للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحاجة إلى هذه الترجمة

نشر في الجزء الخامس فصل من ترجمتي عن كتاب المنار والأزهر
وهذا الفصل خاتمة تلك الترجمة منه
هذه خلاصة ترجمتي في نشأتي وتربيتي وتعليمي وتصوفي التي أعدني الله
تعالى بها لإنشاء المنار، وللتصدي للإصلاح الإسلامي العام، حكيت بعض ما
تذكرته منها حكاية تاريخية ساذجة، ولم يكن يخطر ببالي أن أكتب شيئًا منها قبل
الشروع فيها للسبب العارض الذي ذكرته، ولا أن أطيل فيها عُشْر هذه الإطالة، ثم
تذكرت أنها من مادة تاريخ الإصلاح الإسلامي في هذا العصر؛ لأنني بفضل الله قد
صرت من رجاله الذين لهم فيه أثر قد يذكره مؤرخوه ويبحثون في أسبابه من جميع
نواحيها، فلا يجدون في قرية القلمون حيث ولدت ونشأت ولا في طرابلس حيث
تعلمت أحدًا يرويها لهم، فقد كاد ينقرض الجيل الذي يعرفها فيهما، وأعلم الأحياء
بها عمي السيد محمد كامل العابد الزاهد القدوة وهو من شهداء الله على خلقه، ولم
يكتب من تاريخ بيتنا شيئًا، لا يطوف بنفسه طائف الشعور بالحاجة إلى هذه الكتابة،
ولو وجد داعيتها قبل شيخوخته لكان قادرًا عليها، وقد ذكرت فيما سبق أشهر
أسماء من بقي من العارفين بها، وممن فاتني ذكره منهم صديقي العلامة الفقيه
الشاعر الأديب الشيخ إسماعيل الحافظ، وقد كان صديقي السيد عبد الحميد
الزهراوي نادرة الزمان كتب مقالاً في وصف نشأتي ونشره في بعض الصحف لا
أدري أيها: الجريدة أم المؤيد أم الحضارة؟ وكان من زهدي المعيب في نفسي أنني
لم أحفظ نسخة منها.
وأما سيرتي الشخصية والاجتماعية في مصر فيعرفها مجملة أو متفرقة كثير
من أصدقائي وتلاميذي، وإن أعلمهم بها وبسيرتي السياسية الإسلامية والعربية
والمنزلية ابن عمي السيد عبد الرحمن عاصم لأنه يعيش معي من زهاء ربع قرن،
على أنني كنت وما زلت أكتم أثر أعمالي التي يمكن كتمانها، وقد كتبت قليلاً من
المذكرات فضاع بعضها، ويمكنني كتابة سفر كبير في أعمال السياسية وحدها
محفوظة كلها ما كان منها في الآستانة وما كان في مصر، وفي كل منهما عِبَر
للمسلمين في وزرائهم وأمرائهم وغيرهم، وفي مجلدات المنار وتاريخ الأستاذ الإمام
مادة غزيرة لهذه الترجمة.
وقد طلبت مني إحدى الجمعيات العلمية في شيكاغو ترجمة حياتي غير مرة فلم
أكتبها لها زاهدًا في الشهرة، وألف أحد علماء الأمريكان المستشرقين اللاهوتيين [١]
كتابًا باللغة الإنكليزية موضوعه (الإسلام وروح العصر بمصر) Islam
and Modernism in Egypt جعل فصوله الأولى في ترجمة حكيمينا
الإمامين المصلحين السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري اقتبس
أكثر مادتها من مجموعة مجلدات المنار، يليها فصلان في ترجمة صاحب المنار
وفي خطة المنار نفسها ترجم لي بعضها بالعربية فرأيته يتحرى فيه الصدق في
التاريخ، وهو قد قدمه إلى مدرسته التي تخرَّج فيها فنال شهادة علم اللاهوت، الذي
صار به داعية للنصرانية على مذهبه البروتستنتي، وقلما عرفت أحدًا من هؤلاء
المبشرين يتحرى الصدق.
***
أهم ما في هذه الترجمة من العِبَر
إنني أذكر قارئ هذه الخلاصة من طلاب العلوم الدينية والمَيَّالِينَ إلى الإصلاح
الإسلامي بمسائل مجملة منها، عسى أن ينتفع بها المستعد لها، ولهذا أقتصر على
الكسبي منها دون الوراثي والوهبي، وإن كان بعض ما يكتسب عادة بإرشاد المربي
والمعلم أو بفهم المتعلم قد كان عندي أشبه بالوهبي الإلهامي، إذ لم يعن والدي ولا
غيره من أساتذتي بتوجيهي إلى وجهة معينة في العلم ولا في العمل، ولا الاستعداد
للمستقبل، وقد تذكرت في هذه الدقيقة كلمة لمستر متشل إنس الذي كان وكيلاً
للمالية بمصر، وكان هو الرجل الوحيد الذي عاشرته وكثر اجتماعي به ومذاكرتي
له من الإنكليز في مصر، وكان الأستاذ الإمام هو الذي عقد صلة التعارف بيننا
لأسباب ظهرت لي بعد، وبينت بعضها في تاريخ الأستاذ الإمام، وكان هذا الرجل
من أشد الإنكليز بل الناس استقلالا في فكره، وحرية في رأيه، وهو لا يزال حيًّا
في بلاده، وقد قال كلمته هذه بعد طول الخبرة والبحث معي في المسائل السياسية
والدينية، ورأى مني ما لم يعهده في مصر من الحرية والاستقلال والشجاعة وعزة
النفس، وهي: يظهر أن والدك قد عني عناية خاصة بتربيتك وتعليمك فوق ما هو
معهود ومعروف في الشرق ... وقد نقلت عنه في المنار أنه صارحني ثلاث مرات
بأنه إذا كان الإسلام ما أمثله أنا والشيخ محمد عبده فهو مسلم.
والحق أنني لا أعرف شيئًا من عناية والدي الخاصة بي إلا ما ذكرت من
كراهته لإقامتي في طرابلس لطلب العلم قبل بلوغي سن الرشد وثقته التامة من
ديانتي وأخلاقي، خشية أن تعبث بي معاشرة أهل الهزل والمجون في المدينة
(البندر) وليست هذه المنة بقليلة، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.
وهذا ما أريد الاعتبار به مما ذكرته في هذه الترجمة تحدثًا بالنعمة، وتذكيرًا
بمواضع العبرة.
***
أهم الفوائد والعبر
لطلاب العلم الديني من هذه الترجمة

١- طول المكث في المدارس ضار:
كتب لي أستاذنا العلامة الشيخ حسين الجسر في شهادة العالمية أو (إجازة
التدريس) أنني طلبت العلم عنده مدة ثماني سنين تلقيت فيها المنقول والمعقول إلخ
(وكنت في هذه المدة أتلقى عن غيره أيضًا) والعبرة في هذا أن طول مدة التلقي
والأخذ عن المعلمين لعلوم وفنون قليلة كالعربية والشرعية تضعف في الطالب ملكة
الحكم، والاستقلال في العلم، وتحصر علمه فيما يسمع ويقرأ، حتى لا يكاد يجد
غيره فيما يقرر أو يملي أو يصنف أو يفتي، ومن كان هذا كل علمه فلا علم له،
وإنما هو ينقل ما عند غيره علمًا كان أو ظنًّا، حقًّا أو باطلاً، خطأً أو صوابًا.
وقد قال لي الأستاذ الإمام عندما عرضت عليه أن يكون الشيخ عبد العزيز
جاويش من إخواننا خواص مريديه بعد عودته من أوربة: أيّ العلوم حصل في
إنكلترة؟ قلت: لما أسأله عن ذلك لقرب العهد بعودته، ولكنه ذكي فصيح ذو همة
وغيرة، قال سله عن مدة إقامته في الأزهر قبل دخول مدرسة دار العلوم فإن كانت
طويلة تزيد على بضع سنين فاعلم أنه قد فقد قوة الاستعداد للعمل، وأنه لم يحصل
شيئًا يعتد به.
٢- النية وصحة القصد وتوجه الإرادة:
قال نبي الرحمة، ومعلم الكتاب والحكمة: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل
امرئ ما نوى) وإن لصحة القصد، وتوجه الإرادة إلى الأمر، أعظم التأثير في
النجاح والفوز، ولا شيء أنفع لطالب العلوم الدينية من الإخلاص لله تعالى فيها،
وقصد تزكية نفسه وتثقيفها بمعرفته الصحيحة وعبادته المشروعة، ثم تعليم الناس
وهدايتهم، وأن يكون قدوة لهم في الحق والخير، وتدبر ما علمنا الله تعالى من
دعائه بقوله: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: ٧٤) وقوله: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (الممتحنة: ٥)
وإن بين هذه الفتنة بتنفير الكفار عن الإسلام، والإمامة للمتقين فيه، لدرجات بعيدة
في الإيمان والصلاح، ودركات في الكفر والضلال.
لما اشتغلت بطلب العلم في طرابلس وعرفت الأستاذ العلامة الشيخ محمد
إبراهيم الحسيني وكان عائدًا من الأزهر وصحبته بالتبع لصحبة صديقنا المرحوم
الشيخ محمد كامل الرافعي كما تقدم في الترجمة قال لي مرة: إنني بعد أن أتم
مطالعة أعلى كتب الأصول والكلام والبلاغة سأذهب إلى الآستانة وأقرأ درسًا في
جامع السلطان أحمد، وذكر ما يتوقع لهذا الدرس من حسن التأثير والشهرة، وما
يعقبه من الفوائد، فقلت له ما معناه: إنه لخير لك أن تنوي بقراءة هذه الكتب
التقرب إلى الله تعالى والاستعداد لخدمة دينه ونفع عباده، وإن منافع العلم بالجاه
والمال قد تأتي تابعة لذلك، ولا يصح أن تكون متبوعة له، ولا مقصودة لذاتها، ثم
رجع الأستاذ عن ذلك الرأي بعد أطوار مرت عليه كما تمر على أمثاله من كبار
الأذكياء.
إن الذين اشتغلوا بعلوم الدين بقصد إصلاح أنفسهم وإصلاح غيرهم في كل
جيل كانت الدنيا أشد انقيادًا لهم ممن طلبوها بالدين وعلومه، ولكن أكثر أولئك قد
زهدوا فيها، وآثروا ما عند الله تعالى على جاهها ومالها، ولقد قال لي شيخنا
الأستاذ الإمام: إنني لولا قصد التوسل بدخول الحكومة المصرية إلى التمكن من
إصلاح الأزهر لأبيت قبول أي وظيفة فيها، وقال لي: لو كنت أريد أن أكون غنيًّا
لكنت من أكبر الأغنياء. فليعتبر طلاب العلم في الأزهر وغيره ممن يقصدون الجاه
أو الثروة بتاريخ الأستاذ الإمام وعاقبة أمره، وما رفع الله من ذكره، وبغيره ممن
لا غرض لهم من علم الدين إلا عرض هذا الأدنى؛ ليروا كيف كان قدوة صالحة
في حياته وبعد مماته، وإنهم سيرون وسوف يرون من سوء سيرة تجارة الدين أن
بعض الفقر خير من الثراء، وأن من الخمول والخفاء، ما هو أشرف من الشهرة
والجاه، وأن الغاية للمتقين، والخزي والسوء على المنافقين {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ
حِينٍ} (ص: ٨٨) .
٣- الاستقلال والتقليد في طلب العلم:
أنصح لكل طالب علم أن يتوخى الاستقلال بفهم ما يلقنه من مسائل العلم، ثم
الاقتناع بما يفهمه، وأن لا يكتفي بفهم أستاذه للعبارة دون فهمه هو، ولا باقتناع
أستاذه بأن ما فهمه هو الحق في نفسه إذا لم يقتنع هو بذلك، فالعلم بعبارة المعلم أو
المؤلف غير العلم بمعناها، والعلم بصحة المعنى مرتبة فوق مرتبة فهمه من العبارة،
وفوقهما مرتبة العبرة الباعثة على العمل بالعلم والإخلاص فيهما، ولن تكون
عالمًا بالشيء نفسه إلا إذا كنت مقتنعًا واثقًا به، ولا يحصل هذا في غير البديهيات
إلا بالاستدلال، وقد يقع التقليد بالدليل كما يقع بأصل المطلب فاحذر هذا.
واعلم أيها الطالب المعلم أن ما يسمى بالاجتهاد في جميع أبواب الفقه هو
مرتبة عالية من مراتب العلم الاستقلالي بالأحكام الشرعية، سواء أريد به الاجتهاد
المطلق أو الاجتهاد في مذهب واحد، وما أنصح لك به من الاستقلال في فهم كل ما
تتلقنه، والاقتناع بصحته دون ذلك: وهو أدنى مراتب العلم، وهو ما لا تكون ذا
علم صحيح في أي علم من العلوم أو فن من الفنون بدونه، وهو ما لا ترتقي عن
دركة الجهل المطلق أو الجهل التقليدي مع فقده، فأنت محتاج إلى الاستقلال في كل
علم تطلبه وكل مرتبة من مراتبه، فلا تقلد من قالوا: إن بعض العلوم قد أحاط به
العلماء الأولون علمًا، فليس على من بعدهم إلا أن يقلدهم في كل ما دونوه فيه بغير
بحث ولا محاولة تمحيص ولا تحقيق.
إنما الإحاطة بالعلم من صفات الله الخاصة به، وقد أمر الله رسوله خاتم
النبيين بطلب المزيد من العلم بقوله: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: ١١٤)
فكل ما كتبه البشر، وكل ما يكتبونه ما كان ولن يكون إلا ناقصًا قابلاً للكمال، ولا
أستثني من ذلك علوم الحديث في الجرح والتعديل ونقد الرجال، وأجهل الجهل
بالشيء ما كان قابلا للاحتمال.
٤- آية العلم الصحيح النافع:
العلم الصحيح ما كان صفة للنفس، والعلم النافع ما كان باعثًا على العمل
الصالح، والعمل الصالح ما صلحت به نفس العامل، وكان قدوة حسنة لكل من
عرفها، وآية ذلك كله شعورها بجهلها ونقصها، وبحاجتها إلى الاستزادة من العلم
والاستفادة من كل شيء، وإلى المزيد من الأدب وتثقيف العقل وتزكية النفس، ولا
أحفظ عن أئمتنا في هذا المعنى أبلغ من بيتين للإمام الشافعي (رضي الله عنه هما
أدل على علمه وفضله من مجلد يؤلف في مناقبه، وهما عين الحق، فلا تحسب أنه
قالهما من باب التواضع، قال:
كلما أدبني الدهر ... أراني نقص عقلي
وإذا ما ازددت علمًا ... زادني علمًا بجهلي
٥- آيات تزكية النفس الروحانية:
قال الله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} (الذاريات: ٢٠-٢١) وقال عز وجل: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ
عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر: ٢٢) الآية، وقال تبارك اسمه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ
آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (البقرة: ٢٥٧) الآية، فمن لم ير فيه
شيئًا من آيات ربه، ومن لم يتألق في قلبه شعاع من نور ربه، فإسلامه صوري
وراثي، وإيمانه تسليمي ظني أو جدلي، وهاتان الثمرتان للدين لا تؤتيهما شجرة
الإيمان الطيبة الثابتة الأصل، الباسقة الفرع، إلا بمجاهدة النفس: {وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} (العنكبوت: ٦٩) مع كثرة
الذكر بالقلب واللسان له، وأجمعه تدبر كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ
ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب: ٤١-٤٣) .
ولكن الذين يدعون هذه الآيات في أنفسهم كثيرون، وتراهم في ظلمات لا
يبصرون، يضلون الجاهلين بخرافاتهم ويأكلون أموالهم بالباطل، ولا يستفيد أحد
منهم علمًا نافعًا، ولا هدًى رافعًا، وإنما الإسلام علم وهدًى، فلا تغتر بدعوى حي
ولا ميت ولا بشهرته، ولا بخوارق العادات الصورية ولا المعنوية له، واعتبر بما
أفشيته لك على خلاف عادتي، من تجاربي واختباري في بدايتي، ومنه أن بعض
الأمور الروحانية التي تثمرها رياضة التصوف قد تكون فتنة تعقب صاحبها ضلالة،
وأن بعض الأنوار التي تتراءى لبعضهم خيالات شيطانية، وأن المكاشفات التي
تحصل لهم كلها خواص نفسية، هي كغيرها مما يكشفه العلم من السنن كانت
ضلالاً له وطغيانًا، وأعني بالإيمان اليقينَ بعالم الغيب، وبالهدى الاعتصامَ بعروة
الشرع، فمن لم يؤت نصيبًا من ذلك كان عرضة إما للشك المادي، وإما للتقليد
الخرافي، فلا تُنْكِر الخواص الروحانية اليوم خاضعًا للأفكار المادية الإفرنجية،
وهي من مفاسدهم بشهادة أعلم فلاسفتهم، ثم تعود غدًا فتقلدهم بإثباتها إذا انتصر
المؤمنون بها على جاحديها فإنهم قد شرعوا في البحث عنها بوسائل العلم العصري،
وقد آمن الألوف منهم بماديها، ولما يصلوا إلى غايات صوفيتنا فيها، ولو طلبوها
من طريقهم لوصلوا إلى ما انتهوا إليه، أو لسبقوهم فيه، وسيسلكون كل طريق له
فإنهم ما شرعوا في شيء وتركوه، وأبعد الفروق بين الفريقين أن هؤلاء شاكون
مجربون، وأن أولئك مؤمنون يطلبون أعلى مقام في العرفان، وهو معرفة الخالق
بآياته في الأنفس والآفاق، وتجلي أنواره فيما له من الأسماء والصفات.
وإني ليسوءني أن يزورني بعض علمائهم من الشعوب المختلفة ليذكروني فيما
وصل إليه علمي واختباري منها، وأن يجعلني بعض جماعاتهم عضو شرف فيه [٢]
ثم لا أجد أحدًا من المسلمين يسألني عن شيء من هذا، حتى الذين يرجعون إليَّ
في التفسير والحديث والعقائد وحكم الشريعة، وقد كان هذا من أسباب ما كتبته في
المسألة. وأهم منه التمهيد لما أريد كتابته في مسألة استحضار الأرواح. وأنتقل بعد
هذه المقدمات إلى تلخيص الشواهد على خدمتي للأزهر، وما كان لها من التأثير.