للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المكاشفات

مما أثمرته العبادة والمراقبة قبل سلوك الطريق وبعده المكاشفات بقسميها
الصوري والمعنوي أو الظلماني والنوراني كما يقول الصوفية، والمراد بالثاني
المعرفة بالحقائق، وقد سبقت الإشارة إليه في الكلام على الاستعداد النفسي
وتحصيل العلم، وبالأول الشئون الدنيوية، وكانت كثيرة جدًّا بحيث يتعذر كتمانها
كلها، كنت أكتم ما لم يعلمه الناس، وأما ما يقع لي معهم فقد كنت أسمي بعضه
مصادفة وبعضه رأيًا أو خاطرًا، وإن كان في موضوع طويل الأمد كثير الحوادث،
ومنه ما كنت أرجح أنه كذلك وأؤكده فيقبله بعض الناس دون بعض.
من هذا أنني كنت في دار آل الرافعي بطرابلس في أثناء زيارتي للبلاد عقب
إعلان الدستور العثماني سنة ١٣٢٦ في فصل شتاء سنة ١٩٠٨ فقلت: الله أعلم
أنه سينزل من السماء ثلج الآن، فنزل الثلج بعد دقائق قليلة ونزول الثلج في بلادنا
الساحلية نادر، وإنما يكثر نزول البرد. فقال ريس صيد بحري من القلمون كان
حاضرًا: من أين علمت؟ قلت: إنه ليس بعلم وإنما هو شعور من برد الهواء أو
لذعه؟ قال: أيش شُغْلنا نحن؟ يعني أن الملاحين أعلم منا بأحوال الجو والطقس.
ثم انقطع الثلج مدة وأراد هذا الرجل وغيره الانصراف فقلت غير مالك للساني: الله
أعلم أن الثلج سيعود، فلم يلبث أن عاد، فقال الريس: وهذه؟ قلت: كتلك، فلمعت
الدموع في عينيه.
والحق أن مثل هذا ليس له قيمة المكاشفات التي سببها توجه الإرادة، ولكن
الرجل كان من المتشبعين بحسن الاعتقاد من قبل هجرتي إلى مصر ويحفظ عني
أمورًا غريبة عنده، منها أنه استشارني في تربية ابنه وتعليمه فذكرت له ما سيكون
من أمره في مستقبله بتفصيلٍ حفظه فوقع كله، وهذا ليس بغريب أن يقع بصحة
الرأي، ولو لم يكن سامعه يعتقد صلاح قائله وولايته لما كان يعده كرامة له، وقد
كان الشيخ يوسف النبهاني يبحث عن أمثال هذه الأخبار عمن اشتهروا بالصلاح
ليدونها فيما يجمع من كرامات أهل عصره، ويَعُدُّنِي أنا والأستاذ الإمام والسيد
الأفغاني من أعداء الصالحين؛ لأننا أعداء الخرافات التي هي برهان الولاية في
رأيه الأفين، ولا يزال يقع لي مثله كثيرًا في الدار فتقول أم الأولاد: إنك تكاشف
علينا، فأبتسم.
وأذكر عن ولد هذا الريس (رحمه الله) وهو حي يرزق أنه دخل عليَّ مرة
في غرفتي فوقع في قلبي أنه كان يغازل امرأة فذكرت له الأثر المروي عن الخليفة
الثالث عثمان بن عفان (رضي الله عنه، وهو أنه دخل عليه رجل فقال له:
أيدخل أحدكم عليَّ وأثر الزنا ظاهر على عينيه؟ فقال الرجل: أَوَحْيٌ بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا ولكنها فراسة المؤمن) . اهـ ذكرته له بلهجة
الإنكار، ففهم واعترف خجلاً.
وجاءني السيد علي عبد القادر يريد أن يسأل عن شيء، فقلت له قبل السؤال:
إنك تريد أن تعلم ما ورد فيما يُقْرَأُ بعد الفاتحة في راتبة الفجر، وورد أنه كان
صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بسورة الكافرون والإخلاص، وورد بسورة الانشراح
والفيل (ولا يصح) وورد في الركعة الأولى آية {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا
وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى
وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: ١٣٦) من سورة البقرة وآية {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن
دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: ٦٤) من آل
عمران، فقال: من أين علمت؟ وقد يكون لمثل هذا أو بعضه ما يشعر به عند
الذي يحاسب نفسه دقيقًا على طريقة الغزالي، وإن منه لوقائع لا يمكن أن تخطر
بالبال، ومنه ما هو نتيجة التوجه المعروف عند الصوفية، وهاك حادثة منه:
كنت أترك غرفتي في أعلى المسجد مفتوحة وأنام في الدار لعلمي بأنه لا يعقل
أن يسرق لي أحد من أهل القلمون شيئًا، وكان في الغرفة صندوق صغير أضع فيه
بعض الأوراق وما عندي من السبح وهي كثيرة كانت تُهْدَى إليَّ، وأحيانًا أضع فيه
الدراهم، ومع هذا أترك مفتاحه فيه لئلا أحمله فيسقط مني وأحتاج إلى كسر
الصندوق. وقد رأيت الصندوق في صبيحة بعض الأيام مبعثر الورق والكيس الذي
فيه السبح مسروقًا فطلبت من ساعتي أن تشد لي الفرس فشدت فركبتها وذهبت إلى
طرابلس ولم أنزل حيث كنت أربطها عادة عند مدخل المدينة بل قطعت الأسواق
راكبًا إلى أن وصلت إلى دكان عند الجسر الشمالي، فنزلت أمامه وقلت لصاحبه:
أين السبح التي اشتريتها اليوم؟ فأخرج لي الكيس، فأخذته ودفعت له ما اشتراها
به وهو قليل، وكان السارق خادمًا لصديقنا الشيخ عبد الفتاح الزغبي الجيلاني
الشهير وكان مصطافًا في القلمون كعادته، والخادم وهو من قرية المينا لا من
القلمون ولا من طرابلس، وقد علم بأنني عثرت على سرقته فلم يعد إلى خدمة
سيده، ثم إنني عدت إلى عادتي في ترك مفتاح الصندوق فيه ومفتاح الغرفة في
بابها ثقة مني بأهل بلدي.
* * *
الانتقام في الدنيا
من كل من آذانا
تذكرت بهذه الحادثة أنه كان مشهورًا عند أهل بلدنا فوق احترامهم لشخصي
أنه لا يعتدي أحد علينا إلا وينتقم الله منه في الدنيا قبل الآخرة، حدَّثَ بعضهم عن
نفسه أنه ذهب يحتطب مرة من شجر الزيتون فانتهى إلى كرم لعم والدي الذي سبق
ذكره في هذه الترجمة فصعد شجرة زيتون ليقطع منها (قال) : وقلت في نفسي:
يقول الناس: هؤلاء أولاد جد (أي جدهم وليٌّ) لا يعتدي أحد عليهم إلا أصيب (أنا
رايح شوف أيش يصير لي) ولم أكد أشرع بقطع فرع من الزيتونة إلا وسقطتُ
منها على الأرض سقطة مؤلمة فتبتُ.
وهذه مسألة مما يعدها الكثيرون من كرامات المعتقدين، فإن كان ما يذكرون
في بلدنا من انتقام الله من كل من آذانا من الحكام وغيرهم حقًّا، فأنا ما أظن أنه
استقراء تام، على أنني لم أعلم أن أحدًا آذانا ولم يلق جزاءه في الدنيا، وقد آذانا
رجل من أهلنا إيذاء ماليًّا كان جُلُّه خاصًّا بي، ثم كان عاقبته أن اضطر إلى السفر
إلى مصر لطلب الرزق، وأن صار يطلب مني الإحسان إليه المرة بعد المرة فأفعل،
ولا أزال أعنى بولده وأهله بعد موته، ولله الحمد.
وكان آخرُ المعتدين عليَّ بالطعن وقول الزور رجلاً معدودًا من كبار العلماء
المشهورين في مصر، فسلط الله عليه من العلماء والكتاب من شهره أنواعًا من
التشهير في علمه وأخلاقه وأمانته المالية والعلمية ... ومع هذا أصرح بأنني لا
أغتر فأقول: إن لي خصوصية عند الله تعالى وإنه انتقام لي خاص، وإنما هو جارٍ
بأسبابه الظاهرة، وقد يدخل في معنى ما ذكرته في تفسير قوله تعالى في البغاة: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} (يونس: ٢٣) الآية، ولكن جمهور الناس
يعدون مثله من كرامات الأحياء والميتين، ويذكر الشعراني وأمثاله من ناشري
الخرافات في كرامات السيد البدوي وغيره وقوع البلاء والمصائب على المعترضين
عليهم أو على موالدهم بحق، فذكرته عبرة لهؤلاء ولغيرهم.
* * *
استجابة الدعاء
أحمد الله تعالى ولا أحصي ثناء عليه أنه استجاب دعائي له بالإيمان
والإخلاص والتوجه الصادق في أمور كثيرة جدًّا لا أحصيها، منها ما ظهر لي
بالتدقيق في السنن والنواميس التي ترتبط بها الأسباب بالمسببات، أنه من توفيق
الأقدار للأقدار، وعلم ما لم أكن أعلم، وتسخير ما لا يصل إليه كسبي من الأشياء
والأشخاص، ومنها ما لم تظهر لي فيه الأسباب، حتى صح أن يُعَدَّ من خوارق
العادات.
ثم أحمده عَوْدًا على بدء، ودوامًا أسأله الثبات عليه إلى آخر العمر، أن ظهر
لي فيما لم يستجبه لي بعينه أن استجابه بالمعنى المقصود منه، وفيما لم يستجبه
بعينه ولا بالمعنى المقصود منه أن كان الخير لي في عدم استجابته كله، وأذكر منه
دعائي وتضرعي إليه عز وجل أن يسخر لي رجال الدولة العثمانية فيما طلبته منهم
ومكثت عندهم سنة كاملة أسعى له عندهم، وهو إنشاء جمعية ومدرسة للدعوة
والإرشاد، أو للعلم والإرشاد في عهد ظهور العصبية الطورانية ونجوم قرون
الإلحاد، فقد تم إنشاء الجمعية رسميًّا وتم صدور الأمر من مجلس الوزراء
بتخصيص المال اللازم للمدرسة، ولكن لم يتم تأسيسها بالفعل المقتضي لإقامتي في
الآستانة، وكان الخير لي أن عدت إلى مصر فأسست الجمعية والمدرسة فيها، ثم
ظهر لي أن عدم السكنى في الآستانة كان خيرًا لي بما كان في أثناء الحرب الكبرى
من بغي الترك على العرب وتقتيل زعمائهم وطلاب ارتقائهم، وقد كنت في مقدمتهم،
وحكم عليَّ بالقتل (الإعدام) مرتين أو أكثر، نعم إن الأجل محتوم، والعمر
محدود معدود، ولكنه مرتبط بالأسباب في نظام القدر المعلوم، على أن المقام في
تلك البلاد في زمن تلك الحرب كان محفوفًا بالقهر والفقر والخوف والذل، ولا سيما
مثلي من العرب، ودعاة الدين ورجال السياسة، وأين منه المقام في مصر التي
كانت جديرة بأن يحسدها الملوك والأمراء في كل قطر، أمان واطمئنان، وسعة في
الرزق وجميع مرافق الحياة؟ وأما حالها بعد الحرب، فهو شر عليَّ مما كان في
زمن الحرب.
((يتبع بمقال تالٍ))