للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


عصمة الأنبياء

إذا كان إرسال الأنبياء إلى البشر لأجل هدايتهم إلى تزكية أنفسهم بما تصلح
به أحوالهم في دنياهم، ويستعدون به لحياة أعلى من هذه الحياة الدنيا في نشأة
أخرى، فلا يتم هذا الغرض ولا تتحقق هذه الحكمة إلا إذا كان هؤلاء الأنبياء أهلا
لأن يقتدى بهم في أعمالهم وسيرتهم، والتزام الشرائع والآداب التي يبلغونها عن
ربهم، ومن ثم قال علماؤنا بوجوب عصمة الأنبياء من المعاصي والرذائل، وبالغ
بعضهم فيها حتى قالوا بعصمتهم من الذنوب الصغائر كالكبائر قبل النبوة وبعدها،
وخص بعضهم العصمة من الصغائر بما كان باعثه الخسة والدناءة.
وأهل الكتاب لا يقولون بهذه العصمة، وكتبهم المقدسة ترمي بعض كبار
الأنبياء بكبائر الفواحش المنافية لحسن الأسوة، بل المجرئة على الشرور والمفاسد،
والنصارى منهم يجعلون معاصي الأنبياء دليلاً على عقيدتهم وهي أن المسيح
هو المعصوم وحده؛ لأنه رب وإله، ولأنه هو المخلص للناس من العقاب على
الخطيئة اللازبة اللازمة لكل ذرية آدم بالوراثة له، وأنه لا شفيع ولا مخلص لهم
غيره؛ لأن المخطئ لا يخلص المخطئين وهو منهم، وهذه العقيدة وثنية مخالفة
لدين الأنبياء وكتبهم وللعقل، ومطابقة للأديان الوثنية الهندية وغيرها.
بيد أن كتب العهدين القديم والجديد المقدسة عندهم المحرفة في اعتقادنا لا تشهد
لهم برمي جميع أنبيائها بالذنوب فضلا عن المعاصي التي هي أشد من الذنوب،
فإن يوحنا المعمدان (هو يحيى بن زكريا عليهما السلام) لم يوصم بخطيئة قط،
بل شهدت له أناجيلهم بما يدل على أنه كان أعظم من المسيح في عصمته، ففي
إنجيل لوقا (٦٥: ١ أنه يكون عظيمًا أمام الرب، وخمرًا ومسكرًا لا يشرب،
ومن بطن أمه يمتلئ بروح القدس) .
وفيه (٦٦ كانت يد الرب معه) وقال المسيح فيه: (متى ١١: ١١ الحق
أقول لكم: إنه لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان) ثم قال
فيه: (١٨ جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب فيقولون فيه شيطان ١٩ وجاء ابن
الإنسان يأكل ويشرب فيقولون: هو ذا إنسان أكول وشريب خمر محب للعشارين
والخطاة) بل شهدت الأناجيل أن المسيح عليه السلام أهان أمه وإخوته ولم يسمح
لهم بلقائه، وقد استأذنوا عليه ليكلموه، وعلل ذلك بأنهم مخالفون لمشيئة أبيه كما
تراه في آخر الفصل الثاني عشر من إنجيل متى وآخر الثالث من مرقس بالمعنى.
وعبارة لوقا (٢٠: ٨ فأخبروه قائلين: أمك وإخوتك واقفون خارجًا يريدون أن
يروك ٢١ فأجاب وقال لهم: أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها)
نعم إن اخوته لم يكونوا يؤمنون به كما هو مُصَرَّح به في موضع آخر: ولكن
هل كانت أمه كذلك؟ وهل يجازيها هذا الجزاء. والله تعالى يوصي بالإحسان
بالوالدين حتى المشركين، ويفضل أم السيد المسيح على نساء العالمين. وإهانة الأم
ذنب في جميع الشرائع والآداب، كما أن المبالغة في شرب الخمر ذنب حتى في
الشرائع التي لم تحرمها مطلقًا، وجاء في هذه الأناجيل أن الشيطان استولى عليه
أربعين يومًا يجربه ويدعوه إلى عبادته، كما تراه في أول الفصل الرابع من إنجيل
متى. وكذا في غيره من الأناجيل. ونحن نبرئه من كل ذلك.
وشهدت الأناجيل أيضًا بأن يوحنا كان يعمد الناس للتوبة ومغفرة الخطايا وأنه
عمد المسيح نفسه، وبأن أباه زكريا وأمه اليصابات: وكانا كلاهما بارين أمام الله
سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم لوقا (٦: ١) وهذه شهادة
بالعصمة التامة.
وهنالك أنبياء آخرون شهدت لهم نبوات العهد القديم بالبر ولم ينسب إلى أحد
منهم أدنى خطيئة، وآدم عندما ارتكب الخطيئة لم يكن نبيًّا مرسلاً إلى أحد ولا كان
معه قوم يسيئون الاقتداء به، وكان قد نسي النهي عن الأكل من الشجرة، وإنما
كانت مثلا لاستعداد جنس البشر للمعصية كالطاعة، نسيانًا أو عمدًا، ولكون
المعصية تعالج بالتوبة فيغفرها الله تعالى، وقد كان ابناه قابيل وهابيل مثلا لكل من
الاستعدادين، وشهد الكتاب عندهم لهابيل بأنه كان بارًّا لم يرتكب خطيئة، وهو لم
يكن نبيًّا.
جاء القرآن وهو المهيمن على جميع الكتب الإلهية بما لخصناه من الحق في
مسألة آدم وشهد لمن قص علينا خبرهم من أنبياء الله ورسله أنهم كانوا من
الصالحين الذي يُقْتَدَى بهم في البر والتقوى، كقوله في سورتهم: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا
عَابِدِينَ} (الأنبياء: ٧٣) وقال فيهم بعد ذكر أشهرهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: ٩٠) .
وأما قوله لخاتمهم ومكمل هدايتهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ
مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (الفتح: ١-٢) إلخ، وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (محمد: ١٩) فالذنب فيه جاء بأصل معناه اللغوي
المنقول من ذنب الدابة، وهو كل عمل له عاقبة منافية للمصلحة أو لما هو أولى
وأنفع، ويدخل فيه الاجتهاد في الرأي المباح شرعًا كإذن النبي صلى الله عليه وسلم
لمن استأذنه من المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك وعاتبه الله عليه بقوله: {عَفَا
اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة:٤٣) [*]
وإنما العصمة للأنبياء من معصية الله بمخالفة وحيه إليهم؛ إذ لو عصوه لكان
أتباعهم مأمورين من الله بالمعصية؛ لأنه أمرهم باتباعهم، وقال في نبينا صلى
الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ
الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: ٢١)
العقل والعلم البشري لا يغنيان عن هداية الرسل:
(فإن قيل) : إن الإيمان بالغيب ووجود الرب غريزي في الفطرة البشرية
كما حققتم، أو إلهام من إلهاماتها يلقى في روع أفرادها عند إدراكهم، وإن بعض
الحكماء المفكرين قد ارتقوا في معارفهم العقلية إلى حيث أقاموا البراهين على وجود
واجب الوجود وعلمه وحكمته، ووجوب تعظيمه وشكره وعبادته، وقد قرَّر بعضهم
بقاء النفس بعد الموت وخلودها في نعيم مقيم أو عذاب أليم، ووضعوا للناس أصول
الفضائل والتشريع والآداب التي تصلح بها الإنسانية وروابط الاجتماع.
(قلت) : نعم لكل ذلك أصل يثبته التاريخ الماضي، ويشهده العصر
الحاضر، ولكن بين هداية الأنبياء وحكمة الحكماء وعلومهم فروقًا في مصدر كل
منهما، وفي الثقة بصحته، وفي الإذعان لحقيقته، وفي تأثيره في أنفس جميع
طبقات المخاطبين.
فحكمة الحكماء وعلومهم آراء بشرية ناقصة وظنون، لا تبلغ من عالم الغيب
إلا أنه موجود مجهول، وهي عرضة للتخطئة والخلاف، ولا يفهمها إلا فئة
مخصوصة من الناس، وما كل من يفهمها يقبلها، ولا كل من يقبلها ويعتقد صحتها
يرجحها على هواه وشهواته؛ إذ لا سلطان لها على وجدان العالم بها، فلا يكون لها
تأثير الإيمان وإسلام الإذعان والتعبد؛ لأن النوع البشري بأبى طبعه وغريزته أن
يدين ويخضع خضوع التعبد لمن هو مثله في بشريته، وإن فاقه في علمه وحكمته
وإنما يدين لمن يعتقد أن له سلطانًا غيبيًّا عليه بما يملكه من القدرة على النفع
والضر بذاته، دون الأسباب الطبيعية المبذولة لجميع الناس بحسب سنن الكون
ونظامه.
وأضرب لهذا مثلاً أنه كان للفيلسوف الرئيس ابن سينا خادم متعلم معجب
بعلومه وفلسفته، وكان يعجب منه كيف يدين بملة محمد صلى الله عليه وسلم
ويتبعه وهو في رأيه أعلم منه وأرقى، وكان يكاشفه بذلك فيعرض عنه أو يوبخه،
فاتفق أن كانا في مدينة أصفهان في ليلة شديدة البرد كثيرة الثلج، فأيقظ الرئيس
خادمه في وقت السحر وطلب منه ماء ليتوضأ به، فاعتذر بشدة البرد وبقاء الليل،
ثم أيقظه الرئيس في وقت أذان الصبح وطلب منه الماء فاعتذر بشدة البرد. حتى
إذا قال المؤذن: أشهد أن محمدًا رسول الله - قال الرئيس لخادمه اسمع، ماذا يقول
المؤذن؟ قال: إنه يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله. قال الرئيس: الآن قد آن
لي أن أبين لك ضلالك القديم، إنك خادمي لا عمل لك غير خدمتي وإنك أشد الناس
إعجابًا بي وإجلالاً وتعظيمًا لي، حتى إنك على هذا كله تخالف أمري في أهون
خدمة أطلبها منك في داخل الدار معتذرًا بشدة البرد - وإن هذا المؤذن الفارسي
يخرج من بيته قبل الفجر ويصعد هذه المنارة، وهي أشد مكان في البلد بردًا، حتى
إذا لاح له الفجر أشاد في آذانه بذكر محمد العربي بعد مرور أربعة قرون ونيف
على بعثته إيمانًا وإذعانًا، وتعبدًا واحتسابًا. فتأمل هذا وتدبره في نفسك يظهر لك
الفرق بين سلطان النبوة على الناس وسلطان العلم والفلسفة.
فمن أعظم مزايا هداية الوحي الدينية على العلمية الكسبية هو أن جميع
طبقات المؤمنين بها يذعنون لها بالوازع النفسي التعبدي، فبذلك تكون عامة ثابتة لا
مجال للخلاف والتفرق فيها ما دام الفهم لها صحيحًا، والإيمان بها راسخًا، ولذلك
نرى الشعوب التي ساء فهمها للدين، وتزلزل إيمانها به أو زال، لا ينفعها من
دونه علوم العلماء، ولا حكمة الحكماء، وقد ارتقت العلوم والحكمة في هذا العصر،
وعم انتشارهما بما لم يعرف مثله في عصر آخر، وهم لا يذعنون في أنفسهم
لإرادة ملك أو أمير، ولا لرأي عالم نحرير، ولا فيلسوف شهير، ولا مشترع
خبير، بل صاروا إلى فوضى في الأخلاق والآداب والاجتماع، واستباحة الأموال
والأعراض وكذا الدماء، لم يعهد لها في البشر نظير، صارت بها الأمم والدول
عرضة لفتنة في الأرض وفساد كبير.
أكثر البشر يؤمنون بوجود الله وعلمه وحكمته، والمثقفون بالتعليم العصري
يؤمنون بوحدانيته، ولم يبق للشرك به تعالى بقية إلا في جهلة المتبعين لتقاليد
الأديان المنسوبة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما هي من أديانهم في شيء،
بل هي هادمة لأساسها الأعظم، وهو التوحيد المطلق، فكان فشو الشرك بعبادة
الأولياء والقديسين وما ترتب عليه واقترن به من الخرافات وفساد الأخلاق من أكبر
الشبهات على صحة هذه الأديان والمنفرات عن اتباعها، وصار أكثر البشر إما
مؤمنين بالأنبياء دائنين بالخرافات، وإما كافرين بهم منكرين أن الدين وحي من الله
تعالى، وتعين إرجاع الفريقين إلى هداية الدين الصحيح وما هو إلا دين الإسلام.
إن الدين الذي ينتمي إليه أكثر شعوب الحضارة في هذا العصر هو النصرانية،
وإنما سبب بقائه فيهم أن دولهم قد جعلته من نظام حياتهم الاجتماعية، فهو لم يبق
له سلطان روحي إلا في قلوب العوام الخرافيين، وقد جاءتنا الأنباء قبل طبع هذا
الفصل بأن الشعب الألماني وهو أرقى شعوب الأرض علمًا وفنًّا وحضارة قد ثار
على هذا الدين ثورة جديدة يريد بها هدم أساسه من كتب العهد القديم، وتنقيح تعاليم
العهد الجديد، وجعل ما يبقون منه وطنيًّا ألمانيًّا خاصًّا بالجنس الآري الهندي
الفارسي الأصل، والتبرؤ من كل ما هو سامي عنه، وما أنبياؤهم ورسلهم
ومسيحهم ومعبودهم إلا من الساميين، بل يريدون تقديس شهداء الحرب وعظماء
أسلافهم الألمانيين، وإن هذه إلا وثنية كوثنية اليابانيين تذكي سعير العداوة بينهم
وبين سائر الأوربيين.
فلا سبيل إلى إنقاذ البشر في هذا العصر إلا إثبات الوحي المحمدي الموحد
لإنسانيتهم، المزكي لأنفسهم، المكمل لفطرتهم، الذي فيه السعادة الدنيوية
والأخروية لهم في جملتهم، وقد بينا في هذا الكتاب أن محمدًا رسول الله وخاتم
النبيين، هو النبي المرسل إلى كافة الناس رحمة للعالمين، وأنه هو الذي أكمل الله
به الدين، وأزال العصبيات الجنسية والوطنية، لتوحيد الأخوة الإنسانية، فاتباعه
هو الترياق المجرب لهذه السموم الروحية الاجتماعية القاتلة، راجين أن يفتح الله
تعالى به أبواب الهدى لكل من يعقله ويتدبره من مستقلي الفكر، وطالبي معرفة
الحق، وإصلاح الخلق المعنيين بقول الله عز وجل: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ
وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (المائدة: ١٥-١٦) ا. هـ.