للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


العبرة بسيرة الملك فيصل
(٣)

الفرق العظيم بين الشريف عبد الله والشريف فيصل في القضية العربية
يتجلى أكمل التجلي بما كان بين مبدأ كل منهما وما بعده من التباين، فالأول كان
السابق إلى التفكر فالكلام فالعمل في القضية وعداوة الترك، والثاني كان يرى أن
الخير لوالده ولبيته ولوطنه (الحجاز) بالذات، ولأمته بقاء الارتباط بالترك
ودولتهم، ثم كان كل منهما عاملاً في الثورة العربية التي تولى والدهما زعامتها،
ولكن عبد الله قاتل العرب بقتال النجديين في طربة فكان عمله هذا أول نكث لعهد
الجامعة العربية وحنث بيمينها انتهى بما علمه كل الناس من الشؤم والشر عليه
وعلى والده الذي عتله إليه، وفيصلا قاتل الترك أولاً ووادهم آخرًا وأبرم عهد
الاتفاق هو والملك ابن السعود واعترف بدولته الحجازية النجدية عملاً بعهد جمعية
الفتاة العربية التي كان المراد منها أن تكون أحد أركان الجامعة العربية، وظل
مرتبطًا بها وبحزبها إلى آخر أيام حياته حيث كانت هي المنفردة بالعمل في منطقتها،
على مشاقة ومشادة تعددت بينه وبينهم في دمشق بعد توليتهم إياه ملكًا عليها.
ومن مظاهر الفرق بينهما أن هؤلاء العاملين هم الذين سعوا لاستقدام الشريف
عبد الله إلى بقعة شرق الأردن بعد احتلال الجنرال غورو بجيشه الفرنسي لدمشق
وخروج فيصل منها؛ لأن هذه البقعة ظلت مستقلة غير تابعة لفلسطين ولا لسورية،
وأرادوا أن يجعلوها مراكز للعمل، ولم يلبث أن ناوأهم وجعلها بسعيه تابعة
للانتداب الإنكليزي في فلسطين، وجعل نفوذ الإنكليز وحقوق ملكهم فيها أقوى مما
هي في كل الممتلكات والمستعمرات البريطانية، وكذا الجزائر الإنكليزية نفسها،
وألحق بها بمساعدة أخيه الشريف علي الذي سمي ملكًا للحجاز وهو محصور في
جدة، منطقة العقبة ومعان الحجازية التي هي أمنع المواقع البحرية البرية في بلاد
العرب كلها.
وأما فيصل فجعل ملكًا على العراق في ظل الانتداب البريطاني، وقد فتح
الإنكليز العراق بالسيف والنار، فآل الأمر بسعيه وحسن سياسته إلى استقلاله التام،
فما أعظم الفرق بين الشقيقين في النسب، المشاقين في الرأي والعقل والخلق
والعمل.
لقائي الأول لفيصل:
أتيح لي في أوائل سنة ١٣٣٨ هـ الموافق لخريف سنة ١٩١٩ م أن أغادر
مصر وهي في عنفوان ثورتها الوطنية إلى سورية وهي مضطربة فيما ابتليت به
من احتلال فرنسة لسواحلها وإنكلترة لداخلها، ووجود حكومة عربية عسكرية في
دمشق وما ألحق بها، مرتبطة بالاحتلال الإنكليزي فيها، وما أعطيت جواز السفر
لهذه الزيارة إلا بعد سعي طويل لدى السلطة العسكرية البريطانية هنا وأخذ العهود
والمواثيق الخطية عليَّ بأمور منها ألا أخطب خطبًا ولا أعقد اجتماعات سياسة فيها.
وبينما كنت في بيروت جاءت الأخبار من أوربة بأن الأمير فيصلا سيجيء
من أوربة قريبًا فعقد وجهاء بيروت الاجتماع بعد الاجتماع للاتفاق على ما يعملون
لاستقباله والحفاوة به وكنت أُدْعَى إلى كل ذلك وأحضره. وقد اضطررت في أثناء
ذلك إلى السفر إلى طرابلس لعمل خاص بوقف مسجدنا ومالي فيه من الحق المالي
فسافرت قبل الظهر من يوم السبت ١٩ من ربيع الآخر الموافق ١٠ من يناير سنة
١٩٢٠ وأنبأتنا البرقيات الخاصة يوم الثلاثاء ١٣ من ينار بأن الأمير يصل إلى
بيروت صباح غد، فعدت إلى بيروت مساء ذلك اليوم والمطر الشديد متصل مع
جماعة من الوجهاء في مقدمتهم أوجه الزعماء، سليل الإفتاء، سماحة عبد الحميد
أفندي كرامي مفتي طرابلس الشام، الذي أخرجته السلطة الفرنسية بعد ذلك من
منصبه عقابًا له على وطنيته، والتاجر الوطني الغيور عارف أفندي النعماني، وقد
ارتطمت بنا سيارته في الوحل مرارًا، أذكر هذا ولا أنساه على كثرة ما أنسى
الأمور العادية، وإن كانت شاقة أو سارة ولا أكتب ما أذكره منها، وقد قطعنا
المسافة في ست ساعات وكانت تقطع في ثلاث؛ لأن مطاط عجلاتها تقطع وأصلح
أربع مرات.
وصل الأمير فيصل إلى بيروت في ضحوة يوم الأربعاء على بارجة فرنسية
يصحبه ضابط فرنسي يلازمه، واستقبله على رصيف مرفأ بيروت رئيس أركان
الحرب للجنرال غورو المندوب السامي لفرنسة مع ضباطه وفصيلة من العسكر
الفرنسي والجزائري، وقابلته وفود الوطنيين يتقدمهم أعضاء لجنة الاحتفال
البيروتية، وقابلته أنا مع وفد طرابلس في دار الاعتماد العربية وكان يشغلها من
قبل حكومة سورية العربية الضابط الشهير يوسف بك العظمة الذي استحكمت المودة
بيني وبينه مدة مكثي في بيروت.
وعدت إلى دار الاعتماد في اليوم التالي (الخميس) لأجل أن أقابل الأمير
مقابلة خاصة فعلمت أنه ذهب إلى زيارة الجنرال غورو، فقلت ليوسف بك العظمة
رحمه الله: إنني لست من الرجال الذين يرغبون في التشريفات والظهور وإنما أنا
رجل بحث وعلم وعمل فأرجو أن تأخذ لي موعدًا من الأمير بلقاء خاص، فعهد إليَّ
بأن أعود الساعة الحادية عشرة فعدت وعاد فقابل بعض الوفود المنتظرة ثم خلوت
به فأثنى أجمل الثناء، وأظهر الارتياح التام لهذا اللقاء الذي قال: إنه كان يتمناه،
وكاشفني بما جاء لأجله وبأنه سيعود إلى أوربة عاجلاً بالتفويض الذي يحمله من
البلاد ودعاني إلى الغداء معه فتغديت وتغدى معنا الضابطان الفرنسيان (كوس
وتولا) اللذان لم يفارقاه مدة إقامته في الشام أميرًا فملكًا مبايعًا إلى أن فارقها بعد
احتلال غورو لدمشق.
ودارت بيني وبينه محاورة طويلة فيما جاء من أوربة لأجله، ثم ذهب إلى
دمشق على أن يعود إلى بيروت بعد أسبوع كما قدر.
ثم عاد إلى بيروت في ١٣ من جمادى الأولى - ٣ من فبراير (شباط)
فزرته في اليوم التالي وخلوت به ساعة كاملة قبل الظهر، وكان المرحوم يوسف
بك العظمة بلغه عني ما ذكرته من قبل، وهو أنني لم أجئ لما يجيء له غيري
من المظاهر وما يسمونه مقابلات التشريف بل للبحث في المصلحة العربية. وكان
أول ما بدأته به أنني أريد معرفة خطته في العمل لهذه الأمة، فإذا اتفقنا في الرأي
عاونته واشتغلت معه على قدر ضعفي، وإلا كنت مضطرًا إلى مقاومته، وإن لم
أكن أميرًا فإنني ناهضت السياسة الحميدية ولم أكن أميرًا، ثم ناهضت السياسة
الاتحادية التركية وهي أدهى وأمر، وأشد وأضر، ولم أكن أميرًا، فشكر لي هذه
الصراحة ودعاني إلى الذهاب معه إلى دمشق، فاعتذرت بأن لي عملاً خاصًّا في
بيروت وطرابلس لا بد لي من إتمامه. ووعدته بأن ألحق به بعده، فألح عليَّ بأن
أذهب معه بحجة أن خدمة الوطن مقدمة على كل شيء، فقلت لا تنافي ولا تعارض
بين الأمرين، وإنني سألحق بك بعد يوم أو يومين: قال أتعدني بذلك؟ قلت: نعم.
ثم دار الحديث بيننا بالحرية التامة، وكان ذا شغب فدعاني إلى العشاء معه
في ذلك اليوم لأجل أن نخلو ونتم الحديث في الليل، فأجبت، وخلوت به إلى
الساعة ١٠ والدقيقة ١٠ مساء، وكان مما قاله أن أخاه عبد الله لم يخبره بما دار
بينه وبيني في قصر عابدين بمصر لأنه كان يعلم أن سياسته تركية بمعنى أنه كان
يرى أن الأولى للعرب دوام الاتفاق مع الترك والارتباط بهم، ولكنه تحول عن هذه
السياسة لما جاء الشام قبل الحرب وبعدها ورأى قومه كلهم على خلاف هذا الرأي
على حد قول الشاعر:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
ثم قال: إن عبد الله كان يريد تنفيذ مسألة اتفاق أمراء الجزيرة الذي اقترحته
عليه (أي بمقتضى قاعدة جمعية الجماعة العربية) حتى مع ابن السعود عدوهم
ولكنه هو كان معارضًا له في ذلك؛ لاعتقاده أن ابن السعود يريد الاستيلاء على
الحجاز، لا يصده عن ذلك عهد ولا اتفاق، وذكر ملخص عداوة ابن السعود لشرفاء
مكة: فقلت له: لو أطلعكم الشريف عبد الله على تفصيل اقتراحي لاكتفى معارضتكم،
فإنه لا يكل تنفيذ الاتفاق الحلفي إلى وفاء كل أمير واختياره بل يجعله عاجزًا عن
الغدر.
ثم بينت له موضوع الحلف وملخص نظامه، وضرورة عقده، وضرر عداوة
شرفاء الحجاز لابن السعود؛ لأن عرب الحجاز أضعف العرب وأشدهم احتياجًا إلى
الاتفاق الذي غايته جعل أمراء الحجاز رأس العرب؛ لأن مجلس الحلف العام لا
يكون إلا في مكة، وسيكون أميرها هو الرئيس له بالطبع.
فقال حينئذ: إنه مستعد لإقناع والده بذلك وضامن له، إذا وجد من ينفذه
ويضمن إرضاء ابن سعود بالحدود العادلة التي تحددها لجنة على الحياد. وذكر أن
الإنكليز يهددونهم بابن سعود، وههنا تكلمنا في علاقتهم بالإنكليز الآن وفي زمن
الحرب فإذا هو لا يزال يرجو وفاءهم بما عاهدوه عليه (هكذا كتبت في مذكرتي
عقب الجلسة أي عاهدوه هو) وخروجهم من فلسطين والعراق لتأسيس دول عربية
متحدة ورضاهم بالمنافع الاقتصادية التي لا تنافي الاستقلال على أن كلامه متناقض
فإنه اعترف قبل ذلك بأنه كان مغشوشًا بالإنكليز، وأن والده هو الذي غشه، وأنه
قد عرف بعد الاختبار كيد الإنكليز للعرب وللإسلام - أو قال عدوانهم - وأن والده
أيضًا قد رجع عن رأيه في إخلاصهم. وسأذكر في النبذة التالية ما دار بيننا في
دمشق) .
((يتبع بمقال تالٍ))