للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المطبوعات المنكرة في الدين
ومشيخة الأزهر

كثرت في هذا القرن المطبوعات المشتملة على ما يخالف أصول الدين
ويصد عن هدايته مما يكتبه الزنادقة والملاحدة بسوء نية، ومما يكتبه الجاهلون
المغرورون بمعارفهم الناقصة، كما كثرت في ذلك ما يكتبه الفريقان في المجلات
والجرائد اليومية، ومنه ما هو مخالف لأصول الدين وفروعه في قوالب مدح له
ودفاع عنه.
وكان مشايخ الأزهر في غفلة معرضين عن ذلك كله لا ينكرون منكرًا ولا
يؤيدون معروفًا إلا قليلاً منهم في قليل مما يسألون عنه، حتى ظهرت في هذه
السنين الثلاث مشيخة الظواهري فكانت بدعًا من كل ما سبقها في أمور كثيرة منتقدة
منها طلب مصادرة بعض المطبوعات بحق وبغير حق، ومصادرة كتب تقر ما هو
شر منها وأضر وأشد مخالفة للإسلام وجناية عليه، وقد أنكر عليها الكتاب من
الأزهريين وغيرهم بعض ذلك كطلبها من الحكومة منع نشر كتاب (تاريخ بغداد)
الشهير للإمام الحافظ الخطيب لأن فيه طعنًا على الإمام أبي حنيفة في ترجمته أورده
المؤلف بالروايات كما أورد كثيرًا من الثناء عليه.
ثم إنني علمت أخيرًا أن شيخ الأزهر طلب مصادرة كتاب فني في حيوية
الأرض بناء على اشتماله على كفر صار به مؤلفه مرتدًّا عن الإسلام، ونشر هذا
الخبر في جمادى الأولى، ولم أر نص ما قررته مشيخة الأزهر في ذلك، ولا ما
نشرته جريدة الأهرام من خبره، ولكنني علمت مضمونه من مقالة نشرها مؤلف
هذا الكتاب في جريدة الأهرام، فرأيت أن المسألة تحتاج إلى بيان وتفصيل ينبغي
أن يطلع عليه مؤلفه، وكل من قرأ الخبر فأرسلت إلى الأهرام المقالة الآتية في ذلك،
فكان لها تأثير حسن عند علماء الأزهر وغيرهم، وأثنى لي عليها من أعرف
ومن لا أعرف، وإنني أنشرها هنا لئلا تضيع وهذا نصها:
(كتاب حيوية الأرض المُصَادَر، وحقيقة الإسلام)
قرأت اليوم (غرة جمادى الآخرة) ما نشر في الأهرام لمؤلف هذا الكتاب ولم
أطلع على ما نشر (في ٢٧ جمادى الأولى ١٧ سبتمبر) من خبر مصادرة الحكومة
له بطلب مشيخة الأزهر؛ لاشتماله على كفر صريح خلاصته أن الأرض كائن حي
فيه جميع وظائف الأحياء الفنية، وأن له إلهًا مدبرًا في داخله هو كالمخ في تدبير
حياة الإنسان، وأن لكل جرم من الأجرام السماوية - من سدم وشموس وكواكب
وأقمار - إلهًا مستقلاًّ كإله الأرض، وأن كل جماعة من هذه الأجرام تكون وحدة
سديمية لها إله، وأن للسدم كلها إلهًا واحدًا هو إله الكون كله، وهو يقيم الدلائل
الفنية على رأيه هذا كما يقول. بل يستدل عليه ببعض الآيات القرآنية بحسب فهمه
لها.
وذكر في مقاله هذا أنه أرسل إلى فضيلة شيخ الأزهر خطابًا مسجلاً أعلن له فيه
استعداده مع السرور لتبادل الرأي معه بشأن الكتاب قائلا له: (وثقوا أنني لن أهرب
من الحق إذا بدا لي، ولن أصر على الباطل إذا تبينته) .
ثم قال في آخر المقال:
(وبعد فإنني لم آسف على مصادرة الكتاب بقدر ما أسفت على وصفي
بالكفر في الوقت الذي أقول فيه (أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله) ومع
ذلك فإنني أَتَأَسَّى بمصائب غيري. وقد صدق من قال: إن من يرى مصيبة غيره
تهون عليه مصيبته، والمصيبة التي أمامي هي مصيبة الأستاذ فريد وجدي فإنه لا
لسبب سوى إبداء رأيه في المحكم والمتشابه من القرآن يرميه بالكفر والإلحاد
حضرة مصطفى صبري أفندي شيخ الإسلام بتركيا سابقًا. فما عسى يا ترى ما
سيقوله عني) ؟ اهـ.
أقول: إن مسألة مؤلف كتاب حيوية الأرض (وهو الأستاذ محمد أفندي
النويهي المدرس بمدرسة الأمير فاروق الابتدائية في المنيا) يجب النظر فيها من
ثلاث جهات: (١) حكم الدين الإسلامي فيها. (٢) ما يجب على مشيخة
الأزهر فيها وفي أمثالها. (٣) الفرق بينها وبين مسألة الأستاذ محمد فريد أفندي
وجدي التي لم يفهمها؛ إذ ظن أن شيخ الإسلام كفره بسبب إبداء رأيه في المحكم
والمتشابه لا لسبب سواه.
(١) أما حكم الدين في مسألته، فإنما يعرف ببيان حقيقتها وهي: رجل
مسلم يشهد أن لا إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن القرآن كلام الله، عرضت
له شبهة علمية فنية اعتقد بها تعدد الآلهة أو الأرباب في الكون على الوجه الذي
تقدم تلخيصه، ويرى أن اعتقاده هذا لا ينافي إسلامه، ولا يكذب نصًّا من كلام الله
ولا من كلام رسوله، بل هو يتأول بعض آيات القرآن ويراها دالة عليه، فما حكم
الإسلام فيه؟
الجواب: أن القول بتعدد الآلهة والأرباب المدبرة لأمور الأحياء في الكون
نقض للتوحيد الثابت بنصوص الكتاب والسنة القطعية عليها المعلومة من الدين
بالضرورة، وأن الشبهة العلمية الفنية التي عرضت لقائله تنافي كونه جاحدًا معاندًا،
وكونه مكذبًا بالله ولرسوله بالتعمد، فهو متأول فيما هو كفر قطعي، فلا يحكم
عليه بالارتداد عن الإسلام إلا بعد دحض شبهته، وإقامة الحجة عليه بالتوحيد
الخالص، وهذا أمر يسير غير عسير، فإذا رجع عنها - وهو المرجو - كان
إسلامه صحيحًا، وإن أصر عليها - وهو مستبعد - كان مرتدًّا تجري عليه أحكام
المسلمين، وسأبين بطلان شبهته هذه.
(٢) وأما الواجب على مشيخة الأزهر فهو أن تبادر إلى تفنيد أمثال هذه
الشبهات، وإثبات الحق للجاهل المتأول بالبراهين والبينات، فالتأول من موانع
تكفير الشخص المعين، ومجاله في زماننا أوسع؛ لأن ما كان معلومًا بالضرورة
من قبل لم يعد معلومًا فيه، وقد تأكد هذا الواجب على رئيسها الأستاذ الأكبر في
هذه النازلة بعرض الحكومة كتاب (حيوية الأرض) عليه، وزاده تأكيدًا ما كتبه
إليه مؤلفه من استعداده ورغبته في البحث معه فيه، ووعده باتباع الحق إذا تبين له
، وإنما تقوم الحجة عليه بتبين الحق له كما قال الله عز وجل: {وَمَن يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: ١١٥)
وقد علم من مقال الرجل أن شيخ الأزهر لم يبال بكتابه، ولم يطلبه إلى
رحابه، ولا ندري ما عذره في نظر المسلمين وما يكون عذره عند ربه، ولا سيما
إذا كان حكم عليه بالكفر كما يفهم من مقاله، وما أظن أن يتجرأ على هذا التكفير
على إطلاقه، وهو يسكت على ما هو شر منه، على أنه لا يجوز السكوت عنه،
فليت إدارة الأهرام تستخرج لنا قرار المشيخة الرسمي فيه بنصه، فإنها أقدر من
غيرها على هذا الاستخراج كما علم بالتجارب.
(٣) وأما الفرق بين هذه المسألة ومسألة الأستاذ فريد أفندي وجدي فهو بعيد
مما ذكره مؤلف كتاب (حيوية الأرض) ومما فهمه خطأ من المقالات التي نشرتها
جريدة الأهرام في مسألة المحكم والمتشابه من الآيات.
كان أول ما تصدى له شيخ الإسلام مصطفى صبري أفندي من الرد على
محمد فريد وجدي أفندي هو دفاعه عن حكومة الجمهورية التركية إذْ أعلنت رسميا
مروقها من الإسلام واختيارها اللادينية (لا ييك) عليه، وتفضيل القوانين الأوربية
على شريعته، وإجبار شعبها على ترك التعبد وتلاوة القرآن باللغة العربية وترجمته
باللغة التركية وكتابة ترجمته بالحروف اللاتينية إلخ؛ ليقرءوا هذه الترجمة دون
القرآن العربي المنزل من السماء كسائر أذكار الصلاة إلخ، ففريد أفندي وجدي عَدَّ
هذا من التجديد العصري الذي اقتضاه ارتقاء الشعب التركي فأصبح لا يليق به
التشريع الإسلامي العتيق البالي، وشيخ الإسلام يعتقد كغيره أن هذا في جملته كفر
وارتداد عن الإسلام ممن فعله وممن يقره ويستحسنه.
وتلا ذلك مباحث نشرها فريد أفندي وجدي في جريدة الجهاد عنوانها (الإسلام
دين عام خالد) ثم جمعت في كتاب مستقل، وفيها مع مدح الإسلام ما هو مخالف
لعقائده المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، وكل ما كان كذلك فهو مروق
من الإسلام الذي درسه شيخ الإسلام في مدارس الآستانة من تفسير وحديث وتوحيد
وفقه وهو عين ما يُدَرَّس في الأزهر، وفي سائر بلاد الإسلام، وقد رد على بعضه،
وهو أولى من كتاب حيوية الأوض بالمصادرة؛ لأن ما فيه من مخالفة عقائد
الإسلام قد يخفى على الجمهور، وما في كتاب حيوية الأرض من مخالفة أصل
التوحيد فهو لا يخفى على أحد من المسلمين.
وتلا هذا مقال نشره فريد أفندي في جريدة الجهاد وغيرها عنوانه (الإسلام
يدعو إلى الأخوة العالمية العامة، وإلى توحيد الأديان، وتحكيم العقل والعلم في
العقائد) وفي آرائه في ذلك ما ينافي الإسلام المعروف في كتاب الله وسنة رسوله،
وما أجمع عليه المسلمون من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، وفريد
أفندي وجدي قد صرح وما زال يصرح أن الإسلام الذي جرى عليه المسلمون
ينقضه العقل وعلم هذا العصر، وأنه لا يمكن قبوله في هذا الزمان إلا بما يفسره
هو به، ثم صرح بأنه كشف شيئًا جديدًا في القرآن يمكنه الاستناد عليه في أساس
رأيه، وهو تحكيم العقل والعلم في العقائد الإسلامية بلا قيد ولا شرط، وهو الآيات
المتشابهات.
ومما بناه على هذا الأساس أن الآيات (المعجزات) التي أيد الله تعالى بها
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعذاب النار الموصوف في القرآن، كل ذلك
مخالف للعقل والعلم فلا يمكن الإيمان به (أي على ظاهره) وإن ما فهم هو به
المتشابهات والمحكمات يبيح لنا عدم الإيمان بذلك كله، كما تدل عليه آياته فهو من
المتشابهات إلخ، والمتشابه لا يمس العقائد القطعية، بل أنكر عليه عدة دعاوى
مخالفة لأصول الإسلام وعقائده هو يدعو إليها ويناضل عنها، مع علمه بأنه متبع
فيها لغير سبيل المؤمنين، فهذا هو الفرق بينه وبين مؤلف كتاب (حيوية الأرض)
الذي خالف عقيدة واحدة بشبهة فنية هو غير جازم بها، ويصرح بأنه مستعد
للرجوع عنها إذا تبين له خطؤه فيها، وسأنشر مقالاً في تحقيق الحق في المتشابهات
يتبين به خطأ الإمام الرازي فيما نقل عنه فريد أفندي وجدي ولم يفهمه، لا رأيه
وحده [١] .
ثم أقول لصاحب هذا الكتاب أن شبهته هذه نظرية فنية هي لم تبلغ أن تكون
من ناحية الفن نفسه عقيدة قطعية لا يمكن نقضها، وبناء على هذا يصرح بأنه
مستعد للمناقشة فيها من ناحية الدين، كما أنه مستعد لذلك من ناحية الفن بالأولى،
فهم ظنية راجحة عنده يقابلها من قطعيات الدين ومن ظواهره الراجحة ما يبطلها
لهذا يجب عليه ترك ما استنتجه منها، وهو كون المركز الحيوي المُدَبِّر للأرض
هو إلهها أو إله أهلها، وحينئذ لا يضره في دينه اعتقاد أصل نظريته هذه. وإنني
أذكر له في هذا المقال المختصر عدة مسائل، أرجو أن تكون كافية لإقناعه بحقيقة
توحيد الإسلام.
(المسألة الأولى) إذا ثبت أن للأرض مركزًا لتدبير كل ما فيها من نظام أو
حياة فهذا لا يقتضي أن يكون هذا المركز أو ما فيه من مصدر التدبير إلهًا يعبد؛ إذ
لا يمكن أن يكون هو الرب الخالق العليم القدير الفعال لما يريد الذي يُدْعَى لكشف
الضر عمن يشاء وهبة النفع لمن يشاء كما أن دماغ الإنسان الذي هو مصدر النظام
الحيوي في شعوره ومداركه ليس ربًّا لجسده يستحق العبادة ويُدْعَى لجلب النفع
وكشف الضر، وإنما رب الناس ملك الناس إله الناس هو الله الذي أثبت المؤلف
أنه رب الكون كله، وهذا هو اعتقاد الإسلام.
(المسألة الثانية) أنه قد ورد في نصوص الكتاب العزيز والأحاديث النبوية
أن الله تعالى قد وكل بالعالم ملائكة من عنده لتدبير أموره من السماء إلى الأرض
وقد اتفق مفسرو السلف على تفسير قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} (النازعات:٥)
بهذا النوع من الملائكة، وفي الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم ذكر أنواع منها كالملك الذي ينفخ الروح في الجنين عندما يتم تكوينه في
الرحم، والملائكة الذين يتعاقبون على الإنسان في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ
عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ} (الانفطار: ١٠- ١١) وفيها ذكر الملائكة
الذين ينزلون في السحاب، وملك الجبال، وملك الموت وملائكته وحملة عرش
الرحمن الذي هو مركز التدبير العام للعالم كله كما بيَّناه في تفسير قوله تعالى:
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} (يونس: ٣) .
فإذا صح بالأدلة الفنية أن للأرض حياة، وأن لهذه الحياة مركزًا عامًّا فالأقرب
إلى الشرع حمل هذا على ملك من هؤلاء الملائكة المدبرات لأمور العالم، ويخالف
أصول الشرع وعقائده تسمية ذلك إلهًا، والدعوة إلى عبادته، فإذا كان مؤلف هذا
الكتاب مؤمنًا بأن القرآن كلام الله تعالى، وأن محمدًا رسول الله، وليس لنا أن نشك
في إيمانه - فيجب عليه أن يتوب من هذه النزغة كما وعد شيخ الأزهر في الخطاب
الذي أرسله إليه بأنه يرجع إلى الحق إذا تبين له، وإنه لفاعل إن شاء الله تعالى.
(المسألة الثالثة) أن الأستاذ المؤلف لا بد أن يكون مطلعًا على ما سبق إليه
فلاسفة اليونان والرومان وغيرهم من الشعوب القديمة الذين كانوا يقولون: إن لكل
شيء عام ذي نظام روحًا هو المتصرف فيه وقد يسمونه ربًّا أو إلهًا، حتى الأمور
النفسية والاجتماعية، فيقولون: إله الحب، وإله الحرب، وإله البحر إلخ، وما
قالوا هذا القول إلا استنادًا إلى شبهة فنية كشبهته، أو تحريفًا لنص ديني مأثور عن
بعض الرسل الذين كانوا قبلهم بلغوا أقوامهم أن لله تعالى ملائكة سخرهم لإدارة
العالم، وقد علم أن الإسلام أبطل كل أنواع الوثنية القديمة والحديثة، وجدد عقائد
الأنبياء المرسلين الذين درست بعضهم أديانهم وحُرِّفَ بعض، فلا ينبغي لمسلم أن
يشتبه عليه شيء منها.
(المسألة الرابعة) أن ما استدل به على شبهته من تأويل الآيات في مُحَاجَّة
إبراهيم عليه السلام لقومه الذين كانوا يعبدون الكواكب من سورة الأنعام تأويل بعيد
عن أصول الإسلام وعقائده، وغير مُجْدٍ في إثبات مذهبه المبتدع، وليراجع معناها
في تفسير المنار.
(المسألة الخامسة) أن قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب
الناس على قدر عقولهم قد اشتهر على الألسنة أنه حديث مرفوع إلى النبي صلى الله
عليه وسلم لفظه (أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم) وهو لا يصح مرفوعًا،
بل طرقه كلها ضعيفة، ولكن روى البخاري من كلام علي كرَّم الله وجهه أنه قال:
(حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟) وذكر مسلم في
مقدمة صحيحه أن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه قال: (ما أنت بمحدث قومًا
حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) ، ومراد الصحابيين الجليلين رضي
الله عنهما مراعاة عقول الناس وأفهامهم في تعليمهم ووعظهم وهو ما اتفق عليه
علماء فن التربية والتعليم في مراعاة درجات طلاب العلم وأسنانهم، وليس معناه
هنا وهناك أن يعلموهم خلاف الحق أو أن يكتموا الحق عن كل أحد، ولا أنه يوجد
في كلام الله وكلام رسوله شيء غير صحيح.
ومن يريد أن يكتب في أصول الإسلام والجمع بينه وبين المسائل العلمية
والفنية فعليه قبل كل شيء أن يكون على بينة تامة من كل منهما وما يصح منهما
وما لا يصح، والأستاذ فريد أفندي وجدي يتدهور أحيانًا في مباحثه لعدم وقوفه على
ما يصح وما لا يصح من الأحاديث أو من معانيها ومعاني الآيات كعَدِّه من أصول
الإسلام في مباحثه الأخيرة حديث (الدين هو العقل فمن لا عقل له لا دين له)
وحديث (الدين المعاملة) ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا ولا ذاك،
ولا يصح أيضًا ما فسرهما به.
هذا ما أراه كافيًا لبيان الحق في شبهة الأستاذ مؤلف كتاب (حيوية الأرض)
دفعني إليه ما آنسته في كلامه من الإخلاص والرغبة في تمحيص الحقيقة، فإذا رآه
كافيًا فليحمد الله تعالى ويدعو لي بخير، وإن بقيت الشبهة متمكنة منه فالذي أراه أن
يقابلني لنتحدث فيها، فإن اللسان أقدر على البيان من القلم، والسلام. اهـ.
(المنار) لما نشرت هذه المقالة في الأهرام كتب الأستاذ محمد فريد أفندي
وجدي ردًّا عليها نشرته له الأهرام ننشره ونرد عليه لتمحيص الحقيقة، وما نحن
عليه من حسن النية، على ما فيه من مدحه لنفسه وكتابه بما لا نصدقه كله. هذا
نصه:
دفع تهم ورد عدوان
من فريد إلى رشيد
قرأت في (الأهرام) كلامًا عني للأستاذ رشيد رضا وقرأت في الصدد نفسه
حكمة للجاحظ وهي قوله: (الصدق والوفاء توأمان، والصبر والحلم توأمان،
فيهن تمام كل دين، وصلاح كل فساد، وأضدادهن سبب كل فرقة، وأصل كل
فساد) فعجبت من هذا الاتفاق، ورجوت الله أن يجعلنا من أهل الصدق والوفاء
والصبر والحلم.
عهدت الشيخ رشيد رضا مناظرًا عنيفًا، ولكني ما كنت أعهده كما أراه أخيرًا
مُتَقَوِّلاً متجنيًا يضع قلمه حيث أراد لا يبالي أين وقع، ولا يكترث أخطأ أم أصاب؟
هاجمني الشيخ رشيد، وأنا آمَنُ ما أكون منه آخِذًا عليَّ أمورًا:
(أولها) ما كتبته في المحكم والمتشابه نقلاً عن ثقات المفسرين فحكم
بخطئي وخطأ إمامهم فخر الدين الرازي.
(ثانيها) ادعى عليَّ أني أؤيد ما رضيه الأتراك من مبدأ اللادينية، ومن
إيثارهم القوانين الأوربية على شريعة الإسلام، ونقل عني أني قلت: إن كل هذا
اقتضاه رقي الشعب التركي الذي أصبح لا يناسبه التشريع الإسلامي العتيق البالي
(اللهم عفوًا) .
(ثالثها) أني كتبت فصولاً في جريدة الجهاد تحت عنوان الإسلام دين عام
خالد وفيها مع مدح الإسلام ما هو مخالف لعقائده.
(رابعها) أني نشرت بالجهاد تحت عنوان الإسلام يدعو إلى الأخوة العالمية
العامة، وإلى توحيد الأديان، وتحكيم العقل والعلم في العقائد، وأن في آرائنا في
ذلك ما ينافي الإسلام.
(خامسها) أني صرحت بأن الإسلام الذي جرى عليه المسلمون ينقضه
العقل وعلم هذا العصر، وأنه لا يمكن قبوله في هذا الزمان إلا بما أفسره أنا به
(أعوذ بالله)
(سادسها) أني أنكرت معجزات الأنبياء وعذاب النار.
(سابعها) أني استندت في إشادتي بالعقل على حديث لا يصح عن النبي
صلى الله عليه وسلم.
هذه جملة التهم التي رماني بها:
فأما عن الأمر الأول، فإني منتظر أن أقرأ فيما وعد بنشره خطئي وخطأ إمام
المفسرين.
وأما عن الأمر الثاني فإني قد كتبت في مجلة الفتح، وهي الصحيفة التي
رضيها مناظري مجالاً لمساجلتي، قولي وهو:
(أما ما ذكره الأستاذ (أريد مناظري ذلك) من أن الحكومة التركية تمنع
الأذان والصلاة بالعربية، وتعاقب من يؤديهما بها، فالجواب عليه هو ما ذكرته
مرارًا (أريد في الأهرام والفتح) وهو أن الأتراك في حالة ثورة لم تنته بعد،
والثورة تدفع إلى كثير من (الإفراطات) وضربْتُ مثلا بالأمة الفرنسية التي تجرأت
على حذف الدين أصلاً من مجتمعها في إبان ثورتها ثم أعادته بعد أن هدأت
أعصابها وثاب إليها اتزانها) .
فهل فهمت من هذا أنني أقررت الأتراك على ما صنعوا، وقد وصفته بأنه
نتيجة ثورة، والثورة فيها إفراط وتفريط وغلو، وشبهت عملهم بعمل فرنسا إبان
ثورتها؟
فأنا اليوم أطلب إليه أن يأتيني بالأدلة على ما عزاه إليَّ من نص كلامي،
لأنها تُهَمٌ تضر بمثلي ضررًا لا حدَّ له، وتحط من كرامتي إلى مدًى بعيد، وها أنا
أفصل له طلباتي مستشهدًا جميع قراء (الأهرام) عليها فإليه:
أ: من أي كلام لي أخذ عليَّ أني أستحسن مبدأ اللادينية؟
ب: ومن أي قول لي أخذ تفضيلي للقوانين الأوربية على شريعة الإسلام،
وقد قلت في جميع كتبي بأن شريعة الإسلام أكمل الشرائع، وأن أوربا لما تصل
إلى مثلها، وأنها شريعة خالدة تصلح لكل زمان ومكان، وأن العالم كله سيعول
عليها في المستقبل؟
ج: ومن أيَّةِ كتابة لي استمد اتهامي بما ذكره عني من أني قلت: إن الشعب
التركي أصبح لا يناسبه التشريع الإسلامي العتيق البالي (أستغفر الله) أنا الذي
أعلنت على رءوس الأشهاد أن العالم المتمدن كله سيؤوب إليها، ودللت على ذلك
في بحوث مستفيضة؟
وأما عن الأمر الثالث، وهو أني كتبت مقالات تحت عنوان (الإسلام دين
عام خالد) فيها ما هو مخالف لعقائده، فإني أرجوه أن يبين لي تلك المخالفات واحدة
واحدة، وإني لسائله في هذه المناسبة سؤالات أرجوه الجواب عليها.
أ - إن هذه المقالات نشرت في جريدة يومية منذ سنتين فما الذي حمله على
السكوت عليها إلى هذا اليوم؟ أما خشي أن يفتتن الناس بها، وقد رأى عشرات
منهم يحبذونني بسببها كتابة على صفحات تلك الجريدة، ويثنون عليَّ من أجلها
نثرًا وشعرًا، وأخذ جماهير منهم يتحدثون بحسن وقعها في مجالسهم وأنديتهم؟ فأي
مانع منعه طوال تلك الفترة من التنبيه على أخطائها، فأخفى ما في نفسه حتى
جمعت تلك المقالات إلى كتاب تخاطف الناس منه بضعة آلاف وجال جولته في
الآفاق، وقرَّظته الصحافة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وشرع في
ترجمته الهنود إلى لغتهم وبعض الجماعات الإسلامية في أوربا إلى الفرنسية
والإنجليزية والجاوية وغيرها، فهلا دفعه الواجب الديني إلى تدارك ذلك الخطر
قبل استفحاله وتلافيه قبل استشرائه؟ إنه لم يفعل شيئًا من ذلك، ولكنه اليوم بعد أن
لم يبق بلد إسلامي في الأرض لم يتناول هذا الكتاب بالإعجاب هب يعلن على
رءوس الأشهاد أن فيه أمورًا مخالفة لعقائد الإسلام، فهلا كانت تلك الغيرة الوثابة
منه والخطب سهل، وتدارك الخطأ فيه ميسور إن كان هناك خطأ؟
هذا الذي حيَّرني من أمر الشيخ وحيَّر جميع الذين قرأوا ما كتبه عنه بالأمس؟
ب: لقد وضع الشيخ كتابًا بعد كتابي بنحو سنتين أسماه (الوحي المحمدي)
فلماذا لم ينبه فيه على أخطائي فيما تصدى له فيه من أمثال مباحثي كما جرت به
عادة المؤلفين، وثار في الأيام الأخيرة يُعْلِم الناس بأني قد شططت فيما كتبت،
ويجرؤ على أن يتقول عليَّ ما لم أقل؟
وأما الأمر الرابع، وهو قول الشيخ رشيد بأني قد نشرت بالجرائد مقالاً تحت
عنوان (الإسلام يدعو إلى الأخوة العالمية وتوحيد الأديان إلخ) وفيه ما يخالف
الإسلام الحق، وقد مرت على نشر ذلك المقال شهور، فلماذا لم ينبه الناس إلى تلك
المخالفات من نص أقوالي، وكان هذا واجبًا عليه للمسلمين جميعًا وهو خبير بما
يجر إليه إهماله؟
وأما الأمر الخامس وهو أني قد صرحت بأن الإسلام الذي جرى عليه
المسلمون ينقضه العقل، وأنه لا يقبل إلا بما أفسره أنا به، فهو من أغرب ما يوجه
إليَّ من التهم، فإني قد صرحت في كتاباتي كلها بأن الإسلام حاصل على جميع
المقومات الأدبية التي تجعله دين الكافة في كل زمان ومكان، وبأنه في غير حاجة
لإصلاح جديد، وأن أسلافنا قد قاموا منه على طريقة فنحن ندعو إليها ونشيد
بذكرها، فأنا أطالب الشيخ رشيدًا بأن ينقل من كلامي ما يثبت هذه التهمة ليطلع
عليه القارئون.
وأما عن الأمر السادس وهو أني أنكرت معجزات الأنبياء وعذاب النار، فأنا
أكلفه بأن يثبت ذلك من نَصّ أقوالي، وقد كتبت للأهرام مقالاً قبل نشرها لمقالة
الشيخ بينت فيه مذهبي في ذلك، وقد نشرته الأهرام اليوم، فأنا أسمح له بأن يغفله
من حسابه، وأريده على أن يأتيني بما اتهمني به من أقوالي التي نشرت قبله.
وأما عن الأمر السابع وهو أني قد استندت في إشادتي بالعقل على حديث لا
يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأجيب بأني قد نقلته من المؤلفات المتداولة
في أيدي المسلمين، فهب أنه لم يصح أليس يؤيد الكتاب معناه؟
فما هو ذلك الحديث الذي شن عليَّ الشيخ رشيد غارة شعواء من أجله؟ هو
(الدين هو العقل ولا دين لمن لا عقل له) ألم يقل الله تعالى في الكتاب عن الكافرين:
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} (الملك: ١٠-١١) وهو أنهم ما كانوا يسمعون ولا يعقلون {فَسُحْقاً لأَصْحَابِ
السَّعِيرِ} (الملك: ١١) وقال تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (يونس: ١٠٠) وكرَّر سبحانه في الكتاب قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (البقرة:
٤٤) مرات كثيرة؟ ؟ أليس معنى هذا كله أن الدين هو العقل وأن لا دين لمن لا
عقل له؟
وكيف يكون على دين قيم من ليس له عقل يفرق به بين الحق والباطل،
وبين الرشد والغي؟
ألم يقل أئمتنا: إنه لا بأس من رواية الأحاديث وإن كانت ضعيفة إن وافقت
ما نص عليه الكتاب من كل وجه؟
وبعد، فإن الناس اليوم يتساءلون ما الذي يدفع الشيخَ رشيدًا منذ اجتمعت
القوى وتراصت الصفوف لحماية الدين ودفع الشبهات عنه لأن يندس في الجماعة
يفرق وحدتها، ويجوس خلال الصفوف يخل تلاؤمها، يطعن في هذا ويُشَنِّع على
ذاك، ويملأ الصحف كتابات في خلافات لفظية يحول بها طوائف من المسلمين إلى
ناحيته لدرء عاديته، وكف ثائرته؟
لو كانت ثائرته هذه في حق صُرَاح لوجب عليه في هذه الظروف تهدئتها،
فكيف وهي في باطل محض لا مبرر له؟
فهل هو يرى أن هذا الظرف أحسن الظروف لحملته الشعواء على إخوانه
المسلمين، وللإعلان بأنه هو وحده حامي حمى الدين، وملاذ اللائذين؟
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد فريد وجدي
(المنار)
لما قرأت هذا الرد وما فيه من الدعاوى والتلبيس بادرت على الرد عليه
بمقالتين أرسلتهما إلى الأهرام، وهذا نص الأولى.
***
آراء فريد وجدي في الإسلام
(كلمة تمهيد عجلى)
في ضحوة هذا اليوم (١٣ جمادى الآخرة ٣ أكتوبر) قرأت في عدد الأهرام
الذي صدر فيه مقالة عنوانها (دفع تهم ورد عدوان. من فريد إلى رشيد) وإمضاء
(محمد فريد وجدي) بسط فيها ما عرضت لذكره في مقالي عن (كتاب حيوية
الأرض) من تلخيص ردود الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام في آخر عهد
الدولة العثمانية على ما أنكره عليه لمناسبة اقتضت ذلك ولم تكن اتهامًا مستأنفًا مني،
بل حكاية وجيزة لاتهام غيري.
بسط فريد أفندي التهم المحكية عن شيخ الإسلام في سبع فأنكر بعضها،
وأجاب عن بعضها، وسألني سؤالين:
(أ) السبب الذي حملني على السكوت عن مقالاته التي نشرها في بعض
الجرائد اليومية (يعني الجهاد) حتى إذا جمعت في كتاب وصف تخاطف الناس
الألوف منه وشروع الهنود إلى ترجمته بلغتهم إلخ، هببت أعلن على رءوس
الأشهاد أن فيه أمورًا مخالفة لعقائد الإسلام. قال (فهلا كانت هذه الغيرة الوثابة
منه والخطب سهل، وتدارك الخطأ ميسور إن كان هناك خطأ؟ هذا الذي حيَّرني
من أمر الشيخ وحيَّر جميع الذين قرأوا ما كتبه بالأمس) !
(ب) لقد وضع الشيخ كتابًا بعد كتابي بنحو سنتين أسماه الوحي المحمدي
فلماذا لم ينبه فيه على أخطائي فيما تصدى له من أمثال مباحثي كما جرت به عادة
المؤلفين وثار في هذه الأيام) إلخ.
كلمتي اليوم في الجواب عن هذين السؤالين؛ لأن الباعث عليهما اتهامي
بسوء النية واتباع الهوى فيما كتبت، فأنا أنشر ما أبرئ به نفسي من هذه التهمة
لأن رأس مالي وأساس عملي هو الإخلاص لله وحده فيه فأقول:
(١) إنني كنت أتصفح بعض مقالات (الإسلام دين عام خالد) في جريدة
الجهاد؛ إذ كانت تلقى إليَّ في أول النهار وأنا منهمك في عملي من تفسير القرآن
والفتاوى للمنار وغيرها، ثم صدرت في كتاب مستقل في أثناء سنة ١٣٥١ وأما
كتابي (الوحي المحمدي) فقد شرعت في نشر مباحثه في المنار في شهر المحرم
من هذه السنة ١٣٥١ وهي ملخصة مما نشر قبل هذه في تفسير المنار، فأنا لم
أكتب هذه المباحث بعد نشر كتابه (كما زعم) فيقال لماذا لم أضمنها الرد عليه
على فرض أنني أستحسن ذلك؟ وإنني لم أعلم شيئًا مما ذكره من الإعلان لكتابه
هذا فيكون حسدي له هو الباعث على الكلمة التي لخصتها من ردود شيخ الإسلام
عليه.
(٢) إنه لما أصدر الكتاب ووصل إليَّ نسخة منه فصارت المقالات
مجموعة عندي يمكن الرجوع إليها بادرت إلى تقريظه في جزء المنار الذي صدر
في شهر ذي الحجة من السنة نفسها ١٣٥١ ثم فيما بعد هذا الجزء وأثنيت على ما
فيه من محاسن وانتقدت ما فيه من شذوذ ومساوئ بالإجمال، ووعدت بتفصيل النقد
والرد بعد أن يتيسر لي مطالعة الكتاب كله، وأشرت في الرد المجمل إلى مبلغ علم
فريد وجدي أفندي بالإسلام، وما سبق له قبله من الشذوذ ومخالفة ما أجمع عليه
المسلمون.
فلا وجه لما زعمه من تحيره وتحير جميع الذين قرأوا ما كتبته عنه بالأمس
ولا أدري من أين علم بتحيرهم جميعهم، بل أدري أنه يقول بغير علم، وكل من
يرى منه هذه الدعوى يوافقني على هذا؛ لأنه ضروري.
(٣) إنني ذكرت في أول تقريظي ونقدي للكتاب ما كان بيني وبين فريد
وجدي أفندي من تعارف وتآلف منذ السنة الأولى لهجرتي إلى مصر (١٣١٥هـ -
١٨٩٨م) ثم ما كان من تخالف ونقد، ثم قلت: (ونحن قد أمسكنا عن الرد على
ما نراه أحيانًا في كتبه وفيما ينشره في الجرائد؛ لئلا يتخذ انتقادنا وسيلة للجدل
المذموم أو لما هو شر منه) .
وأزيد على هذا أنني أكره نشر الجدل الديني في العقائد في الجرائد اليومية لما
يحدثه من الاضطراب والشكوك في إيمان ضعفاء العلم والإيمان، ولذلك أكتفي غالبًا
في بيان ما أعتقده من بيان الحق وإبطال الباطل على ما أنشره في مجلة المنار،
ولا أنشر شيئًا من ذلك في الجرائد اليومية إلا لضرورة.
(٤) إذا رأيت شيئًا من الباطل في بعض الجرائد ثم رأيت غيري رد عليه
أحمد الله وأشكره أن قام بالواجب الكفائي غيري، ومنه رد الأستاذ التفتازاني على
فريد أفندي وجدي في مسألة ترجمة القرآن والتعبد بها وما فيها من مخالفة الإجماع
لرأي شاذ منقول عن الإمام أبي حنيفة خالفه فيه جميع أصحابه وعلماء مذهبه ونقلوا
عنه الرجوع عنه، ومنه رد شيخ الإسلام مصطفى صبري عليه في هذا الموضوع
وغيره مما هو موضوع كلامنا الآن. على أنني قد بينت الحق في هذه المسائل كلها
في المنار وفي تفسيره من قبل ذلك الجدل الذي أكرهه في الجرائد، فقراء المنار لا
يخشى عليهم أن يضلوا مع الضالين فيها، وليس في استطاعتي أن أنشر في كل
جريدة ردًّا على ما ينشر فيها مخالفًا لدين الحق، وأنا وحيد في تحرير مجلتي
وتصحيحها، وفي تأليف التفسير وغيره من الأعمال العلمية والإدارية وغيرها،
وإنما القادر على القيام بهذه الواجبات شيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية بما عنده
من العلماء والكتاب الموظفين.
(٥) إنني قد أنحيب في تقريظ هذا الكتاب ونقده باللائمة على شيخ الأزهر
وهيئة كبار العلماء فيه ومجلته الدينية التي هي لسان حاله أن يسكتوا على مثل هذا
الإلحاد في الإسلام، ثم قلت في آخر الصفحة ٢٤٠ من مجلد المنار ٣٣ ما نصه:
(٦) وإنني قد كلمت في هذا رئيس تحرير هذه المجلة (أي مجلة نور
الإسلام) إذ لقيته في دار سفارة الدولة الأفغانية - وكان قد نشر في المجلة مقالاً في
الانتقاد على فريد أفندي وجدي. قلت له: إن هذه المقالات في الإسلام تتضمن الرد
على مجلتكم، وإن الثناء عليها من فئة لا تخلو من بعض الأزهريين والسكوت
عليها منكم ومن سائر العلماء يتضمن نقض نقدكم، وترجيح فهمه للإسلام على
فهمكم الذي هو فهم المشيخة الرسمية وأتباعها، فسكت، وكلمت أيضًا من لقيت من
علماء الأزهر في هذا المعنى) .
فعلم من هذا أنني لم أسكت عن الإنكار على مقالات (الإسلام دين عام خالد)
بل سعيت إلى دحض باطلها من أقوى الطرق قبل أن أنتقدها في المنار، وقبل أن
تجمع في كتاب تتخاطفه الأيدي إلخ.
(٧) وأقول الآن: إن كلامي هذا مع الأستاذ العلامة الشيخ محمد الخضر
رئيس تحرير مجلة نور الإسلام لسان مشيخة الأزهر قد كان في العام الماضي.
وأما من تكلمت معهم من العلماء في الموضوع فكانوا أشد مني إنكارًا على تلك
المقالات، وعلمت أن بعضهم كلم أصحاب الشأن في تلك الجريدة وبيَّن لهم أن
الخطأ فيها من وجوه منها ما هو في القرآن نفسه، وعلمت أخيرًا أن أحدهم عرض
على الجريدة أن تنشر له مقالات في الرد على فريد أفندي وجدي في كتابه هذا وفي
تفسيره ودائرة معارفه فلم تقبل منه ذلك.
(٨) إن كتابي (الوحي المحمدي) يتضمن الرد على ما أنكرته في كتابه
(الإسلام دين عام خالد) بطبيعة موضوعه كما تقدم، وأستشهد على هذا بنقل ما يأتي
من آخر صفحة٢٤٠ من مجلد المنار ٣٣ وهذا نصه:
(وأما ما يجب عليَّ من ذلك فكنت معتمدًا فيه على بحثي المستفيض في
حقيقة الوحي المحمدي وحجة القرآن على البشر الذي نشرت أكثره في المنار
وطبعته في كتاب مستقل، وهو يتضمن هدم كل ما في هذه المقالات من الباطل،
ومنه تفسير دين الفطرة. فلما أهدي إليَّ الكتاب أي (الإسلام دين عام خالد) صار
من الواجب عليَّ أن أعجل بهذا النقد له قبل ظهور كتابي (الوحي المحمدي) اهـ.
فعلم بهذه المسائل والشواهد بطلان ما اتهمني به فريد أفندي من أنني سكتُّ
على منكراته عند نشرها وهببت اليوم للرد عليها، وإن الحق الواقع أنني أنكرت
عليها عقب علمي بها في وقته، وأنني لم أذكرها في مقالي الأخير الخاص بمسألة
(كتاب حيوية الأرض) إلا عرضًا لتخطئة صاحب هذا الكتاب في زعمه أن شيخ
الإسلام التركي كفَّر فريد أفندي لرأي رآه في تفسير المتشابهات وأنني لخصت في
هذه التخطئة ما حفظته من ردود شيخ الإسلام عليه من باب الحكاية، فإن ظهر عند
البحث التفصيلي في هذه المسائل أنني أخطأت في شيء مما فهمته من ردوده أو من
كلام فريد نفسه فإنني أستغفر الله منه، وموعدنا في هذا ما بعد هذه الكلمة التمهيدية
العجلى.
وبعد: فإن فريد أفندي قال في آخر مقالته هذه: (إن اليوم الناس يتساءلون
ما الذي يدفع الشيخ رشيد منذ اجتمعت القوى، وتراصت الصفوف لحماية الدين
ودفع الشبهات لأن يندس في الجماعة يفرق وحدتها، ويجوس خلال الصفوف يخل
تلاؤمها، يطعن على هذا ويشنع على ذاك، ويملأ الصحف كتابات في خلافات
لفظية يحول بها طوائف من المسلمين إلى ناحيته؛ لدرء عاديته، وكف ثائرته،
ولو كانت ثائرته هذه في حق صُرَاح لوجب عليه في هذه الظروف تهدئتها، فكيف
وهى في باطل لا مبرر له) اهـ بحروفه.
ما هذه القوى التي كانت متفرقة فاجتمعت، وأين هذه الصفوف التي كانت
متصدعة فتراصت، وأية حماية للدين ودفع للشبهات ظهرت من جهاد هذه
الصفوف، وهجوم قوى هذه الزحوف، حتى وجب ترك الحق الصراح لأجلها؟
إننا والله لم نر من ذلك شيئًا، ولا سمعنا له نبأ، ولكننا عهدنا مثل هذه الجَعْجَعَة
والدهدهة من مثيرها، فهي لا تخيفنا، على أننا ما استحدثنا شيئًا جديدًا كما علم من
مقالنا هذا، ولا خطر في بالنا تحويل طوائف من المسلمين إلينا بذلك! !
قال فريد أفندي وجدي: إنني هاجمته آخذًا عليه سبعة أمور أخذها من مقالي
في كتاب (حيوية الأرض) وطالبني بالأدلة من نص كلامه ليطلع عليه العارفون.
أي وليطلعوا على ما يرد به عليها بالطبع.
ثم إنه يدعي بعد ذلك أن الناس يتساءلون عن الدافع لي إلى كتابة مثل هذا وقد
أبهمه وكبره، وقال: إني ملأت الصحف به (منذ اجتمعت القوى وتراصت
الصفوف لحماية الدين ودفع الشبهات عنه) ووصفه بما نقلته بنصه في آخر مقالي
التمهيدي الأول، ومنه أنه كان يجب عليَّ تهدئة هذه الثائرة في هذه الظروف لو
كانت في حق صُرَاح! !
فما باله إذًا يفتح على نفسه بابًا واسعًا أو أبوابًا لنشر ما ننكره عليه من
مخالفته لأصول الإسلام وفروعه، والظاهر أنه يعني بجمع القوى وتراص
الصفوف مشروعًا جديدًا هو قائد جيشه ورئيس أركان حربه، وإن لم ير أحد جنديًّا
واحدًا منه، ولا هجمة على ملحد ولا مبتدع.
فهذا شيخ من كبار الأزهر يكفر من يؤمن بكذا من ظاهر القرآن ويطعن على
أئمة السنة الأعلام [٢] وهؤلاء القاديانية يدعون جهرًا إلى مسيحية مبتدعة في
الإسلام وبقاء النبوة بعد محمد خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والسلام، وهذا
مؤلف ادعى أن للأرض إلهًا مستقلاًّ يجب على أهلها عبادته وأن لكل كوكب ونجم
مثل ذلك، وللعالم كله إلهًا واحدًا، وفريد أفندي وجدي يقول مثل قوله هذا إلا أنه
يعبر بالأرواح لا بالآلهة، وهذا مقبول ويعبر عن رب العالمين بروح الوجود العام،
وهذا مردود، فإنه يشبهه بالبحر المحيط، ويزعم أن سائر الموجودات سابحة فيه
كالحيتان فمن الذي رد عليهم.
الظاهر لنا أن الإسلام الذي عبأ هذه الصفوف ورصَّها للدفاع عنه هو إسلامه
الذي بيَّنه في كتابه (الإسلام دين عام خالد) بعد أن بينه في دائرة معارفه، وهو
غير الإسلام الذي يعرفه علماء المسلمين في الأزهر وملحقاته من المعاهد الدينية
وفي سائر بلاد الإسلام، وإنما هو إسلام يقرر بأنه لا وجود له في الخارج، وأنه
يستحيل عقلاً أن يوجد إلا بعد أن يرتد جميع مسلمي الأرض عن إسلامهم ويصير
الباقون على عقائده وتقاليده كالذين ألحدوا وارتدوا عنه في كفرهم ومروقهم فبعد ذلك
يقبلون أصول دين القرآن التي هي الإسلام وحدها في رأيه.
فعلى هذا لا يمكن أن يكون جمع القوى ورص الصفوف للدفاع عن دين
المسلمين المعروف أو الموجود؛ لأنه في رأيه باطل يجب زواله والانملاس منه
كما فعل نصفهم إلا أن يكفر الجميع ويتخلصوا من جميع علاقات الإسلام القديم.
وسأنقل عبارته في هذا الموضوع بحروفها [٣] .
وإنما ذكرت هذا لأبين له أن الخلاف بيننا وبينه في حقيقة الإسلام وحقيقة
شريعته، فالمناظرة في بعض الفروع التي أنكرناها عليه بالإجمال وبناؤها على ما
طالبنا هو به من نقل نصوصها وحصر البحث فيها مناظرة عقيمة يطول أمرها
بغير طائل؛ لأنه يستطيع أن يجادلنا فيها عدة أشهر كمجادلة الأحزاب السياسية في
مبادئها ونصر زعمائها، فقد رأينا منهم من كتبوا مقالات في الزعيم المصري
الكبير الشهير هبطوا به فيها إلى أسفل سافلين، ثم كتبوا فيه مقالات أخرى رفعوه
بها إلى أعلى عليين.
فيجب إذًا تحديد المسائل التي ننكرها من آراء فريد أفندي وجدي في أصول
الإسلام وحقيقته، ثم أن نرجع إليها بعض الفروع المبنية عليها، مثال ذلك أنه كتب
مقالات كثيرة في الدفاع عن حكومة الجمهورية التركية فيما فعلته موافقًا لشرطه في
إمكان وجود الإسلام الذي يفقده، وهو مروقها وارتدادها عن الإسلام الذي كان هو
الدين الرسمي للدولة، واستبدالها بالشريعة الإسلامية قوانين أوربة إلخ.
فالذي يحل النزاع بيننا وبينه بل بين المسلمين وبين كل من يدافع عن هذه
الحكومة هو أن يصرح لنا فريد أفندي وجدي بحكم دين الإسلام الحق عليها هل هي
مارقة منه مرتدة عنه أم لا؟ وهل هي مُصِيبة في هذه الردة والكفر بحسب رأيه في
شرط إمكان الرجوع إلي الإسلام الحقيقي الذي يفهمه هو؟ أم هي ضالة عنه مضلة
لمن يتبعها في ردتها؟
ولا يقنعنا في جوابه عن دفاعه عنها أنه قال في بعض جداله للمعترضين عليه:
(إن الحكومة التركية في حالة ثورة كالثورة الفرنسية لا تخلو من إفراط وتفريط)
فهذه المسألة ليست محل نزاع في جملتها، ولا في كل عمل من أعمالها السياسية
والعسكرية والإدارية والاقتصادية، ولا في فرع واحد من فروعها الدينية كترجمة
القرآن وتحريم قراءته بالنص الذي نزل من عند الله، بل النزاع في الأصل الديني
العام، وهو الارتداد عن الإسلام.
وأضرب مثلا آخر للمناظرة أو المجادلة في المسائل الفرعية، وهو ما أجاب
به عن إنكاري عليه الاستدلال على دعاويه في أصول الإسلام بالأحاديث التي تصح
لها رواية في كتب السنة أو ما حكمت عليه هذه الكتب بالضعف والإنكار أو الوضع
أي الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فريد أفندي وجدي يكثر من الاحتجاج بهذه الأحاديث في مسائل تتعلق بأصول
الإسلام، وقد وجد في عبارتي الأخيرة التي أنشأ يرد عليها حديثين منها، أكثر من
ذكرهما في مقالاته الأخيرة وهما جملة (الدين العقل ... ) وجملة (الدين المعاملة) .
فأجاب عن الأول دون الثاني من ثلاثة وجوه: (أحدها) أنه نقله من
المؤلفات المتداولة في أيدي المسلمين. (والثاني) أنه إن لم يصح فإن القرآن يؤيد
معناه (والثالث) أن أئمتنا قالوا: (إنه لا بأس من رواية الأحاديث (كذا) وإن
كانت ضعيفة إن وافقت ما نص عليه الكتاب من كل وجه) .
وهذه الوجوه حجة عليه لا له، وبيانه من وجوه (١) إن الكتب المتداولة
بين أيدي المسلمين فيها الأحاديث الباطلة والموضوعة فلا يجوز لمن يريد الاحتجاج
في أصول الدين ولا فروعه أن ينقل من كل كتاب متداول بين الأيدي أي حديث فيه،
وإنما يجب النقل عن كتب صحاح الأحاديث أو ما دونها من الكتب التي تخرج ما
فيها وتبين درجته، بل أفتى حفاظ السنة وفقهاؤها بأنه لا يجوز هذا للخطيب ونحوه
فضلا عن المستدل. سئل عن هذا شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر فأجاب جوابًا قال
فيه: (وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه
من أهل الحديث أو في خطب ليس مؤلفها كذلك فلا يحل ذلك، ومن فعله عزر
عليه التعزير الشديد) إلخ (راجع ص ٣٢ من الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي) .
(٢) إن آيات الكتاب التي أوردها لا تؤيد معنى الحديث الذي فسره هو به
وهو وجوب تحكيم عقول الناس في نصوص كتاب الله وفي سنة رسوله، فهذا
المعنى من الأصول التي خالف فيها فريد أفندي وجدي جميع أئمة المسلمين كما
سنبينه بالتفصيل.
(٣) إن رواية الأحاديث الضعيفة جائزة، وإن لم تكن موافقة لما نص عليه
الكتاب من كل وجه كما قال، ولذلك رواها الحافظ في المسانيد وكتب السنن،
والفرق كبير بين روايتها بأسانيدها وبين نقلها بدون رواية ولا معرفة للاستدلال بها
على أصول الدين كما يفعل فريد أفندي وجدي كثيرًا.
(٤) إن أصول الدين وعقائده إنما تؤخذ من نصوص القرآن القطعية، ومن
الأحاديث المتواترة التي تفيد القطع، دون الأحاديث الأحادية التي لا تفيد إلا الظن
لقول الله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: ٣٦) وغير ذلك
من الآيات التي بمعناها. وأما الأحاديث الضعيفة فلا يحتج بها على أحكام الطهارة
والنجاسة فضلاً عن عقائد الدين وأصوله. وفريد أفندي يحتج بما دونها على أصول
الإسلام وهي الأحاديث الموضوعة.
فلا بد قبل الشروع في مناظرته في آرائه في الدين من الاتفاق على طرق
الاستدلال في هذه المناظرة كالاتفاق على المسائل الأصلية التي يجب البدء بها؛
لأن غيرها تابع لها، وكل ما ذكرته هنا فهو من باب المثال، لا لجعله موضوع
البحث والجدال.
وإن لديَّ الآن كتابه الجديد في الإسلام ومقالاته التي كتبها بعده. وقد
استحضرت في هذه الأيام دائرة معارفه المملوءة بالأغلاط الدينية والعلمية
والتاريخية كغيرها من كتبه، فأبدأ بتلخيص آرائه المنكرة مما عندي، ثم أراجع
مقالاته التي رد عليها الأستاذ التفتازاني والأستاذ مصطفى صبري في دار الكتب
المصرية عند الحاجة إليها. وكتبه في ١٥ جمادى الآخرة - ٥ أكتوبر.
... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
اقتراح
قبل إرسال هذا إلى الأهرام ألقي إليَّ جزء مجلة الأزهر لهذا الشهر فوجدت فيه
أن الأستاذ فريد أفندي وجدي قد عُيِّنَ مديرًا ورئيس التحرير لهذه المجلة فأقترح عليه
أن تكون المناظرة فيها؛ لأنها أولى من الجرائد اليومية ومن غيرها بذلك.
... رشيد رضا
هذا ما نشرته في جريدة الأهرام وكنت متوقعًا أن يجادل فيه فلم يفعل، ولو
فعل لما أغنت عنه الوظيفة الجديدة من شيء، وإن اغتر بها وتفنج وظهر أنها هي
مراده بتراص الصفوف الذي تهكمنا به، وبعد أن علمت بخبر جعله رئيسًا لمجلة
مشيخة الأزهر فقد كتبت فيه ما يلي للجزء الماضي فحال دون نشره فيه ما هو أهم
منه.
***
رياسة فريد أفندي وجدي لمجلة
مشيخة الأزهر (نور الإسلام)
قد خاب أملي وسعي لجعل هذه المجلة في أعلى درجة تدخل في حدود الإمكان،
بما يليق بشرف الأزهر ومكانته في الإرشاد وبث العلم والإصلاح، ذلك السعي
الذي بدأته بذلك التقرير الذي اقترحه عليَّ الأستاذ المصلح الشيخ محمد مصطفى
المراغي في عهد رياسته لمشيخة الأزهر ومعاهده، وقفت عليه بتقريظي ونصائحي
لها بعد ظهورها في عهد رياسة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري فكانت
أسوأ مظهر لإدارته للأزهر ولعلم الأزهر، إذ أراد أن يجمع بها بين البدع
والخرافات القديمة لإرضاء العوام الذين تربوا كتربيته في جحور المشاهد، وحجور
الموالد، وبين إدخال الأزهر في مأزق التفرنج إرضاء للمتفرنجين من رجال الدولة
وأمثالهم، كما بينته في ردي على بدع المجلة، وعلى ما افترته عليَّ بالتفصيل،
وأجملته في مقدمة كتاب (المنار والأزهر) .
وقد تبعني في ردي على هذه المجلة وعلى المشيخة كثير من علماء الأزهر
وغيرهم فنشروا في الجرائد مقالات كثيرة في مساوئ إدارة الشيخ الظواهري
وسيرته فيها، وفي الرد على المقالات والفتاوى التي يحررها لسان حاله الشيخ
يوسف الدجوي، ولم يوجد أحد من الأزهر ولا من غيرهم يدافع عنهما، فصارت
المجلة محتقرة مبتذلة منبوذة عند جميع الطبقات الراقية من الدينيين والمدنيين، ولم
يحل دون ذلك جعل الأستاذ الشيخ محمد حسين الخضر التونسي رئيسًا لتحريرها
على أدبه واعتداله؛ لأن رياسته كانت اسمية وإرادته ضعيفة، فلم يستطع الامتناع
عن نشر الخرافات وتأييد البدع فيها، وهو يرى أن الدجوي ينطق بلسان رئيسه
ورئيسها، ولم تفدها إدارة عبد العزيز بك محمد من رجال القضاء الأهلي أيضا؛
لأنه ظهر أنه أقرب إلى مذهب الظواهري والدجوي ومشربهما منه إلى إصلاح
الأستاذ الإمام الذي كان ينتمي إليه في حال حياته.
وأخيرًا رأى بعض أصحاب النفوذ العالي في الأزهر أنه لا سبيل إلى جعل
هذه المجلة مقبولة في نظر الطبقات العليا والوسطى من المسلمين، إلا بتولية أمر
إدارتها وتحريرها لرجل من الأفندية العصريين، لا صلة له بالأزهر بسبب، ولم
يأخذ عنه شيئًا من علم ولا أدب، فاختير لذلك الكاتب الاجتماعي محمد فريد أفندي
وجدي فولاه شيخ الأزهر الرياستين للمجلة في مكان عبد العزيز بك محمد والشيخ
محمد خضر براتب كراتبيهما، فكان هذا كإفتاء وقضاء رسميين على تعليم الأزهر
وكفاءته وكفايته بأنه لا يوجد في خِرِّجِيه أحد يصلح لهاتين الرئاستين كلتيهما ولا
لإحداهما، وهما يؤيدان انتقادنا الأدبي النزيه المتواضع على التربية والتعليم فيه
واقتراحاتنا الكثيرة لإصلاحهما منذ ٣٥ سنة، على أننا لم نقل فيهم قولاً في معنى
هذه الفعلة من رئيسهم.
وقد كان من مثار العجب أن تولية الأستاذ محمد فريد أفندي وجدي لهاتين
الرياستين قد جاءت في إثر مقالات للعلامة الشيخ مصطفى صبري آخر من تولى
مشيخة الإسلام في الدولة العثمانية في الطعن على بعض آرائه في بعض أصول
الدين وفروعه نشرت في جريدة الأهرام، ومنها مسألة ترجمة القرآن التي أيد كبار
شيوخ الأزهر رأي شيخ الإسلام فيها بالحق على رأي فريد أفندي، وبعد انتقاد
مجلة المنار على كتاب فريد أفندي (الإسلام دين عام خالد) وبيان ما فيه من
مخالفة العقائد الإسلامية والاستدلال عليها بالأحاديث الموضوعة، وذكر بعض هذا
الانتقاد عرضًا في مقالة لنا نشرتها جريدة الأهرام، فأجاب عنها فريد أفندي في
مقالة ففندت رده في مقالتين، ونشر الثلاث الأهرام ثم سكت وسكتنا، بل جاءت
هذه التولية بعد رد على آراء فريد أفندي وجدي في مجلة نور الإسلام نفسها بقلم
رئيس تحريرها، وإنما نذكر هذا هنا لبيان غرابة توليته لرياستي مجلة الأزهر في
هذا العهد، وفي هذا الحال، وليس في الأزهر من معقول ولا مُحَال.
على أنه قد ظهر أول جزء من مجلة المشيخة بعد توليه لرياستها خاليًا من
مقالات الدجوي وفتاويه الخرافية والبدعية. وبلغني من بعض علماء الأزهر
المطلعين أن الدجوي جاءه بمقالتين كعادته إحداهما في تأييد خرافات القبور التي
يعبر عنها كأمثاله باسم (التوسل) والأخرى في الرد على بحث للمنار في حديث
الذباب وكون أحد جناحيه داء، والآخر دواء فردهما له أو عليه.
فهذا أول إصلاح سلبي في تطهير المجلة له قيمة كبيرة فنشكره له، وقد بينا
في تقريظ كتابه المذكور في المنار ما له من مقالات نافعة للمسلمين وما يمكنه أن
ينفعهم به إذا لم يتعده إلى الخوض في العقائد وأصول الدين. ونسأل الله تعالى أن
يوفق مشيخة الأزهر لكل ما فيه النفع للمسلمين.