للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


شفاء المرضى بالرقية ونحوها

أذكر من أمثلة انتفاع المرضى التي لا تُحْصَى حادثة مشهورة في القلمون،
وهي أن عمر قدور كسن الصياد رمى شبكته ليلاً في البحر فسمع حيث وقعت
صوتًا رُعِبَ منه، فعاد إلى بيته مصروعًا واشتد عليه الصرع، فكان لا يعي،
وييبس جسده كأنه لوح من الخشب، ويرى نفرًا من الجن يجتمعون حوله قد ضربه
واحد منهم ضربة صرخ منها صرخة مزعجة فطلبوني لأراه وأرقيه، فقلت: بل
أدعو له، فعادوا إليه فألح في الطلب، وكان من أغرب ما قاله أنْ أخبرَ بالحال
الذي كنت عليها في خلوتي ليلاً، قال: إنه جالس متكئ ورأسه على عصا قصيرة
شبه الباكورة (يعني المحجن) وأنه قال للذي ضربني: ضربة بضربة فاتركوه.
ثم عادوا إليَّ وألحوا في طلب الذهاب معهم فذهبت فوجدته مستلقيًا جامدًا لا يعي،
فوضعت يدي على رأسه وتلوت قوله تعالى بعد البسملة: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ
السَّمِيعُ العَلِيمُ} (البقرة: ١٣٧) فأفاق في الحال، وقام كأنما نشط من عقال.
وقيل لي مرة: إن محمد زيدان مصاب بصداع شديد يصرخ من شدته بأعلى
صوته فكتبت له ورقة وضعوها على رأسه فشعر بأن رأسه انشق وخرج منه الوجع
في الحال، ثم كانوا يعيرون ذلك الحجاب لكل مصاب ويذكرون أنه يُشْفَى إلى أن
خطر في بالهم أن يفتحوه ليروا ما كتب فيه، فرأوا فيه حرفًا واحدًا من حروف
المعجم كتب بعدد مخصوص، فاحتقروا ذلك فلم يعد ينفعهم كما قيل لي بعد ذلك
بسنين، وكنت أكتب نشرة للحمى فتشفي بإذن الله تعالى.
ومن هذا النوع مسألة رقية غريبة فعلتها من تلقاء نفسي، وهي أنني كنت
جائيًا من طرابلس إلى القلمون فوجدت بالقرب منها رجلاً من معارفنا من نصارى
أنفة (من لبنان) وهو إسكندر الخوري الذي أظن أنه لا يزال حيًّا، أو أخوه
مالك الخوري وهو عاصب رأسه من صداع شديد فيه، فسألته فأخبرني فقلت له:
ادن مني فدنا فقلت له: إن الإنجيل يروي عن سيدنا المسيح عليه السلام أنه قال:
وهذه الآيات تتبع المؤمنين يضعون أيديهم على المرضى فيبرءون، ووضعت يدي
على رأسه ورسمت عليه كلمة كنت مُجازًا بها فذهب الوجع في الحال، فتعجب
وصار يهز رأسه لأجل أن يحرك الوجع ليعود فلم يعد، وكم فعل هذا غيره
استغرابًا من سرعة البرء.
ومن التأثير في غير الآدميين أن الوالدة رحمها الله استكتبتني حجابًا طلبه منها
بعض نساء الأعراب لوضعه على غنمهم؛ لأن الموت فشا فيها، وبعد سنة أو أكثر
جاءني بدوي من مشايخ قبيلة أخرى فشكا إليَّ وقوع الموت في غنمه وطلب مني
حجابًا ليضعه على رأس أكبر كبش فيها لمنع الموت، فقلت له: إن الحجاب لا
يمنع وقوع الموت في الغنم، ولا بد أن تكون غنمكم قد أكلت زهر الدفلى وورقها
أو نباتًا آخر ضارًّا، فاسأل عن طبيب بيطري وأخبره بما تعلم من حال الغنم
يرشدك إلى ما ينفع فيها، قال: بل الحجاب هو الذي ينفع. قلت: أنا أعتقد أنه لا
ينفع، قال: وكيف نفع غنم بني عليوه؟ ؟ وأنا لم أكن أذكر مسألة هؤلاء ولكن
الوالدة ذكرتني بها، فاعتقدت أن ذلك من قبيل المصادفات التي كبرتها الأوهام، ثم
تركت هذه الحجب والنشرات للمرضى والمعقودين عن النساء وكذا الرقى إلا نادرًا
لحديث في صحيح مسلم (من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه) واجتنبت فتح هذا
الباب عليَّ بعد هجرتي لمصر؛ لأن الفتنة فيها بهذه الأمور أكبر إلا لأهل الدار
قليلاً.
ولما كنت مسافرًا من البصرة إلى بغداد في إحدى بواخر الدجلة سنة ١٣٣٠
انتقلت من الدرجة الأولى إلى الدرجة الثالثة في مقدمة الباخرة لأرى حركتها، وكان
هنالك كثير من الفقراء فوجدت بينهم فتاة مريضة مضطجعة فقيل لي: إنها يتيمة
فقيرة، وقد اشتدت عليها الحمى فرثيت لها ورقيتها فقامت في الحال، كأنما نشطت
من عقال، وشكت الجوع فأمرت أحد الخدم بأن يأتيها بصحن حساء من مطبخ
الباخرة، ويقيد ثمنه في حسابي ففعل، فأكلتْ، واشتد عجب الفقراء الذين كانوا
معها من نساء ورجال.
ولكن هذه الحمى (وهي الملاريا) كانت أصابتني في البصرة ككل من كان
يدخلها، ثم عادت إليَّ في الباخرة ولم أرق نفسي ولم يرقني أحد، ورقية الإنسان
لنفسه مشروعة، وأما استرقاؤه فينافي كمال التوكل، وقد حققت الموضوع في
المنار.
((يتبع بمقال تالٍ))