للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ويل للعرب من شر قد اقترب

(أفلح من كَفَّ يده) (حديث صحيح)

نشرت هذه المقالة في بعض الجرائد المصرية عند انتشار البرقيات بقرب
الحرب بين المملكتين اليمانية والعربية السعودية
استيقظوا أيها النائمون، تنبهوا أيها المغرورون، استذل الإسلام في الأرض
وصاح النذير بجزيرة العرب.
احتلال عسكري في مصر وسيناء، صهيونية بريطانية في فلسطين، تأسيس
قوة بحرية برية في خليج العقبة الحجازي للأسطول الإنكليزي، ومرفأ له وللبواخر
في حيفا، حظائر للطيارات الحربية في مصر وشرق الأردن والعراق، حكم عسكري
فرنسي في سورية ولبنان، حكم إنكليزي في عرب البحرين والكويت وعمان،
حكم إنكليزي في عدن، وحماية على تسع مقاطعات من عرب اليمن، البحر
الأحمر العربي الإسلامي صار بحرًا إنكليزيًّا قد تشارك إيطالية إنكلترة فيه بمقامها
في مصوع وما تسعى إليه من نفوذ واستعمار في تهامة اليمن كما شاركتها في النفوذ
والإشراف على مصر بمقامها في برقة واحتلالها لجغبوب، لم يبق للأمة العربية
التي تمتد ممالكها من ساحل المحيط الغربي إلى بحر عمان والمحيط الهندي إلا
جزيرة العرب هي البقعة الوحيدة التي ليس فيها ملك ولا حكم لمستعمري الغرب
ولا لابس برنيطة يسيطر عليها بالأمر والنهي، وهي مهد الإسلام، ومهبط
الوحي، وفيها بيت الله قبلة الصلاة، وشعائر الله، والمشعر الحرام، وعرفات
موقف الحجيج العام، بل هي ملجأ الإسلام ومعقله ومأرزه الذي يأرز إليه ويعتصم
به عندما تتداعى إليه الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها كما ثبت في الأحاديث
الصحاح، ولذلك (وصى النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته بأن لا يبقى
في جزيرة العرب دينان) .
ها هي ذي جزيرة العرب، يطوقها المستعمرون الفاتحون من البر والبحر
والجو، وليس لهم فيها شبر من الأرض، ولا أحد من أبناء جلدتهم، الذين
يتدخلون في البلاد لحمايتهم، وفيها زهاء مليون من شجعان العرب المسلمين
المسلحين، ولكنهم أعداء أنفسهم، بأسهم بينهم شديد، يخربون بيوتهم بأيديهم،
ويكيد لهم أبناء جنسهم ودينهم الذين في خارج بلادهم، ويسعون لإثارة العداوة
وتأريث الفتنة وإيقاد نار الحرب بينهم.
كان في هذه الجزيرة عند انتهاء الحرب العالمية أربع حكومات مستقلة: اليمن
وعسير والحجاز ونجد، وكان دعاة الجامعة العربية يدعون رؤساء هذه
الحكومات إلى الاتفاق الحلفي بينهم، فتعذر ذلك عليهم، فسقطت حكومتان وبقي
حكومتان، إحداهما في الجنوب والأخرى في الشمال، وكان مما سر رجال الأمة
العربية والشعوب الإسلامية كافة أن إمامي هاتين الحكومتين الإمامية والسعودية من
أعظم من أنجبت الأمة عقلاً وأخلاقًا وديانة وسياسة وغيرة وحرصًا على صيانة مهد
العرب ومشرق نور الإسلام من التفرق والاختلاف الذي يضعف كلا منهما،
ويفضي إلى تدخل النفوذ الأجنبي في وطنهما، وهو لهما بالمرصاد.
وقعت في مملكة كل منهما فتن داخلية من شأنها أن تغري الطامع في بلاد
جاره باغتنام الفرصة، فلم يفقد أحد منهما رشده، ولا تجاوز حده، ثم عرضت
لهما تجربة أخرى فاختلفا على موقع جبل عرو المشهور بامتناعه وهو في منطقة
عسير السعودية، وقيل: إن جيش سيف الإسلام ولي عهد الإمام قد اقتحم عقابه،
وإن الجيش السعودي قد زحف لحفظه واسترداد ما اقتحم منه، وقيل: إن القتال
بين الدولتين واقع، ما له من دافع، فما لبثنا أن سمعنا ما لم يسمع بمثله أحد
بين خصمين متنازعين ورأينا ما لم تر قبله عين من حكم بين حكومتين، ذلك أن
الإمام يحيى كتب إلى الملك عبد العزيز آل سعود كتابة أخوية إسلامية يحكمه في
القضية راضيًا بحكمه سواء أكان له أم عليه، فما كان من هذا إلا أن حكم له على
نفسه، ونزل له عما يعتقد أنه من حقه، فدهش لهذا التحكيم والحكم الشرق
والغرب، وفرح به العرب والعجم من المسلمين، واغتم له دعاة التفريق
والتعادى من المفسدين.
فما عدا مما بدا؟
ما هذه الصيحة التي أفزعت المجامع؟ ما هذه الصرخة التي مزقت المسامع؟
ما لنا نسمع في هذا الأسبوع أن زحوف الأمير أحمد سيف الإسلام القائد العام
لليمن قد استولت عنوة على مقاطعة نجران، واقتحمت حدود العسير بعد خيبة الوفد
السعودي الذي يقيم لدى الإمام العظيم منذ شهور للمفاوضة في عقد معاهدة ودية
حلفية بين المملكتين تحد الحدود، وتسد ذرائع الخلاف، وتحول دون أسباب الشقاق،
بل توحد قوى الدولتين وتضمن تكافلهما وتعاونهما على حفظ مهد الأمة العربية
وقلب الإسلام وقبلته، وحرم الله وحرم رسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى
آله وصحبه، وسائر المعتصمين بحبل الله وحبله.
قد يدل على كذب الخبر من أصله أو على المبالغة فيه ما اشتهر عن الإمام
الهمام من تقوى الله وحفظ حدوده وكراهة سفك الدماء، ومن ترجيح السياسة السلبية
على الإيجابية ما لم تلجئ الضرورة إلى الثانية، ومن الأناة وطول التروي في
الأمور، ومن الحذر الشديد من فتح أصغر المنافذ للنفوذ الأجنبي في بلاده فهو لم
يتورط إلا في الاتفاق المعلوم مع دولة إيطالية، ولكن هذا الاتفاق علمه ما لم يكن
يعلم فاشتد حذره وتضاعف، ثم إنه يعلم مع هذا أن الخطر على بلاده أشد من
الخطر على المملكة السعودية لمواقع ثغورها على البحر الأحمر، ولأن ينابيع
الثروة فيها أغزر، وليس لها من مناعة القداسة الدينية ما لجارتها الحجاز.
ولكنه يطمع في ضم عسير إلى اليمن، ويجد من دعاة الفتن خصوم الملك
السعودي من يزينون له هذا الطمع، ويسمونه حقًّا من حقوقه؛ لأنها -بزعمهم-
مرسومة في مصور تخطيط البلدان من اللوح المحفوظ من توابع المملكة اليمانية
الإمامية فلهذا يتريث بل يمتنع عقد المحالفة السياسية العسكرية الجغرافية مع ملك
المملكة العربية السعودية على علمه بشدة الحاجة بل الضرورة الداعية إليها.
فإذا كان نبأ هذه الصيحة الجديدة صحيحًا وأن اليد العاملة في محاولة
الاستيلاء على عسير كلها أو بعضها بعد الاستيلاء على نجران هي يد ولي العهد
الشاب العسكري المتوثب. فالمعقول أن يكون قد زين للإمام الحكيم المتقي أن
الفرصة الآن سانحة لتحريض قبائل عسير المجاورة لليمن على تجديد الثورة ببذل
شيء من المال لهم، وقد ضعفت القوات السعودية من البلاد بعد إخماد نار الثورة
والتنكيل بمضرميها، فإذا احتل الجيش المتوكلي ما يريد احتلاله من البلاد يرى
الملك عبد العزيز نفسه أمام أمر واقع، فيضطر إلى الاعتراف به وبناء الاتفاق
عليه، كما حكم على نفسه بالتخلي عن جبل العرو من قبل. ولما هو عليه من
العسرة المالية التي تحول دون تجهيز جيش عرمرم يكافح به الثورة الجديدة وما
وراءها من الجيش اليماني، مع شدة حرصه على اتفاق الحكومتين.
هذا أقرب ما نعقله لإرضاء الإمام الحكيم العليم بالإقدام على هذا العدوان
الشديد الخطر، الذي يستهدف البادئ بالشر فيه لسخط الأمة العربية كلها والعالم
الإسلامي كله ولسخط الله تعالى فوق كل شيء.
إذا فرضنا أن الإمام يحيى لا يبالي سخط المسلمين البعيدين ولا العرب
القريبين، أو لا يصدق أنهم يسخطون للتعادي والتقاتل الذي يضعف هذه البقية من
البلاد العربية، فهل يجهل أن الله تعالى يسخطه أن يسفك دماء المسلمين لأجل
توسيع مملكته على سعتها، وقابليتها لعمران عظيم يغنيه عن زيادة مساحتها؟ أم هل
يجهل سوء عاقبة هذا القتال، وما يستلزمه من ألوف الرجال وبدر الأموال، التي
لا يمكن تعويضها إلا في زمن طويل؟ كلا إنه ليعلم حق العلم كل ما ذكر، وإنه
ليعلم أن هذا التعادي والاقتتال خطر عليه وعلى أمته ومهد دينه، وأن الملك
السعودي ليعلم هذا حق العلم، وإنما قللنا من ذكره في هذا التذكير؛ لأن الذي روي
عنه في هذه المسألة هو أفضل وأكمل ما يُطْلَبُ منه، وهو أنه بلَّغ الإمام أنه لا
يعتدي، وإنما يدافع إذا اعْتُدِيَ عليه ويقبل التحكيم في الخلاف، والمرجو أن يقدر
الإمام هذا الخطاب قدره، وإنا لننتظر ما يجيئنا الغد من الخبر اليقين، فنعطيه حقه
من النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وليتذكر الفريقان ما رواه أبو
داود والحاكم من قوله صلى الله عليه وسلم (ويل للعرب من شر قد اقترب، أفلح
من كف يده) (والسلام على من اتبع الهدى)
هذا ما نشر عقب انتشار الخبر في الصحف وذعر الأمة به ثم جاءنا كغيرنا
من الإمامين كليهما ما هو صريح في مبالغة الجرائد في التشاؤم وتبرؤهما من
إرادة الحرب، وتفاوضهما الودي للاتفاق، لكننا نرى أنه لا سبيل إليه إلا بالمعاهدة
واجتناب اعتداء الحدود في عسير ونجران بعد الاتفاق عليها كما هي.
((يتبع بمقال تالٍ))