للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


استفتاء في مسائل نصرانية في القرآن

­ (س٢٧ - ٣٤) من الأستاذ صاحب الإمضاء بمصر:
حضرة الأستاذ الكبير خليفة الأستاذ الإمام ووارثه السيد محمد رشيد رضا
أحييك بتحية الإسلام، وبعد فإن لي مناقشات كثيرة مع بعض دعاة النصرانية، وقد
دعاني ذلك إلى التسلح بالأدلة والبراهين التي تدحض حججهم، وتزهق باطلهم،
وقد عَنَّ لي أن أسأل سماحتكم في بعض أشياء أريد شفاء النفس منها، وهي:
(١) ذكر القرآن الكريم الحواريين وأثنى عليهم في غير موضع، والقارئ
لكتب النصارى يجد أن هؤلاء الحواريين يدينون بالتثليث وبالصلب، وبكل ما
يعتقده المسيحيون على العموم فكيف نوفق بين هذين الأمرين؟
(٢) وصف القرآن الكريم أهل الكهف بالتوحيد، والمعروف أن قصتهم
وقعت بعد المسيح بنحو ٢٥٠ سنة، أي في الزمن الذي غيرت فيه المسيحية،
وانقلبت رأسًا على عقب، وقد ساق الدميري القصة وذكر في خلالها أنه لما أحياهم
الله وخرج أحدهم يلتمس لهم طعامًا، دهش حينما رأى في بيوت المدينة علامة أهل
الإيمان، وقد فسرها الأب شيخو بأنها الصليب. فما الرأي في هذا؟
(٣) ذكر القرآن في سورة يس قصة أصحاب القرية، وما كان إرسال
الرسل إليها، ثم التعزيز بثالث، ويفهم من ذلك أن هؤلاء الرسل من الله طبعًا مع
أن المفسرين يقولون: إنهم بعض الحواريين، وذكر بعضهم أسماءهم بالفعل ومنهم
بولس الذي تبين مما قرأته من الكتب أنه مخترع الديانة المسيحية، وواضع أسسها
الجديدة.
(٤) لي أصدقاء من المسيحيين المعتدلين يعتقدون في المسيح ما يعتقده
المسلمون فيه من أنه رسول فحسب، ولكنهم يؤمنون بالصلب، وحجتهم في ذلك
أن اليهود يقولون به، والمسيحيون مطبقون عليه، والتاريخ يؤيده بشهادة من
حضروا أو كتبوا. فما رأيك في إيمان هؤلاء خصوصًا وهم يعترفون بنبوة محمد
صلى الله عليه وسلم، وبماذا نزيل هذا الوهم من نفوسهم.
(٥) اليهود يعتقدون بظهور مسيح يحيي مجد إسرائيل، فهل يعتقدون مع
هذا أنه ابن الله، وأنه يصلب إلخ، أو أنهم يقولون: إنه رسول كسائر الرسل لا
يمتاز عنهم في شيء، وإذا صح هذا فكيف يزعم النصارى أن كتب اليهود
وأسفارهم القديمة تبشر بالمسيح على الصورة التي يزعمونها له، والتي انتهت بما
انتهت به؟
(٦) لليهود توراة وللنصارى كذلك توراة، فهل بينهما اختلاف، وهل
اليهود أقرب في ديانتهم من حيث التوحيد إلى المسلمين أم إلى النصارى، وإذا
كانوا أقرب إلى المسلمين كما يظهر لي، فلم كانت العداوة بيننا وبينهم أشد مما هي
بيننا وبين النصارى كما ذكر القرآن الكريم في سورة المائدة، وكما هو متوارث
لدينا؟
(٧) هل يوجد من أحبار النصارى غير القديس برنابا من قال بالتوحيد
المحض وبرسالة المسيح فقط، وبنفي الصلب، وهل يوجد من بينهم بعد ظهور
الإسلام من اعترف برسالة سيدنا محمد، ولو إلى العرب خاصة.
(٨) أرى تناحرًا كبيرًا بين الإسلام والمسيحية في هذه الأيام، وأرى تيقظًا
من المسلمين، ونشاطًا من الدعاة المسيحيين، ولدي كثير من عقلاء الأوربيين
غيروا رأيهم في الإسلام، فهل يمكن لنا أن نتفاءل بأن الإسلام يظفر بالمسيحية،
ولو بعد حين طويل مع ما نراه من وقوع بلاد المسلمين في براثن الاستعمار
المسيحي، أرجو إجابة شافية عن كل ذلك، ولكم الشكر الجزيل.
... ... ... ... ... ... ... ... المخلص علي الجندي
... ... ... ... ... ... الأستاذ بمدرسة الناصرية الأميرية
أجوبة المنار بالإجمال
تابعة بالعدد للفتاوى السابقة
٢٧- حواريو المسيح وعقيدتهم:
مما قصَّه علينا كتاب الله تعالى من أخبار المسيح عيسى بن مريم عليه السلام
أنه كان له حواريون رضوا أن يكونوا أنصارًا له لم يذكر لنا أسماءهم ولا أنسابهم،
وفي كتب النصارى أنه كان له تلاميذ اثنا عشر ذكرت أسماؤهم في الرسائل التي
يسمونها الأناجيل، وليس فيها أنهم كانوا يدينون بالتثليث ولا أن هذا التثليث
المعروف عن النصارى كان معروفًا عندهم، ولكن أشار إليه يوحنا وهو لم يكن
منهم. ونعلم من تاريخ الكنيسة ومن التاريخ العام أن هذه العقيدة وثنية قديمة
ألصقت بالنصرانية بعد مرور قرون عليهم، ولكن في هذه الأربع قصة صلب
المسيح، وأن تلاميذه كانوا معه عندما أخذته الحكومة الرومانية بآراء اليهود لصلبه
وأسلمه واحد منهم، وفي القصة ما فيها من الاختلاف بين مدونيها من الأربعة وبين
غيرهم ممن كتبوها ورفض مجمع نيقية كتبهم وأناجيلهم عندما أسس هذه النصرانية
المعروفة بأمر القيصر قسطنطين الوثني وسياسته ومقتضى إرادته، ومنها إنجيل
برنابا الذي ترى فيه قصة الصلب موافقة للقرآن كما ترى التوحيد في أبلغ الآيات
البينات، والبشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم في أجلى العبارات، وقد كان برنابا
حاضرًا تلك القصة فهو يخبر عن عيان، على أن القصة عند الأربعة لا تدل على
هذه العقيدة البولسية الكنسية المضاهئة لعقيدة الهندوس في قصة كرشنا وثالوثهم
الهندي القديم وأمثالها من عقائد التثليث المصري والأوربي القديم، فيقال: إن
الحورايين كانوا يعتقدونها.
٢٨- توحيد أهل الكهف وشرك قومهم:
الواجب علينا في قصص القرآن أن نفقهها ونتدبر حكمة الله تعالى فيها ونعتبر
بها كما أنزلها، من غير زيادة عليها أو نقص منها بآرائنا أو بالرواية عن غير
المعصوم فيها، وقد فتن أكثر المفسرين للكتاب العزيز بالروايات الإسرائيلية في
قصصه وكثيرها كذب مفترى، وما فيها من صحيح فلا حاجة بنا إليه، حتى صرنا
نحتاج إلى التوفيق بين نصوص الوحي الحق المعصوم وبينها، وإلى ما هو شر من
ذلك.
فأول ما أجيب به السائل الفاضل أن يضرب عرض الحائط بكل ما روي في
القصة مما لا تدل عليه عبارتها سواء منه ما رواه الدميري والمفسرون، وما قاله
(شيخو) الجزوبتي (فالأول) قد يكون ناقلاً كغيره عن الإسرائيليات الموضوعة
(والثاني) قد يكون مُحَرِّفًا لقصة مروية أو مصنوعة، وقد عهدنا التحريف وافتراء
الكذب من دعاة الكنيسة، ولا سيما هؤلاء الجزويت.
أقول: ثانيًا: إن المعلوم من كلام الله الحق المبين، ومن بعض نصوص ما
يسميه النصارى بالأناجيل وغيره من كتب العهد الجديد، ومن روايات التاريخ
الصحيح، أن المسيح عليه السلام وأتباعه كانوا موحدين لله تعالى مثله على عقيدة
التوراة.
وقد علم من التاريخ أن الملك قسطنطين مؤسس التثليث في هذه النصرانية قد
نَكَّلَ بالموحدين الخُلَّص وشرد بهم من خلفهم، وأن من بعده من خلفائه في كفالة هذا
الدين الرسمي كانوا ينتقمون من الموحدين ويعاقبونهم، وإنما كان ذلك في الربع
الثاني من القرن الرابع، حتى صاروا يكتمون عقيدتهم، ويوصي بها بعضهم بعضًا
ومن يأتي بعدهم، ويبشرونهم بالنبي الأعظم، الذي بشر به موسى وعيسى ابن
مريم عليهما السلام كما ورد في قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه إلى أن ظهر
المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا يزال فيهم موحدون، بل كثير بعد انتشار
الحرية في أوربة إلى هذا اليوم.
(وثالثًا) : إن المحققين من مفسرينا لم يثبت عندهم أن أصحاب الكهف
كانوا من النصارى، فالحافظ ابن كثير قال في تفسيره: وقد ذكر أنهم كانوا على
دين المسيح عيسى بن مريم فالله أعلم، والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية
بالكلية إلخ.
(ورابعًا) إن فرضنا أنهم كانوا على دين المسيح، وأنه ظهر لهم بعد
استيقاظهم وخروج أحدهم من الغار علامة الصليب، فإن هذا لا يكون معارضًا
للقرآن، فكلام الله هو الحق، ومخالفه هو الباطل، لا فرق فيه بين قديم وجديد
فالمتقدمون كانوا يكذبون كالمتأخرين، وقد يكذب غيرهم من بعدهم عليهم وعنهم
وإنما جئت بهذه القضايا الكلية ليقاس غيرها.
٢٩- رسل أصحاب القرية:
إن أكثر المفسرين نقلوا ما أشرتم من تفسير أصحاب القرية وأنها أنطاكية وأن
الرسل الثلاثة الذين جاءوها هم رسل المسيح، ومنبع هذه الروايات كعب الأحبار
ووهب بن منبه اللذان بَثَّا في المسلمين أكثر الإسرائيليات الخرافية، وابن عباس
رضي الله عنه قد روى عن كعب. وقد فَنَّدَ الحافظ ابن كثير هذه الروايات من ثلاثة
وجوه (أحدها) أن ظاهر القصة أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل لا رسل
المسيح إلخ. (ثانيهما) أن أهل أنطاكية التي أرسل إليها المسيح رسله قد آمنوا،
بل كانت أول مدينة آمنت بالمسيح، ولهذا كانت مركز بطركية إلخ (ثالثها) أن الله
تعالى قد أخبر أن أهل هذه القرية قد أهلكهم الله تعالى بصيحة واحدة فإذا هم
خامدون، وقد ثبت أن الله تعالى لم يهلك بعد نزول التوراة أمة من الأمم بعذاب
الاستئصال إلخ، فراجع القصة في المجلد السابع من هذا التفسير (طبعة المنار)
ولا تنس أن بولس كان عدوًّا للمسيح، وإنما أظهر الإيمان لمن يسمونهم الرسل بعد
رفعه، وبرنابا هو الذي قدمه لهم.
٣٠ - حكم الذين يؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم
وبقصة الصلب:
إن من ذكر السائل من أصدقائه الذين يؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
ورسالته، وبأن المسيح رسول أيضًا لا إله، وهم مع ذلك يصدقون قصة الصلب لا
بد أن يكونوا يفهمون أن قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} (النساء: ١٥٧)
لا يدل على نفي هذه القصة من أصلها، بل يتأولون نفي الصلب بنفي قتله وموته
به كما يدعي النصارى لإثبات عقيدة الفداء الوثنية، فعلى هذا يجوز عندهم أن
يكون الصلب الصوري وهو التعليق على الخشبة قد حصل، ولكن لم يكن مفضيًا
إلى موته عليه السلام، بل أنجاه الله ورفعه إليه، وإنني رأيت بعض المسلمين
يعتقد هذا لظنهم أن قصة الصلب متواترة تواترًا حقيقيًّا فهي قطعية يجب تأويل
ظاهر الآية للجمع بين القطعيين كما إذا قيل فلان شنق وقتل شنقًا؛ لأنه ثبت قطعًا
تعليقه بحبل المشنقة، وكان سقط مع الحبل أو أفلت منه فنجا ولم يقتل كما يقع
كثيرًا، ففي مثل هذه الحالة يكون صادقًا من يقول: إنه لم يقتل ولم يشنق، وما
قتلوه أو ما شنقوه بل أنجاه الله، وقبول هذا التأويل أهون من تكفير من يتأول
ظاهر الآية عن اعتقاد، والمَخْرَج من هذا الوهم أن يعلموا أن قصة صلب المسيح
غير قطعية وغير متواترة، وأن المسيحيين اختلفوا فيها من العصر الأول. وقد
بيَّنا هذا بالدلائل الواضحة في تفسير الآية، وجمعنا ذلك في رسالة طبعت على
حدتها باسم (عقيدة الصلب والفداء) ونشرنا معها بحثًا في تأييد قولنا للدكتور محمد
توفيق صدقي رحمه الله تعالى.
٣١- مسيح اليهود المُنْتَظَر والمسيح الحق:
مسألة مسمى التوراة عند الفريقين مسألة طويلة معقدة، وأما مسألة المسيح
فاليهود يعتقدون أن مسيحهم المنتظر ملك مؤيد من الله تعالى يعيد لهم ما سُلِبَ منهم من
ملك سليمان لا نبي مرسل، والنصارى يعتقدون ما علمت، والبشارات في كتبهم
إشارات ورموز يحملها النصارى على الملك الروحي، واليهود على الملك السياسي
والمالي! !
وقد فصلنا المسألتين في تفسير المنار فراجعهما فيه مع حقيقة التوراة.
٣٢- عداوة اليهود ومودة النصارى للمسلمين:
قد بينت في تفسير آية المائدة في هذا الموضوع أنها نزلت في يهود الحجاز
ونصارى الحبشة وموضوعها العداوة والمودة لا العقيدة، فراجعه. وأما قولكم: إن
مضمون الآية في الفريقين متوارث بين المسلمين إلى اليوم فهو خلاف الواقع؛ لأن
اليهود بعد الفتوحات الإسلامية لم يعادوا المسلمين كما عادوهم في عهد النبي صلى
الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يذوقوا طعم الحرية ولم ينجوا من اضطهاد النصارى لهم
إلا في ظل الحكومات الإسلامية في فلسطين وسورية ثم في الأندلس ثم في الترك،
وإنما يعادوننا اليوم في فلسطين؛ لأنهم يريدون سلبها منا، وأما النصارى فقد أسسوا
عداوة الإسلام بالحروب الصليبية ويغذيها الاستعمار الأوربي والتعليم الكنسي
الإفرنجي إلى اليوم، وإذا لم توجد هذه الأسباب يكون النصارى بطبيعة دينهم أقرب
إلى المودة مع المسلمين؛ لأن اليهود أصحاب أثرة وعصبية نسبية موسوية، وقد
بينت هذا في تفسير الآية أيضًا.
٣٣- التوحيد أصل دين النصرانية:
ذكرت في جواب السؤال الأول آنفًا وهو فتوى (٢٧) أن التوحيد هو أصل
النصرانية وقديم فيها، وقد فصلت هذا في التفسير أيضًا فراجعه في مواضعه،
وبعد ظهور الإسلام أسلم أكثر نصارى جزيرة العرب وسورية ومصر وإفريقية إلخ،
ومنهم طائفة أثبتت رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم للعرب وحدهم وتسمى
العيسوية.
٣٤- عاقبة التناحر بين المسلمين ونصارى الإفرنج:
لا شك عندي في أن ما ذكره السائل من التمادي بيننا وبين الإفرنج الذين
اتخذوا النصرانية آلة لمقاومة الإسلام والقضاء عليه لمصلحتهم الاستعمارية ستكون
عاقبته للمسلمين بشرطها الذي بينه الله لنا في كتابه وقد فصلت هذا مرارًا
كثيرة في التفسير، وفي المنار وفي تاريخ الأستاذ الإمام، فإنه كان يعتقد هو
وأستاذه حكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني قدس الله أرواحهما أن جميع
شعوب الإفرنج سيدخلون في الإسلام وينهضون به، وقد أقمت الحجج على هذا
وبنيت عليه دعوتهم إلى الإسلام في كتابي (الوحي المحمدي) وهو الكتاب الذي
يترجم الآن في بضع لغات، وقد نفدت نسخ طبعته الأولى في أربعة أشهر ويعاد
طبعه مرة ثانية في هذه الأيام.