهُم إلى جميع شعوب البشر
مَسُودِينَ، فكيف إن صاروا سائدين، وقد قال الله فيهم: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ
فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} (النساء: ٥٣) وقد ورد في أخبار نبينا الغيبية أنه
قال: (تقاتلكم اليهود فتظهرون عليهم حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم ههنا
ورائي يهودي تعال فاقتله) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
***
١٤- حكمة تكرار قصص بعض الأنبياء في القرآن:
إن هؤلاء الأنبياء الذين كرَّر القرآن ذكرهم هم الذين كانوا معروفين في بلاد
العرب وما جاورها من طريق أهل الكتاب، ولهذا التكرار حكمتان: (إحداهما)
بيان هدايتهم الصحيحة التي شوهتها روايات اليهود والنصارى بما جهلت به حقيقة
دين الله وهدايتهم فيه بما يُرْجَى تأثيره كما فصلناه في كتاب (الوحي المحمدي) في
بحث حكمة التكرار في القرآن، وفي بحث إصلاح الإسلام لتعاليم الرسل قبل محمد
عليه الصلاة والسلام. (ثانيهما) إقامة الحجة على إعجاز القرآن في أسلوبه
ونظمه وبلاغته كما ترى بيانه في تفسير هذا الجزء.
***
١٥- جمع القرآن على غير ترتيب النزول:
من المعلوم من تاريخ الإسلام بالإجماع أن بعض السور نزلت متفرقة في
أوقات مختلفة، وأنه كلما كملت سورة كان جبريل عليه السلام يقرئها النبي صلى
الله عليه وسلم كاملة، وكان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم أي يدارسه كل ما
تم من القرآن في كل سنة، وأنه في آخر سنة من عمره عارضه القرآن كله مرتين
بهذا الترتيب الذي لقَّنَه لأصحابه ولكتبة الوحي، وكان يقرؤوه في الصلاة وغيرها،
ويحفظه كثير منهم ويقرؤونه بهذا الترتيب الذي في المصحف ولأجل هذا كتبوه،
وبه يظهر تناسبه والتئامه وإعجازه، ويسهل حفظه ومدارسته على الصغار والكبار،
فترتيب القرآن ترتيب توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى، ولا
يمكن جمعه بحسب النزول إلا بالنسبة إلى فائدة في كتابته على هذا الترتيب وخلط
السور الصغيرة بالكبيرة. وأما ترتيب آياته في كل سورة مما نزل متفرقًا فمتعذرٌ،
والتصدي لما علم منه ممنوع بالإجماع، وهو ضار غير نافع، فإن آيات الربا من
سورة البقرة، وقوله تعالى بعدها: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (البقرة:
٢٨١) الآية هي آخر الآيات نزولاً، وأكثر السورة نزل عقب الهجرة. ولما
أنزلت هذه الآيات أمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في مكانها؛ لمناسبتها لما
قبلها وما بعدها من الآيات المالية من الصدقة والدَّيْن. ولو وضعت مع آخر ما نزل
من السور لوضعت في سورة النصر، ولا مناسبة بينهما، فكل تغيير في القرآن
ضارٌّ، ومحرم بالإجماع.